تَفْسِير سِفْرُ يَشُوع

وليم كيلى

 

مقدمة:

 إن
سفر يشوع يعقب خمسة أسفار موسى مقترناً معها اقتراناً طبيعياً بينًا قد يظهر
للقارئ من أول وهلة معطوفاً عليها بواو العطف، فإن الروح القدس مع أنهُ كتبهُ
عَلَى يد خادم آخر، كان يعلن تعليماً موافقاً لشعب اللّه حينئذٍ، وكان سفر التثنية
قد أعدَّ الطريق لإظهار هذا التعليم، بحيث أن موسى النبي نطق بمضمون ذلك السفر
لإسرائيل وهم علَى الاستعداد لعبور الأردن ودخول أرض كنعَان، وهذا السفر يوضح ما
حدث بُعيد ذلك. ففي درسنا إياهُ ينبغي أن ندرك أولاً ما هو مقصد روح الوحي بهِ، ثم
نلتفت إلى تفاصيلهِ.فلذلك أقدم بعض ملاحظات عمومية.

 

طالما
سمعنا أن معنى عبور الأردن بالنظر إلى كونهِ رمزاً يشير إلى مفارقاتنا هذا العالم
وانطلاقنا إلى السماء عند الموت، مع أن معناهُ الحقيقي ليس كذلك، عَلَى أن
استعدادنا للموت إن شاء اللّه مهمُّ في محلهِ وكثير النفع لنفوسنا، إني أقول أن
اللّه أعطانا هذا الرمز الجميل لإفادتنا بخصوص سلوكنا عَلَى الأرض وليس من جهة
دخولنا السماءِ وإذا حوَّلناهُ عن ذلك، نفقد ما قصد اللّه أن يفيدنا إياهُ ونحن في
هذا العالم. ولا يصح أيضاً استعمالهُ عَلَى الجهتين، أعني عَلَى حالتنا في العالم
وموتنا معاً كما سنرى.

 

مع
أنهُ توجد في جميع أسفار الوحي فوائد عامة سواءٌ كانت لإرشادنا الآن أو لتعزيتنا
عند الموت، حتى أن الذين يفسرون عبور الأردن كناية عن مفارقتنا هذا العالم
يستخرجون فوائد روحية للوقت الحاضر من ذلك نفسهِ، كقصة راحاب مثلا بالنظر إلى كونها
مثالاً لطريق خلاص النفس بالإيمان.

 

وأما
من جهة معنى عبور الأردن فأقول أنهُ رمز إلى حالتنا المسيحية بحيث أننا انفصلنا عن
العالم أدبياً، وصرنا نتمتع بمقامنا في المسيح، وذلك حال كوننا قد متنا وقمنا
معهُ، ويتضح هذا المعنى جلياً إذا سأَلنا: ماذا فعل بنو إسرائيل بعد أن عبروا هذا
النهر؟ هل حصلوا عَلَى الراحة؟ – كلاَّ- فإنهم لم يزالوا في تعب لا بل باشروا
جهاداً عظيماً مع أعدائهم وجُرّب إيمانهم بذلك أكثر مما جُرّب إيمانهم بعناء
المسير في البرية. نعم أن اللّه كان قد امتحن قلوب شعبهِ في البرية التي كانت
موافقة لذلك لكونها خالية من الخيرات الأرضية، وكان هو معهم كنصيبهم وإن لم يكتفوا
بهِ فما لهم شئ خلافهُ ليتمتعوا بهِ. وكان اللّه يُجرّبهم هل يلتصقون بهِ أم لا
ويعلمهم ما في قلوبهم وما هو قلبهُ هو تعالى لنحوهم، وهذه هي غاية معاملاتهِ
المتنوعة معهم مدة سيرهم أربعين سنة ولم يمنحهم بركاتهم الخاصة الموعود بها، وقد
اتضح كل ذلك في بعض الأسفار السالفة. وأما في سفر يشوع فنرى ما أُعطي لإسرائيل
بحسب مواعيد اللّه لآبائهم إذ أدخلهم أرض كنعان بيد قوية، فابتدئوا يحاربون سكانها
لكي يمتلكوها، فهذا السفر يحتوي أخبار حروبهم، فيُبان من ذلك عينه ما هي الفوائد
التي نستفيدها منهُ عَلَى سبيل الرموز فإنه أمر واضح بعد انطلاقنا لنكون مع الرب
لا نشتبك بحروب. ثم إذا بحثنا عما يدل عليهِ عبور إسرائيل البحر الأحمر عند خروجهم
من نرى قرينة بين ذلك وعبورهم الأردن قبل دخولهم أرض كنعان. لا شك أن كلتا الحادثتين
تدلان عَلَى موت المسيح وقيامتهِ وموتنا وقيامتنا معه رمزياً، ولكن يوجد هذا الفرق
بينهما الأول_ يشير إلى اتحادنا مع المسيح بموتهِ وقيامتهِ بحيث يفصلنا ذلك عن
العالم أدبياً ويصيرنا سياحاً فيهِ، وأما الثاني_ أي عبور الأردن فيشير إلى ما هو
أعظم من ذلك، أعني معرفتنا بما نتج لنا من موت المسيح وقيامتهِ،ومقامنا فيهِ حتى
يمكننا الآن أن نتمتع ببركاتنا الخاصة السماوية، وإن كنا لسنا في السماءِ بعد؛
لأننا بموجب الروح المعطى لنا بعد موت المسيح وصعودهِ إلى السماءِ نتحقق اتحادنا
معهُ ومقامنا فيهِ مع أننا مجاهدون ضد أعدائنا الروحية، التي تقاومنا لكي تمنعنا
عن التمتع بكل ذلك. فإذاً من الجهة الواحدة عبور البحر الأحمر يشير إلى كوننا
أمواتاً مع المسيح ولكن أحياء للّه ومنقذين من العبودية للعالم لأن مصر هي رمز
للعالم كونهُ موضع العبودية لشعب اللّه، ومن الجهة الأُخرى عبور الأُردن يشير إلى
تمتعنا «بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع» (أفسس 3:1). وبناءً عَلَى
ذلك يجب أن «نهتم بما فوق لا بما عَلَى الأرض»(كولوسي 2:3). «بالإيمان نسلك لا
بالعيان» ولكن تمتعنا بتلك البركات ليس أقل حقيقة من كونهِ بالإيمان فقط.إنه لم
يستولِ عَلَى عقل البشر ضلال أعظم من الظن بأن الأمور المنظورة هي حقيقة، والأمور
المعروفة بالإيمان ليست كذلك فإنهُ لا يوجد شئ أكثر حقيقة من الإيمان؛ لأنهُ مسند
عَلَى كلمة اللّه الثابتة إلى الأبد، إننا قابلون في يسوع المسيح ربنا ملكوتاً لا
يتزعزع، ونصيباً أفضل جداً مما يُرى. نعم ينبغي لنا أن نتكل عليهِ بالإيمان إذ ليس
لنا الآن ما يظهر لعين البشر، ولكن والحالة هذه هل نحن أفقر؟ كلا بل نحن أغنى مما
كنا لو كانت بركاتنا ظاهرة عياناً؛ لأننا متعلمون بالإيمان أن نستند عَلَى نظر
اللّه لأجلنا لا عَلَى نظرنا نحن لأجل أنفسنا، وذلك من عمل الإيمان؛ فالإيمان إذاً
لا يُضيق دائرة نظرنا بل يوسعها جداً إذ بهِ نعاين ما أُعطي لنا من اللّه على حسب
ما نظرهُ اللّه لأجلنا. إننا قليلو الإيمان، ولا ندرك نصيبنا الجيد كما يجب، ولكن
الروح القدس أتى من سيدنا بعد صعودهِ إلى العلا لكي يعلن لنا «ما لم ترَهُ عينٌ
ولم تسمع أذن ولم يخطر عَلَى بال إنسان ما أعدَّهُ اللّه للذين يحبونهُ» (كورنثوس
الأولى 9:2-10). وإن قال أحدٌ هذا الكلام لا يصدق إلا عَلَى تمتعنا بمجد السماءِ
بعد الموت! فأقول:-كلا-لأن الرسول يقول:«فأعلنهُ اللّه لنا بروحهِ» فكلما قبلنا ما
أعلنهُ لنا في كتابهِ كلما ننمو كلما ننمو إلى قياس قامة ملء المسيح ونبلغ غاية
دعوتنا المسيحية. شاء اللّه من لطفهِ لنحونا أن يجعلنا نعرف يقيناً ونتمتع بمقامنا
المرتفع ليس عند موتنا فعلاً بل ونحن بعد في العالم حين نتحقق موتنا وقيامتنا مع
ابنهِ، وأننا بواسطة ذلك قد انفصلنا عن العالم وتحررنا من عبودية الشيطان ومتنا
روحياً عن جميع الأشياء التي كنا نعيش لها قبل، حتى عن ذواتنا أيضاً. ولا شك أنهُ
ليس بممكن أن نتمتع بما هو لنا في المسيح إن لم نعرف موتنا عن ذواتنا، وإلى ذلك
يشير إختتان إسرائيل حالاً بعد عبورهم الأردن؛ لأنهم لم يمارسوا طقس الختان كل
سيرهم في البرّية، ومع أنهُ كان من واجباتهم حسب شريعة موسى، فلم يعاتبهم اللّه
عَلَى إهمالهم إياه حتى عبروا الأردن، وحينئذٍ أوجب عليهم إجراءِ الختان بلا مهلة،
فمعنى الختان إذا أُخذ رمزياً هو موتنا لذواتنا بواسطة موت المسيح، أُنظر (كولوسي
11:2) ويجب أن نعرف ذلك ونتصرف كالذين ماتوا وقاموا، ولا يمكن ذلك إن لم يصر فينا
ختان المسيح الذي هو خلع الذات. وإن كان ذلك كذلك فلا يليق بنا أن نكتفي بمجرَّد
الفكر بأن لنا كل شئ في المسيح، بل نسعى لكي نتمتع بهِ فعلاً بواسطة الروح القدس
العامل فينا، أُنظر (أفسس 15:1-23) إن اللَّه يشاء أننا نعرف ماذا نلنا منهُ
كأولادهِ؛ لأنهُ أعطانا نصيباً جيداً جديراً بمحبته لنا، ولكن يقتضي لنا اجتهاد
الإيمان لكي نتعلم منهُ كل حين ولا نتغافل، فإنهُ لم يمنع عنا شئ من الخير، وإن
كنا لا نجتهد كل الاجتهاد لكي نعرف الأشياءَ الموهوبة لنا منهُ فقد أهنا محبتهُ،
ولا بد لنا من الجهاد.

هل تبحث عن  م الأباء إكليمنضس الرومانى تعاليم إكليمنضس الرومانى ى

 

فسفر
يشوع هذا ممتاز ليس بأخباره عن خروج بني إسرائيل من بيت العبودية ليسيروا في برّية
خالية مقفرة بل بدخولهم إلى ميراثهم الموعود بهِ. فلنتأّمل قليلاً في إصحاحاته
الأولى بالتفصيل.

 

موسى
عبد الرب قد مات وقام يشوع مقامهُ، فيرْمز بكليهما إلى المسيح بحيث موسى بوظيفته
رمز إلى المسيح حال كونه يُخرج شعبهُ من العالم ويقودهم في العالم كما أن يشوع رمز
إليهِ حال كونِه رئيس خلاصنا؛ ليدخلنا إلى ميراثنا الروحي، وينصرنا عَلَى أجناد
الشر التي تضادنا، وذلك جارٍ فينا بينما نحن في هذا العالم. فإذاً يشوع رمز إلى
المسيح ليس عند مجيئهِ ثانيةً لكي يقبلنا إلى مجدهِ، بل بحالة ارتفاعهِ الآن إذ
يقودنا بواسطة الروح القدس، ويخولنا المعرفة الأكيدة بمقامنا السامي لنقبل ونتحقق
امتيازاتنا الفائقة، ثم نرى أيضاً في هذا السفر أن اللّه أعطى شعبهُ ميراثاً عطية
مؤكدة، وبعد ذلك أمرهم بأن يجاهدوا لامتلاكه ضد موانع وصعوبات عديدة، وسنرى
الإيضاح عن كل ذلك عند مطالعاتنا إصحاحات السفر. فلنتعلم مما يتضح لنا من الإصحاح
الأول إلى الإصحاح الثاني عشر، إنهُ يقتضي لنا محاربة عنيفة؛ لكي نمتلك امتيازاتنا
السماوية، مع أنها قد وهُبتْ لنا، ثم في ما بقي من السفر من إصحاح 13 إلى آخرهِ
نرى بعض المتاعب والصعوبات التي نتجت لهم من كونهم في الأرض، والتي من شأُنها أن
تخدعهم أو تمنعهم عن التمتع بما كان لهم، وذلك رمز إلى الطرق المختلفة التي
يستعملها الشيطان الآن ليضللنا أو يجعلنا نحيد عن الحق بعد معرفتنا إياهُ.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي