سِفْرُ اَلْقُضَاة

 

سِفرُ
القُضاة الفَصلُ الأوَّل نِزاعُ الإرتِداد

 يُغَطِّي
سفرُ القضاة أربعمائة سنة من التاريخ العِبريّ. والجملة الإفتتاحيَّةُ في سفر
القضاة تُسجِّلُ موتَ يشوع وغيابَ القيادة الذي نتجَ عن موتِه. يبدو أن يشوع لم
ينجح في تدريب خليفَة له ليُسلِّمَهُ دورهُ القيادي. وبطريقة ما، يصفُ سفرُ القضاة
فراغاً في القيادة، مِمَّا جعلَ شَعبَ إسرائيل ضائِعينَ، نتيجَةً لِفشلِ يشوع في
تدريب من يحلُّ محلَّه. ونُلاحظُ عبر سفر القضاة بكامِلِهِ، أن هؤلاء القضاة
جميعاً لم ينجحوا في تدريبِ من يخلفهم في أدوارِهم القِياديَّة، ومن يُؤَمِّنُ
إستِمرارِيَّةَ قيادَةِ شَعبِ الله.

 

 العددُ
المفتاحي في سفر القضاة يُخبِرنا أنهُ لم يكُن هناكَ مَلِكٌ في إسرائيل خلال هذه
الحقبة التاريخية، "وكلُّ واحدٍ كان يعملُ ما يحسُنُ في عينيه." (قُضاة
17: 5- 7) يعتقدُ الكثيرُ من عُلماء الكتاب المقدس أن صموئيل هو كاتب سفر القضاة.
وبِما أنَّهُ لم يُوجَد مَلِكٌ خِلالَ أيَّامِ القُضاة، فعلى الأرجح أنَّ كاتِبَ
هذا السفر دَوَّنَهُ لاحقاً في مرحلة المُلك، التي منها كانَ يتطلَّعُ إلى الوراء.
وتُعتَبَرُ هذه الحقبة التي حكمَ فيها القُضاةُ بمثابةِ العصر المُظلِم في التاريخ
العبري، قبلَ أن يَكُونَ لِشَعبِ إسرائِيلَ مَلِكٌ.

 

 الرسالةُ
التَّعَبُّدِيَّةُ التي نَجِدُها في سفر القضاة تُعالِجُ مُشكِلَةً أساسِيَّةً
تُسمَّى بالإرتِداد. تتألَّفُ كلمة إرتداد من كلمتين: الوقوف بعيداً. وأحياناً قد
تعني هذه الكلمة، "السُّقوط بَعيداً" عن إلتِزاماتِ الإيمان. تذكَّرْ
أنه في نهايةِ سفر يشوع، إتَّخذَ بنو إسرائيل إلتِزاماً، وخَتَمُوا إيمانَهُم
بعهدٍ عَلَنِيّ. قال يَشُوعُ، "إختاروا من تعبُدون، وأما أنا وبيتي فنعبُدُ
الربَّ." ولقد تعهَّدَ الشَّعبُ أمامَ اللهِ وأمامَ يشُوع قائِلين:
"نختارُ أن نضعَ اللهَ أوَّلاً. ونخارُ أن نخدُمَ اللهَ ونُطِيعَهُ."

 

لقد
إختاروا أن يخدموا الرب، وإتَّخذوا ذلك الموقف هُم وعائِلاتُهُم. فالإرتداد بكل
بساطةٍ هو التالي: أن تتَّخذَ موقفاً كذلك الذي إتَّخّذَهُ بنو إسرائيل، وفيما بعد
تَتَّخِذُ موقفاً بالإبتعاد عن الموقف الأوَّل، أو تَسقُطُ من إلتِزامِكَ باللهِ
وبِعَهدِكَ معَهُ.

 

حلَقَةُ
الإرتِداد

 في
سفرِ القُضاة، نَجِدُ حَلَقَةَ إرتِدادٍ إجتازَ عبرَها بنُو إسرائيل سَبعَ
مرَّاتٍ، خلالَ أربَعمائة سنة أو أكثَر بِقَليل. فكِّرْ بهذه الحلقة وكأنّها ساعة،
حيثُ تبدَأُ حلقَةُ الإرتِدادِ هذه معَ عقرَبِ السَّاعَةِ وهُوَ يُشيرُ إلى
السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ عشر. وهذا يُشيرُ إلى بني إسرائيل عندما كانَ اللهُ
أوَّلاً عندَهُم، وهُم على نفسِ الإتِّجاهِ معَهُ. ولكن في تمامِ الساعةِ الواحدة،
ابتعدَ بنُو إسرائيل عن إلتِزامِهِم تجاهَ الله. في الساعة الثانية ظهرَ بينهم
الفساد الأخلاقي، وتَبِعَهُ الفَسادُ السِّياسِيُّ في الساعة الثالثة. وفي الساعة
الرابعة من الحلقة، سَلَّطَ اللهُ عليهم عدوَّاً قاسياً. وفي الساعة الخامسة حدثت
حَربٌ وهُزِمَ شعبُ الله من قِبَلِ هذا العدو. وعندما وصلَ عقرَبُ السَّاعَةِ إلى
الأسفَل، إلى السَّاعَةِ السَّادِسَة، كانَ بنُو إسرائيل قد أصبَحُوا عَبيدَ ذلكَ
العَدُوّ الذي هزَمَهُم.

 

وإذ
يتحرَّكُ عقرَبُ السَّاعَةِ صُعُوداً منَ الجِهَةِ الأُخرى، نَجدُ في السَّاعَةِ
السَّابِعة نهضَةً رُوحيَّة. هُنا كانَ يَصرُخُ الشعبُ إلى الله طالِبينَ
الرَّحمَة. وفي الساعة الثامنة، كانَ يُقيمُ اللهُ عليهم قائداً، فيدعُوهُ
ويُؤهِّلهُ ويُوحِيَ لهُ بأن يَقُودَ ثَورَةً ويُطيحَ بالعَدُوِّ الشرِّير. وكانَ
يُسمَّى مثلُ هذا القائد بالقاضِي. في السَّاعَةِ التَّاسِعة, كانَ يبدَأُ مثلُ
هذا القاضي بحشدِ القُوى والوسائِل للإطاحَةِ بالعَدُوِّ المُحتَلّ. وفي الساعةِ
العاشرة، نجِدُ ثَورَةً، ثُمَّ يأتي النَّصرُ في الحادِيَةِ عشرة. وبعدَ تحقيقِ
النَّصرِ والإطاحَةِ بالعَدُوّ، يكُونُ بَنُو إسرائيل قد رَجَعُوا إلى السَّاعَةِ
الثانِيَةِ عشرة، وهُم يخدُمُونَ اللهَ ويُحِبُّونَهُ مُجَدَّداً.

 

 لقد
كانت لديهم حَقَبَاتٌ مُتنوعة من الزمان تمتَّعوا فيها بالسلام، إلى أن نَعُودَ
ونقرأُ تلكَ الكلماتِ المُريعَة ثانِيَةً: "وعادَ بنُو إسرائيل ليَعمَلُوا
الشَّرَّ في عَينَي الرَّبّ." عِندَها نُدرِكُ أنَّ حلقَةَ الإرتِدادِ تعُودُ
لتَحدُثَ ثانِيَةً، وثالِثَةً، ومراراً وتِكراراً. لقد تمتَّعَ بنُو إسرائيل
بالسلام لفترة ثمانين سنةً أحياناً، ولكن هذا الإرتداد عادَ ليظهرَ مُجدَّداً،
وهكذا تردَّدَتْ حلقةُ الإرتِدادِ هذه سبعَ مرَّاتٍ.

 

 هُناكَ
على الأقل تطبيقان تعبُّدِيَّانِ وعمَلِيَّانِ لهذه الرسالة الأساسيَّة في سفر
القضاة. أولاً على مستوى التطبيق الشخصي. فهل من المُمكِن أن نَسقُطَ مُجَدَّداً
وأن نبتَعِدَ مُجدَّداً عَمَّا نُؤمِنُ بهِ؟ وهل من المُمكِن أن نَقَعَ في
الإرتداد؟ يقولُ سفرُ القُضاةِ: نعم، هذا مُمكِن!

 

يُحذِّرنا
سفر التثنية والرسول بولس، "من ظنَّ أنَّهُ قائمٌ (بإستِمرار)، فلينظُرْ أن
لا يسقُطَ هو أيضاً." فكَونُنا قد دخلنا "أرضَ مَوعِدِنا كنعان"
وانتصرنا، فهذا لا يعني أنَّهُ لا يُمكِنُ أن نرتدَّ أو أن نسقُطَ بَعيداً عمَّا
نُؤمِنُ بهِ. يُرينا سفرُ القُضَاةِ مراراً وتكراراً أن بَني إسرائيل سَقَطُوا في
الإرتِداد. وعلى مِثالِهم، نحنُ أيضاً نلتزم أن نضعَ اللهَ أوَّلاً ونقومُ
بإلتزاماتٍ وتعهُّداتٍ عظيمةٍ لله في بعضِ الأوقات، ولكننا سُرعان ما نسقطُ فيما
بعد. وعندما نسقط، يتحتَّمُ علينا أن ندفَعَ ثمنَاً باهِظاً لِعواقب الإرتداد.

 

 التطبيقُ
التَّعبُّدِيُّ الثاني في سفر القضاة، هو ما يُمكِنُ تسمِيَتُهُ: الإرتِدادُ
الوطني القومي. فكما إجتازت أُمَّةُ بني إسرائيل حلقة الإرتداد المُتكرِّرة هذه في
سفر القضاة، فمنَ المُمكِنِ أن تجتازَ أُمَمٌ مُعاصِرةٌ هكذا حلقة اليوم.

 

 فِي
مَراحِلَ مُعَيَّنة، شكَّلَت الأراضِي المُقدَّسة مركز عمل الله الأساسيّ، وكانت
أُورشَليمُ بِمثابَةِ عاصِمَةِ العالم الرُّوحِيَّة. ولكنَّ القادَةَ
الرُّوحِيِّين إبتَعَدُوا عنِ اللهِ، ورفَضُوا المسيحَ وتصريحاتِهِ المَسياوِيَّة.
فعندما دخلَ يسُوعُ إلى أورشَليم صَبيحَةَ أحَدِ الشَّعانِين، قالَ للقادَةِ
الدِّينيِّين، "إن لم تأتُوا بِثِمارِ ملكُوتِ الله، فإنَّ اللهَ سوفَ يأخُذُ
منكُم المَلكُوت وسيُعطِيهِ لِشعبٍ يأتي بِثمارِهِ." بكلماتٍ أُخرى،
"اللهُ سوفَ ينقُلُ مركَزَ عملِهِ"، إن كانَ الوطنُ الذي يستَضيفُ
مركَزَ عملِ اللهِ لا يَأتي بِثمارِ ملكُوتِ الله. قالَ يسُوع، "إنَّ
الإلتِزامَ تجاهَ الله هُو مِثلُ السُّقُوطِ على حَجَرٍ. فإمَّا أن تقعَ على هذا
الحَجَرِ وتتَكسَّرُ عليهِ، وإمَّا أن يقعَ الحَجَرُ عليكَ ويسَحَقَكَ."
(متَّى 21: 42- 44)

 

 عندما
أخذَ يسُوعُ المَلَكُوتَ بعيداً عنِ رِجالِ الدِّين في إسرائيل، أعطى هذا
الملَكُوتَ لكنيستِهِ. هذا يعني أنَّ هذا التَّطبيقَ التَّعَبُّدِيّ في تعليمِ
حلَقَةِ الإرتدادِ ينبَغي أن يُوَجَّهَ بالدَّرجَةِ الأُولى إلى الكنيسة. وبما
أنَّهُ يُوجَدُ تَفسِيرٌ واحِدٌ ولكن الكَثير من التَّطبيقاتِ الكتابِيَّة، فإنَّ
هذا التَّحذِير عنِ الإرتِداد يُمكِنُ أن يُطَبَّقَ على خدماتٍ مثل الآلاف منَ
الكُلِّياتِ والجامِعاتِ ومعاهِدِ اللاهُوت الكنسيَّة، التي تأسَّسَت لتعليمِ
كلمةِ الله.

 

 ينبَغي
أن نُطَبِّقَ هذه التحذِيراتُ المُرهِبَة حيالَ الإرتدادِ في سفرِ القُضاة، على
الصَّعيدِ الشَّخصِيّ، المُؤسَّساتِي، والوَطنِي. إنَّ رِسالَةَ هذا السِّفر هي
أنَّهُ يتوجَّبُ علينا أن نَكُونَ دائماً في السَّاعةِ الثَّانِيَةِ عشرة، أي أن
نُحِبَّ اللهَ وأن نَعبُدَهُ ونخدُمَهُ.

 

الفَصلُ
الثَّانِي أُمُورٌ غير إعتِيادِيَّة عبرَ أشخاصٍ إعتِيادِيِّين

 بالإضافَةِ
إلى التَّحذِيراتِ ضدَّ الإرتِداد في سفرِ القُضاة، تُوجَدُ الكَثيرُ منَ
الحقائِقِ التَّعَبُّدِيَّة التي يُمكِنُ تَعَلُّمُها من سِيَرِ حياةِ القُضاة
الشَّخصيَّة. ويُعتَبَرُ هؤُلاء القُضاة من أكثَرِ شخصيَّاتِ الكتابِ المُقدَّس
إثارَةً للإهتِمامِ من ناحِيَةِ دراسَةِ سِيَرِ حياتِهم.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس م محاباة ة

 

كانَ
عُثنِيئيلُ أوَّلَ القُضاة. وبِحَسَبِ كلمةِ الله، كانَت مُؤَهِّلاتُهُ الوحيدة
أنَّهُ كانَ إبن أخ كالِب الأصغَر. والمُؤهِّلاتُ الوحيدَةُ التي تمتَّعَ بها
القاضِي الثَّانِي، إهُود، كانت أنَّهُ كانَ أعسَرَ. ونقرَأُ أيضاً أنَّ قاضِيَةً
أُخرى إسمُها دَبُّورة، كانت أُمَّاً في إسرائيل. لقد كانَت لديها صُعوبَةٌ بجعلِ
القائد العَسكَرِيّ، باراق، بأن يتشجَّعَ ويذهَبَ معها إلى الحَرب. وعندما دُعِيَ
جِدعَون، قالَ، "آه يا رَبّ، كيفَ يُمكِنُني أن أُخَلِّصَ شَعبَ إسرائيل؟ ها
عَشيرتِي هي الذُّلَّى… وأنا الأصغَرُ في بَيتِ أبي." (قُضاة 6: 15) هُناكَ
مَوضُوعٌ يستَمِرُّ عَبرَ كُلِّ الصِّفاتِ الشَّخصِيَّةِ لهَؤُلاء القُضاة، وهُوَ
أنَّهُم كانُوا جميعُهُم أشخاصاً إعتِيادِيِّين.

 

 هل
تعتَبِرُ نفسَكَ شَخصاً إعتِيادِيَّاً؟ وهل تعتَقِدُ أنَّ اللهَ لا يُريدُ أو
حتَّى لا يستَطيعُ أن يستَخدِمَكَ، لكَونِكَ شخصاً غيرَ مَوهُوبٍ جدَّاً وغَيرَ
مُحَقِّقٍ للإنجازاتِ؟ إنَّ سِفرَ القُضاةِ هذا سيُظهِرُ لكَ أنَّ اللهَ يُسَرُّ
بإنجازِ أُمُورٍ غير إعتِياديَّة من خلالِ أشخاصٍ إعتِيادِيِّين مثلَكَ ومِثلِي.

 

لقد
كانَ عُثنِيئيلُ إبنَ الأخِ الأصغَر لكالِب. ويَقُولُ الكتابُ المُقدَّسُ عنهُ ما
معناهُ: "فكانَ عليهِ رُوحُ الرَّبِّ، فأصلَحَ وطهَّرَ إسرائِيل، حتَّى
أنَّهُ عندَما قادَ جُندَ إسرائيل ضِدَّ جَيشِ العَدُوّ، ساعَدَهُ الرَّبُّ
لينتَصِرَ على أعدائِهِ إنتِصاراً ساحِقاً."

 

اللهُ
يُسَرُّ بأن يأخُذَ أشخاصاً إعتِيادِيِّين وأن يعمَلَ من خِلالِهم أعمالاً غير
إعتيادِيَّة، وذلكَ لأنَّ رُوحَهُ يمتَلِكُهُم. هذا ما يُسمِّيهِ العهدُ الجديدُ
بالحياةِ المُمتَلِئة بالرُّوحِ القُدُس.

 

نرى
هذا في حياةِ قاضٍ إسمُهُ إهُود، الذي كانَت أهلِيَّتُهُ الوحيدَةُ أنَّهُ كانَ
أعسَر. وكانت شعبُ إسرائيل مهزُوماً من قِبَلِ المُوآبِيِّين، الذين كانَ
مَلِكُهُم عجلون قد إنتَصَرَ على إسرائيل. في تلكَ الأيَّام، عندما كانت أُمَّةٌ
تنتَصِرُ على أُخرى، كانت تضعُ عليها ضرائِبَ وأعباءَ لا تُحتَمَل. فقادَ إهُود
مجمُوعةً منَ شعبِ اللهِ إلى عاصِمَةِ مُوآب ليُؤَدُّوا الجِزيَةَ عن إسرائيل.
فدخلَ إهُود إلى قصرِ عجلون ودفعَ الجِزيَة. ولكنَّهُ قبلَ أن يذهَبَ في هذه
المُهِمَّة، صنعَ لِنفسِهِ خنجَراً طُولُهُ حوالي الثَّلاثِينَ سنتِيمتراً.

 

وعندما
وقفَ في حضرَةِ المَلِكِ السمين عِجلُون، قالَ، "لدي كلامٌ منَ اللهِ
لأقُولَهُ لكَ." نقرأُ أنَّ إهُود إستَلَّ بيُسراهُ القوِيَّة خنجَرَهُ
الطَّويل وقتلَ بهِ الملك. وهكذا بدأَ إهُود ثورَةً أدَّت إلى الإطاحَةِ بحُكمِ
المُوآبِيِّين. الأمرُ الوحيدُ الذي نعرِفُهُ عن إهُود، هُوَ أنَّهُ كانَ أعسَرَ.
مِنَ المُمكِنِ أنَّ يُسرَاهُ كانَتِ الشَّيءَ الوحيد الذي كانَ لدى إهُود
ليُقَدِّمَهُ للهِ. ولقد إستَخدَمَ اللهُ ذلكَ بِقُوَّةٍ. فهل قدَّمتَ مواهِبَكَ،
صَغيرَةً أم كَبيرَةً، لله؟ إذا وضَعتَ مواهِبَكَ ومُؤهِّلاتِكَ الصَّغيرَة بينَ
يدي الله، فسيستَخدِمُها تماماً كما إستَخدَمَ يدَ إهُود اليُسرَى.

 

إحدى
القِصَصِ المُفضَّلة لهؤُلاء المُنقِذِين، هي قصَّةُ دبُّورَة، التي كانت أُمَّاً
في إسرائيل. كانت لدى دَبُّورَة موهِبَةً رُوحِيَّةً خاصَّة. لقد كانت نَبِيَّةً.
فجَلَست تحتَ شجرَةِ نَخيلٍ وتنبَّأَت، وكانَ الشعبُ يأتي إليها من كُلِّ أقطابِ
إسرائيل ليسمَعُوا منها كلمةَ الله.

 

وذاتَ
يَومٍ قالَت لرَجُلٍ إسمُهُ باراق، "اللهُ نفسُهُ لديهِ رسالَةٌ لكَ. عليكَ
أن تجمَعَ جَيشاً من عشرَةِ آلافِ رَجُلٍ وأن تُهاجِمَ جيشَ القائد سِيسَرا، الذي
كانَ قائِدَ جيشِ الكنعانِيِّين، والذي كانَ لديهِ تسعمائة عربَة حديديَّة وكانَ
يقُودُ جَيشاً جَرَّاراً. هاجِمْهُ وحَرِّرْ إسرائيل من يدِ الكنعانِيِّين."
(قُضاة 4: 5، 6).

 

فقالَ
باراق، "إذا ذهبتِ معي أذهب، وإن لم تذهبي معي فلن أذهب." (قُضاة 4: 7-
9) لقد علِمَ باراقُ أنهُ إن كانَ اللهُ هو الذي يقولُ بالحربِ بواسطة دبُّورة،
فلا بُدَّ أن اللهَ سوفَ ينصُرُهُ في المعركة. ولربَّما لكي يمتحنَ دبُّورة، ولكَي
يرَ ما إذا كانت هي تُؤمِنُ فعلاً أن الحربَ كانت بأمرٍ من الله، قال لها،
"تعالي وسيري في الحربِ معي." فوافقت دبُّورة على هذا ولكنَّها
قالت،"ولكن إحذرْ. فإذا ذهبتُ معكَ سوفَ ينزلُ إسمي في التاريخ أن إمرأةً
حرَّرت شعبَ إسرائيل من المديانيين." (قُضاة 4: 8- 10) وعندما خرجَ باراق
وبدأَ بتشجيع الرجال للذهاب إلى المعركة، إنخرطَ معهُ عشرةُ آلاف رجل، تماماً كما
أخبَرتْهُ دبُّورَة بما سيحدُثُ معَهُ.

 

وهكذا
خاضوا معركَتَهم على جبلِ طابور. فلقد عرقبَ اللهُ مركباتِ سيسرا. فأَرعَبَ اللهُ
جيشَ الكنعانيين. وهكذا إرتفعت عليهِم يدُ رجالِ باراق. فخرجَ سيسرا من المعركة
وحاولَ الهروب. فعَرَضَت عليهِ إمرأَةٌ إسمُها ياعِيل أن تُخَبِّئَهُ في خَيمَتِها.
ونقرَأُ أن سيسرا وقعَ بِسُرعَةٍ في سُباتٍ عميق. وبينما كانَ نائماً، أخذت ياعيل
وتدَ الخيمةِ الطويل، وأخذت مِطرَقةً، وغرست الوتد في رأسِهِ حتى وصلَ الوتدُ إلى
الأرض.

 

 تذكَّرْ
أن رسالةَ سفر القُضاة الأساسيَّة هي الإرتداد، والعواقب الوخيمة التي تنتجُ عن
الإرتداد. ولكنَّنا نتعلَّمُ أيضاً من حياةِ القُضاةِ أنفُسِهم، أنَّ اللهَ
يستخدِمُ الناس البُسطاء العاديين. فاللهُ يُحِبُّ أن يستخدِمَ أشخاصاً إعتياديين
مثلي ومثلك، وأن يعملَ بواسطتِهم أُموراً غير إعتياديَّة. اللهُ يعمَلُ أُمُوراً
غير معقُولَة من خلالِ أشخاصٍ إعتِيادِيِّين، لكونِهم مَملُوئينَ منَ الرُّوحِ
القُدُس.

 

الفَصلُ
الثَّالِث كُلُّ واحدٍ في موقِعِه

 جدعون
هو الأكثرُ أهميَّةً وتميُّزاً بين جميعِ هؤلاءِ القضاة. وسوفَ نُرَكِّزُ على
حياةِ جِدعَون، لأنَّنا نتعلَّمُ من سيرة حياةِ جدعون أكثَر مما نتعلَّمُهُ عن
سِيَرِ حياةِ باقي القضاة. مثلاً، إن كانت لديكَ نظرَة مُتواضِعة جدَّاً عن
نفسِكَ، فَكِّرْ بما قالَهُ جِدعَون عن نفسِه: "عَشيرَتي هي الذُّلَّى، وأنا
الأصغَرُ في بَيتِ أبي." عاشَ جِدعَونُ تحتَ سَيطَرَةِ المديانيِّين
القاسِيَة على إسرائيل. وكانَ الكثيرُ منَ بني إسرائيل قد قُتِلُوا في الحربِ معَ
المِديانِيِّين، الذين كانُوا يُتلِفُونَ مزرُوعاتِ شعبِ اللهِ، تاركينَ إيَّاهُم
يتضوَّرُونَ جُوعاً بِلا غِذاءٍ.

 

 بعدَ
سبع سنوات من وقوعِهم تحتَ سيطرةِ المديانيين، بدأَ بنو إسرائيل يصرخون للربِّ
طلباً للعَون. فدعا اللهُ رجلاً أصبح لهم مُخلِّصاً ومُنقِذاً. وكان هذا الرجل
جدعون.

 

نقرأُ
أن ملاكَ الربِّ جاءَ وجلسَ تحتَ البُطمةِ التي كانت في عَفرة التي لِيوآش.
وابنُهُ جدعون كان يخبِطُ حِنطةً في المعصرة لكي يُهرِّبَها من المديانيين. فظهرَ
لهُ ملاكُ الربِّ وقالَ له، "الربُّ معكَ يا جبَّارَ البأس." فقالَ له
جدعون، "أسألُكَ يا سيِّدي إذا كان الربّ معنا فلماذا أصابتنا كُلُّ هذه
وأينَ كُلُّ عجائبِهِ التي أخبرنا بها آباؤنا؟"(قُضاة6: 12- 14)

 

لقد
مرَّت سنواتٌ كثيرة منذُ عُبورِ البحرِ الأحمر، فأرادَ جِدعَونُ أن يعرِفَ إن كانَ
اللهُ لا يزالُ يُعطي لِشعبِهِ مُعجِزاتٍ كتلكَ التي أنجَزها في أيَّامِ مُوسى.
فقالَ ملاكُ الرَّبِّ لِجِدعَون أنَّهُ إذا أرادَ أن يكتَشِفَ المُعجِزَةَ التي
كانَ اللهُ سيستَخدِمُها ليُخَلِّصَ بني إسرائيل من المِديانِيِّين، فعلَيهِ أن
ينظُرَ إلى نفسِهِ في المرآة. فاللهُ يُسَرُّ بأن يأخُذَ الأصغَرَ والأضعَفَ، من
العَشيرَةِ الذُّلَّى، وأن يستَخدِمَ شخصاً إعتِيادِيَّاً ليُنجِزَ مُعجِزَةً غيرَ
إعتِيادِيَّةٍ وخارِقَةً للطَّبيعة، بعدَ أن يكُونَ اللهُ قد خطَّطَ لإنقاذِ
شعبِهِ من خلالِها.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كتاب الحياة عهد قديم سفر إرميا 51

 

 من
المهم جداً عندما يدعوكَ اللهُ لتعملَ عملاً من أجلِهِ، أن تذهبَ لهذا العمل
بقناعةٍ أن اللهَ أرسلكَ وأنَّهُ معك. وعليكَ أيضاً أن تتعلَّمَ بعضَ الأسرارِ
الرُّوحيَّة التي تعلَّمها هؤُلاء القُضاةُ ومُنقِذُونَ آخرُونَ عِظامٌ مثل مُوسى.
وهذه الأسرارُ الرُّوحِيَّةُ هي: ليسَ المُهِمُّ مَنْ أنتَ وما أنتَ؛ بل المُهِمُّ
من هُوَ اللهُ وما هُوَ الله. وليسَ المُهِمُّ ماذا تستَطيعُ أن تعمَلَهُ؛ بل
المُهِمُّ هُوَ ما يستَطيعُ اللهُ أن يعمَلَهُ. وليسَ المُهِمُّ ماذا تُريدُ؛ بل
ما يُريدُهُ اللهُ. وعندما تحدُثُ المُعجِزاتُ، سوفَ تنظُرُ إلى الوَرَاء
وتَقُولُ، "لم يَكُنِ المُهِمُّ ما عَمِلتُهُ أنا، بل ما عَمِلَهُ اللهُ،
لأنَّهُ هُوَ أرسَلَني، وهُوَ كانَ معي."

 

 اللهُ
لا يبحثُ عن قدِّيسينَ خارقين. بل هو غالباً ما يبحثُ عن الأصغر بين الأضعف، لأن
هذا الأصغر بينَ الأضعف هو أكثرُ إستعداداً لتعلُّمِ الأسرار الروحية التي كان على
موسى أن يتعلَّمَها، وكان على غيرِه من القادةِ العظام أن يتعلَّموها. فكيفَ
يُمكِنُ لأشخاصٍ يظنُّون أنفُسَهم قِدِّيسينَ خارِقِين، كيف يُمكِنُ لهم أن يتعلَّموا
هكذا أسرار؟ فإن كانوا أبطالاً خارقين، فسوفَ يَثِقُونَ بقُدراتِهم الخارقة قبلَ
أن يَثِقُوا بالله. ولكن إن كانوا الأصغر بين الأضعف، فعندها يستطيعُ اللهُ أن
يجعلهم يثقون به. كان هذا هو النوع من القادة الذي دعاهم اللهُ في سفرِ القضاة.

 

 عندما
دعا اللهُ جدعون ليهزمَ المديانيين، كان هُناكَ مئاتُ الآلاف منهم. فكانوا
كالجرادِ في الكثرة، وكالرملِ الذي على شاطئ البحر. ولهذا أرادَ اللهُ أن يبنيَ
إيماناً في هذا الرجل جدعون. فاللهُ يُريدُ أن يعملَ أمرين عندما يُحاول أن يمنحَ
إنساناً هبةَ الإيمان. أولاً، يريدُ اللهُ أن يُزكِّيَ إيمان الرجل بالإمتحان.
وثانياً، يُريدُ اللهُ أن يُبرهِنَ أو يُزكِّيَ نفسَهُ للرجل، وبذلكَ يُزكِّيَ
إيمانَهُ به. لاحظ كيفَ يُثبِّتُ اللهُ إيمانَ الأشخاص الذين يدعوهم ليعملوا
أُموراً تتطلَّبُ الكثير من الإيمان. نقرأُ في مزمور 37: 23 "من الربِّ تثبَّتَتْ
خَطَوَاتُ الرَّجُل."

 

 جميعنا
يَعرفُ عن إختبارِ جدعون مع جزَّة الصوف. فلقد دعا اللهُ جِدعَون ليكونَ
المُخلِّصَ من المديانيين. لقد إحتاجَ جدعَونُ أن يتأكَّدَ أنَّ اللهَ كانَ
يدعُوهُ، فطلبَ منَ اللهِ أن يُؤَكِّدَ دعَوَتَهُ لهُ. فوضَعَ خلالَ الليلِ جَزَّةَ
صُوفٍ في الهَواءِ الطَّلقِ، وقالَ للهِ أنَّهُ إذا وجدَ التُّربَةَ المُحيطَةً
بجَزَّةِ الصُّوفِ ناشِفَةً، أمَّا الجزَّة فرَطِبَةً، فسوفَ يعرِفُ عندها أنَّ
اللهَ كانَ يدعُوهُ لِيَكُونَ المُنقِذ. وعندما إستَيقَظَ جدعَون في الصَّباحِ
التَّالِي، كانتِ الأرضُ ناشِفَةً، ولكنَّهُ عندما عصرَ جزَّةَ الصُّوف، خرجَ منها
إناءٌ مَليءٌ بالماء. ولكَونِهِ بَقِيَ غيرَ مُتأكِّدٍ، طلبَ في اللَّيلَةِ
التَّالِيَة من الرَّبِّ أن يدَعَ تُربَةَ الأرضِ تكُونُ رَطِبَةً حوالي جزَّةِ
الصُّوف، أمَّا الجزَّةُ بِحَدِّ ذاتِها فطلبَ منَ الرَّبِّ أن يجعَلَها تَكُونُ
ناشِفَةً. وفي الصَّباحِ التَّالِي، كانت تُربَةِ الأرضِ المُحيطة بجزَّةِ
الصُّوفِ رَطِبَةً، أمَّا الجزَّةُ بِحدِّ ذاتِها فكانت ناشِفَةً جدَّاً.

 

بما
أنَّ اللهَ دعا جِدعَون ليعملَ عملاً عظيماً، لهذا عمِلَ لهُ اللهُ بِحَسَبِ طَلَبِهِ.
ولكن يتوجَّبُ علينا أن نحذَرَ عندما نطلُبُ منَ اللهِ أن يُبَرهِنَ نفسَهُ لنا.
هُناكَ فَرقٌ دَقيقٌ بين أن نضعَ الجزَّةَ خارجاً، كما نُسمِّي طلب مُعجِزة لمعرفة
إرادة الله، وبين تجربة الله. عندما جُرِّبَ الربُّ يسوع من الشيطان في البريَّة،
كانت إحدى التجارب أن يذهبَ إلى أعلى موقِعٍ في الهيكل ويطرحَ نفسَهُ إلى أسفل.
وإذا جاءَتِ الملائِكَةُ وأنقَذَتْهُ، فسيَعرِفُ الجميعُ أنَّهُ كانَ إبنَ اللهِ.
ولكنَّ يسُوعَ قالَ، "مكتوب، لا تُجرِّب الربَّ إلهك." فكما ترون،
ينبَغي أن نأتَي إلى الله بِالإيمان. تُوجَدُ أوقاتٌ سيمتَحِنُنا فيها اللهُ. ولكن
ليسَ لنا نحنُ الحق بأن نمتحنَ اللهَ أو نُجرِّبَه.

 

 عندما
تبدأُ رحلتَكَ الرُّوحِيَّة، فالأمرُ يُشبِهُ قُبولَكَ في جامعة الله للإيمان.
فليسَ لديكَ الحق أن تمتحنَ الله، بل اللهُ لهُ الحقُّ أن يمتحنَك. اللهُ سوفَ
يُعطيكَ إمتحانات يوميَّة، وشهريَّة، وفصليَّة، ونهائية. اللهُ يستطيعُ أن
يمتحنَكَ ساعةَ يشاء، فهذا حقُّهُ وإمتيازُه. وأما أنتَ فليسَ لديك أيُّ حقٍّ في
إمتحانِ الله. فاللهُ يعرفُ إن كانَ لديكَ إيمانٌ في قلبِكَ وإن كنتَ تحتاجُ فقط
للتأكيد. ويبدو أن اللهَ سوفَ يستجيبُ في هذا الأمر، الذي يختلفُ عن إمتحان أو
تجربة الله، والتشكيك فيه لعدَمِ إيمانِكَ أو ثِقَتِكَ بهِ.

 

 لقد
ثبَّتَ اللهُ إيمان جدعون بطريقةٍ أُخرى. فمُباشرةً قبلَ أن يُهاجِموا المِديانيين
الذين خيَّموا في وادٍ حيثُ كان الظلامُ قاتِماً، قالَ اللهُ لجدعون أن ينزِلَ ويتسلَّلَ
إلى محلَّةِ المديانيين. فنزلَ جدعون مُتسلِّلاً إلى محلَّةِ المديانيين. ووصلَ
إلى جانبِ خيمةٍ كان فيها جُنديان مِديَانِيَّان، وكان أحدُهُما يُخبِرُ حُلماً
للآخر قائلاً، "هوذا قد حلمتُ حُلماً وإذا رغيفُ خُبزِ شعيرٍ يتدحرجُ في
محلَّةِ المديانيين وجاءَ إلى الخيمةِ وضربَها فسقطت. أتساءلُ ما هو تفسيرُ هذا
الحُلم؟" فأجابَهُ رفيقُهُ الجُندي، "أنا أعرفُ تفسيرَ الحلم. ما هذا
إلا سيفُ جدعون وجيش إسرائيل القويّ الذي هو في أعلى التلَّة. حُلمُكَ هو أن شعبَ
إسرائيل سوفَ يأتي ويسحقُ كل الأُمم المُتحالِفة مع المديانيين." (قُضاة 7:
12- 14)

 

عندما
سمِعَ جدعون ذلك، وقفَ هناكَ في الظلام وأحنى رأسَهُ وسجدَ وعبدَ الله، ثُمَّ رجعَ
من ذلكَ الإختبار وأخبرَ شعبَهُ قائلاً، "قوموا، لأن اللهَ قد دفعَ
المديانيين في يدِكُم." هل يُعِدُّكَ اللهُ لِلقِيامِ بعمَلِ إيمانٍ؟ وهل
يُمكِنُ أنَّ اللهَ يُريدُ أن يعمَلَ عَملاً عظيماً من خلالِكَ، ولكنَّكَ لستَ
قريباً منهُ بشكلٍ كافٍ لتعرِفَ ذلكَ؟

 

 قبل
أن يستخدمَ اللهُ جدعون في هَزمِ المديانيين، نرى أن اللهَ أثبتَ نفسَه لجدعون
بِطُرُقٍ عجيبةٍ مُتعدِّدة، ونَرى أنَّ اللهَ قد ثَبَّتَ إيمانَ جدعَون. أعظَمُ
تَحَدٍّ لإيمانِ جِدعَون، كانَ عندما طلبَ اللهُ منهُ أن يُقدِّمَ ثَورَ والِدِهِ
ذبيحَةً. كان والِدُ جدعون واحداً من الشعب المُرتَدّ. وكان عِندَه مذبحٌ قد بناهُ
لبعل، أحد الألهة الوثنية. فقالَ اللهُ لجدعون، "أُريدُكَ أن تأخذَ أفضلَ
ثورٍ عند والدِكَ، (أي بِلُغَةِ اليوم: أن تأخُذَ التَّراكتُور الباهِظ الثَّمن
الذي يَخُصُّ والدك)، وأن تربط ذلك الثور بالمذبح، وتهدم المذبح. ثم خُذ هذا الصنم
الخشبي الذي لوالدكَ وحطِّمهُ إلى قطعٍ صغيرة وأضرم بهِ النار. ثم قدِّم الثور
ذبيحةً على نار الصنم المُحطَّم وليكن هذا الثورُ ذبيحةَ مُحرَقَةٍ لله."

 

 لقد
كان ذلكَ تحدِّياً كبيراً. فمراتٍ كثيرة في الأناجيل قالَ يسوعُ، "إن لم
تكونوا مُستعدِّين أن تضعوني أوَّلاً قبل والديكم، فأنتُم لا تستحقُّونني."
وهكذا فيسوع يضعُ أمامنا التحدِّي أن نضعَهُ أَوَّلاً قبلَ أبينا وأُمِّنا. وهُنا
نجدُ مثالاً نموذجيَّاً عن هذا التحدِّي، عندما طَلَبَ اللهُ من جدعون أن يُحطِّمَ
ويُنجِّسَ صنمَ والده.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد جديد إنجيل يوحنا 19

 

لقد
أطاعَ جدعون حرفِيَّاً ما أمَرَهُ بِه الله. وفي الصباحِ التالي، عندما استيقظَ
أهلُ المدينةِ ورأوا ماذا حدثَ لمذبحِهِم ولصَنمِهم، قالوا "من فعلَ هذا؟"
فجاءَ الجوابُ، "جدعون فعل هذا." فأرادوا أن يقتلوا جدعون لأنهُ أهانَ
إلهَهُم بعل. وبما أنَّ والِدَ جدعَونَ أحَبَّهُ، قالَ لأهلِ مدينتِهِ، "أنتم
الذين تستحقُّون أن تُقتَلوا بسبب إهانةِ بعل؛ فإن كان بعلُ إلهاً، دعوهُ يُدافِع
عن نفسِه." وهكذا أُعطِيَ جدعون إسماً جديداً بهذه المُناسبة، وهو
"يَرُبَّعل،" الذي يعني، "فليُدافِعْ بعل عن نفسِه."

 

 ثم
جاءَ الإمتحانُ الكبير عندما طلبَ اللهُ من جدعون أن يُغربِلَ جيشَه. لقد قادَ
جدعون جيشاً قِوامُهُ 32 ألفاً ليُحاربَ بهم المديانيين. وبينما كانوا في طريقِهم
إلى المعركة، قال الله، "يا جدعون، معكَ الكثير من الرجال." لَمِ يُرِدِ
اللهُ أن يَظُنَّ جِدعَونُ أنَّ إنتِصارَهُ كان بِسَببِ العدد الكبير للرِّجالِ
الذين كانُوا في جَيشِهِ. فأمرَهُ اللهُ أن يَصرِفَ الخائِفينَ ليَرجِعُوا إلى
بُيُوتِهم.

 

 تذكَّرْ
أن موسى كتبَ في سفرِ التَّثنِيَة النَّامُوسَ الذي قالَ في تثنية 20، "عندما
تذهبُ للحربِ ضدَّ عدوٍّ أعظمَ منك، فعِّلْ إيمانكَ بأن تقفَ وتقولَ للشعبِ،
"إن كان أحدٌ منكُم مخطوباً ولم يتزوَّج بعد، فقد يُقتَلُ في هذه المعركة
ويأخذُ رجلٌ آخر خطيبتَك. وهذا خطأ. فارجِعْ إلى بيتِك الآن. إن كان أحدٌ قد غرسَ
كرماً ولم يقطف باكورتَهُ بعد، فقد يأتي آخر ويقطفُ باكورةَ كرمكَ إذا قُتِلتَ في
المعركة. فارجعْ إذاً إلى بيتِك. فنحنُ لا نحتاجُ إليك." (تثنية 20: 1- 8).
فعندما تحدَّى جِدعَون الخائِفينَ بأن يَرجِعُوا، رجعَ عِشرُونَ ألفَ رَجُلٍ إلى
منازِلِهم.

 

 فتابعَ
جِدعَون سيرَهُ ومعهُ عشرة آلاف رجل، فقالَ الله، "يا جدعون، لا يزالُ معك
الكثير من الرجال. فإذا ربِحتَ هذه المعركة ومعكَ عشرة آلاف رجل، سوفَ تظنُّ أنكَ
انتصرتَ بسبب عدد الرجال الذين معك. لذلك، عندما تصلُ إلى النهر، سيكون الشعبُ
عطشاناً من السير. فالآن أولئكَ الذين يَنحَنُون على رُكَبِهم للشُرب فَيَلغُون
المياهِ بِلِسانِهم من النهر كما يلغُ الكلبُ، قُل لهم أن يقفوا على هذه الناحية
من النهر. ولكن أولئكَ الذين يتشوَّقون ليُحارِبوا المديانيين لدرجةِ أنهم يأخذون
المياهَ بكفِّهم ويلغونها بينما يسيرون في النهر، فأوقفهم على الناحية الأُخرى من
النهر." فكان عددُ الذين جَثُوا على رُكَبِهم للشرب وولغوا المياه بلسانهم
تسعة آلاف وسبعمائة رجل. فقالَ الله، "قلْ لهم أن يرجعوا إلى بيوتِهم، فنحنُ
لسنا بحاجةٍ إليهم. بالثلاث مئة رجل الذين ولغوا المياه بكفِّهم، سأُخلِّصُكُم
وأدفعُ المديانيين ليدِكم." (قُضاة 7: 5- 7)

 

وكان
هذا أقلَّ من واحد بالمئة من العدد الإجمالي الذي إبتدأ معهُ جدعون. الله لا
يستخدمُ الأكثريَّة المُستهتِرة بل الأقلية المُلتزمة. هذا هو الدرس الذي
نتعلَّمُهُ عندما نرى هذا الجيش يتقلَّص من إثنين وثلاثين ألف رَجُلٍ، إلى
ثلاثمائة رَجُل.

 

 ولقد
إمتحنُ اللهُ إيمانَ جدعون بطريقةٍ أُخرى أيضاً، من خلال خطَّةِ المعركة التي
هُزِمَ بها المديانيُّون. لقد تطلَّبَ إنتصارُ جدعون إيماناً عظيماً، شجاعةً
كبيرةً، وخُطَّةً رائعة.كان المديانيُّون قد خيَّموا في وادٍ مُظلمٍ جداً، لدرجةٍ
لم يكُن بإمكانِك أن ترى إصبَعَكَ أمام عينيك. فقالَ اللهُ لجدعون أن يقسِمَ
الثلاثمائة رجل إلى ثلاث فِرَق، كلُّ فرقة من مئة رجل، وأن يجعلَهم إلى الشمال،
الشرق، والغرب من جيشِ المديانيين. لقد أُعطِيَ جدعون تعليماتٍ حاسمةً نقلها
بحذافيرها لرجالِه.

 

 وهنا
نجدُ درساً عظيماً في القيادة. قالَ جدعون، "أُنظُرُوا إليَّ،…
إتبَعُونِي… كما أفعلُ أنا، إفعَلُوا أنتُم أيضاً." (قُضاة 7: 17) هذه هي
القيادة الحقيقيَّة. فكانَ جميعُ هؤلاء الرجال مُلتزمين تجاهَ اللهِ وتجاهَ
جدعَون. في يُسراهُم حملَ كُلُّ واحدٍ منهم جَرَّةً خزفيَّةً داخلها مِشعلٌ. وفي
يُمناهُم حملَ كُلُّ واحدٍ منهم بوقاً. وعندما أعطاهم جدعون الإشارة، كسَّروا
الجِرار التي كانت تُغطِّي المشاعِل، وهكذا أظهروا مئةَ مِشعل. ومن ثمَّ بوَّقوا
بأبواقِهِم المئة. ثم صرخوا، "سيفٌ للربِّ ولجدعون." تكرَّرَ حدوثُ هذا
في ثلاثة مواقِع.

 

إفترضْ
أنكَ كُنتَ مديانيَّاً، تنامُ على الأرض في عتمةِ الظلام، فماذا ستظنُّ إذا
إستيقظتَ فجأةً وسمعتَ ضجَّةَ تحطيم مائة جرةٍ ثم رأيتَ مائة مشعلٍ وسمعتَ مائة
بوقٍ تُنفَخُ ومائةَ رجلٍ يصرخون شمالي مُخيَّمِك؟ وإذا بهذا يتكرَّرُ إلى الشرقِ
وإلى الغرب؟ فسوفَ تظنُّ على الأرجح أن جيشَ جدعون قد حَاصركَ.

 

ولقد
ظنَّ المديانيون أنهم مُحاصَرون. وتذكَّر أن الظلامَ كان حالِكاً. فأُصيبوا
بالهلع، وتحتَ جناحِ الظلام راحوا يقتُلون بعضُهم بعضاً. وطردهم رجالُ جدعون من
الوادي، كما تُقادُ قُطعانُ الماشية. وعندها رجعَ الرجالُ الذين تركوا جيشَ جدعون
قبلاً، وإنخرطوا في المعركة. فعندما تنجحُ المعركةُ، ليسَ صعباً تجنيد الناس
للحرب. فأولئكَ الذين رجعوا لبيوتِهم عادوا إلى المعركة وقضوا على جيشِ المديانيين
وعلى جميعِ حُلَفَائِهِم.

 

 إن
إخضاعَ المديانيين قد تمَّ وصفُهُ هُنا في واحد من أجملِ الأعداد في العهد القديم.
يقولُ هذا العدد، "ووقفوا كُلُّ واحدٍ في موقِعِه حول محلَّة المديانيين
فركَضَ كلُّ جيش المديانيين وصرخوا وهربوا." (قُضاة 7: 21) فلَو أنَّ نِسبَةً
مُعَيَّنَةً من الثلاثمائة لم يكشِفُوا مشاعِلَهُم وينفِخُوا بأبواقِهم ويهتِفُوا
في الوقتِ المُعَيَّن، لفَشِلَت خُطَّةُ المعرَكَة بكامِلِها، ولكانَ جَيشُ بني
إسرائيل قد تمَّ ذبحُهم بالكامِل على يدِ المِديانِيِّين.

 

 نجدُ
هُنا صورةً عن كنيسة يسوع المسيح اليوم. فالمسيحُ المُقامُ لا يُريدُ الأكثريَّةَ
الكسولة غير المُبالية والفاتِرة. بل هو يحتاجُ إلى أقليةٍ مُلتزِمةٍ منَ
التَّلاميذ المُكَرَّسِين، الذين سيقفون كُلُّ واحدٍ في موقِعِه. إذا إستطاعَ
اللهُ أن يجعلَ كلَّ واحدٍ منا يقفُ في موقِعِه وأن يُمارِسَ المواهبَ الروحية
التي أعطاهُ إيَّاها الله، مهما كان الموقِع الذي تضعُنا فيهِ هذه المواهِب، فإذا
كان لدينا ولاءٌ وإلتزامٌ بيسوع المسيح مئة بالمئة، عندها نستطيعُ أن نطردَ كلَّ
قوَّات الجحيم.

 

 تَذَكَّرُوا
أنَّ العددَ المِفتاحِيَّ الذي يكشِفُ الحقيقَةَ في أسفارِ العهدِ القَديم
التَّاريخيَّة، نَجِدُهُ في العهدِ الجديد. يطلُبُ مِنَّا الرَّسُولُ بُولُس أن
نبحَثَ عنِ النَّماذِج والتَّحذيرات عندما نقرَأُ التَّاريخَ العِبريّ (1كُورنثُوس
10: 11) ففي سفرِ القُضاة، تتمحوَرُ التحذِيراتُ حولَ عواقِب الإرتداد الخَطيرة
والمُريعة.

 

 أمَّا
النماذِجُ فيُمكِنُنا أن نَجِدَها في حياةِ القُضاة. وهُناكَ قُضاةٌ آخرونَ أمثال
شمشُون الذي شَكَّلَ تحذيراً يُتفادَة ونمُوذَجاً يُقتَدَى في آنٍ. علينا أن
نبحَثَ عنِ الإثنَينِ في حياتِهِ. كُلُّ نماذج هؤلاء القُضاة تُمَثِّلُ لنا
الحقيقَةَ الدينامِيكيَّةَ أنَّ اللهَ يُسَرُّ بإستخدامِ أشخاصٍ إعتِيادِيِّين جِدَّاً،
ليَعمَلَ من خلالِهم أُمُوراً غير إعتِيادِيَّة، لأجلِ مجدِهِ. عندما نُدرِكُ هذه
الحقيقة، علينا أن نُدرِكَ أنَّ أعظَمَ أهلِيَّةٍ لدَينا هي توَفُّرُنا لنعمَلَ
أيَّ أمرٍ يدعُونَا اللهُ لهُ.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي