الإصحَاحُ
الرَّابعُ

 

يجب الآن أن
نتناول بالبحث المديح الذي يُخصص للأطراف. ما هو أكثر قيمة وشرفًا من العيون في
أعضاء جسمنا؟ فمن خلالها نستقبل النور، وبواسطتها نتعرف على الأصدقاء والأعداء،
ونميّز بين ما هو لنا وما يخص الآخرين. والعيون هي المدربين والمعلمين لكل غرض كما
أنها تعمل كمساعدين عطوفين لا يمكن الأستغناء عنهم لرحلة آمنه في الحياة. كما أن
موضعها فوق أعضاء الحس الأخرين يوضح دورها الأكثر سموا في حياتنا أنه واضح لمستمعى
لأي طرف من أطراف الكنيسة يُوجد هذا المديح للعيون: كانت عين صمؤئيل حارسة ومراقبة
(ولذلك سُمى بالمراقب)، رتب الله عين حزقيال لكي تحرس سلامة كل من آمنوا به. وكلف
الله عين ميخا الحارسة وعين موسى الفاحصة التي سميت "الله" لكي تقود
الشعب إلى الفضيلة. لذلك أطلق عليهم اسم الرجال أصحاب الرؤية. ولذلك يصح تسميتهم
"عيون" لكي يُنفذوا هذه الوظيفة في جسد الكنيسة إذا وجهوا نظرهم مباشرة
إلى الشمس البر (ملاخى2:4)، ولم يصبحوا عميانا بأعمال الظلمة. فإذا تفهموا الفرق
بين ما يخصهم والعناصر الغريبة عنهم وعلموا أن كل شيء مرتبط بطبيعتنا هو ظاهرى
ومؤقت بينما ما يُقدم لنا خلال الرجاء يثبت إلى الأبد.

وتعمل عيوننا على
التمييز الصديق من العدو حتى نحب الصديق الحقيقي بكل قلوبنا ونفوسنا وقوتنا (تث
5:6) ونظهر كراهيتنا إلى أعدائنا. ولكن تقودنا العين أيضًا في نشاطنا، بحفظ أعماله
صحيحة، وتكون كقائد في رحلتنا إلى الله. إن وظيفة العين النقية السليمة روحيا، مثل
العين الجسمية، تظهر بوضوح إلى الأعضاء الآخرين بواسطة سموّها في الحياة. من أجل
هذا يبتدئ النص (النشيد) في مدح جمال العروس بقوله "عيناك
حمامتان
" (نش 1:4). يتعرف العريس على بساطة ونقاء الأشخاص في الحياة
برؤية نقاء عيونهم من الشر وسماهم "حمامتان" لأن النقاء صفة للحمام
بينما يمدح النشيد عيونه.

عندما تنفذ صوّر
الأجسام الحقيقية من خلال نقاء إنسان العين فإن يؤدي إلى رؤية هذه الأجسام، أي أن
الشكل يطيع نفسه على العين مثل المرآة "عندما يملك الشخص قوة الإبصار هذه في
الكنيسة، فإنه لا يرى أبدًا ما هو مادي أو جسدي لأن الحياة الروحية الغير مادية
تمتلك مشاعره، وتتشكل حياته بواسطة نعمة الروح القدس. لذلك فإن أحسن مدح توصف به
العيون عندما تتوافق حياتهم مع نعمة الروح القدس، لأن الروح القدس هو الحمامة،
فمدح كلا العينين ينطبق على الشخص كله ظاهريًا وروحيًا. ويضيف العريس مدحًا عظيمًا
آخر: "غير أنك ساكتة" [ع1]. تتضح الحياة الطيبة ظاهريًا لكل
واحد، أما ما هو مخفي أو سرِّي فعلمه عند الله فقط. يتضح للشخص الذي ينظر إلى
الغير مخلوق، ويبحث فيما هو مخفي أن السكوت يستحق الثناء أكثر من أي شيء خارجي.
يقول النص "عيناك حمامتان غير أنك ساكتة" امتدح جمال العروس الخارجي
بالاندهاش منه دون كلام.

يتلو ذلك مدح جمال
العروس: "شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد" [ع1]. من المناسب
أولاً أن نبحث طبيعة الشِعر حتى نتمكن من فهم المدح الذي أضفي على العروس في هذا
المجال. يقول بولس: "وأما المرأة إن كانت ترخي شعرها فهو مجد لها، لأن الشعر
قد أُعطيَ لها عِوض بُرقع" (1 كو 11: 15). أي أن الاحترام والتواضع قد يُصبحا
كبرقع للمرأة. ويقول بولس أيضًا: "كذلك النساء يُزيِّن ذواتهن بلباس الحشمة
مع ورع وتعقل لا بضفائر أو ذهب أو لآلئ أو ملابس كثيرة الثمن" (1 تي 2: 9).
الاحترام والتواضع (أي الشعر) الذي يلزم لقداسة الله. إذًا لم يكن للنفس شعر
فرأسها يكون مجالاً للعار، كما يقول الرسول.

إذا كان الرسول
يُعلم هذه الأشياء عن الشعر، فقد تطبق أفكاره لمدح الكنيسة. يقول النشيد
"شعرك كقطيع معز على جبل جلعاد" يقدم النص طريقة ممتازة للحياة هنا،
ولكنه يُضيف أن الشعر خال تمامًا من الإحساس الحي. ولا تزيد هذه الفقرة في مدح
العروس لأن الشعر ينقصه الإحساس باللذة والألم. يشعر الشعر النامي من الجسم بالألم
إذا جُذب بشدة لإخراجه من جذوره، ولكنه لا يحس إذا قُص أو جُعد بالحرارة أو صُفف
باحتراس. إن عدم الإحساس هو علامة على الموت. لذلك، فالشخص الذي لا يشعر بقيمة هذه
الدنيا لا ينتفخ بالمجد أو الشرف ولا يحزن بالإصابة أو الفضيحة، ولكنه يحمي نفسه
عندما يُجابه بأي من هؤلاء الخصوم. هذا هو المديح النبيل لشعر العروس. يُظهر نفسه
أنه ميت تمامًا ولا يتحرك بأي شيء في هذه الدنيا في أي ظرف من الظروف.

يُقارن الشعر
الكثيف بقطيع المعز الذي يظهر من جلعاد. هذه فقرة غير واضحة ويجب أن لا نتركها دون
تفسير. نحن نظن أنه كما عمل الملك سريرًا لنفسه بواسطة تغيير أشجار لبنان إلى ذهب
وفضة وأرجوان وأحجار كريمة فإن الراعي الصالح لقطيع المعز يعرف كيف يُغيّر القطيع
على جبل جلعاد ويكتشف اسم هذا الجبل المعجزة الخاصة بالأمم. فهؤلاء الذين يتبعون
الراعي الصالح من الأمم يأخذون نصيبًا في جمال شعر العروس الذي يشير إلى الطهارة
والتواضع والامتناع عن الأكل والشراب والملذات والتحكم في شهوات الجسد. وقد يرتبط
إيليا بدراستنا عن المعز عندما مارس حياة نكران الملذات والتأمل لمدة طويلة على
جبل جلعاد. عاش إيليا حياة التقشف والزهد بطريقة مدهشة ولبس عباءة من شعر المعز
بدلاً من جلباب ناعم من جلد المعز. لذلك فالأشخاص الذين يأخذون النبي لهم مثالاً
في حياتهم يُصبحون زينة للكنيسة متمسكين بطريقة فلسفية في حياتهم. إنهم يتجمعون في
قطعان لكي يسلكوا حسب الفضيلة. إن رؤية هذه القطعان من جلعاد تزيد مدحهم لأنهم
تغيَّروا من أسلوب الأمم إلى حياة فلسفية نسبة إلى الله. لم ينصح جبل صهيون الطاهر
بممارسة مثل هذا النوع من الحياة ولكن الأمم ولو أنهم كانوا مكرسين للأصنام فقد
تأقلموا عليها لكي يزينوا رأس العروس بفضيلتها السامية.

يضع النشيد أمامنا
أسنان العروس مع ذكر جمال فمها وشفتيها وتستحق هذه الحقيقة دراستها. لماذا يمدح
أسنانها قبل شفتيها؟ قد يكون السبب أنه عندما يشير إلى شكل الأسنان التي تظهر في
الفم عند الابتسام ولكني أنظر إليها من ناحية أخرى، وهي أنه يمكن أن نمدح جمال
الأسنان دون ذكر الفم. ولقد مدح العريس شفتيّ العروس بقوله: "شفتاك كسِلكة من
القرمز وفمك حلو".

ماذا نفهم من ذلك؟
أحسن طريقة هي أن نتعلم أولاً ثم نتكلم. قال أفلاطون إن التعليم هو غذاء الروح ولا
يحيد عن الحق. ويشبه في ذلك الغذاء المادي الذي يُطحن في الفم إلى أجزاء صغيرة قبل
أن يصل إلى المعدة، وللنفس أيضًا القدرة على تجزئة التعاليم حتى يمكن فهمها.
ويقارن النشيد الأسنان رمزيًا بالمدرسين الذين يوضِّحون ويقسمون المعلومات حتى
نتمكن من فهمها. لهذا السبب يُضفي المدح جمالاً على الأسنان إذا اِرتبط معها جمال
الشفتين، فلا تتمكن الشفتان من أن تُظهر جمالها في المديح بدون أن تضفي الأسنان
جمالاً عليها أثناء الكلام. وسوف نفحص جمال الأسنان بالمديح الذي يتبع في الفقرة
التالية.

والآن نفحص الجمال
الذي يظهر في أسنان غنم الجزائر: "أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل،
اللواتي كل واحدة متمِّم وليس فيهن عقم" [ع2]. إذا تأملنا في المعنى اللفظي
لهذه الآية لا نفهم كيف يقارن الأسنان بالأغنام المولودة. تُمدح الأسنان لترتيبها
ووضعها على اللثة. كان القطيع منتشرًا في الوادي والآن تجمع القطيع للاستحمام.
أنها تصف جمال أسنان العروس ولكننا لا نفهم بسهولة كيف يكون ذلك. تصطف أسنانها في
صفوف بينما القطيع مبعثرًا يبحث عن المرعى. ولكن لا يُقارن حيوان يكسو جسمه الصوف
كالغنم وأسنانها مُعرَّاه أن نبحث كيف ينسجم جمال الأسنان مع قطيع الغنم الذي تم
غسل صوفه وقصه وتَحمِل إناثه توائم.

ماذا يمكن فهمه من
هذه الكلمات؟ والأشخاص الذين يُجزئون الأسرار الإلهية إلى أجزاء صغيرة حتى يمكن
فهم النص يصنعون غذاءً روحيًا مقبولاً لجسد الكنيسة. إنهم يقومون بعمل الأسنان في
اِستقبال خبز النص الكثيف السميك في الفم، ويجعلون كذاقه مقبولاً بواسطة التأمل
والتفكير العميق فيه. يمكن فهم هذه الكلمات بالأمثلة الآتية: يقدم لنا القديس
المبارك بولس ببساطة وبدون تعقيد جزء من الشريعة "لأنه مكتوب في ناموس موسى
لا تَكُمّ ثورًا دارسًا" (1كو 9:9). ثم يعدل بولس معنى القانون لكي يجعله مقبولاً:
"ألعل الله تهمُّه الثيران، أم يقول مُطلقًا من أجلنا. أنه من أجلنا
مكتوب" (1 كو 9:0-10). وأيضًا: "فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان واحد
من الجارية والآخر من الحرة" (غلا 4: 22). هذا الخبز ليس جاهزًا لنا. ولكن
كيف نقسمه إلى أجزاء صغيرة لكي نأكله؟ أنه ينقل القصة إلى العهدين، "لكن الذي
من الجارية وُلد حسب الجسد ولكن الذي من الحرة فبالموعد" (غلا 4: 23)، لذلك
فلقد فسر بولس القانون بتخفيف كثافته إلى قطع صغيرة وجعله روحيًا بواسطة التفكير
العميق. "فإننا نعلم أن الناموس روحي" (رو 7: 14). نفهم من كلام بولس
حاجة الكنيسة إلى الأسنان لكي توضح تعاليمها بواسطة تجزئتها إلى أجزاء صغيرة. نحن
نقول هذا متمثلين ببولس الذي يوضح لنا أسرار الكتاب المقدس. لذلك تجعل أسنان
الكنيسة عشب الكلمات المقدسة الخام مجهزًا بسيطًا وخفيفًا لأجلنا. ويصف القديس
بولس حياة الذين يتوقون إلى المركز السامي للأسقفية (1 تي 3: 1-7). ويتكلم عن
الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الأسقف. تشمل نعمة التعليم مع بقية المواهب. لذلك
يرغب النشيد في الذين يودون أن يخدموا الكنيسة أن تكون أسنانهم عارية من أي حمل
مادي. وعندما يُصبح ضميرهم نظيفًا من أي تلوث جسمي أو روحي، فإنهم يرتفعون
باستمرار ويتقدمون ولا يتراجعون مرة أخرى إلى الأعماق التي أتوا فيها. ثم يُقدمون
على إنهم يحملون توائم من الخير، أي إنهم يتصفون بكل فضيلة ويثمرون في كل الأعمال
الحسنة. ويرمز حمل التوائم إلى سمعتنا الحسنة حتى نكون مثل هذه الأسنان التي تحمل
التوائم، والتي تُقدم ضبطه النفس، والنبل في حياتنا.

يضف النص مدح
مناسب لشفتيّ العروس بمقارنة جمالها "كسِلكة من القرمز" ويؤدي تفسيره
إلى زينة حديثها الطلي. لقد تكلمنا على هذه الفقرة عندما ذكرنا أن جمال الشفتين
تزينه ترتيب الأسنان، لأن فم الكنيسة يتكلم من خلال الأسنان. لذلك فالأسنان أولاً
عارية ومغسولة ليست عقيمة وتحمل توائم، ثم تتزين شفتيّ العروس باللون القرمزي،
بينما يوجد للكنيسة شفة واحدة وصوت واحد في اِنسجام مع الخير. يشمل جمال العروس
ناحيتين: شفتا العروس تشبه سلكًا رفيعًا، وأيضًا لها لون الزهرة الجميل. وكلا الصفتان
السلك الرفيع واللون القرمزي يحتفظان بجمالهما ووظيفتهما عند يُزينان فم الكنيسة.
ويعلمنا مثال السلك أو الخيط الرفيع أن نكون على فكر واحد أي حبل واحد مكوَّن من
خيوط عديدة. ويذكرنا اللون القرمزي بالدم الذي خلصنا، وأن نعترف دائمًا بأفواهنا بأن
الدم هو الذي فدانا. تملأ الجاذبية شفاة الكنيسة عندما ينير إيمان اعترافنا ويمتزج
إيماننا بالحب.

نقدم الملاحظات
الآتية لكي يزداد فهمنا للتشبيه السابق فالإيمان هو السلك القرمزي الذي يتكون من
الحب لأن اللون القرمزي يرمز إلى الإيمان ويُفسر السلك بالحب. يشهد الحق بأن شفتيّ
العروس تتزينان بهذان العنصران. ولا تحتاج شفتيها الجميلتان شرحًا إضافيًا لأن
الرسول أوضح ما يرمزان إليه بقوهل أن هذا الكلام هو ما نعلنه عن الإيمان:
"لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات
خلصت. لأن القلب يؤمن به للبرّ والفم يعترف به للخلاص" (روم 1: 9-10). هذا هو
الكلام البديع الذي يُزيّن الشفاه الكنيسة بالسلك القرمزي.

يفرح العريس بجمال
فم عروسه واِحمرار خديها. ويُطلق على هذا الجزء من الوجه بالتفاحة نظرًا للتشابه
لذلك، يقارن العريس تفاحة خدود العروس بقشرة الرمانة كالآتي: "خدك كفلفلة
رمانة تحت نقابك
" [ع4]. يمكن فهم مدح تواضع العروس بسهولة من سياق النص.
أصاغ الفضائل على كل عضو بواسطة وصف جمال الوجه ثم يمدح فضيلة المثابرة بواسطة
اللون الأحمر الذي يعلو وجه العروس ويزّينها مثل الرمان. هذه الفاكهة تشبه الكعكة
وجلدها رقيق لذلك فعمل المثابرة يشارك التفكير العميق، وكما يغذي ويحمي جلد ثمرة
الرمان، الذي يشبه الجزء الخارجي من الكعكة المذاق الحلو لما بداخله، لأنه يحيطها
تمامًا، لذلك فهو حارس خشن ومنضبط من أجل المثابرة. لذلك فمدح هذه الفضيلة له
وجهان: المظهر الخارجي لحياة منضبطة مرتبة، وعمل صادق للنفس خال من الانفعال، كما
يقول الرسول: "وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه ليس من
الناس بل من الله" (رو 2: 29). ينير التواضع هؤلاء الناس ويكسب سلوكهم
الخارجي مديح الآخرين، ولكن بعيدًا عن كونك ساكنة "تحت نقابك" [ع1] فإن
العجب المختفي تراه عين الله الوحيدة التي ترى الأشياء المختفية.

نتعلم من الأمثلة
الآتية أن كل شيء يعمله القديسون الذين يوحي لهم الله يصبح نموذجًا ودرسًا للأشخاص
الذين يسلكون حسب الفضيلة. ويصوِّر الزواج والهجرة والحروب وأدوات البناء على ما سيحدث
في الحياة للأجيال الآتية. "وهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً وكُتبت لإنذارنا
نحن الذين اِنتهت إلينا أواخر الدهور" (1 كو 10: 11). نستفيد من الحرب ضد
الأعداء بأن نكون أقوياء ضد الغرباء، وشوقنا العميق للرهبنة يوضح سر حياة الفضيلة.
كما توضح الهجرة الأساس في حياة الفضيلة، يحفزنا الاِهتمام بإقامة المباني بأن
نُظهر مسئوليتنا في بناء بيتنا بواسطة الفضائل. لذلك يظهر لي أن البرج الذي يمكن
رؤيتهمن كل ناحية والذي أسسه داود واختار له الغنائم النفيسة أنبأ عن الكنيسة
وصوّر هؤلاء الذين يسعون إلى الفضيلة. وعندما أُخضعت القبائل الغريبة للعبودية
ارتفع مركز الملك بممتلكات القبائل الأخرى، لذلك أظهر الملك بواسطة حكمته الحياة
البشرية الطيبة التي تنبأ بها داود من خلال بناء البرج الذي يرمز لحياتنا
المستقبله. سيتعظم جمال جسد الكنيسة في كل عضو من أعضائها حسب عمله وموقعه في
المجتمع. فمثلاً يصف النص الذين يأخذون مكان الرقبة بين الناس، بذكر برج داود الذي
يُعرف بأسواره وتسمى هذه الأسوار "ثالبياث".

"عُنقك كبرج
داود المبني للأسلحة. ألف مِجَن علق عليه، كلها أتراس الجبابرة"
[ع4]
أقام داود هذا البرج الكبير في موقع ممتاز بحيث يتمكن المشاهد أن يراه من جميع
الجهات. وقد علق عليه ألف من الأتراس والحراب. والآن نودّ أن نفهم الغرض المقدس من
هذا النص. لماذا يُقارن الرقبة – وهو عضو في الكنيسة – بهذا البرج؟ سنفحص أولاً
هذا الجزء من جسمنا وهو الرقبة ثم نطبق ما يصل إليه على اسم عضو الكنيسة المسمى
بالرقبة. تحمل الرقبة الرأس إلى أعلى وتعمل كقاعدة لها وتتثبَّت بين الكتفين،
وتتدعم بعظام الفقرات العنقية التي تتمكن من الحركة في مجال واسع لعدم اِرتباطها
بعظام القفص الصدري. تختلف عظام فقرات الرقبة عن العظام المدعمة للذراع أو الرجل،
فهي مقسمة إلى فقرات تحمي ما بداخلها من النخاع الشوكي، وعليها ثقوب تخرج منها
الأعصاب. ترتبط الفقرات بعضها ببعض بأربطة مرنة تسمح لها الحركة. وتوجد بالرقبة من
الأمام القصبة الهوائية التي تمر بها هواء الشهيق حاملاً الأكسجين اللآزم لأكسدة
المواد الغذائية، وإنتاج الطاقة اللآزمة للجسم. كما يمر بها هواء الزفير الذي يحمل
بعض المواد التالفة الناتجة من أكسدة المواد الغذائية. ويوجد بالرقبة البلعوم وجزء
من المريء، وهي قنوات تحمل الغذاء من الفم إلى المعدة. وتوجد بالرقبة الحنجرة وهي
صندوق الصوت وتحتوي الأحبال الصوتية التي تهتز نتيجة لحركة الهواء في الحنجرة
والقصبة الهوائية فتصدر الصوت. لذلك يسهل فهم رقبة جسم الكنيسة بعدما عرفنا بعض
المعلومات عن التركيب التشريحي للرقبة، والتي يقارنها النشيد ببرج داود.

إذا حمل أي شخص
الرأس الحقيقية لكل الخليقة، وهو المسيح: "ذاك الذي هو الرأس المسيح. الذي
منه كل الجسد مركبًا معًا ومقترنًا بمؤزارة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل
نمو الجسد لبنيانه في المحبة" (أف 4: 15-16). لذلك فإنه بحق يستحق أن يطلق
عليه اسم رقبة. فإذا فهمت قلوبنا هذه المعلومات فإن الروح تُدفئها كالنار إذا
انسجمت مع كلمته، عند سماع صوته يشكل الله الصوت الإنساني ليكون أداة لتحريك كلمته
إلى القلب. تقوم الرقبة بوظيفة تغذية، أعني التعليم، الذي يعطي قوة لكل أعضاء جسد
الكنيسة. إن الحصول المستمر على الطعام هو الذي يحفظ بقاء الجسم، وبدونه يضعف
الجسد ويضمحل.

لنجعل شخصًا يمثل
عمل فقرات الرقبة المنسجم، والذي يظهر كأن كل فقرة تمثل شخصًا، وكلهم مرتبطين مع
بعضهم برباط السلام لكي يكوّنوا عضوًا واحدًا متماسكًا وقائمًا، ويتمكن من الحركة
بسهولة من جانب إلى جانب الآخر. كان بولس هذه الرقبة. فإذا أتبع(ما تشكيلها) أي
شخص مثال بولس وأصبح إناءًا مختارًا حاملاً اسم الله (أع 9: 15) ووحدت رأسه جميع
أطراف جسد الكنيسة في انسجام، فإذا تكلم مثل هذا الشخص فإنه لا يتكلم من نفسه بل
يتكلم كأنه الرأس، فالمسيح هو الذي يتكلم كما أوضح بولس (2 كو 13: 3). لذلك تربط
القصبة الهوائية والحنجرة كلمة الحق مع صوت الروح القدس العذب الشجي. وتُجمل
القصبة الهوائية بالكلام المقدس، وتغذي كل أعضاء الجسد بهذه التعاليم المحببة.
تعمل الفقرات بانسجام الجسد بواسطة رابطة السلام والحب. من يعلِّم الرقبة أن تنحني
في تواضع، إنها تتمكن من الحركة إلى اليمين واليسار، وإلى أعلى لكي نرى الأشياء
العليا كما يمكنها أن تدور بعيدًا برشاقة وتحترس من جميع حيل الشيطان. داود قد
أقام هذه الرقبة.

جهز الملك الذي
جاء من نسل داود الإنسان ليكون القلعة الآمنة من السقوط. بناها داود بالنعمة
وحصنها بالأتراس الكثيرة، حتى لا يتمكن العدو من الاقتراب منها بسهولة. والأتراس
معلقة وليست على الأرض ويمكن رؤيتها معلقة في الهواء، ويوجد معها الحراب التي
تُثير الفزع في العدو حتى لا يحاول الهجوم على البرج. إني أفكر فى أن هذا البرج
بما عليه من أتراس وحراب يشير إلى الحرس الملائكي. لا يذكر النشيد ببساطة الحراب،
ولكنه يضيف الرجال الأقوياء يحاربون إلى جانبنا فيغلب(ما تشكيلها) النشيد بكلمات المزمور:
"ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم" (مز 33: 8). لا يمثل لي بدقة رقم
الألف رقم مائة مضروبًا في عشرة، ولكنه يُشير إلى أن العدد كبير. ويُشير الكتاب في
العادة إلى الأعداد الكبيرة بالرقم ألف. كما يقول داود: "مركبًات الله ربوات
ألوف مكررة الرب في وسطها فصار جبل صهيون مماثلاً لجبل سينا في القداسة" (مز 67:
18). ثم "شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" (مز 118: 72).

علمنا أن الجزء
السفلي من الرقبة يرتكز على الكتفين، ويتميزان بالقوة اللازمة لذراعينا اللذين
يجلبا الخلاص. يتمكن الذي يتأمل بدقة ترتيب كلمات نشيد الأناشيد من فهم نمو النفوس
في الفضيلة نحو الله. فهو يعلم أن العروس قُورنت في المرحلة الأولى التي أحبها
فيها العريس بالحصان الذي حارب طغاة المصريين، وكانت له رقبة جميلة مزينة بالسلاسل
وحلي الرقبة، ولكنها تُلقب بالبرج لعظمتها. ويُشاهد البرج من كل الاِتجاهات ومن
على مسافة كبيرة نظرًا لهندسته الرائعة المرتفعة إلى أعلى وموقعه فوق المنطقة
المجاورة. وعندما يحصل هذا البرج على المركز المشترك العالي في السماء، فإنه يوضح
صدق كلام الله: "لا تخفى مدينة موضوعة على جبل" (مت 5: 14).

دعنا الآن نتأمل
في "خشفتي ظبية" بالقرب من قلب العروس والتي تسمى بالثديين "ثدياك
كخشفتي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن
" [ع5]. يقع القلب بين الثديين ولا
يوجد عنده عشب أو أشواك للرعي ولكن السوسن يبقى مزدهرًا طيلة مدة الرعي كلها. ولا تتكون
للسوسن أزهارًا ولا يذبل في أوقات معينة، ولكنه يعطي طعامًا للخشفات حتى لا تسيطر
ظلال الخطية على هذه الحياة. بدلاً من ذلك ينير الضوء كل مكان وتظهر كل الأشياء في
النهار وتتنفس النور أينما رغبت. لأن النشيد يقول: "إلى أن يفتح النهار
وتنهزم الظلال
" [ع6]. أنتم تعرفون من الإنجيل أن الروح القدس يحلّ حسبما
يريد، وينير لهؤلاء الذين من أين يأتي وإلى أين يذهب (يو 3: 8). يقول النشيد:
"ثدياك كخشفتيّ ظبية، توأمين يرعيان بين السوسن إلى أن يفتح النهار وتنهزم
الظلال". ولكن "النهار" يشير إلى الروح القدس الذي يبث النور في كل
من يحصل عليه. يجب أن لا نشك في معنى هذه الكلمات. إذا كان الروح القدس يُنتج
أبناء النور والنهار أفلا يجب علينا أن نعرف أنه هو النور والنهار الذي يطرد
الباطل والظلال؟ عندما تظهر الشمس لا تبقى الظلال بل تنسحب وتبتعد. إن الفرصة
مواتية لكي نضيف لدراستنا للنص سرّ خشفتيّ الظبي التي تحمل توائم والتي تتغذى على
السوسن في المرعى الجيد الخصيب. أن مكان المرعى هو القلب حسب المثل الذي تكل به
السيد المسيح (مت 13: 3)، يزدهر كل الذين يرعون ويحصدون منه أفكار نقية. تجذب
الرائحة الذكية واللون الجميل لزهور النرجس من يقطفها فرؤيتها متعة للعيون
ورائحتها تُدخل البهجة للنفوس لأنها تمتلئ برائحة المسيح الذكية، بينما منظرها
يوحي بالنقاء والطهر.

هل تبحث عن  م الإنسان الذات 06

زال الآن غموض
النص وأصبح واضحًا لنا، فعندما يفحص شخصان المعنى اللفظي والروحي للنص كل على
انفراد، ثم يسيران سويًا في الحياة فإن كلا منهما يولد ميلادًا له ناحيتان: فلا
تأتي الروح قبل الجسد، ولا يُخلق الجسد قبل الروح، ولكن كلاهما يُخلقان في نفس
الوقت. وغذاؤهما هو النقاوة والرائحة الزكية وكل ما تجلبه الفضائل بوفرة. ولكن
يوجد من يرغبون في الهدم أكثر من البناء، وهؤلاء لم ينموا على الفضيلة بل وجدوا
مسرتهم في الأشواك. سمعنا عن المثل: "من ثمارهم يُعرفون. هل يجنون من الشوك
عنبًاء أو من الحسك تينا" (مت 7: 16). وهو يسمي الخطية ما أنتجته لعنة الحيّة
من حسك وأشواك. نحتاج إلى عين مُميزة لكي نقارن بدقة بين النرجس والأشواك حتى
نختار كل ما هو للخلاص ونرفض ما هو فاسد. ويصير الشخص الذي له مثل هذه العين
الفاحصة صدرًا حنونًا لكل الأطفال. كما كان بولس العظيم (1 كو 3: 1-6)، ويغذي
أطفال الكنيسة المولودين حديث باللبن. لقد ذكر النشيد ثديّ العروس التوأم
المولودان سويًا اللذان قارنهما. بخشفتيّ ظبي، ليؤكد أهمية وسمو هذا العضو
للكنيسة. يقود كل ثدي الشخص إلى مرعى النرجس النقي بواسطة الحكم الصحيح والتمييز
بين ما هو مغذي وما لايحتوي على غذاء كالأشواك. ويقوده في ذلك المبدأ المسيطر الذي
يُرمز إليه بالقلب الذي يغذي الثديين. لا يبخل الثدي عن إعطاء النعمة بداخله ولكنه
بعطي حلمة الكلمة لكل من هم في حاجة إليه، وهكذا يوفر الغذاء لكل أطفاله (أنظر تس 2:
7).

والآن تم مدح
أعضاء جسد الكنيسة وسنخصص المدح في الكلمات الآتية إلى كل أعضاء الجسد بعد الموت،
فالمسيح أبطل قوة الموت (عب 2: 14). عندما صعد إلى مجد ألوهيته الذي كان قبل إنشاء
العالم. لأن العريس يقول: "أذهب إلى تل المر وإلى جبل اللبان" [ع6].
يوضح النشيد مجد الله من خلال تعب المر والبخور ويضيف الكلمات الآتية: "كُلُّك
جميل يا حبيبتي ليس فيك عيب
" [ع7]. تعلمنا هذه الكلمات أنه لا يتمكن لأحد
أن يأخذ حياتك منك. المسيح فقط له سلطان أن يضعها أو يرفعها (يو 10: 18). أنه يذهب
إلى "جبل المر"، ليس بقوّته حتى يفتخر بذلك ولكن بما كسب من نعمة، بعد ما
ذاق المسيح الموت عن الخطاة (رو 5: 8). خلصت الطبيعة البشرية ومن وصمة الخطية بعد
أن رفع حمل الله خطية العالم وحطم الإثم (يو 1: 29). لذلك يقول النشيد "كُلُّك
جميل يا حبيبتي ليس فيك عيب" ويضيف إلى ذلك سرّ الانفعال الذي يرمز إليه المرّ
ثم يذكر خليط الأعشاب العطرة والبخور التي تُشير إلى ألوهية المسيح. إن الذي يشارك
المسيح في المرّ سوف يحصل على رائحة الأعشاب العطرة والبخور، لأن الذي يتألم معه
سينال المجد معه (رو 8: 17) وعندما يكون في المجد الإلهي سيحصل على الجمال الكامل،
ويكون بعيدًا جدًا عن كل عيب بغيض بواسطة المسيح، ومن خلال المسيح تنفصل عن
الخطية. أنه مات وقام من الأموات لأجلنا، وله المجد والقوة الآن وإلى الأبد آمين.

 



العظة
الثامنة

 

عندما كتب الرسول
العظيم بولس إلى كنيسة كورنثوس عن رؤيته السمائية، لم يكن متأكدًا إذا كان قد رآها
بروحه فقط أم بجسده وروحه معًا. وشهد قائلاً: "أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي
أني قد أدركت. ولكني أفعل شيئًا واحدًا إذ أنسى ما هو وراء واَمتد إلى ما هو
قدام" (في 3: 13). يتضح من هذا أن بولس وحده كان يعرف ما يوجد وراء السماء
الثالثة، لأن موسى نفسه لم يذكرها عندما تكلم عن خلق وأصل الكون. اِستمر بولس في
الارتفاع ولم يتوقف بعدما سمع عن أسرار الفردوس التي لا يُنطق بها. ولم يسمح للسمو
والارتفاع الذي وصل إليه أن يحدّ من رغبته هذه، وأكد بولس أن ما نعرفه عن الله
محدود لأن طبيعه الله أبدية واسمي مما نعرفه، وليس لها حدود. أمّا من يتحدون مع
الله فتنمو وتزداد شركتهم معه باِستمرار في الحياة الأبدية ويتفق هذا مع كلمات
السيد المسيح: "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). إنهم
سوف يعرفون الله بقدر ما تسمح به عقولهم من فهم، إلا أن الله الغير محدود والغير
مدرك يبقى دائمًا بعيدًا عن الفهم. إن مجد الله العظيم جدًا لا حدود له كما يشهد
بذلك النبي (مز 145: 5-6). يبقى الله دائمًا كما هو عندما نتطلع إليه ونفكر في علو
سمائه. هذا ولقد حاول داود العظيم بكل قلبه أن يرتفع بفكره إلى الآفاق العليا.
وكان دائمًا يتقدم من قوة إلى قوة (مز 84: 7). وصرخ إلى الله: "أما أنت يا رب
فمتعال إلى الآبد". (مز 92: 8). وذلك يتضح أن الشخص الذي يجرى نحو الله يصبح
أعظم كلما اِرتقى إلى أعلى وينمو باِستمرار في الخير حسب مستواه في الارتفاع.
ويحدث هذا في جميع العصور والله هو الأعظم ارتفاعًا الآن وإلى الأبد، ويظهر
باِستمرار هكذا لمن يقتربون منه، فهو أعلى واسمي من قدرات كل من يرتفعون.

يعلمنا الرسول
بولس عن طبيعة الله المهيْمنة والتي لا يمكن التعبير عنها حيث يقول إن العين لم تر
هذه العظمة حتى ولو أنها تبصرها، لأن العين لا تراه بالكامل كما هو. لكن فقط بقدر
ما تستطيع أن تدركه. وأيضًا لا تتمكن الأذن من سماع كل ما يقوله كلمة الله، ولكن
بقدر استطاعتها فقط، وذلك على الرغم من أنها تستمع له باِستمرار. ولا يدخل أيضًا
كلمة الله إلى قلب الإنسان بالقدر الكافي حتى إذا كان القلب النقي يراه باِستمرار.
وبالرغم من أن المرحلة التي بلغ إليها الشخص الآن أعلى في الحقيقة مما كان عليه
سابقًا، إلا أن هذه المرحلة لا تحد من تقدمه، لكنها تصبح بداية لاكتشاف نعمة أعلى.
فالشخص الذي يرتفع لا يقف أبدًا ساكنًا. إنه يتحرك من إحدى البدايات إلى التي
تليها، وبدايات النعمة الأعلى ليست محدودة. لذلك فرغبة النفس التي ترتفع تزداد في
المعرفة وفي الرغبة في الارتفاع إلى مستويات أعلى، فتستمر في النمو محققة التقدم
الغير محدود.

وبعدما شرحنا هذه
الأمور يلزمنا أن نفكر بعمق في الكلمات المقدسة بالنشيد: "هلمي معي من
لبنان، انظري من رأس أمانة، من رأس شنير وحرمون، من خدور الأسود من جبال النمور
"
[ع8]. ماذا نفهم إذن من هذه الكلمات؟ يجذب ينبوع النعمة إليه كل العطشى. وكما يقول
الينبوع في الإنجيل: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" (يو 7: 37). لا يضع
المسيح بهذه الكلمات حدودًا لعطشنا، ولا لتحرُكنا نحوه، ولا لارتوائنا من الشرب،
ولكن يمتد أمره إلى مدى الزمن، ويحثنا أن نعطش وأن نذهب إليه. وإلى هؤلاء الذين
ذاقوا وتعلموا بالتجربة أن الله عظيم وحلو (مز 34: 8)، فإن حاسة الذوق عندهم تُصبح
حافزًا لزيادة التقدم. لذلك فالشخص الذي يسير باِستمرار نحو الله لا ينقصه هذا
الحافز نحو التقدم. دعنا نعيد ما يقوله كلمة الله للعروس ليشجعها: "تعالي يا رفيقتي"
ومرة أخرى "تعالي يا حمامتي واِحضري نفسك في محاجئ الصخر" يستعمل كلمة
الله هذه التعبيرات الجذابة للتشجيع لكي يحفِّز النفس إلى الارتفاع إليه.
"كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة". وحتى لا تتكبر النفس بهذه الشهادة ولا
يتعطل صعودها إلى أعلى، يشجعها العريس حتى يحرك رغبتها في العبور فوق الحدود،
"هلمي معي من لبنان" أي أنك عملت حسن باتباعي إلى هذه النقطة، لقد أتيت معي
إلى جبل المرّ، لقد دُفنت معي بالمعمودية إلى الموت (رو 6: 4)، وذهبت معي إلى تل
العشب العطري والبخور لأنك قُمت معي وارتفعت في مشاركة قداستي التي يَرمز إليها
العشب العطري والبخور. ارتفعتي معي من هذه القمة إلى قمة أخرى أعلى من خلال
المعرفة. لذلك يقول العريس "هلمي معي من لبنان" ليس كفتاةٍ ما زالت
مخطوبة ولكن كعروس. لا يمكن لأحد أن يعيش معي دون أن يتغير بواسطة الموت بالمرّ
إلى الحياة في القداسة محوطًا بالأعشاب العطرة والبخور. ولا يتوقف عن الصعود بعد
أن تصل إلى هذا المستوى من الارتفاع، وكأنك حصلت على الكمال. فالأعشاب العطرة
والبخور ترمز إلى بداية الإيمان الذي حصلت عليه بالقيامة من الأموات، أنه بداية
التقدم إلى مستويات عليا من السمو. من هذه البداية وهي الإيمان "سوف ستتحرك
إلى الأمام" أي أنك ستواصل تقدمك في الارتفاع.

يقول النشيد سوف
تأتي وتعبر قمة الإيمان من رأس شنير وحرمون. تُشير هذه الكلمات إلى سر ميلادنا من
الأعالي. حيث ينبع نهر الأردن، كما يقولون، وتنقسم الجبال التي تعلوه إلى قمتين
شنير وحرمون. ومنها ينبع النهر ويصبح بداية تحولنا إلى ما هو مقدس. لهذا السبب
تسمع العروس عندما يناديها العريس قائلاً: "هلمي معي من لبنان من بداية
الإيمان ومن قمة" لهذه الجبال التي تصعد منها الينابيع الروحية. ويذكر النص
الأسود والنمور فيزيد ذكر هذه الحيوانات المتوحشة تمتع العروس بالأشياء المبهجة
خُلق الإنسان أولاً على صورة الله، إلاّ أنه تحول إلى حيوان غير عاقل، فصار شبيها
بالنمر والأسد من خلال العادات الشريرة، وكما يقول النبي: "يكمن المختفي كأسد
في عرينه. يكمن ليخطف المسكين. يخطف المسكين يجذبه في شبكته" (مز 10: 9). لقد
تحول الإنسان إلى حيوان متوحش بعد أن صار قويًا. "مثلها يكون صانعوها بل كل
من يتكل عليها" (مز 115: 8). ويصبح الشخص نمرًا بصبغ نفسه بقذارة هذا العالم.
وعندما تلوثت الطبيعة البشرية انجرفت في عبادة الأوثان وأخطأ اليهود وسقطوا في
غيرها من الشرور والخطايا. وبعد ذلك مرت الطبيعة البشرية خلال الأردن والمرّ
والأعشاب العطرة والبخور وارتفعت إلى مستوى عال، حتى أنها تسير الآن مع الله. لهذا
السبب يزيد كلمة الله فرح عروسه بما حققته، وذلك بجعل العناصر المحزنة السابقة
والتي مرت بها لبنان بداية الإيمان، قبل أسرار الأردن التي تناولناها سابقًا.
وتصبح الحياة في السلام أكثر متعة بعد الحرب خصوصًا عندما نتذكر أيام الحزن،
وتُنعش نعمة الصحة حواسنا عندما تستعيد طبيعتها بعد مرض مؤلم. لذلك يمنح العريس
النفس التي تصعد إليه عمقًا في التمتع بالسمو ويظهر جماله لها، ويذكرها بأخطائها
السابقة وهي على هيئة الحيوانات المتوحشة حتى تتمكن من الفرح في تمتعها الحالي
بمقارنته بحالتها السابقة.

جهز العريس ببعد
نظره نعمة أخرى لعروسه. أراد لنا كلمة الله نحن المتغيرين بالطبيعة أن لا نسقط في
الشر، وأن نستخدم قدرتنا على التغيّر كطريق في صعودنا إلى مستويات أعلى باِستمرار
التقدم إلى الكمال. وهكذا يمكن أن نظل ثابتين في الخير. لذلك يذكر النشيد، وكأنه
المدرس أو الحارس من الشر، هذه الحيوانات المفترسة التي تم هزيمتها فيجب أن نزداد
قوة في التمسك بالخير بعد أن نبذنا الشر. وبينما نتقدم باِستمرار نحو السمو والخير
لا توجد فرصة للسقوط في الشر، لذلك يطلب العريس من العروس أن تأتي إليه من لبنان
ويذَّكرها بالأسود التي قضت وقتًا في ارتباطها معها.

كلمة الله لها صوت
ذا قوة واحدة. وكما أشرق النور بأمره بدء الخليقة وأسس السماء بإرادته (تك 1: 2-24)
وظهرت بقية الخليقة بكلمته الخلاقة. وبنفس الطريقة عندما يأمر الكلمة النفس التي
تقدمت للتقرب منه فإنها تتقوى في الحال وتصبح كما يريدها، أي تتحول إلى شيء مقدس
وتنتقل من المجد الذي كانت فيه إلى مجد أعلى بواسطة التغير العظيم. لذلك يُظهر
الكورال الملائكي حول العريس تعجبه للعروس ويُعبّر عن تقديره واحترامه لها قائلاً:
"قد سبيت قلبي خالية من الانفعال، وتحيط بها الملائكة وتوفر لها الأخوَّة،
وصلة القربى مع القوى الروحية. لذلك يقولون لها "قد سبيتِ قلبي يا أختي
العروس".

تشرفت العروس
بكلمة "أختي". فهي أختنا لأنها خالية من الهوى، وعروس لأنها اِتحدت
بكلمة الله، نحن نفهم معنى الكلمات، قد سبيتِ قلبي، أو قد أعطيتني حياة وكأنه
الملائكة قالت لها "أنت أعطيتنا قلبًا"، سوف نترك هذه الفقرة للقديس
بولس لكي يشرح لنا هذه الأسرار. فيقول في رسالته للكنيسة أف عندما يشرح اِهتمام
الله بنا عندما ظهر في الجسد، فلقد دخلت بذلك الطبيعة البشرية في نعمة الأسرار
المقدسة "لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة
بحكمة الله المتنوعة. حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا. الذي به لنا
جرأة وقدوم بإيمانه عن ثقة" (أف 3: 10-12).

فمن خلال الكنيسة
صارت حكمة الله المتعددة الجوانب معروفة بالنسبة للقوى الغير محدودة، واندهشت منها
القوى المضادة. كيف تأتي الحياة من خلال الموت، والعدل من خلال الخطية، والنعمة من
خلال النقمة، والمجد من خلال الانحطاط، والقوة من الضعف؟ علمت القوى الغير محدودة
في العصور السابقة أعمال حكمة الله البسيطة، والتنظمة والتي أدهشت الدنيا. لم يكن
هناك تنوعًا قيمًا رأوه، وعمل الله الخليقة بقوته وبإحدى نبض إرادته أحضر الكائنات
إلى الحياة، وكانت جميع الأشياء جميلة جدًا لأن أصولها من الجمال المقدس.

وعلى الجانب الآخر
فإن الحكمة المتعددة الجوانب التي قامت من اِتحاد القوة المضادة تظهر الآن من خلال
الكنيسة، فالكلمة صار جسدًا، واِختلطت بالموت، ومن خلال جروحه شفى جراحنا، وأسقط
القوى المضادة بضعفه على الصليب، فلقد ظهر الغير مرئى في الجسد لكي يفدي
المأسورين. هو نفسه الواحد الذي يشترى أصبح الثمن لأنه صار لنا فديّة بموته. لم
يفارق لاهوت المسيح جسده في الحياة أو الموت، وأصبح عبد الكنه اِستمر ملكًا. كل
هذه وغيرها من الأمثلة المشابهة هي عمل الحكمة ذات الأهداف المتعددة. تعلم أصدقاء
العريس من الكنيسة التي "أعطتهم قلبًا" لكي يفهموا ناحية أخرى من أسرار
الحكمة المقدسة. وإذا أردتُ أن أفكر بجرأة في رؤية جمال العريس في عروسه، وفي
دهشتهم من وجوده الخفي الغير مُدرك في جميع المخلوقات. وكما يقول الرسول يوحنا:
"الله لم ينظره أحد قط" (1 يو 4: 12) وأيضًا يشهد الرسول بولس:
"الله الذي وحده له عدم الموت ساكنًا في نور لا يُدنى منه، الذي لم يره أحد
من الناس ولا يقدر أن يراه الذي له الكرامة والقدرة الأبدية آمين" (1 تي 6:
16). جعل الله الكنيسة جسمه الخاص، وبناها بالحب في الذين خلصهم، ورفعهم لكي يصلوا
إلى الإنسان الكامل، كما أوضح بولس الرسول: "إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية
الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل. إلى قياس قامة ملء المسيح" (أف 4:
13). لذلك لما كانت الكنيسة هي جسد المسيح وهو رأسها، فقد جعل وجهها له نفس خواص
وجهه. رأى أصدقاء العريس هذا "وأُعطوا قلبًا" لأنهم فكروا بعمق فيما هو
غير مرئي. وبنفس الطريقة، لا يتمكن أحد أن يوجه بصره مباشرة إلى الشمس، ولكنه
يتمكن من رؤية لمعانها عندما ينعكس من المياه. لذلك فالأشخاص الذين ينظرون إلى وجه
الكنيسة وكأنهم مرآة نظيفة، يرون شمس البر (ملا 4: 2) فيتعرفون على بعض صفات الله.

قال أصدقاء العروس
لقد أعطيتنا قلبًا، أي أدخلت فينا روحًا وعقلاً لكي نرى نورك. ثم كرروا هذه
العبارة للمرة الثانية وأضافوا رصيدًا لكلماتهم، لقد أعطيتنا قلبا وإحدى عينيك،
وملأ هذا أصدقاء العروس بالإعجاب لأن للنفس قدرتين على الرؤية: إحداهما ترى الحق
والثانية يخدعها الباطل. وبما أن عين العروس النقية ترى الخير والصلاح فقط،
فقدرتها الثانية للرؤية لا تعمل. من أجل هذا يضفي أصدقاء العروس المديح لواحدة من
عيونها التي تراه فقط. وأعنى بكلمة "فقط" الذي نعرفه في طبيعته الأبدية
الغير متغيرة الآب الحقيقي والابن الوحيد والروح القدس الله بالحقيقة واحد بطبيعة
واحدة دون انفصال أو تقسيم بحسب اختلاف الأقانيم، يُقسم الأشخاص أصحاب الرؤية
الضعيفة الطبيعة الواحدة لله إلى طبائع منفصلة، كما تظهر أمام عيونهم ذات الرؤية
الملتوية. فيُقال إنهم يرون كثيرًا وبرؤيتهم، الكثير جدًا لا يرون شيئًا. والبعض
يفكرون في الله ولكن يخدعهم التعصب للمادة. إنهم غير مستحقين لمدح الملائكة لأنهم
مقيدين بالخيالات الوهمية. وعلى الجانب الآخر. يُعتبر الشخص الذي يرى الله وحده،
أعمى بالنسبة لكل شيء آخر. من أجل هذا تجعل العروس أصدقائها يتعجبون على واحدة من
عيونها. يستعمل الشخص صاحب العيون الكثيرة عيونه في النظر إلى الأشياء (الفاتنة)
لذلك يُعتبر أعمى، أما الشخص الذي ينظر إلى الخير والصلاح بواسطة عين النفس فله
رؤية حادة تنفذ إلى أعماق الأشياء التي يراها.

تبدو الحُلية
الوحيدة حول عنق العروس وكأنها صعبة التفسير لغموض النص، ولكنها ليست كذلك: "قد
سبيت قلبي يا أختي العروس، قد سبيت قلبي بأحدى عينيك، بقلادة واحدة من عنقك
"
[ع9]. تشبه "كلمة بقلادة واحدة "، كلمة "بإحدى عينيك" ونفرض
بذلك أنه يقصد "بروح واحد". يملك الشخص الغير واع أكثر من روح وتستولى
هذه على مكان الروح الواحد وتغير صفاته فيتأرجح بين الحزن والفرح والإقدام والخوف
والجبن والشجاعة. وعلى الجانب الآخر يملك الشخص الذي يتربع كلمة الله روحًا واحدا
متحدًا في حياة الفضيلة ويلزم أن نعمل توضيح في النص بربط كلمة
"بالواحد" بما سبق فيتضح لنا لنقرأه "في روح واحد" أو بحالة
واحدة للحياة.

يلي فكرة جديدة في
الكلمات: "بقلادة واحدة من عنقك" ويمكن أن نحصل على صورة واضحة بتغيير
هذه إلى "لك عين واحدة لكي تنظرين إلى الواحد، وروح واحد لأنك لست مقسمة حسب
أنواع الميول المختلفة. إن وضع عنقك كامل لأنه يحمل النير المقدس (مت 11: 29). نحن
نرى نير المسيح على عنقك والعين الواحدة والروح الواحد هي علامتك للخير والصلاح.
من أجل هذا سوف نعترف أنك "أعطيتنا قلبًا" مع هذه العجائب: فلك عين
واحدة وروح واحد وقلادة حول عنقك (نير العروس هو القلادة كما سبقت الإشارة إليها).

فهمنا أن أصدقاء
العريس كملائكة يمدحون العروس. ولكي نحفظ هذا المديح من أن يتحول إلى غش أو يصبح
مُبالغًا، فإن كلمة الله نفسه يؤكد حكم أصدقاء بواسطة التعبير عن شعوره الخاص،
ويشهد لجمال عروسه بإضافة صفات أكثر عجبًا عند وصف جمالها الذي ينير أعضاء جسمها،
وسنعود إلى هذه النقطة في العظة المقبلة إذا أعاننا الله لكي أفهم هذه الأسرار
وأتعرف على جمال الكنيسة، وأعظم مجد الله ونعمته في المسيح يسوع له المجد إلى
الأبد آمين.

 

 



العظة
التاسعة

يقول القديس بولس:
"فإن قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق". ويضيف: "لأنكم قد مُتُّم
وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا
معه في المجد" (كو 3: 1-4). تختفي فينا الحياة حسب الجسد إذا لامتنا طبيعتنا
الدنيئة ثم نقلنا طموح حياتنا من الأرض إلى السماء. كما يقول المثل: "الحكماء
يدخرون معرفة" (أم 10: 14). ثم ننتظر الحياة الحقيقية، ويظهر المسيح فينا
ونمتلئ بمجده ونتحول إلى حالة مقدسة. دعونا الآن نستمع إلى كلمات النشيد وكأننا
متنا بالجسد فلا ننجذب إلى الكلمات ذات المعنى الجسدي. فيتحول الشخص الذي مات عن الأهواء،
المعنى اللفظي لكلمات النشيد إلى معاني نقية وغير ملوثة. ولما كان فكره خاليًا من
الأمور الأرضية، لذلك يُشغل باله بالأشياء العليا حيث المسيح الخالي من الهوى،
والجالس عن يمين مجد الله (كو 3: 1). دعونا الآن نستمع إلى الكلمات التي تصف جمال
العروس النقي. ليتنا نستمع وكأننا لا نشارك في طبيعة الجسد واِنتقلنا إلى دائرة
الروح.

هل تبحث عن  هوت روحى مقالات روحية 03

"ما أحسن حبك
يا أختي العروس"، كم محبتك أحسن من الخمر وكم رائحة أدهانك أطيب من كل
الأطياب
" [ع10]. "لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي"
(مر 3: 30). وهو بكر طاهر ومرتبط بالله. ويسمى هذا الشخص الذي يشارك في حجرة العرس
الطاهرة، بالعروس. ويتضح ذلك لكل من يعرف الكلمات المقدسة الموحي بها بعد البحث
لفهم هذه الكلمات المقدسة، لا أرى أنها مجرد تمجيد كلمة الله للعروس. فيشرح العريس
اِزدياد جمالها: فلم تكن لتتزّين بنبغىّ وصايا الحق التي يرُمز إليها بثدييها، إلا
إذا ما صارت أولاً أختًا للرب من خلال الأعمال الطيبة، وجددت نفسها بالزواج مع
البكر بالميلاد الفوقاني، وأصبحت العروس المخطوبة الموعودة لعريسها. ويقول الذي
يُسميها أخته وعروسه أن ثدييها تتحول إلى شيء أحسن وأكمل لأنهما لا يمتلئان
باللبن، غذاء الأطفال، ولكنهما يفيضان بالخمر النقي الذي يفرح الأكثر كمالاً. ولم
يفسد أصحاب الحانات نقاء هذا الخمر بخلطه بالماء.

تحوي هذه الكلمات،
مثل فرحة العرس، شعور المحبة الدافئ بين الحبيبين اللذين يُعبران لبعضهما عن حبهما
المشترك. ويُضفي العريس بكلمات مماثلة على الكنيسة التي مجدها في أقواله المبكرة.
عبرت العروس في أول النشيد عن رغبتها في أن يأتي إلى فمها كلمة الله الخارج من فم
الله المقدس كما هو موضح برمز القبلة. وأشارت إلى سبب هذه الرغبة وهي أن ثدييه
جميلان. إنهما يفوقان الخمر واسمي من كل رائحة ذكية للأطياب والعطور:
"ليقبلني بقبلات فمه لأن حبك أطيب من الخمر. لرائحة أدهانك الطيبة اسمك دهن
مهران. لذلك أحبتك العذارى" (نش 1: 2-3). نحن نتعلم هذا من الفلسفة المقدسة
التي أتت من مصادر أخرى غير فلسفة أفلاطون مثلاً وبالتحديد: يحضر الله معنا بقدر ما
تُحضر أنفسنا أمامه. وشهد داود متنبئا: "طوبى للكاملين طريقًا، السالكين في
شريعة الرب. طوبى لحافظي شهاداته من كل قلوبهم يطلبونه. أيضًا لا يرتكبون إثمًا،
في طرقه يسلكون، أنت أوصيت بوصاياك أن تحفظ تمامًا" (مز 119: 1-4). ويُشبِّه
النبي هوشع الشخص الذي يعيش حياة البطش والقسوة، بالدب أو النمر. ويمكن فهم هذه
التشبيهات الغامضة بتعاليم الإنجيل (مت 25: 34-36). بمن يضعهم الملك على يمينه ومن
يضعهم على يساره، فعلى اليمين يضع الغنم الوديعة الطيبة أما على اليسار فيضع
الماعز المخيفة المتوحشة. ويؤقلم الملك نفسه على حسب اختيار هؤلاء الذين أدينوا
والآن تعطى العروس استجابة موفقة عندما تغني لجمال مليكها وتضفي عليه التمجيد
بكلمات مماثلة وهو يقبل ثدييها ويغيرهما للأحسن ولأنهما توقفا عن إنتاج اللبن
ويعطيان الآن خمرًا يفرح القلوب الأكثر كمالاً، والذين لا يتبعون الاِهتمامًات
الطفولية إنهم الآن قادرين على عمل الأعمال الطيبة بتأثير ما يشربونه من كوب
الحكمة (أم 9: 2-5).

أضاف النص في مدح
الخمر الذي تُنتجه ثديي العروس بقوله أن له رائحة طيبة: "وكم رائحة أدهانك
أطيب من كل الأطياب". لابد أن نحصل على فهم جيد للأطياب من الكتاب المقدس.
تعطي العطور شعورًا طيبًا لحاسة الشم. وقدَّم نوح مثل هذه الذبيحة لله وشمَّ الله
رائحتها الطيبة (تك 8: 21). لذلك فالذبيحة الندم وطلب الغفران والشكر وذبيحة
الخلاص والتطهير والخطية. تتكون هذه الكلمات من توابل وذبائح كاملة وتقدمات تُحرق
بالكامل وأعضاء من تقدمات منذورة لله مثل، صدر وأحد فصوص الكبد أو دهن الكلية، بالإضافة
إلى هذه مجموعة الأعشاب العطرة والبخور ودقيق القمح المنقوع في الزيت وأنواع
البخور المختلفة، وكثير من الأمثلة المرتبطة بالنار وجميعها مصنفة تحت أنواع
العطور.

يرشدنا طيب عطر
العروس على أن سر الحق الذي يقدمه الإنجيل هو وحده الرائحة العطرة لله. أنه يعلو
على كل رائحة للشريعة لأنه لا يختفي وراء الرموز أو الظلال بل يقدم مباشرة رائحة
الحق الطيبة. وإذا اتسمت إحدى التقدمات السابقة برائحة طيبة لله يكون ذلك نتيجة
لمعناها العميق وليس المعنى الظاهري أو اللفظي. ويتضح ذلك من قول النبي: "لا آخذ
من بيتك ثورًا ولا من حظائرك أعتدة. هل آكل لحم الثيران أو التيوس" (مز 5: 9،
13).

قدم شعب إسرائيل
الكثير من ذبائح الحيوانات في العديد من المناسبات. وعندما نفكر في الدرس المستفاد
من هذا الموضوع نجده يرتبط في تفكيرنا بسرّ وهو وجوب التضحية بأهوائنا.
"ذبائح الله هي روح منكسرة، القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره"
(مز 51: 19). لذلك تمجد ذبيحتنا لمديح الواحد صاحب الرائحة الطيبة. تشم النفس
الرائحة الطيبة مثل بولس: "رائحة المسيح الطيبة" (كو 2: 15)، وترتفع
أعلى من كل رائحة رمزية للشريعة. وتصبح النفس عطرة الرائحة في حياتها وتشم مرّ
الكهنوت وبخور الضمير الذي يتكون من الفضائل المختلفة. حياتها هي رائحة عطرة
للعريس. عندما قارن سليمان الشعور المقدس بالعطر المادي للشريعة أضاف أن الفضائل
تعطي رائحة طيبة وغير مادية: "وكم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب".

يقودنا النص
التالي إلى تمجيد أعلى مما سبق ويشهد على وفرة الهبات الممنوحة للعروس، التي
يعطيها الله استجابة بيقظة والصلاة. يوجد(يوجه؟) كتاب الأمثال حكمة التلاميذ (للتلاميذ؟)
أن تذهب(يذهبوا؟) إلى النملة (لاحظ الفرق بين المعلم وتلميذه)، وتقول الحكمة
لمحبيها "اِذهبوا للنحلة وتعلموا من عملها" (أم 6: 8). يعمل النحل في إنتاج
العسل، وهو عمل نبيل لكل من الملوك وعامة الشعب الذين يستفيدون من عمل النحل
بتناول هذا الغذاء الصحي. وتقول الأمثال يقدِّر جميع الناس النحلة وينظرون إليها
بشرف، وبالرغم من أنها حشرة ضعيفة إلا أنها تعمل بحكمة وينظر إليها كمثال للحياة
الفاضلة. لذلك تقدم لنا النحلة وكأنها تُشرِّف الحكمة.

تنصحنا هذه الكلمات
بأن لا نرفض التعاليم الطيبة ولكن نستوعب من حقول الكلمات المقدسة الموحي بها
ونُجمع أفكارًا من كل منها لكي نكتسب الحكمة. وهكذا نبني بداخلنا ما يُشبه قرص
العسل ونحزن في قلوبنا نتيجة عمل الحب كما في خلية النحل. تخلق النظرات المختلفة
في ذاكرتنا مخازن تشبه خلايا الشمع لا يمكن محوها. ويجب أن تشغل أنفسنا بالعمل
النبيل في الفضيلة، بتقليدنا النحلة الحكيمة التي تنتج قرص العسل حلو المذاق ولا
تؤذي أحدًا. لقد استبدلت النحلة بانشغالها فيما تنتجه أي أعمال الحياة الحاضرة
بنعمة الأبدية. توزع النحلة ثمرة عملها من أجل خبز الملوك والشعب. وتصبح النفس
مرغوبة لعريسها بطريقة مشابهة، فتشرفها الملائكة وتكمل قوّتها في الضعف بالتمسك
بالحكمة.

تعلمنا حكمة
النحلة أن نكون مثابرين وحريصين على عملنا على مثالها. تُوزع النعم الروحية
المختلفة على الذين يعملون بجهد لنوالها بنسبة الحماس والجهد الذي يبذلونه. لذلك
يقول العريس لعروسه: "شفتاك يا عروس تقطران شهدًا، تحت لسانك عسل ولبن، ورائحة
ثيابك كرائحة لبنان
" [ع11]. ينظم النص بحيث يقدم أكثر من فائدة، فهو
ينطبق على كل من يستمع له للبالغ والطفل، فالعسل للبالغين واللبن للأطفال. ويخاطب
بولس المولودين حديثًا ويغذيهم بكلمات العطف والحنان بينما يُكلم البالغين بالحكمة
المخفية عن كل العصور التي لم يقبلها هذا العصر ولا عظماؤه (كو 2: 6-8). ويقول
كلمة الله أن خليطًا من هذا العسل واللبن يوجدان تحت لسان العروس حيث يُخزَّن
ويكون جاهزًا، لأن الشخص الذي يجب أن يتكلم لابد أن تكون عنده القوة المتعددة
الجوانب للكلمة تحت لسانه، وتكون جاهزة لكل مستمع في الوقت المناسب.

يتحرك العريس نحو
تمجيد أعظم بعد مدح ولسان العروس "رائحة ثيابك كرائحة لبنان". توضح هذه
الآية طريق الفضيلة لكل من يرغب فيه. إن نهاية الحياة الفضلى هي التشبه بالله.
لذلك يجب ممارسة الفضائل لكي ننال نقاء الروح ونخلوا من الاِرتباك الذي تسببه
الأهواء، حتى نمتلئ بالسموّ الغير المحدود نتيجة للسلوك الفاضل في الحياة.

ليس لحياة الفضيلة
شكل واحد، كما أنها ليست جامدة، إنها تشبه الفن في عمل جلباب بنسيج خيوط مختلفة يثبت
بعضها رأسية وأخرى أفقية. لذلك يلزم لنا العديد من العناصر للسلوك في حياة فاضلة.
ويعدد الرسول المقدس الثمار الكثيرة لعمل الروح وهي محبة فرح سلام طول أناة لطف
صلاح إيمان وداعة تعفف (غلا 5: 22). نلبس هذه المميزات عندما نخلع عنا ملابس فساد
هذا العالم ونستبدله بحياة السماء عديمة الفساد. لذلك يستقبل العريس ملابس عروسه
ويقارن رائحتها برائحة خليط الأعشاب العطرة والبخور. ولكنه سبق وأشار أن عطر العروس
يفوق عطر كل الأطياب. ونظن أن ذلك يقلل من قيمة المديح لأن رائحة العروس كانت أحسن
من رائحة كل الأطياب، والآن تُقارن فقط بواحدة منها. يقول كلمة الله: "رائحة
ثيابك كرائحة خليط الأعشاب العطرة والبخور"، يُستخدم خليط الأعشاب العطرة
والبخور في عبادة الله، وهو أحسن من كل الأطياب ويستحق أن يكون العطر المخصص لله.
يمكن فهم هذا السر كالآتي: تشبه ثياب فضيلتك يا عروستي قداسة الله، وتشبه الطبيعة
الإلهية التي تفوق الحدود في نقائها وخلوّها من الاهواء، ورائحة ثيابك يمكن
مقارنتها بخليط الأعشاب العطرة والبخور المخصص لتشريف الله.

نتعلم من التمجيد
الذي يضيفه العريس على عروسه ماذا؟ يعني أن نكون أختًا أو عروسا لله! وهو يقول:
"أختي العروس جنة مغلقة" [ع12]. عندما يُعلق أي شخص أنه عروس
متمسكة بالله، يصبح هذا الشخص أختًا لله لأنه يعمل إرادة الله، كما يقول الكتاب
(مر 3: 35). دع هذا الشخص يصبح بستانًا مملوئًا بكل أنواع الأشجار المزهرة: التين
الحلو والزيتون المثمر والنخيل العالي والكرم الوفير الثمر. فليس عنده شجيرات
شائكة ولا قريس وبدلاً منها ينبت السرو والآسى(س؟). ويعرف داود العظيم كيف يزيّن
هذا البستان كما ارتفع به إشعياء: "الصدِّيق كالنحلة يزهو كالأرز في لبنان
ينمو" (مز 92: 11)، "أني مثمرة كشجرة الزيتون" (مز 52: 8)
"إمرأتك مثل كرمة مثمرة في جوانب بيتك. بنوك مثل غروس الزيتون حول
مائدتك" (مز 128: 3): يقول إشعياء "عوضًا عن الشوك ينبت سرو وعوضًا عن
القريس يطلع آسى ويكون للرب اسمًا علامة أبدية لا تنقطع" (إش 55: 13). ويكرم
النبي ميخا من يجلس تحت الكرمة: "بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته،
ولا يكون من يرغب لأن فم رب الجنود تكلم" (مي 4:4).

يشير كل نبي إلى
نوع من الشجر الذي يرمز إلى سرّ وسوف لا نتناوله بالتفسير الآن. كلنا نعرف حلاوة
ثمرة التين وهي ناضجة، بينما تكون مرة المذاق وهي فاجة، لا يمكن أكلها ولكن بعد
ذلك تنضج إلى فاكهة جميلة يُفرح مذاقها الحلو حواس النفس. ماذا يفيد المحصول
الزيتون مرّ المذاق وهو أخضر وحامضي العصارة بعد أن ينضج في الخريف؟

يعصر الزيت من
الزيتون الناضج ويستخدم في الإضاءة ويدهن به الجسم لإزالة الألم ويريح التعب وينشط
الرأس ويفرحها ويساعد الذين يسلكون حسب الشريعة. كيف تجعل النخلة أيضًا ثمرها صعب
المنال للسارقين؟ أنها تحفظ كنزها عاليًا ولا تسقطه على الأرض. ولنتأمل جمال كرم
العنب ورائحة السروّ المنعشة وثمرة ال
mystle حلوة المذاق. ويمكن أن نفهم كيف تشير هذه الأمثلة إلى الحياة
الفضيلة، لو نظرنا إليها على أنها كناية عن الطهر والخير والبركة.

لذلك فالحديقة
المُعتنى بها يانعة بهذه الأشجار. إنها محمية من كل جوانبها بسياج الوصايا، حتى لا
يقتحمها اللصوص أو الحيوانات المتوحشة. هي محاطة بحماية الوصايا ولا يمكن أن
يفسدها الخنزير من الوعر ويرعاها وحسن البرية. (مز 80: 13). إذا حفظ شخص حديقته،
يُصبح أختًا وعروسًا لمن يقول، "أختي العروس جنة مغلقة".

تحتاج هذه الجنة
إلى ينبوع لكي تظل يانعة ومروية على الدوام. لذلك يُضيف العريس ينبوعًا في تمجيد
عروسه قائلاً: "عين مقفلة مختوم" [ع12]. ويعلمنا كتاب الأمثال عن
هذا الينبوع: "لتكن لك وحدك وليس لأجانب معك" (أم 5: 17). ويشهد النشيد
على ذلك بقوله "مقفلة" أي محروسة. ويعني هذا، ومن وجهة نظري، وأن فضيلة
تحلينا بالتعقل والمنطق تنمو وتفيض دائمًا. ثم تتحرك حوافز أفكارنا نحو ما هو
مقبول ويساعدنا ذلك في اِكتساب الخير والصلاح. أما إذا حوّل أي شخص أفكاره نحو
الشر فإن فيض المياه ينسكب على الغرباء. وإذا وجهنا عنايتنا لطريق الأشواك الذي
ترونه الأفكار الشريرة فإن النباتات الجيدة تجف وتذوي لأن جذورها لا تنضج عليها
مياه الأفكار الطيبة. تُخيف الأختام اللصوص وتمنعهم من اِقتحام الأماكن المختومة،
وهكذا تحميها منهم وكل ما لا يُسرق يبقى محفوظًا لصاحبه. لذلك يشهد تمجيد النشيد
للعروس بامتيازها في الفضيلة لأن عقلها بقي سليمًا من الأعداء ومحروسًا لسيدها في
النقاء والهدوء. يختم النقاء هذا الينبوع طالما كان قلب العروس يشع بالشفافية، ولم
يخيِّم عليه لوشاية الأفكار الشريرة. دعنا نوضح هذا كما يلى: إن صفات نفوسنا هي في
الحقيقة مميزات خاصة بنا. وقد نقتني أشياء خارجية خاصة بأجسادنا. هل يوجد تشابه
بين الطبيعة الروحية والمادة؟. ينصحنا كتاب الأمثال أن لا ندع ينبوع أفكارنا يضيع
هباء على ما هو غريب عن أرواحنا أي ما يخص الجسد، بل نحوله إلى حديقتنا، ونرى به
نباتات الله التي توجد في الفكر نفوسنا والتي تبقى مختومة، إذ تفيض خارجًا، تختم
بختم الحق وتتشكل خلال الميل الفطري للخير.

دعنا نحوّل اِنتباهنا
إلى ما يتلو من تمجيد، "أغراسك فردوس رمان مع أغراس نفيسة فاغية وناردين.
ناردين وكركم. قصب الذريرة وقرفة مع كل عود اللبان. مرّ وعود مع كل أنفس الأطياب.
ينبوع جنات بئر مياه حية وسيول من لبنان
" [ع13-15]. تمجد هذه الكلمات
الرائعة الله في علاه. ماذا تعنيه هذه الآيات؟ يعرف القديس بولس وحده كيف يُعبر عن
أسرار الروح القدس (1 كو 14: 1). كيف تكون العروس فردوس رمان؟ كيف تأتي الفاكهة
االتوتية المختارة من الرومان؟ كيف تكوّن الفاكهة التوتية المختارة العديد من
الروائح العطرة والتوابل؟

يوجد في الفاكهة
التوتية المختارة السروّ والناردين والكركم. وقصب الذريرة والقرفة مع كل أنفس
الأطياب من لبنان. ثم تمدح الحديقة وتسمى ينبوع الحدائق، وهي حية وتفيض مياه من
لبنان. فإذا كانت الحقائق التي تكلمنا عنها في السابق حقيقة فإنها تمكننا من البحث
عن العمق والغنى والحكمة ومعرفة الله (رو 11: 33). سنتخذ كلمة الله المقدسة كمرشد
لنا لفهم محتوى هذا النص حتى لا يفوتنا أيّا من معانيها العظيمة. توجد جميع مفردات
التمجيد التي ذُكرت في السابق والتي أُضيفت حاليًا إلى مديح العروس، وتعطيها قوة
حتى يرتفع قلبها إلى أعلى، أي إلى المكان الذي يُرمز إليه "بالأخت
والعريس" لكلمة الله. وتربط كل هذه التعبيرات النفس كالعروس إلى عريسها. وحسب
القديس بولس (أف 5: 23) تُعتبر النفس جسد واحد عندما ترتبط بعريسها الغير قابل
للفساد بينما يُشير الإنجيل للإرادة إذ تحفز النفوس إلى روح المحبة والإخاء. ثم
يمدح ثديي العروس التي تقدم الخمر بدلاً من اللبن، ويتضح أن هذا المديح يخص الإنتاج،
لأنه لا يُمدح من لا يُنتج.

يُصنِّف عطر
العروس كأحسن أنواع العطور ولا تُصنِّف العروس بأن لها هذا العطر، إلاّ إذا كانت
تسعى جاهدة في التقدم في عمل الخير. ثم يُقارن قرص العسل بكلام العروس الذي يخرج
من فمها، وتجهز الحكمة خليط اللبن والعسل الذي يوجد أسفل لسانها. وليست هذه كلمات
ولكنها قوة، لأن كلمة الله يقود العروس لكي تصل إلى مستويات أعلى حتى يصبح فمها
ينبوع العسل ولسانها بيت الكنز، المختلط بالحكمة. حيث تفكر بعمق في أرض الموعد
التي تفيض لبنًا وعسلاً (تث 6: 3). وعندما يرفع كلمة الله عروسه إلى هذا المستوى
من خلال صعودها إلى أعلى، يقودها إلى مستوى اسمي من ذلك قائلاً أن ملابسها لها
رائحة خليط الأعشاب العطرة والبخور. يشهد الإنجيل أن المسيح له هذه الرائحة العطرة
(أنظر غلا 3: 27، رو 13: 41). تصل الحياة الفاضلة في النهاية إلى الشركة مع الله
لأن رائحة خليط الأعشاب العطرة والبخور هي مظهر القداسة. لا يقود كلمة الله النفس
دائمًا إلى أعلى بواسطة اللبن والعسل، ولكن بعد مقارنة النفس برائحة خليط الأعشاب
العطرة والبخور، تصبح الحديقة (النفس) صورة من الفردوس. وحراستها ليست بسيطة كما
كان الحال مع جدودنا الأوائل لكنها محمية من كل ناحية بواسطة حفظ وصايا العريس.

هل ترى الآن قدرة
العروس على الصعود إلى أعلى؟ اَرني مرة أخرى الخطوة التي تلي هذه المرحلة.
فالحديقة التي تحمل ثمارها المفرحة محوّطة ومحمية كما أنها أيضًا تحولت إلى نبع
ماء صالح للشرب ومختوم، ولكن العروس لا تتكون من هذه العناصر، لأنها تُسرع إلى
الوصول إلى شيء أعظم، وهو حديقة مزهرة من فمها. فإذا قرأنا النص العبري بتدقيق نجد
أنه يعني الآتي: الفروع المزهرة الخارجة من فمك هي حديقة رمان. كلمة
"الرائحة" الخارجة من فمك هي حديقة رمان. تحمل شجرة الرمان كل نوع من
الفاكهة: سروّ بالناردين، كركم، قصب الذريرة والقرفة وكل نوع من الأطياب من لبنان
ومرّ، وعود وأحسن الأطياب. لذلك فبمساعدة الله وحسب النعمة الموجودة بالمز تضع
العروس درجات الترفي هذه في قلبها متدرجة من قوة إلى قوة (مز 84: 6-7). يُعرف ما
يصدر من فم العروس عند مرحلة كاملة من تقدمها. ويستعمل النص التعبير
"يصدر" لكي يوضح الهدف الآتي: إن أي شيء يُرسل يصل إلى أيادي الواحد
الذي يستقبله. يُعلمنا الرسول أن التلاميذ أُرسلوا لكي يبشروا بالحق وسمَّاهم كلمة
الله بالرسل (لو 6: 13)، ما الذي يصدر إذن من فم العروس؟ يتضح أن كلمة الإيمان
تُصبح حديقة تنبت في قلوب الذين يتقبلونها. ويُسمى البستان الذي تنموا فيه أشجارًا
كثيرة، بالحديقة.

لكي نعرف النباتات
التي يزرعها كلمة الله في المؤمنين يسمي النشيد هذه بأشجار الرمان. وتصدر هذه من
فم العروس. يصعب سرقة فاكهة الرومان لأن فروع الشجرة تحمل أشواكًا حادة. وتحاط
الفاكهة بغطاء سميك يصعب تمزيقه كما أن مذاقه مُرّ. وعندما ينضج الرومان في الوقت
المناسب، يتمزق الغطاء الخارجي ويكتشف عما بداخله من فاكهة حلوة المذاق وجذابة
للنظر وتقرب من العسل في حلاوتها، وتشبه عصارتها الخمر في مذاقها ومبهجة لبلعها. إني
اَفتكر أن ما تصدره العروس من فمها هو "حديقة رومان" موجودة في نفوس من
يستمعون لها. لذلك يلزم أن نهتم ونعي كلمات العروس ولا نضعف ونشبع رغبات ومسرات
هذه الحياة بل يجب أن نختار الحياة المنضبطة والتي يمكن بها أن نجابه الصعوبات.
لذلك لا يمكن للصوص أن يحصلوا على ثمرة الفضيلة لأنها محمية بالغطاء المرّ لضبط
النفس. ومحاطة بطريقة حياة حازمة وجادة، وتطرد بعيدًا كل من يحاول الاقتراب من
الثمرة بوازع شرير وكأن لها أشواك حادة.

وعندما يقترب موسم
التمتع بمذاق الرومان يُقدم لنا نوعًا آخر من الفاكهة لنُسرّ به تُنتجه أشجار أخرى،
ليست برقوقًا أو بلحًا أو أي فاكهة أخرى للتمتع بها، ولكن أنواعًا عدة من الأطياب
فيُخلط السوّ بإبداع مع النارد: أحدهما دافئ بينما الآخر ذا رائحة عطرة. لا يُمدح
الدفئ إذا سببت حرارته رائحة غير مقبولة. ولكن يلزم للطهارة أن تساعد الدفئ فتشهد
أننا على نار مع الروح، وأننا تطرنا من كل نوع ردئ من الدفئ.

ويوجد بين ثمار
العروس أنواعًا أخرى من العطور مثل النارد والكركم، ويبقى لنا أن نتكلم عن رمز
الكركم. ومن يعرف هذه الزهرة يحكم أنها لا توحي بالحرارة أو البرودة. أنها تتفادى
المبالغة في كل ناحية، ولكن عندها القدرة على تخفيف الألم. ويوضح النشيد بأنه
يُعلم بطريقة سريّة عن الفضيلة بواسطة الكركم ويظهر أن كل فضيلة تقع بين شرِّين:
نقص أو فيض الأ في الخير. مثال ذلك يمكن ملاحظة أن الشجاعة والكرم، كأنهما توجدان
بين الجبن والمغامرة بينما تقع صفة الكرم بين البخل والتبذير. ويعتبر الجبن والبخل
نقائض بالنسبة لمستوى الخلق العادي ولذلك فهي شر. ويتبع التبذير والتهور، الزيادة
عن المعدل والكثرة الفائضة، بينما يُعتبر المتوسط بينهما من الفضائل. لذلك يتبع
الكركم الفضيلة كما جاء في النشيد وذلك لقوته على تعديل وتجنب الزيادة أو النقصان
في الفضيلة.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس الكتاب الشريف عهد قديم سفر التكوين 31

يظهر هذا التوضيح
مناسبًا، لذلك أقول أن سرّ الكركم يشير بصدق إلى إيماننا. وهذه الزهرة، ذات الورقه
الخارجية واللون المعتم، هي في الحقيقة ثلاثة زهور، فالزهرة الخارجية لونها معتم،
وعندما تسقط البتلات التي تحيط بها تظهر ثلاث زهرات تُستخدم في العلاج الطبي.
وتتشابه هذه الزهرات المختفية تحت البتلات في الحجم والرائحة والجمال والخواص.
فلونها جميل ورائحتها عطرة ولها فائدة طبية. ويوجد ثلاث زهرات أخرى صفراء اللون
تشبه الآولى ولكن ليس لها فائدة طبية. وقد يقطف من يجهل هذه الخواص الزهور عديمة
القيمة بدلاً من المفيدة. وبالمثل يبتعد الأشخاص عن الإيمان الحقيقي عندما يختارون
الأخطاء (المزيفة) المختفية بدلاً من التعاليم الصحيحة. ليختار المستمع أحد أو كِلا
التفسيرين حسب حُكمه لأن لكليهما نفس المعنى إذا نظرنا إليها بطريقة معينة، إحداهما
يقترح التكامل في الفضيلة ويوجه الثاني إلى الحصول على الطهارة والقداسة. وفي
الحقيقة لا تختلف الفضيلة عن القداسة.

دعنا الآن نختبر
بقية العطور التي ذكرت في النص: قصب الذريرة والقرفة ومجموعة من الفواكه التوتية.
والأخيرة هي الرمان التي تتبع حديقة العروس. ولقصب الذريرة رائحة أعطر من جميع
الأطياب ويستعمل في ذبيحة الكهنة حسب الوصية (خر 30: 23). تستعمل القرفة في نواحي
عديدة لقوتها الطبيعية ويصعب تصديق بعض اِستعمالاتها ويشير البعض أنه إذا وضعنا
كمية صغيرة من القرفة في ماء يغلي فإنه يبرد في الحال وأيضًا، عندما توضع القرفة
في حمام ساخن فإن الهواء الدافئ يصبح باردًا. ويقال أن للقرفة القوة على تحطيم أي
مركب، يتكون من المادة بعد فسادها وتظهر أن الأمثلة الأخرى التي تقال عن القرفة لا
يمكن تصديقها فقد قيل أنه إذا وضعنا قرفة في فم شخص نائم، فإنه لا يمتنع عن إجابة
سؤال، بل يظل نائمًا ويعطى إجابة واعية وكاملة على السؤال. لا يمكن تأكيد هذه
النتائج إلا بعد عمل تجارب، وإلا يكون من الحمق الاعتقاد في صحة هذه النتائج. وعلى
أي حال فالقرفة تدرج في كتالوج التوتية المختارة، لأن لها أهمية روحية. لا تنمو
القرفة على شجرة الرمان، لا ينمو من فم العروس أي حدائق حقيقية ولكن ذلك له معنى
رمزي، واعتقد أنه لا يجب أن نهمل أي قصص عن القرفة أو أي شيء يتصل بهذا الموضوع.

يمكن أن نفهم مما
سبق أن كل عنصر رمزي يوضح الحياة الكاملة حسب الفضيلة. ويمكننا أن نقول ونعلّم بأن
القرفة توجد بالنفس. عندما يمتلئ الشخص برغبة جامحة أو يحترق بالغضب فإنه يتمكن من
التحكم بالمنطق لكي يُطفئ نار الانفعالات. أنه يشبه إلى حد كبير النوم في هذه
الحياة. فإذا وضعت القرفة، التي تساعد على التيقظ والمنطق، في فمك فإنك سوف تُظهر
بوضوح الصفات التي تحفزها. ويشبه ذلك الملائكة الذين لا ينامون لأنهم دائمًا
قائمين على الحراسة. لذلك فإنك تقول الصدق، وهكذا تقلد الملائكة التي لا تنام
والتي لا تهرب من مواجهة الحق بواسطة خيالات غير واقعية. لذلك يمكن القول أن
القرفة تنفخ في فمك لكي تُطفئ نار الانفعالات وأي غضب يغلي في قلبك، ونتيجة لذلك
يُنقي المنطق والتعقل من الأوهام التي تشبه الأحلام والارتباك في الحياة الحاضرة.
وكل من لا يفهم هذه الحقائق عن القرفة قد يتوهم خطأ في نص النشيد الذي يصف العروس
بكلمات تبدو غير حقيقية (أو واقعية).

يتضمن الكتاب
المقدس الكثير من القصص المأخوذة من مصادر أخرى. ويذكر دون تحفظ الأسماء من القصص
التاريخية حتى يوضح مضمونها، مثل بنات أيوب اللآئي تم مدحهن إلى أقصى حد. وتشير أسماؤهن
العظيمة إلى شيء بديع: وكان اسم الأولى يميمة والثانية قصيعة والثالثة قرن هفوك
(أي 42: 14). ويتضح أن قصة قرن هفوك توجد بالقصص الأغرتعى القديم: حيث كان ماعزها
البري مغرمًا بالماعز الذي كان يعيش في جزيرة كريت والذي فقد قرنه نتيجة لذلك،
وفاضت منه كل أنواع الثمار. هل نصدق ما تقوله المخطوطات عن قرن هفوك؟ كلا
بالتأكيد، ولكن تشير الثمار الناتجة عن الفضيلة كما هو موضح من أسماء بنات أيوب.
ويسمح الكتاب المقدس باستخدام مثل هذه الأسماء الواردة في قصص المخطوطات. ولا نتعلم
من هذه التعبيرات عن المواد العطرة ولا عن مسار الشمس على الأرض: نحن نعلن أن
السلوك الفاضل في هذه الحياة، هو وحدة الذي يعطي معنى الأسماء ويشير اسم قصيعة إلى
النقاء والرائحة العطرة وعلى الصفات اللآزمة للحياة. بينما يرمز اسم يميمة إلى
النهار، وكما يقول القديس بولس: "لأنكم كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور في
الرب" (أف 5: 8). يصبح مديح العروس ذا قيمة عالية بالارتباط مع القرفة ومل
ترمز إليه من نقاء.

يُظهر الشخص
بداخله الصورة المقدسة على الدوام، متى وصل إلى النقاء وحصل على قمة المديح. ويقول
أصحاب الرؤية الصائبة والملاحظة الدقيقة عن هذا النص "ينبوع جنات، بئر مياه
حية وسيول من لبنان" أن غابات لبنان التي يفيح منها رائحة خليط الأعشاب
العطرة والبخور ليست نوعًا واحدًا، إذ يوجد أنواع مختلفة من الأشجار وينبوع العطر
حسب نوع الشجر. لذلك فالشخص الذي يتصف بالقداسة في أي ناحية من نواحي حياته يشهد
بجمال غابات لبنان التي تشير إلى الصورة المقدسة.

لا يمكن لأي شخص
أن ينال شركة مجد الرب دون أن يشترك أولاً في الآم السيد المسيح متشبهًا بموته (في
3: 10). لذلك، فسلسلة "عطور" المديح تذكر الفاكهة التوتية للرمان. وبالإضافة
إليها االمرّ والعود وبقية التوابل (العطور) الأساسية. يشترك المرّ والعود في بعض
صفات قبر السيد المسيح، كما يقول الإنجيل المقدس: "وجاء أيضًا نيقوديموس الذي
أتى أولاً إلى يسوع ليلاً وهو حامل مزيج مرٍ وعود مائة منَّا" (يو 19: 39)،
إن الذي دُفن ذاق الموت من أجلنا. تظهر لنا "العطور الأساسية" النقاء
وحياة خالية من السلوك العشوائي المغامر. ويقدم لنا عاموس نقيض ذلك كالآتي:
"الشارِبون من كؤوس الخمر، والذين يدهنون بأفضل الأدهان" (عا 6:6).
ويذكر عاموس قبل ذلك بقليل: "الآكلون خرافًا من الغنم وعجولاً من وسط الصيرة.
الهاذرون مع صوت الرباب المخترعون لأنفسهم الآتي الغناء كداود" (عا 4: 5). لا
تُخلط خمر العنب بالطين ولا يُلوث نقاء رائحة العطر بخلطه بالتوابل. غير أنه كان
على الإسرائيليين أن يؤنَّبوا بواسطة هذه النبوءة لأنهم حملوا الكلمة النقية
المقدسة المصفاه من كل الرواسب. وكان لديهم عطر التوابل النقي وتمتعوا بالاحتفالات
الروحية في جميع العصور، وبالرغم من ذلك لم يرفضوا الاشتراك في الشرور. فغيروا
الخمر الصافية إلى فضلات معكرة ونقاء العطور الأساسية إلى خليط ضار من الأفكار
الشريرة. ولكن ينسب النشيد الشريعة النقية غير المزيفة إلى العروس لأنها أنتجت
"العطور الأساسية".

لا تبقى العروس
هنا، إنها لم تصل بعد إلى ما هو أعلى، ولم يُشير النص على صعودها، ولكن يصدر من فم
العروس رمان وحدائق للأعشاب العطرة (التوابل). لقد أصبحت الآن ينبوع يفيض منها
ويرى الحدائق. نحن لم نتعلم ذلك مثل ما حدث لبولس وأبلوس، إحداهما زرع والآخر رَوَى
(1 كو 3: 6)، فكلاهما استخدم زراعة وريّ العروس الحدائق. قد يحتوي تمجيد العروس
على شيء اسمي. يقول النص أن العروس هي النبع الذي لا يفيض مع النهيرات، ولكن يفيض
بحدائق، لذلك عمل الرسول المقدس "الحدائق الحية" الذي عاش بينهم وعمل
حديقة الكنيسة التي ارتفعت من خلال عظاته.

بعد ذلك يرفع
النشيد العروس إلى أعلى قمة للمجد، مُضفيًا عليها اسم ينبوع المياه الحيّة
المتدفقة من لبنان. لقد تعلمنا من الكتاب المقدس عن طبيعة الله المعطية للحياة
كنبوءة من شخص الله تقول: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة" (إر 2: 13).
ثم يقول السيد المسيح للمرأة السامرية: "أجاب يسوع وقال لها، لو كنت تعلمين عطية
الله ومن هو الذي يقول لك اِعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيّا" (يو 4:
10). ثم قال: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري
من بطنه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن
يقبلوه" (يو 7: 37-39). تقول كل من هذه الفقرات أن الماء الحي هو الطبيعة
المقدسة، لذلك جاء للنشيد أن يسمي العروس بصدق بئر ماء حي يفيض من لبنان. هذا في
الحقيقة يتعارض مع ما هو معروف فجميع الآبار تحتوي مياه ساكنة، والعروس فقط عندها
مياه جارية في بئر عميق ومياهها تفيض باِستمرار. من يتمكن ويستحق أن يفهم العجائب الممنوحة
للعروس؟ يتضح أنها قد وصلت إلى أقصى ما تتمناه فقد قورنت بالجمال الأبدي الذي منه
نشأ كل جمال. وفي نبعها تشبه نبع عريسها تمامًا، وحياته بحياتها وماؤه بمائها. إن
كلمة حي وبه تحيا كل نفس تستقبله. هذه المياه تفيض من الله كما يقول ينبوع المياه
الحيّة: "لأني خرجت من قبل الله وأتيت" (يو 8: 42). تحفظ العروس فيض
ماؤه الحي في بئر نفسها وتصبح بيت كنز لهذه المياه الحيّة التي تفيض من لبنان أي
التي تكوّن سيول من لبنان، كما يقول النص. لقد أصبحنا في شركة مع الله بامتلاكنا
هذه البئر حتى نحقق وصية الحكمة (أم 5: 17-18)، ونشرب مياها من بئرنا وليست من بئر
آخر. نعمل هذا في المسيح ربنا له المجد والعظمة إلى الأبد آمين.

 

 



العظة
العاشرة

تحتوي كلمات
النشيد المقدسة بعض الأفكار المخفية وكأن عليها نقاب سميك تختفي وراءه فتبدوا صعبة
في الفهم. لذلك يلزم أن نوجه اِهتمامًا كبيرا للنص. وفي الحقيقة نحن نحتاج مساعدة
من خلال الصلاة وقيادة الروح القدس حتى لا تضيع منا المعاني مثل من يتطلع إلى
معرفة أسرار النجوم. فعندما نتطلع إلى جمال النجوم البعيدة لا نعرف كيف خُلقت
ولكننا نتمتع بجمالها ونتعجب للمعانها وأوضاعها في السماء. تضيء بعض النجوم التي
ذكرت في الكتاب المقدس وتتلألأ وتملأ عينا النفس بالضياء، كما يقول النبي:
"لأنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض" (مز 103: 11). فإذا كان هذا مكان
صعود نفوسنا، كما في مثال إيليا حيث تخطف عقولنا إلى أعلى في المركبة النارية (2 مل
2: 11) وترتفع إلى الجمال السماوي. نحن نفهم أن المركبة النارية هي الروح القدس
الذي أتى الله ليمنحها للساكنين على الأرض، على هيئة ألسنة قُسمت على التلاميذ.
سوف لا نيأس من الاقتراب من النجوم، أي من البحث في الأمور المقدسة التي تضيء
نفوسنا بكلمة الله السماوية الروحية.

اُنظر أعلى بعين
نفسك، أنا أكلمك أيها المستمع بنفس صوت الله الذي كلم أبونا إبراهيم (تك 15: 5). اُنظر
إلى السماء وتطلع إلى النجوم وتأمل في سمو ارتفاعها تأمل في سلطة الملكة (أي
العروس) وابحث في قوة أوامرها. إنها تحصل على رغباتها بالصوت الحقيقي لمن أعطى
الوعود أنه "الله" الأمين القادر المعطي الذي عيّنه الآب على جميع؟؟؟
(لو 12: 42). وبعدما قبلت هذه السلطة، تحكم الملكة الريح بطريقة ملكية، وتوزعها
كما يتراءى لها أنه مناسب، فتأمر ريح الشمال أن تستيقظ وتهب وتنادي ريح الجنوب
بلطف وتحفزها لكي تأتي إليها.

يقول النص: "استيقظي
يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب
" [ع16]. يحمل أن ترتبط هذه الكلمات
بأوامر قائد المائة الذي تعجب منه السيد المسيح. وقد دوّن متى البشير ذلك بقوله:
"لأني أنا أيضًا إنسان تحت سلطان. لي جند تحت يدي. أقول لهذا أذهب فيذهب
ولآخر إيت فيأتي ولعبدي أفعل هذا فيفعل. فلما سمع يسوع تعجب. وقال للذين يتبعون.
الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا" (مت 8: 9-10). وهكذا
فاق إيمان قائد المائة إيمان إسرائيل. لا يظهر لي أنه يجب أن نقارن قائد المائة
بشعب إسرائيل في موضوع الإيمان ولكن إسرائيل نفسه. يشير الكتاب المقدس إلى صراع
يعقوب. "فبقى يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر
عليه ضرب فخذه. فاِنخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال أطلقني لأنه قد طلع
الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني.

فقال له ما اسمك.
فقال يعقوب فقال لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل. لأنك جاهدت مع الله
والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال اَخبرني باسمك. فقال لماذا تسأل عن اسمي. وباركه
هناك" (تك 32: 24-29). اشتبك يعقوب في الصراع ونجا من السقوط بمساعدة الله.
ولم تكن عنده مناعة ضد الصراع لأنه جُرح في فخذه. لقد عمل قائد المائة الذي يتكلم
عنه النص الآن، على تنفيذ إرادة الملك وتذليل كل عقبة ضد رغباته. لذلك يظهر لي أن
قائد المائة يستحق كل إعجاب، لأنه يعطي أوامر لجنوده فيطيعونه ولخَدمه فيقومون بكل
ما يطلب منهم من أعمال. توضح كلمات قائد المائة أنه إذا طرد خادمه فإنه لا يُرجعه
مرة ثانية إلى منزله بل يُعيّن خادمًا آخر بدلاً منه.

اعتقد أن النص
يعلمنا أن العناصر المتضاربة تختلف في طبيعتها ولا يمكن أن توجد في مكان واحد في
نفس الوقت. لا توجد شركة للنور مع الظلمة، كما يقول القديس بولس. (2 كو 6: 14)،
ولكن إذا انسحب كل الظلام يلزم للنور أن يأخذ مكانه، وأيضًا متى أُزيل الشرّ فإن
الفضيلة تأخذ مكانه. وعند ما يتم هذا فإن قوة الجسد لا تتمكن من مقاومة الروح
القدس، فإماتة الجسد تفقده معارضة الروح. فيصبح الجسد وديع الطباع في جميع الظروف
وخادمًا مطيعًا لحكم الروح القدس. فعندما يختفي الجندي الخبيث القاسي وشره، يحل
محله الجندي المسلح بالفضيلة، وهو يلبس درع البرّ على صدره ويحمل سيف الروح القدس
ويحميه سلاح الله الكامل وخوذة الخلاص وترس الإيمان وسيف الروح (أف 6: 14-17).
لذلك يسلك الجسد كخادم للسيد وهو العقل، ويستجيب لكل أوامره في الفضيلة التي تعمل
لخدمة الجسد. ويوضح النص ذلك بقوله أقول لخادمي، اِعمل هذا فينفذه.

هل الكلام السابق
متمم للكلام اللاحق؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

دعنا نوجه اِهتمامنا
إلى الطريقة التي تجعل بها الملكة ريح الشمال يبتعد عنها ثم يرجع إليها. إنها لا
تأمره أن يسكن كما أمر السيد المسيح العاصفة أن تهدأ عندما كان سائرًا على المياه
(لو 8: 23-24) ولكنها أمرت ريح الجنوب أن تهب وأن لا تعترضها أي ريح معاكسة قالت
لريح الشمال "استيقظي" ما هو السبب في حركة هذه الرياح؟ تتكلم الأمثال
عن هذه الرياح: "من يخبئها يخبئ الريح ويمينة تقبض على الزيت" (أم 27:
16) ولكن لا تهب ريح الشمال عن يمين الشخص في اِتجاه الغروب، مشرفة خلفه. وحركة
الشمس في اِتجاه الغروب. أنت تفهم حقيقة ما تحتويه هذه الكلمات من أسرار: تشرق
الشمس من الشرق وتسرع نحو الغروب أي ناحية قوى الظلمة، يقع الشمال على يمين الشمس
ويستقبل إهانات أثناء رحلته التي تنتهي في الظلمة. لذلك يجد الشخص الغير منضبط
نفسه كأنه ريح الشمال يسلك ويعمل أعمالاً مشينة. هذه الريح الشريرة على اليمين
تمتلئ طمعًا عندما ترفع أكوامًا من الأشياء المالية، كأنها رمل أو تراب، ونتيجة
لهذا فإن ريح الشمال تتعاون مع أخطاء كل شخص وتهبّ على جانبيه الأيمن ولكن إذا
كانت هذه الريح شديدة جدًا فإنها تغيّر وتقلب الأمور وتزيل متعة الفرح، لذلك تجعل
العروس ريح الشمال التي تأتي قوتها من الأهواء أن تهرب تحت مسئوليتها: "اِستيقظي
يا ريح الشمال".

تشير ريح الشمال
إلى القوى المضادة (لله)، ويظهر هذا بوضوح لأي شخص يبحث في طبيعة الحق المرئي فمن
لا يدري بمسار الشمس بعد شروقها؟ أنها تظهر وكأنها تتحرك نحو الجنوب وتغرب في
الغرب. ويقول الخبراء أن الأرض كرويّة، فإذا أضيء نصف الأرض بالشمس يكون النصف
المقابل له مظلمًا لوقوعه في منطقة ظل الأرض. ولما كان القطب الشمالي للأرض باردًا
باِستمرار ولا تدفئه أو تضيئه أشعة الشمس، فإن القوة المتحكمة في الظلمة تُحجز
النفوس وتجعلها جامدة، يسمي النشيد هذا التجمد، "الشمال" أي تأثير ظلام
الشتاء. إني أُسميه الشتاء الذي أشار إليه الإنجيل قائلاً: "وصلوا لكي لا يكون
هربكم في الشتاء" (مت 24: 20). وفي الشتاء تنطفئ الصفات المزدهرة حسب
الفضيلة.

أصابت الملكة
حينما أمرت بسلطانها دفع ريح الشمال بعيدًا. ونادت على ريح منتصف النهار الدافئ
الذي تسميه ريح الجنوب، وبواسطته يفيض تيار جارف من السرور: "تعالي يا ريح
الجنوب، هبِّي على جنتي فتقطر أطيابها". وتشبِه هذه الريح القوية التي سُميت
في العلية عندما كان التلاميذ فيها (أع 2:2) "وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها
من نار، واستقرت على كل واحد منهم". وكأنهم نباتات حية تساعد هذه الريح حديقة
الله على إنتاج الأعشاب العطرة، وتصدر نبوءات يفوح منها روائح ذكية ووصايا الخلاص للإيمان
بفم الرسل ويخرج منها عطر تعاليمهم بكل اللغات. لقد جعلت ريح الجنوب هذه تعاليم المائة
والعشرين رسولاً الذين كانوا نابتين في بيت الرب تفيض على كل أمم الأرض (أع 1: 15).

تقول العروس الآن
لريح الجنوب "هبِّي على جنتي"، لأن عريسها جعلها أمًا للحدائق: ويشمل
النص حدائق وينبوع. من أجل هذا يرغب العريس لحديقته، الكنيسة، التي تمتلئ بالأشجار
الحيّة، أن تهب عليها هذه الريح، لكي تحمل منها روائح عطورها. ويقول النبي:
"الريح العاصفة الصانعة كلمته" (مز 148: 8). تزينت العروس بزينة الملكة
البهية، وغيّرت النهيرات التي تفيض عطرًا إلى شيء أكثر جمالاً، فجعلتها تفيض من
أشجار الحدائق بواسطة قوة الروح القدس. ويمكننا بهذه الصورة أن نتعلم الفرق بين
العهدين القديم والجديد: يمتلئ نهر النبوة بالمياه بينما تمتلئ أنهار الإنجيل
بالعطر. وكان نهر القديس بولس يحمل رائحة المسيح العطرة، ويفيض من حديقة الكنيسة
بواسطة الروح القدس. والأمثلة الأخرى كيوحنا، ولوقا ومتى ومرقس وجميع الرسل
الآخرين كلهم يرمزون إلى نباتات نبيلة في حديقة العروس، وعندما تهب عليها في منتصف
الظهيرة تصير ريح الجنوب جميعًا ينابيع عطور لرائحة الأناجيل الذكية.

"ليأت حبيبي
إلى جنته ويأكل ثمرة النفيس
" [ع16]. أنه لتعبير جريء من نفس ممتلئة حماسًا وروعة
ترتفع على كل تعجب. من تدعوه العروس لوليمتها التي تتكون من فاكهتها الخاصة؟ لمن
تُجهز العروس ولِيمتها التي أقامتها من مصادرها الخاصة؟ من تدعوه العروس لكي يأكل
مما عرضته؟ "هو الذي منه وبه وله كل الأشياء" (رو 11: 36). أنه يعطي كل
شخص طعامه في حينه (مز 145: 15)، يفتح يده ويملأ كل كائن حي بالنعيم. هو الخبز
النازل من السماء (يو 6: 41)، هو الذي يعطي الحياة للعالم ويجعل المياه تفيض من
نبعه الخاص للحياة. هذا هو الواحد الذي تُرتب العروس له مائدتها. وهي الحديقة التي
تنبت منها أشجار حيّة. ترمز الأشجار إلينا وتُشير أرواحنا المُخلصة إلى الطعام
المُقدم له. وقال لتلاميذه: "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو 4:
32، 34). تتميم إرادة الله المقدسة: "فهو يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى
معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4). فهذا الخلاص هو الغذاء الذي يُجهز له. تعطي
إرادتنا الحرة الثمرة لله وهي أرواحنا، ليقطفها من على غصنها الصغير. تمتعت العروس
في البداية بثمرة التفاح حلوة المذاق قائلة "وثمرته حلوة لحلقي" (نش 2:
3). ثم أصبحت هي نفسها الثمرة الجميلة الحلوة التي قُدمت للراعي ليتمتع بها.

تشير الكلمات "ليأت إلى" إلى إعطاء حرية الاختيار
مثل "ليتقدس اسمك" "ولتكن مشيئتك" وكما توضح هاتان الفقرتان
حرية الاختيار فإن صلاة العروس "ليأت إلى" تشير إلى الله مانح ثمار
الفضيلة وإلى نزول العريس من أجل حبه للبشرية. لا يمكن لنا أن ترتفع إلى أعلى
السماوات بدون أن ينزل هو إلى الودعاء ويرفعهم (مز 147: 6)، لذلك تنادي النفس التي
ترتفع إلى أعلى على الله الذي لا حدود له وتصلي له لكي ينزل من علياء عظمته حتى
يتمكن من يعيشون على الأرض أن يقتربوا منه. وبينما كنت تتكلم يجيب الرب
"هأنذا" (إش 58: 9).

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي