الْمَزْمُورُ
الْمِئَةُ وَالثَّالِثُ

 

اَلْمَزْمُورُ
ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّالِثُ – تعظيم الجود الإلهي

1بَارِكِي
يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ ٱسْمَهُ
ٱلْقُدُّوسَ. 2بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَلا تَنْسَيْ كُلَّ
حَسَنَاتِهِ. 3ٱلَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ. ٱلَّذِي يَشْفِي
كُلَّ أَمْرَاضِكِ. 4ٱلَّذِي يَفْدِي مِنَ ٱلْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ.
ٱلَّذِي يُكَلِّلُكِ بِٱلرَّحْمَةِ وَٱلرَّأْفَةِ.
5ٱلَّذِي يُشْبِعُ بِٱلْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ
ٱلنَّسْرِ شَبَابُكِ.

(1-3)
يتأمل داود في جودة الرب الإله وما أسبغه عليه من بركات روحية وزمنية ولا يلبث أن
يلتفت إلى نفسه ويخاطبها، لكي تبارك الرب وترفع إليه ترانيم الشكر. ويسألها أن لا
تنسى حسناته الكثيرة وإنعاماته الفياضة، التي تدل على محبته الإلهية الغنية
بالمراحم والألطاف.

كم هو
جميل أن نتمثل برجل الله داود، فنتأمل في جودة الرب الإله وعنايته المحيطة بنا كل
يوم. فقد يقودنا التأمل إلى أن نتساءل بحق: أيمكن لإنسان غمره الرب بأفضاله أن
ينسى أعمال القدير؟ نعم إن هذا ممكن ويا للأسف! إذ يكفي أن نذكر إحسانات الرب لشعب
اليهود، التي قابلوها بالجحود حتى نحزن شديداً. لقد صنع الله لأجلهم عجائب، تمشياً
مع نعمته وصدقه في عهده. فقد أخرجهم من مصر فرعون، بيت العبودية. وشق لهم طريقاً
في البحر. ومع ذلك نسوا حسنات الرب وتمردوا وعبدوا العجل الذهبي.

ولعل
التساؤل يذهب إلى غير اليهود، وخصوصاً الذين يعرفون الكثير عن المسيح، فيقول: هل
من الممكن نسيان هذا الحب الفدائي العجيب الذي أحب به المسيح العالم، حتى قدم نفسه
ذبيحة كفارية لأجل خلاصه؟ هل من الممكن أن ينسى أحد خلاصاً هذا مقداره، الله فكر
فيه، ولم يشفق على ابنه الوحيد بل بذله لأجلنا أجمعين؟!

إن
نسياناً كهذا من قبل البشر لدليل على عدم الاعتراف بفضل المنعم الجواد. أما إن كنا
نحسب عمل الله هذا كأمر نستحقه، فإننا نرتكب ذنباً غليظاً، لأننا بهذا نتجنى على
النعمة. تذكر يا أخي أنك إنسان خاطئ، وهذا يعني أن لا استحقاق لك إطلاقاً. وإنما
الله فاتح باب النعمة لك في المسيح يسوع، بحيث يصبح عدم اعترافك بفضل الله أنانية،
تدور حول ذاتها.

(3-5)
في هذه الآيات يقدم رجل الله شهادة لنعمة الله. فهو يرى كل حسنات الله من خلالها.
فهي:

1.       غافرة
– فنعمة الله تقابل الإيمان المقترن بالتوبة بالصفح عن الخطايا السالفة. هكذا قال
الرب «إِنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلا أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ»
(إرميا 31: 34) وقال الرسول المغبوط بولس «وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فِي
ٱلْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أَحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحاً لَكُمْ
بِجَمِيعِ ٱلْخَطَايَا، إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ ٱلَّذِي عَلَيْنَا»
(كولوسي 2: 13 و14).

2.       تشفي
الأمراض – قال الرسول يعقوب: وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه. وإن كان قد
فعل خطية تغفر له (يعقوب 5: 15) وهذا الشفاء لا يعني الأمراض الجسدية فقط، بل قد
يتناول الأمراض العقلية والروحية. وقد رأينا في الإنجيل أن المسيح في حالات عدة
شفى الاثنين معاً، كما في حالة الرجل المفلوج الذي قدم له في كفرناحوم. فقد قال
للرجل «مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ… لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ
سَرِيرَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ» (الإنجيل بحسب مرقس 2: 5 و11).

3.       يفدي
الحياة من الحفرة – الحفرة هنا الهاوية (شياؤل) مسكن الأموات. فالله يفدي المؤمن،
وتمشياً مع رأفته ورحمته يعطيه إكليل الحياة (رؤيا 2: 10) وتعلمنا الكلمة الرسولية
أن الله فدى الجنس البشري من خطاياه وصالحه في المسيح، إذ تقول: إن الله كان في
المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة
(كورنثوس الثانية 5: 19).

4.       تشبع
الخير – تستمر عناية الله بالمؤمن، فتشبعه من خيرات الله كل أيام حياته. هذا كقوله
في المزمور 104: تفتح يدك فتشبع خيراً.

سلم
أمرك إلى هذا الرب المنعم. وباركه لأجل جميع حسناته، وخصوصاً لأجل خلاصه في المسيح
يسوع. اعبده بفرح، كل أيام حياتك، بانتظار أن تراه وجهاً لوجه، ويتمم لك وعده
للمختارين «وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً،
لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي» (الإنجيل بحسب لوقا
22: 29 و30).

 

6اَلرَّبُّ
مُجْرِي ٱلْعَدْلَ وَٱلْقَضَاءَ لِجَمِيعِ ٱلْمَظْلُومِينَ.
7عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ. 8ٱلرَّبُّ
رَحِيمٌ وَرَأُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ. 9لا
يُحَاكِمُ إِلَى ٱلأَبَدِ وَلا يَحْقِدُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. 10لَمْ
يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا.
11لأَنَّهُ مِثْلُ ٱرْتِفَاعِ ٱلسَّمَاوَاتِ فَوْقَ ٱلأَرْضِ
قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. 12كَبُعْدِ ٱلْمَشْرِقِ مِنَ
ٱلْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا.

(6-9)
من صفات الله أنه عادل، وأنه يقضي بالحق والانصاف للجميع ولا سيما للمهضومة
حقوقهم، الذين لا يجدون عطفاً من البشر. فالله في محبته المعتنية ينصف الجميع
ويحكم بالعدل.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ى يوحنا ا

قد
تسير مركبات قضاء الله على مهل، وقد تتباطأ ساعة إنصافه في دقاتها، لكن لعدله
وقتاً معيناً لإجراء القضاء. هكذا قال «أنا الرب في وقته أسرع به». في تعقيبه على
مثل قاضي الظلم، الذي أبطأ في إنصاف الأرملة، قال الرب يسوع، إن الله ينصف وخصوصاً
المختارين. ولنا هذا الامتياز أنه لن يخسرنا قضايانا.

الأرملة
جاءت إلى قاضي ظالم، أما نحن فلنا الامتياز أن نرفع دعوانا إلى أبينا السماوي الذي
ليس هو عادل قدوس فقط، بل محب ورحوم وكثير الرأفة وقد قال «أَنَا أَشْفِي
ٱرْتِدَادَهُمْ. أُحِبُّهُمْ فَضْلاً» (هوشع 14: 4).

الأرملة
أتت إلى القاضي تلقائياً ورفعت قضيتها وسألت إنصافاً. أما نحن، فإن الله القاضي
المنزه العظيم نفسه مهتم بقضيتنا. ولنا عنده شفيع، يسوع البار الذي دُفع إليه كل
سلطان في السماء وعلى الأرض. الأرملة لم يكن متاحاً لها أن تقابل قاضي الأرض إلا
في وقت محدد سابقاً. أما نحن فلنا امتياز القدوم إلى قاضي السماء بروح واحد،
نهاراً وليلاً وفي كل ساعة. الأرملة، كان إلحاحها مزعجاً للقاضي، حتى أنه اشتد
غضبه عليها. أما نحن فحين نرفع قضيتنا لإلهنا فإن قلبه يسر جداً. وقد قال لنا في
المسيح اطلبوا فتأخذوا ليكون فرحكم كاملاً.

هل
سبق لك أن ظلمت ورفعت ظلامتك إلى القاضي الإلهي؟ إن أعظم قضية على الإطلاق هي
الخطية. إنها تزعجك كما تزعج كل إنسان. إرفعها إليه باسم المسيح، تنل الغفران،
الذي هو أهم من كل إنصاف. «قَدِّمُوا دَعْوَاكُمْ يَقُولُ ٱلرَّبُّ.
أَحْضِرُوا حُجَجَكُمْ يَقُولُ مَلِكُ يَعْقُوبَ. لِيُقَدِّمُوهَا وَيُخْبِرُونَا
بِمَا سَيَعْرِضُ. مَا هِيَ ٱلأَّوَلِيَّاتُ؟ أَخْبِرُوا فَنَجْعَلَ عَلَيْهَا
قُلُوبَنَا وَنَعْرِفَ آخِرَتَهَا» (إشعياء 41: 21 و22) «هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ،
يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ
كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ
كَٱلصُّوفِ» (إشعياء 1: 18).

إنه
إله رحيم ورؤوف، وقد ظهرت رحمته لموسى في البرية. فحين تعقدت الأمور بالنسبة له
وقال للرب «فَٱلآنَ إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ
فَعَلِّمْنِي طَرِيقَكَ حَتَّى أَعْرِفَكَ…» أجابه الرب «وَجْهِي يَسِيرُ
فَأُرِيحُكَ» (خروج 33: 13 و14).

وظهرت
رحمته لأيوب، إذ أشفق عليه في بلواه، وسر بإثابته في نهاية امتحانه فصارت الكلمة
في يعقوب «هَا نَحْنُ نُطَّوِبُ ٱلصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ
أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ ٱلرَّبِّ. لأَنَّ ٱلرَّبَّ كَثِيرُ
ٱلرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ» (يعقوب 5: 11).

وظهرت
رحمته لداود في أبان سقطته، فأشفق على دموع توبته التي عوم بها فراشه. فغفر له
إثمه وستر خطيته، وأعطاه نقاوة القلب. حتى أنه قال «رأيت داود ابن يسى رجلاً حسب
قلبي».

وظهرت
رأفته لبني البشر في عمل المسيح الكفاري على الصليب، وفقاً لقول الإنجيل «لأَنَّهُ
هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ
ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (الإنجيل بحسب يوحنا 3:
16).

(10-12)
وقد ظهر لطف الله في تعامله مع البشر لأنه لا يعامل أحداً بحسب استحقاقه، بل
بمقتضى نعمته الغنية بالرحمة. ولا يجازي أحداً حسب ذنوبه بل يعامله بالصفح
والغفران. هكذا قال رسوله المغبوط بولس «وَلٰكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ
مُخَلِّصِنَا ٱللّٰهِ وَإِحْسَانُهُ – لا بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ
عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ – خَلَّصَنَا بِغَسْلِ
ٱلْمِيلادِ ٱلثَّانِي وَتَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ»
(تيطس 3: 4 و5).

فكل
الهبات الروحية التي للمؤمنين إنما حصلوا عليها بنعمة الله ومحبته لهم، فلا يحق
لهم الافتخار والاعجاب بأنفسهم. فمحبة الله مصدر عمل الفداء. فلطفه إذن ظهر للناس
بإرساله ابنه يسوع المسيح ليفتدي البشر ويخلصهم.

 

13كَمَا
يَتَرَأَّفُ ٱلأَبُ عَلَى ٱلْبَنِينَ يَتَرَأَّفُ ٱلرَّبُّ
عَلَى خَائِفِيهِ. 14لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ
نَحْنُ. 15ٱلإِنْسَانُ مِثْلُ ٱلْعُشْبِ أَيَّامُهُ. كَزَهْرِ
ٱلْحَقْلِ كَذٰلِكَ يُزْهِرُ. 16لأَنَّ رِيحاً تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلا
يَكُونُ، وَلا يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ. 17أَمَّا رَحْمَةُ ٱلرَّبِّ
فَإِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ عَلَى خَائِفِيهِ، وَعَدْلُهُ عَلَى
بَنِي ٱلْبَنِينَ، 18لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَذَاكِرِي وَصَايَاهُ
لِيَعْمَلُوهَا.

(13 و14)
في هذه الآية مسحة من الإنجيل، إذ يعيد إلى أذهاننا الكلمة الأولى في نموذج الصلاة
الذي وضعه الرب يسوع (أبانا). لم يسمع في العهد القديم أن أحداً من الآباء أو
الأنبياء أو الملوك أو القديسين خاطب الله بهذه العبارة «أبانا». لكننا في عهد
النعمة والحق بيسوع المسيح، نلنا هذا الامتياز أن نتقدم إلى الله بدالة البنين.

صحيح
أن كل البشر يعتبرون أولاد الله، باعتبار كونه خالقهم، ولأنهم خلقوا على صورته
كشبهه. ولكن هناك للمؤمنين بنوة غالية ومن نوع آخر، وهي التي ننالها بالإيمان
بالمسيح يسوع (غلاطية 3: 26). «وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ
فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلادَ ٱللّٰهِ، أَيِ
ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (الإنجيل بحسب يوحنا 1: 12).

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد قديم سفر إرميا أوريجانوس 20

هذا
هو امتياز العهد الجديد أن المؤمنين لا يتقدمون إلى الله كإله جبار منتقم مرعب، بل
كآب حنون. وهذا ما يحببنا في أن نقترب منه في كل وقت. دون أن يعترينا خوف الرعب،
ولا نشعر بشيء من القلق الذي يشكو منه كثيرون في أيامنا. بل بالعكس فإن الاقتراب
منه وإقامة الشركة الروحية معه يشعرنا بالفرح والنشاط.

لذلك
حين نصلي خليق بنا أن نكون واثقين من أننا في المسيح وأن المسيح تبنانا فعلاً لله.
المسيح قال لجماعة من اليهود المعاندين، إنهم أولاد إبليس. فكيف نعرف أننا أولاد
الله، ولسنا أولاد إبليس؟ يوحنا الحبيب يجيب على هذا السؤال إذ يقول
«بِهٰذَا أَوْلادُ ٱللّٰهِ ظَاهِرُونَ وَأَوْلادُ إِبْلِيسَ.
كُلُّ مَنْ لا يَفْعَلُ ٱلْبِرَّ فَلَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ،
وَكَذَا مَنْ لا يُحِبُّ أَخَاهُ مَنْ يَفْعَلُ ٱلْخَطِيَّةَ فَهُوَ مِنْ
إِبْلِيسَ، لأَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ ٱلْبَدْءِ يُخْطِئُ. لأَجْلِ هٰذَا
أُظْهِرَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ.
كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ ٱللّٰهِ لا يَفْعَلُ خَطِيَّةً،
لأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ
مَوْلُودٌ مِنَ ٱللّٰهِ» (رسالة يوحنا الأولى 3: 10 و8 و9).

تأمل
يوحنا بتعاملات الله معنا على أساس هذه المحبة العجيبة، فاندهش وقال: «أُنْظُرُوا
أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلادَ
ٱللّٰهِ! مِنْ أَجْلِ هٰذَا لا يَعْرِفُنَا ٱلْعَالَمُ،
لأَنَّهُ لا يَعْرِفُهُ» (رسالة يوحنا الأولى 3: 1). وكأبناء نتمتع برعاية الله
لنا، تلك الرعاية التي لا تغفل ولا تنام، ولا تكل ولا تمل. في كل ساعة، في كل لحظة
عينه علينا، لا يهملنا ولا يتركنا. «وَيَكُونُونَ لِي قَالَ رَبُّ
ٱلْجُنُودِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي أَنَا صَانِعٌ خَاصَّةً،
وَأُشْفِقُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُشْفِقُ ٱلإِنْسَانُ عَلَى ٱبْنِهِ»
(ملاخي 3: 17) ويعزو المرنم الشفقة الإلهية ليس للمحبة فقط، بل أيضاً لكون الإنسان
مخلوقاً ضعيفاً، يحتاج دائماً إلى حنان الله وعطفه.

(15-18)
يشبه المرنم الحلو الإنسان بالعشب نظراً لقصر أيام عمره على الأرض. وهذا التشبيه
بالعشب كان شائعاً في العهد القديم. إذ نقرأ في إشعياء 40: 6-8 «كُلُّ جَسَدٍ
عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ. يَبِسَ ٱلْعُشْبُ،
ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ، لأَنَّ نَفْخَةَ ٱلرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقّاً
ٱلشَّعْبُ عُشْبٌ! يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ.
وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ». والواقع أن حياة
الإنسان على الأرض قصيرة، فهو سريع الزوال، كالعشب، وله جمال كالعشب. ولكن جماله
يذوي يوماً بعد يوم حتى يأتي أجله، فيوارى الثرى ويصبح نسياً منسياً. أما رحمة
إلهنا، فهي كل يوم لا تتركنا. وحين تنتهي أيامنا على الأرض، تحملنا الرحمة على
أجنحتها إلى ديار الرب، لنتمتع إلى الأبد بما «لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ
أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ
ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (كورنثوس الأولى 2: 9) هذه هي ثمرة
لقاء روح الإنسان، الذي يطلب الله، مع روح الله.

 

19اَلرَّبُّ
فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ثَبَّتَ كُرْسِيَّهُ وَمَمْلَكَتُهُ عَلَى ٱلْكُلِّ
تَسُودُ. 20بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا مَلائِكَتَهُ ٱلْمُقْتَدِرِينَ
قُوَّةً، ٱلْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلامِهِ.
21بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ جُنُودِهِ، خُدَّامَهُ ٱلْعَامِلِينَ
مَرْضَاتَهُ. 22بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ. فِي كُلِّ
مَوَاضِعِ سُلْطَانِهِ بَارِكِي يَا نَفْسِيَ ٱلرَّبَّ.

(19)
في هذه الآية يرتفع رجل الله إلى الأعالي فيتصور الرب مثبتاً سلطانه، حيث كل ما في
السموات من أجناد وقوات يخضع لجلاله الأقدس، وفقاً لقوله: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ
سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (الإنجيل بحسب متى 28:
18) بمعنى أنه لا يوجد شيء ليس تحت سلطانه، باعتبار كونه إلهاً. وقد وردت نبوات
كثيرة في العهد القديم، عن ملكوت المسيح، تتضمن صفاته وقوته وفاعليته ومدى
انتشاره. قال دانيال النبي «يُقِيمُ إِلَهُ ٱلسَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ
تَنْقَرِضَ أَبَداً، وَمَلِكُهَا لا يُتْرَكُ لِشَعْبٍ آخَرَ» (دانيال 2: 44)
«مَلَكُوتُهُ مَلَكُوتٌ أَبَدِيٌّ وَسُلْطَانُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ» (دانيال
4: 3). وقال سليمان «يُشْرِقُ فِي أَيَّامِهِ ٱلصِّدِّيقُ وَكَثْرَةُ
ٱلسَّلامِ… وَيَمْلِكُ مِنَ ٱلْبَحْرِ إِلَى ٱلْبَحْرِ،
وَمِنَ ٱلنَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي ٱلأَرْضِ… وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ
ٱلْمُلُوكِ. كُلُّ ٱلأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ لأَنَّهُ يُنَجِّي
ٱلْفَقِيرَ ٱلْمُسْتَغِيثَ وَٱلْمِسْكِينَ إِذْ لا مُعِينَ
لَهُ» (مزمور 72: 7-12).

وقال
إشعياء «اَلشَّعْبُ ٱلسَّالِكُ فِي ٱلظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُوراً
عَظِيماً. ٱلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلالِ ٱلْمَوْتِ أَشْرَقَ
عَلَيْهِمْ نُورٌ… لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً،
وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً،
مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلامِ.
لِنُمُّوِ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلامِ لا نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ
وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِٱلْحَقِّ
وَٱلْبِرِّ، مِنَ ٱلآنَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء 9: 2-7).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ب بلوطة العائفين ن

فولادة
المسيح مصدر كل سلام، وتقلده كل رياسة وسلطان وقدرة، مصدر كل تعزية لكل الذين
قبلوه. وأما رياسة المسيح فلم تجد قبولاً عند اليهود، لأنها لم تكن كما كانوا
ينتظرون. فقد انتظروا رياسة ملك زمني يتزعمهم سياسياً. ويجند طاقاتهم العسكرية. وحتى
التلاميذ أنفسهم كانوا يعتقدون أن المسيح وقد أتى فإنه سوف يرد الملك لإسرائيل.
ولكن المسيح في مناسبات كثيرة أوضح لهم أن ملكوته ليس ملكوتاً أرضياً، بل ملك
روحي. ومع ذلك فحتى بعد قيامته من الأموات، كان هذا الفكر ما زال مسيطراً على
التلاميذ فقبيل انطلاقه إلى السماء سألوه «يَا رَبُّ، هَلْ فِي هٰذَا
ٱلْوَقْتِ تَرُدُّ ٱلْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» (أعمال 1: 6).

ولكن
المسيح رفض الرغبة اليهودية بكل إباء، لأن رياسته كانت روحية في قلوب الناس،
وغايتها القداسة. أما في العالم الحاضر، فمملكة المسيح تقوم على المحبة، وتظهر
الحق وتنير الضمير. هكذا قال لبيلاطس في أثناء محاكمته: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ
مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ» (الإنجيل بحسب يوحنا 18: 36).

إن
مملكة الرب التي أشار إليها المرنم، هي المملكة التي عبر عنها في العهد الجديد
بملكوت الله. وهو الملكوت الذي كانت الأجيال تنتظره لتتمتع فيه بنعمة الله كاملة.
نعمته الغافرة نعمته المحررة نعمته المخلصة، التي تعلمنا أن ننكر الفجور الذي في
العالم بالشهوة.

ولهذا
فإن يوحنا المعمدان حين بدأ رسالته، كان أول ما عمله هو إعداد القلوب بالتوبة،
لاستقبال هذا الملكوت، إذ قال «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ
ٱلسَّماوَاتِ» (الإنجيل بحسب متى 3: 2).

وكانت
هذه بداية كرازة المسيح، إذ نقرأ في الإنجيل «مِنْ ذٰلِكَ ٱلّزَمَانِ
ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ : تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ
ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ» (الإنجيل بحسب متى 4: 17).

وكانت
هذه هي الكرازة التي أمر يسوع رسله أن ينادوا بها، إذ قال لهم: «وَفِيمَا أَنْتُمْ
ذَاهِبُونَ ٱكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ
ٱلسَّمَاوَاتِ» (الإنجيل بحسب متى 10: 7).

ومن
ميزات ملكوت الله أنه ليس له حدود. ولكن قلب المؤمن يحتويه، بدليل قول المسيح «هَا
مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ» (الإنجيل بحسب لوقا 17: 21) ومعنى هذا
أن الرب يريد أن يملك على كل قلب ويتخذ منه عرشاً له. هكذا قال الرسول: «أَمَا
تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ ٱللّٰهِ، وَرُوحُ ٱللّٰهِ
يَسْكُنُ فِيكُمْ» (كورنثوس الأولى 3: 16).

أليس
أمراً عجيباً أن يرتضي الله الكلي القداسة، بأن يحل في قلوبنا الدنسة في الحقيقة
لو أتيح لإنسان أن يرى ما احتواه قلبه من أفكار دنسة من النوع الذي ذكره قبيح،
لغطى وجهه خجلاً. ولكن امتياز ملكوت الله، أن الملك الرب يغسل كل قلب يؤمن به بدمه
الطاهر، فيقدسه ويصيره لائقاً بسكنى الله. فهل تريد الحصول على هذا الغسل، لتقبل
روح الله القدوس، وبالتالي تصبح أحد رعايا ملكوت الله.

اذكر
أيها القارئ الكريم أن الرب ملك عظيم، لا حد لعظمته، فقد قال سليمان في صلاته
أثناء تدشين الهيكل «هُوَذَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ ٱلسَّمَاوَاتِ
لا تَسَعُكَ، فَكَمْ بِٱلأَقَلِّ هٰذَا ٱلْبَيْتُ» (ملوك الأول
8: 27).

وهو
ملك غني وغناه لا يُحد. كل بركات السماء وخيرات الأرض ملك له. بل السموات والأرض
والبحر وكل ما فيها ملك له. «لَكَ ٱلسَّمَاوَاتُ. لَكَ أَيْضاً
ٱلأَرْضُ. ٱلْمَسْكُونَةُ وَمِلْؤُهَا أَنْتَ أَسَّسْتَهُمَا» (مزمور
89: 11).

وهو
ملك قدير، وقدرته لا تُحد. فهو الذي علق الأرض وكل الكواكب والنجوم على لا شيء.
وهو الذي يسير المسكونة، وهو الذي أخضع الكل له، ولا يقوى عليه أي سلطان في
الوجود.

فإن
كان ملكاً عظيماً، وملكاً غنياً، وملكاً مقتدراً أفليس من الحكمة ومن الخير لنا،
أن نتخذه ملكاً؟ أليس شرفاً عظيماً أن يكون لنا ملك كهذا؟ قال تيودوس الكبير،
أمبراطور الرومان: أنه أكثر شرفاً لي أن أكون خادماً لله، من أن أكون أمبراطوراً.

إني
أتوسل إليك أيها العزيز أن تفتح قلبك للرب يسوع، ليتخذه عرشاً مقدساً له. لا تهدأ
حتى يتملك الرب حياتك، لئلا يمتلكها العالم والشيطان والخطية.

يختم
المرنم هذا المزمور المجيد بدعوة الأجناد السماوية لكي يباركوا الرب ويشتركوا معاً
في تسبيح السيد وحمده وتمجيده. وأخيراً يعود إلى نفسه فيكرر عبارته الأولى: باركي
يا نفسي الرب.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي