الإصحَاحُ
الْخَامِسُ

بيلشاصر والكتابة على الحائط

إذ
عبرت السبعون عاما الخاصة بالسبى التى تنبأ عنها إرميا النبى (إر 25: 11)، وحل
موعد العودة، كانت مملكة بابل قد تحولت إلى حياة الرخاوة والترف مع الفساد. جاء
الملك بيلشاصر بشخصيته المستهترة لتنهار مملكة بابل فى أيامه.

لم
يتعاطف دانيال النبى مع هذا الملك كما فعل قبلا مع جده نبوخذنصر، إذ اشتهر الملك
بالفساد والظلم.

(1)
وليمة بيلشاصر

" بيلشاصّر الملك صنع وليمة عظيمة لعظمائه الالف وشرب خمرا
قدام الالف،

 واذ كان بيلشاصر يذوق الخمر،

 أمر باحضار آنية الذهب والفضة التي اخرجها نبوخذناصّر ابوه من
الهيكل الذي في اورشليم،

 ليشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه " [1 – 3].

كانت
الولائم العظيمة من سمات الأزمنة القديمة. ومن الواضح أن " الألف " تعنى
الضخامة، وقد جرت العادة أن يجلس الملك أو رئيس المتكأ فى مكان عالى ليراه الجميع،
بينما كانت الدولة البابلية فى خطر من فارس حيث كان كورش محاصرا المدينة، كان
بيلشاصر منشغلا بإقامة وليمة تضم ألفا من العظماء القادمين من كل موضع، مع نسائه
وسراريه.

عوض الصوم فى وقت الحصار، والصراخ لله لكى ينقذه وينقذ مدينته، إذا به
يقيم وليمة، ويستخدم الأوانى المقدسة للشرب، فى جو من الفساد والأباحية، يكشف عن
إصرار الملك على الحياة غير اللائقة.

لم يكن إحضار الآنية للتمتع بلذة الشرب، إنما لإهانة الله! وتدنيس
الآنية المكرسة لخدمة هيكله وللتشهير.

" كانوا يشربون الخمر ويسبحون آلهة الذهب والفضة والنحاس
والحديد والخشب والحجر "
[4].

إذ
دنسوا الأوانى المقدسة، سبحوا الآلهة الوثنية بكونها واهبة النصرة على الإله
الحقيقى.

لم
يخطىء الملك وحده بل دفع عظماءه ونساءه وسراريه للأشتراك معه، فتحولت الوليمة إلى
مجلس مستهزئين.

+ يا لعظم غباوتهم! إذ كانوا يشربون فى أوان ذهبية سبحوا آلهة من خشب
وحجارة
.

 

(2)
الكتابة على الحائط:

" في تلك الساعة ظهرت اصابع يد انسان،

 وكتبت بازاء النبراس (المنارة) على مكلس حائط قصر الملك،

 والملك ينظر طرف اليد الكاتبة" [5]

يعلق
القديس جيروم
على
تعبير: " فى تلك الساعة "
قائلا: بأن اليد قد ظهرت فى نفس الساعة ليعلن الله أن ما يحدث هو تأديب بسبب
تجديفه وليس لسبب آخر.

ظهرت
اليد للملك لكى يدرك أن المكتوب يخصه شخصيا، لهذا ارتبك جدا وارتعب، فارتعب
العظماء معه دون أن يروا شيئا.

" حينئذ تغيرت هيئة الملك، وأفزعته أفكاره،

وانحلت خرز حقويه، واصطكت ركبتاه " [6].

منذ
لحظات كان الملك يظن فى نفسه إلها جبارا، يسخر بالله الحقيقى ويدنس مقدساته، مسبحا
الأوثان. الآن يأخذ موقف المتهم الذليل، ويدرك أن الله هو الديان الحقيقى. انحلت
قوى الملك الجسمانية، وارتبك فكره، وفقد اتزانه وكرامته بين المدعوين للحفل. صار
فى موقف لا يحسد عليه.

" فصرخ الملك بشدة لادخال السحرة والكلدانيين والمنجمين.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس تشكيل فاندايك وسميث عهد قديم سفر التكوين 31

فاجاب الملك وقال لحكماء بابل:

اي رجل يقرأ هذه الكتابة ويبيّن لي تفسيرها،

 فانه يلبّس الارجوان وقلادة من ذهب في عنقه،

 ويتسلط ثالثا في المملكة" [7]

شعر
الملك أن جراحات عقله خطيرة، فاستدعى السحرة والحكماء والمنجمين لعله يجد دواء
لأعماقه، لكنه كان يشعر أنه ليس لجراحاته شفاء، وأنه لن يفلت من يدى القدير. لقد
نسى أنه ملك يقيم وليمة للعظماء، فأرسل يستدعى هؤلاء الرجال على وجه السرعة،
ليدخلوا إليه وهو بعد فى الوليمة. لقد صرخ بشدة، الأمر الذى لا يليق بصاحب سلطان!
لقد فقد أعصابه تماما!

" ثم دخل كل حكماء الملك،

 فلم يستطيعوا ان يقرأوا الكتابة ولا ان يعرّفوا الملك
بتفسيرها.

 ففزع الملك بيلشاصر جدا وتغيّرت فيه هيئته واضطرب عظماؤه " [8، 9].

وهب
الله الملك بيلشاصر أن يرى اليد الخفية تكتب على الحائط، لكنه لم يهبه القدرة على
قراءة ما هو مكتوب.وجاء الحكماء ليقرأوا، لكنهم كانوا أشبه بالعميان.

ازداد
الملك رعبا، وارتعب كل من حوله.

 

(3)
إحضار دانيال أمام الملك

" اما الملكة فلسبب كلام الملك وعظمائه دخلت بيت الوليمة،

 فاجابت الملكة وقالت ايها الملك عش الى الابد.

لا تفزعك افكارك ولا تتغيّر هيئتك. يوجد في مملكتك رجل فيه روح
الآلهة القدوسين،

 وفي ايام ابيك وجدت فيه نيّرة وفطنة وحكمة كحكمة الآلهة،
والملك نبوخذناصّر

 ابوك جعله كبير المجوس والسحرة والكلدانيين والمنجمين " [10، 11]

واضح أن الملكة قد عاصرت أحداث نبوخذنصر جد بيلشاصر، غالبا ما تكون
زوجته، أى جدة بيلشاصر، وليست زوجته، لأن الأخيرة كانت مع الملك فى الوليمة.

فى بابل كان للملكة الأم منزلة عليا فى البيت الملكى، وهذا ما يكشف
دقة السفر.

" من حيث ان روحا فاضلة ومعرفة وفطنة وتعبير الاحلام وتبيين
ألغاز وحلّ عقد وجدت في دانيال

هذا الذي سماه الملك بلطشاصر.

فليدع الآن دانيال فيبيّن التفسير " [12].

لقد
ميزت الملكة العجوز بين دانيال والسحرة. فقد كان السحرة يفتخرون بأنهم قادرون على
تفسير الأحلام، لكن افتخارهم كاذب وباطل، أما دانيال فتمتع بثلاث عطايا إلهية، بها
فاق الجميع، وميزه عنهم.

أ –
فيه روح فاضلة.

ب –
فيه معرفة وحكمة.

ج –
قادر على تفسير الأحلام وتبيين الألغاز وحل المشاكل.

كشفت
أيضا عن تقدير نبوخذنصر له إذ نسبه إلى إلهه، وأعطاه اسما مكرما " بلطشاصر
".
لقد حمل اسما مشابها لأسم الملك " بيلشاصر ". لذا
يليق به ألا يحتقره لكونه غريب الجنس ومسبيا!.

" حينئذ ادخل دانيال الى قدام الملك.فاجاب الملك وقال لدانيال:

 أأنت هو دانيال من بني سبي يهوذا الذي جلبه ابي الملك من
يهوذا؟

 قد سمعت عنك ان فيك روح الآلهة وان فيك نيّرة وفطنة وحكمة فاضلة.

 والآن أدخل قدامي الحكماء والسحرة ليقرأوا هذه الكتابة،

 ويعرّفوني بتفسيرها فلم يستطيعوا ان يبيّنوا تفسير الكلام.

 وانا قد سمعت عنك انك تستطيع ان تفسر تفسيرا وتحل عقدا،

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ إِستِفَاناس س

فان استطعت الآن ان تقرأ الكتابة وتعرّفني بتفسيرها،

 فتلبّس الارجوان وقلادة من ذهب في عنقك،

 وتتسلط ثالثا في المملكة " [13 – 16]

مع كل
ما حل بالملك، وما سمعه من جدته لم يتضع، نادما على ما فعله، بل تحدث مع دانيال فى
عجرفة، ناظرا إليه كرجل ذليل مسبى. ولعله استخدم هذا الأسلوب لكى يلزمه بالطاعة
والألتزام بالنطق بالحق معه.

قدم الملك وعودا لدانيال من ثياب ملوكية وقلادة ذهبية مع سلطان، ولم
يكن يدرى أنه هو نفسه يفقد مملتكاته وسلطانه بل وحياته بعد ساعات.

قدم الملك وعودا للآخرين لا يقدر هو نفسه أن يتمتع بها.

 

(4)
تفسير دانيال:

" فاجاب دانيال وقال قدام الملك:

.لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيري،

لكني اقرأ الكتابة للملك واعرّفه بالتفسير " [17].

اظهر
دانيال استخفافه بالعطايا الزمنية قبل أن يقرأ الكتابة ويفسرها، لئلا يظن الملك أن
الرفض ليس من أعماق القلب، وإنما لأن دانيال أدرك أن ملكه ينتهى، وكأن دانيال
استغل الرؤيا لحسابه الشخصى.

اختلفت
طريقة تفسير دانيال للرؤيا هنا عنها مع نبوخذنصر، لقد أظهر استهانته بالمكافأة،
للأسباب التالية:

أ –
خطية الملك هنا ليست عن جهل، فقد سبق أن عرف ما حدث مع جده.

ب –
هاجم بيلشاصر الله القدير.

ج –
مجد بيلشاصر الأوثان ومدحها بقصدإهانة الله الحى.

يقول
القديس جيروم أنه بهذا تحققت نبوة إشعياء النبى عن إنهيار مملكة بابل أثناء إقامة
الوليمة بطريقة حرفية، إذ يقول:

" تاه قلبى، بغتنى رعب، ليلة لذتى جعلها لى رعدة، يرتبون
المائدة، يحرسون الحراسة، يأكلون، يشربون – قوموا أيها الرؤساء امسحوا المجن
"

 إش
21: 4، 5.

 

" انت ايها الملك فالله العلي اعطى اباك نبوخذناصّر ملكوتا
وعظمة وجلالا وبهاء. وللعظمة التي اعطاه اياها كانت ترتعد وتفزع قدامه جميع الشعوب
والامم والألسنة.

فايّا شاء قتل وايّا شاء استحيا،

 وايّا شاء رفع وايّا شاء وضع.

 فلما ارتفع قلبه وقست روحه تجبّرا،

 انحط عن كرسي ملكه ونزعوا عنه جلاله " [18 – 20].

اوضح
له دانيال أن ما تمتع به جده الملك نبوخذنصر لم يكن سوى عطية إلهية، فإن كل سلطان
هو من الله (رو 8: 1).

كان
نبوخذنصر صاحب سلطان يقتل من يشاء ويعفو عمن يشاء، يرفع من يشاء، ويذل من يشاء،
ولم يدرك أن حياة الناس هى فى يد الله، بل وحياة الملك نفسه وكرامته وسلطانه هذه
جميعها فى يد الله.

" وطرد من بين الناس وتساوى قلبه بالحيوان،

 وكانت سكناه مع الحمير الوحشية فاطعموه العشب كالثيران،

 وابتلّ جسمه بندى السماء،

 حتى علم ان الله العلي سلطان في مملكة الناس،

 وانه يقيم عليها من يشاء " [21].

ما
حدث مع نبوخذنصر أمر له خطورته، يحسب درسا لأجيال متعاقبة، لكن هوذا حفيده بيلشاصر
سرعان ما نسى الدرس أو تناساه، فلم ينتفع من خبرة جده..

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ز زمري الملك ك

" وانت يا بيلشاصر ابنه لم تضع قلبك مع انك عرفت كل هذا " [22].

يدعو
بيلشاصر ابنا للملك نبوخذنصر الذى سقط تحت التأديب الإلهى بسبب كبريائه، وكأنه
يقول له: " لست أقدم لك مثالا من أمة غريبة، بل
من بيت أبيك وعائلتك. أنت بلا عذر! ".

" بل تعظمت على رب السماء،

 فاحضروا قدامك آنية بيته،

 وانت وعظمائك وزوجاتك وسراريك شربتم بها الخمر،

 وسبّحت آلهة الفضة والذهب والنحاس والحديد والخشب والحجر التي
لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف.

اما الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده.

 حينئذ أرسل من قبله طرف اليد فكتبت هذه الكتابة.

 وهذه هي الكتابة التي سطّرت،

منا منا تقيل وفرسين.

 وهذا تفسير الكلام،

 منا احصى الله ملكوتك وانهاه.

 تقيل وزنت بالموازين فوجدت ناقصا.

 فرس قسمت مملكتك وأعطيت لمادي وفارس،

 حينئذ أمر بيلشاصر ان يلبّسوا دانيال الارجوان وقلادة من ذهب في
عنقه وينادوا عليه

انه يكون متسلطا ثالثا في المملكة " [29].

قدم
له الملك عطاياه، لكنها لم تدم إلا لساعات. ربما قبلها دانيال النبى لئلا يظن
الملك أنه ثائر ضده أو متعجرف عليه ومتشامخ. ارتدى دانيال ثوب ارجوانى ملوكى،
وقلادة من ذهب تشير إلى السلطة الملوكية.. بهذا أعطيت الفرصة لكورش أن يتعرف عليه
ويتساءل عن سبب تكريمه، فيسمع عن الرؤيا.

ربما
ظن الملك أن هذه النبوة المؤلمة ستتحقق فى المستقبل البعيد أو أنه بتكريمه رجل
الله يجد رحمة ونعمة لدى الله.

 

(5)
النتائج:

" في تلك الليلة قتل بيلشاصر ملك الكلدانيين،

 فاخذ المملكة داريوس المادي وهو ابن اثنتين وستين سنة " [30 – 31].

بينما
كان الشرب بكؤوس بيت الرب جاريا قبل الصباح دخل كورش بابل بطريقة لم يتوقعها
الحراس والرقباء فى الأبراج العالية، فقد فاض نهر الفرات تحت أسوار بابل الضخمة.
كان الفرس قد حفروا مجرى ضخما خارج بابل ولم يدرى البابليون بذلك. وبسرعة قاموا
بتوصيل المجرى بالنهر فتدفقت المياة فى المجرى، فعبر الجيش إلى داخل المدينة خلال
النهر الجاف تحت الأسوار.

لقد تحولت المملكة من أيدى البابليين إلى الفارسيين، بهذا ننتقل من
الرأس الذهبى للتمثال إلى الصدر والكتفين من الفضة كما جاء فى الإصحاح الثانى من
السفر.

عندما
استولى كورش على بابل ووجد دانيال بلباس الأرجوان، وسأل عنه عرف أنه تنبأ عن سقوط
مملكة بابل وقيام مملكة فارس، وعن نصرة كورش الخ..، كرمه وقربه إليه كرجل الله،
وتعاطف مع شعبه. وكأن الله قد سمح بما ورد فى هذا الإصحاح فى اللحظات الحاسمة
لسقوط بابل ونصرة فارس حتى يصغى كورش لدانيال وشعبه، ويستمع إلى نبوات إرميا عن
عودتهم بعد سبعين عاما من السبى، فأصدر أمره بذلك (عزرا 1: 1 – 4).

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي