الإصحَاحُ
الثَّانِي وَالثَّلاَثُونَ

 

1 فَكَفَّ
هؤُلَاءِ الرِّجَالُ الثَّلَاثَةُ عَنْ مُجَاوَبَةِ أَيُّوبَ لِكَوْنِهِ بَارّاً
فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ. 2 فَحَمِيَ غَضَبُ أَلِيهُوَ بْنِ بَرَخْئِيلَ الْبُوزِيِّ
مِنْ عَشِيرَةِ رَامٍ. عَلَى أَيُّوبَ حَمِيَ غَضَبُهُ لِأنَّهُ حَسَبَ نَفْسَهُ
أَبَرَّ مِنَ اللّهِ. 3 وَعَلَى أَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ حَمِيَ غَضَبُهُ
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا جَوَاباً وَاسْتَذْنَبُوا أَيُّوبَ. 4 وَكَانَ أَلِيهُو
قَدْ صَبِرَ عَلَى أَيُّوبَ بِالْكَلَامِ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَيَّاماً.
5 فَلَمَّا رَأَى أَلِيهُو أَنَّهُ لَا جَوَابَ فِي أَفْوَاهِ الرِّجَالِ
الثَّلَاثَةِ حَمِيَ غَضَبُهُ.

 

ذهب
بعض العلماء المحدثين إلى القول بأن قسم أليهو لم يكن جزءاً أصلياً من سفر أيوب.
وإنما هو قسم أدرجه فيه كاتب آخر، وغايته إصلاح الغلط وتكملة الكلام. والسند لهذا
الرأى، هو كون اسم أليهو لم يذكر في مقدمة السفر مع الأصحاب الثلاثة. ولكن أكثرية
العلماء تؤكد أن خطابات أليهو هي أصلية غير دخيلة. وفي مقدمة العلماء المؤكدين:
سلن، وبود، وكورنل، وكمبهاوزن، وبادر وبيترز.

 

من
خصائص خطابات أليهو وجود عميق من احترام الله فيها، ووجهة نظر عن الخطية أعمق من
التي ظهرت في خطابات الأصحاب الثلاثة الآخرين. ومن أبرز ما جاء في كلامه أنه أظهر
الله كمعلم البر الأوحد، الذي غايتة أن يقتاد الإنسان إلى حياة روحية كاملة، عن
طريق تهذيبه بالآلام.

 

ولا
ريب أنَّ المتأمل في أقوال أليهو يتبين أنَّ أهم وظيفة لخطاباته، هي كشف مميزات
أيوب الأكثر خطراً، الكبرياء الروحية، التي هي مرض الكثيرين من الأتقياء. قال رجل
الله أغسطينوس: الكبرياء خطية فظيعة، يرتكبها الإنسان دون الانتباه إليها. إنها
سرطان أكول يلتهم ما في قلبنا من التفكير الصادق، والشعور الحي نحو الأخ الضعيف.

 

32: 6
فَقَالَ أَلِيهُو بْنُ بَرَخْئِيلَ الْبُوزِيُّ: «أَنَا صَغِيرٌ فِي الْأَيَّامِ
وَأَنْتُمْ شُيُوخٌ، لِأَجْلِ ذلِكَ خِفْتُ وَخَشِيتُ أَنْ أُبْدِيَ لَكُمْ
رَأْيِيِ. 7 قُلْتُ: الْأَيَّامُ تَتَكَلَّمُ وَكَثْرَةُ السِّنِينَِ تُظْهِرُ حِكْمَةً.
8 وَلكِنَّ فِي النَّاسِ رُوحاً وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ. 9 لَيْسَ
الْكَثِيرُو الْأَيَّامِ حُكَمَاءَ وَلَا الشُّيُوخُ يَفْهَمُونَ الْحَقَّ. 10 لِذلِكَ
قُلْتُ اسْمَعُونِي. أَنَا أَيْضاً أُبْدِي رَأْيِيِ. 11 هَئَنَذَا قَدْ صَبِرْتُ
لِكَلَامِكُمْ. أَصْغَيْتُ إِلَى حُجَجِكُمْ حَتَّى فَحَصْتُمُ الْأَقْوَالَ. 12 فَتَأَمَّلْتُ
فِيكُمْ وَإِذْ لَيْسَ مَنْ حَجَّ أَيُّوبَ، وَلَا جَوَابَ مِنْكُمْ لِكَلَامِهِ.
13 فَلَا تَقُولُوا: قَدْ وَجَدْنَا حِكْمَةً. اَللّهُ يَغْلِبُهُ لَا
الْإِنْسَانُ. 14 فَإِنَّهُ لَمْ يُوَجِّهْ إِلَيَّ كَلَامَهُ وَلَا أَرُدُّ
عَلَيْهِ أَنَا بِكَلَامِكُمْ. 15 تَحَيَّرُوا. لَمْ يُجِيبُوا بَعْدُ. انْتَزَعَ
عَنْهُمُ الْكَلَامُ.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد جديد سفر أعمال الرسل القمص متى المسكين 03

 

إلى
هنا كان أليهو ملتزماً بالصمت. وقد أشار إلى سبب صمته، وهو الاحترام الذي يكنه شاب
مثله نحو شيوخ متسربلين بالوقار. غير أنه حين لاحظ تجاوز الأصحاب حدود الحوار
البناء، ورأى فشلهم في إزالة شكوك أيوب، أو الرد على حججه بموضوعية، اضطرته الغيرة
للحق للدخول في النقاش. ويبدو أنه في أثناء صمته، اضطرم في صدره عاملان: عامل
الغضب ضد أيوب بسبب كلامه، الذي به تجرّأ أن يعوّج القضاء. وعامل الاستياء من
الأصحاب بسبب فشلهم في تفنيد آراء أيوب.

 

صحيح
أنَّ أقوال الأصحاب الثلاثة الآخرين احتوت على أفكار علاجية، ولكن ليست بنفس القيمة
التي ظهرت في كلمات أليهو. وخصوصاً لأن خطاباتهم المسهبة لم تستطع إقناع أيوب بأنه
أخطأ في الموقف الذي اتخذه. ولأنهم لم يستمروا بالنقاش، واعتبروه بلا فائدة أمام
إصرار أيوب على اقتناعه ببره الذاتي. ولهذا حين وجه الكلام إليهم، قال: أصغيت إلى
حججكم… ولكن ليس فيكم من حجَّ أيوب… فلا تقولوا قد وجدنا عنده حكمة. لم يستطع
أحدنا أن يقاومها.

 

لم
يكن لهم أن يعتذروا بهذا القول، لأنَّ عدم نجاحهم في المحاورة، ليس من قوة حجج
أيوب، بل من ضعف حججهم. قال أليهو إنَّه يقدر أن يجاوب أيوب ولكن لا يجاوبه بمنطق
الأصحاب الثلاثة الفاشلين، بل ببراهين أقوى.

 

32:
16 فَانْتَظَرْتُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا. لِأَنَّهُمْ وَقَفُوا، لَمْ
يُجِيبُوا بَعْدُ. 17 فَأُجِيبُ أَنَا أَيْضاً حِصَّتِي، وَأُبْدِي أَنَا أَيْضاً
رَأْيِيِ. 18 لِأَنِّي مَلْآنٌ أَقْوَالاً. رُوحُ بَاطِنِي تُضَايِقُنِي. 19 هُوَذَا
بَطْنِي كَخَمْرٍ لَمْ تُفْتَحْ. كَالزِّقَاقِ الْجَدِيدَةِ يَكَادُ يَنْشَقُّ. 20
أَتَكَلَّمُ فَأُفْرَجُ. أَفْتَحُ شَفَتَيَّ وَأُجِيبُ. 21 لَا أُحَابِيَنَّ
وَجْهَ رَجُلٍ وَلَا أَتَمَلَّقُ إِنْسَاناً. 22 لِأَنِّي لَا أَعْرِفُ
التَّمَلُّقُ. لِأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَأْخُذُنِي صَانِعِي.

هل تبحث عن  م الكتاب المقدس الإنجيل كيف كتب وكيف وصل إلينا 08

 

هنا
غيَّر أليهو كلامه من صيغة المخاطَبين إلى صيغة الغائبين. ولعله كان يوجه كلامه
إلى جميع السامعين من أهل القرية، وفي هذا شيء من عدم تقدير الأصحاب الثلاثة. ثم
خاطب نفسه، كأنه يتأمل بأي كلام يعبر عن أفكاره. كان في قبضة الاضطرار للكلام،
لأنه كاد ينفجر بسبب غيرته وشعوره بأنه يدافع عن حق الله. والكلام وحده هو الذي
كان يقدر أن يخفف التوتر في داخله. وبكلمة أخرى كانت عليه ضرورة الكلام، كما كانت
على بولس ضرورة البشارة (كرونثوس الأولى 9:16) وتدل لهجة أليهو أنه كان يقول الحق،
ولا يحابي الذين هم أكبر منه سناً، ولا يملث، (يُطيّب نفسه بوعدٍ لا ينوي وفاءه)
لأنه شعر بأنه واقف أمام الله، وليس أمام الناس فقط. وذكر أنه عن قريب سيقف أمام
عرش الله ليعطي حساباً عن كل ما عمل، وكل ما تركه من الواجبات. فكان في ذلك مثالاً
لكل واعظ.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي