الله صاحب الخاتمة

 

بدأ التبشير بالمسيحية بالتعليم الشفهى. فلما قال الرب لتلاميذه: ” أذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها” (مر45: 16). لم يسلمهم إنجيلاً مكتوبًا على ورق. واستعمل كلمة إنجيل
(
euaggelion
) لا كاسم كتاب، بل حسب معناها العام ” البشرى المفرحة” أى أن ينشروا خبر الخلاص فى العالم أجمع. وجال الرسل فى سائر البلاد يبشرون بالمسيح مخلص العالم.

وجاءت الحاجة للأسفار المكتوبة فى مرحلة تالية فالبعض يريدون سيرة الرب فى الجسد مكتوبة، فيرشد الروح أحد الرسل ليكتب لهم إنجيله. وآخرون يحتاجون لشرح بعض نقاط فتكتب لهم رسالة، ولم يمض وقت طويل حتى كُتبت الأسفار ففى تقدير الكثيرين كتب يعقوب رسالته حوالى سنة 45 ميلادية وهى أقدم كتب العهد الجديد كتابة بينما أحدثها رسالة بطرس الثانية سنة 68م قبل خراب أورشليم سنة 70م وفيما بينهما كُتبت باقى كتب العهد الجديد وبذا يكون جميع العهد الجديد فيما عدا كتابات الرسول يوحنا قد سُجلت خلال فترة لا تزيد عن 35 عامًا منذ بدء الكرازة عقب صعود الرب.

 

ولقد تداولت أسفار العهد الجديد منذ أول وهلة. فالرسول بطرس يقول عن رسائل معلمنا بولس: ” احسبوا أناة ربنا خلاصًا، كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضًا بحسب الحكمة المعطاة له، كما فى الرسائل كلها.. ” (2بط15: 3). ويقول معلمنا بولس لأهل كولوسى ” متى قُرئت عندكم فاجعلوها تُقرأ أيضًا فى كنيسة اللاودكيين، والتى من لاودكية تقرأونها أنتم أيضًا ” (كو16: 4). ومن الطبيعى أن المسيحيين كانوا يتلقفون كتابات العهد الجديد بفرحٍ كبير ويتبادلونها بسرعة فائقة.

 

وفى كتابات الآباء الرسوليين أى الذين عايشوا الآباء الرسل وقادوا الكنيسة فى الجيل التالى لهم أمثال كليمندس الرومانى وبوليكاربوس الأزميرى وأغناطيوس الأنطاكى وهرماس. ففى كتاباتهم نجد اعتمادًا أساسيًا على أسفار العهد الجديد واقتباسات لا حد لها، حتى قال البعض أنه لو فُرض وكان أحد أسفار الكتاب قد ضاع فى طريقه إلينا، لأمكننا أن نعيد كتابته من الاقتباسات الكثيرة الواردة فى كتابات الآباء الأوائل.

 

وكانت الأناجيل ورسائل الرسل تتلى فى اجتماعات العبادة خاصةً عند كسر الخبز، فقد كان يسبق قداس المؤمنين قداس الكلمة أو قداس الموعوظين. وعندما وصف القديس يوستينوس من رجال القرن الثانى ليتورجية الأحد، أوضح أنها تتكون أولاً من قراءات من الأنبياء والرسل والمسيح (الأناجيل) وعظة ثم الإفخارستيا. وكما يقول بابياس ” إن الكلمة المكتوبة قد حلت محل صوت الآباء (أى الآباء الرسل) “. ويحدثنا القديس كليمندس الأسكندرى عن قراءة الكتاب المقدس فى البيت يوميًا قبل الوجبة الرئيسية، بكونه الطعام الروحى الذى لا غنى للنفس عنه، والذى يلزم أن يسبق طعام الجسد. ويُطالب القديس ايرينيموس الأطفال بحفظ المزامير عن ظهر قلب. وفى عظات القديس يوحنا ذهبى الفم نجده شغوفًا أن يتحدث عن الكتاب المقدس كنسيج يتخلل كل تفاصيل الحياة.

 

ونلاحظ فى عظات الآباء أنهم يفترضون فى المؤمنين حفظهم الكثير من نصوص الكتاب المقدس. وقد أدرك المضطهدون ذلك، فلا عجب أن أصدر دقلديانوس سنة 303 م أمره بإبادة الكتب المقدسة لأجل تضييق الخناق على الكنيسة معرفًا إياها أنها ” شعب الكتاب “.

 

وما أن انتصف القرن الثانى حتى ظهرت الترجمات الأولى لهذه الأسفار فظهرت الترجمة اللاتينية وهى قبل الترجمة اللاتينية المعروفة باسم الفولجاتا التى قام بها القديس جيروم فى القرن الرابع والترجمة السريانية والترجمة القبطية وقد قام بها بنتينوس. هذا ويزيد عدد النسخ الخطية القديمة الموجودة لأسفار العهد الجديد، منفردة أو مجتمعة، على أربعة آلاف نسخة سيان على أوراق البردى أو على الرقوق. وهذا العدد من النسخ الخطية هو أكبر ما وصلنا من أى كتاب فى العالم. وباتفاقها جميعًا مع بعضها فى الكلمات والمعانى، يتبين دقة الكتاب الذى فى أيدينا. ثم ظهرت كتبًا تفسيرية مختلفة لبابياس تاتيانوس كليمندس الأسكندرى وأوريجينوس وباسيليوس وكيرلس الكبير ويوحنا ذهبى الفم.

 

فالوحى هو إبلاغ الحق الإلهى للبشر بواسطة البشر، وهو عمل الروح القدس ” لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس ” (2بط23: 1). فالروح القدس يعمل فى أفكار أشخاص مختارين وفى قلوبهم، ويجعلهم أداة للوحى الإلهى، واللفظة ” موحى به ” فى قوله ” كل الكتاب موحى به من الله.. ” (1 تى16: 3) هى نفس اللفظة التى يعبر بها عن التنفس فيكون معناها الحرفى ” متنفس به، أو مستمد نفسه من الله “. ويقول الفيلسوف المسيحى أثيناغوراس




[1]



: “أصوات الأنبياء كتبت ما نحن بصدده هؤلاء الذين نطقوا بما أوحى إليهم، فى غيبة عن الحس سمت بهم فوق عمليات العقل الطبيعية، وذلك بفعل قوة الروح القدس الذى استخدمهم ونفخ فيهم كأنه لاعب ناى ينفخ فى نايه”.

 

ومن هنا علينا أن نفهم أسلوب الأنبياء عندما كانوا يتكلمون ” هكذا يقول الرب “. وبولس يعتقد أنه يتكلم من روح الله (1كو40: 7) ” وأظن أنى أنا أيضًا عندى روح الله “. فالوحى يعنى أن الله هو مصدر الكتاب المقدس، وأن أشخاص الكتاب لم يتكلموا باسمهم الشخصى، ولم يكتبوا من نبع معرفتهم الشخصية، ولم يعلنوا للناس أفكارهم وآرائهم الخاصة، فبولس يشكر الله لأن أهل تسالونيكى لم يقبلوا الكرازة ككلمة بشر ” بل ككلمة الله ” وهذه هى الحقيقة (1تس13: 2).

 

ومع كل هذا فإننا نؤمن فى نفس الوقت أن كلمة الله لم يوحى بها فى حروفها وأشكالها، فالله ليست له لغة بشرية، وكلمته فى جوهرها روح وليست حرفًا. وإنما من أجلنا نحن البشر جاءت الكلمة فى لغة بشرية، تجسمت بلغتنا حتى نستطيع أن نحتك بها وندخل أعماقها هذا ما نادى به الآباء الأولون، نذكر منهم القديس يوحنا ذهبى الفم حيث يقول





[2]




: “أنظر تنازل الكتاب الإلهى: أنظر أى كلمات يستخدمها من أجل ضعفنا؟”.

 

فالكتاب المقدس إلهى لكنه متجسد فى لغة البشر، لهذا استخدمت الكنيسة الأولى النقد التاريخى والأدبى للكتاب وقننته فكانت تتساءل عن قانونية بعض الكتب وتأخذ فى اعتبارها لغته وأفرزت بالروح القدس الكتب المقدسة القانونية وحافظت عليها جيلاً بعد جيل ورفضت الكتب المدسوسة (المزورة). ففى سنة 397م اجتمع المجمع المسيحى فى قرطاجنة وقرر أن الأسفار القانونية للعهد الجديد هى الأسفار السبعة والعشرون التى بين أيدينا اليوم والتى تقبلها الكنيسة المسيحية اليوم بكامل طوائفها. أما الأسفار الأخرى مثل إنجيل يعقوب وإنجيل نيقوديموس وإنجيل الأبيونيين وإنجيل المصريين وإنجيل العبرانيين وإنجيل بطرس وإنجيل توما وإنجيل الطفولة فقد رفضها المجمع.

 

فنقد الكتاب الذى من هذا النوع لم ترذله الكنيسة، بل مارسته كحق لها، ليس بفعل بشرى وإنما بفعل الروح القدس، بينما النقد البشرى لكلمة الله والتحليل الأكاديمى لها فقد رفضته لأنه قاتل للنفس ومفسد للحياة الروحية. ولقد شبه لنا القديس يوحنا ذهبى الفم الكتاب المقدس “بالأنهار التى لا نعرف أعماقها، لكن يكفينا أن نميل ونشرب منها ونرتوى ونبحر فيها عوض أن نفسد أوقاتنا فى قياس أعماقها ونحن نموت ظمأ”.

 

و يُخبرنا معجم اللاهوتى الكتابى: ” يقوم الدين الذي يقدمه لنا الكتاب المقدس على أساس من الوحي التاريخي، الأمر الذي يضعه في مكانة خاصة بين الأديان. فبعض الأديان لا تلجأ إلى الوحي إطلاقاً كالبوذية التي تبدأ من نقطة قيام بشرية محضة، هي إلهام الحكيم بوذا. وتقدم بعض الأديان الأخرى تعاليمها كوحي سماوي، إلا أنها تنسب أمر تسليمها إلى مؤسس أسطوري أو خرافي كهرمس تريسميجستو الذي تنسب إليه مجموعة التعاليم الدينية والفلسفية السرية. على العكس من ذلك، يبدو الوحي في الكتاب المقدس أنه حقيقة تاريخية يمكننا التحقق منها، بمعرفتنا وسطاءه الذين حُفظت لنا أقوالهم، سواء أكان مباشرة، أم عن طريق تراثّ راسخ. ويشترك القرآن فيما يبدو، في التمتع بمثل هذه الصفات.

 

إنه بغض النظر عن العلامات التي تؤكد حقيقة وحي الكتاب المقدس، نراه لا يستند على تعليم مؤسس واحد بعينه، بل ينمو نمواً مطرداً خلال خمسة عسر أو عشرين قرناً، قبل أن يصل إلى ملئه في ظهور المسيح الذي هو صاحب الوحي الأساسي. فالإيمان إذن بالنسبة إلى المسيحي يعني قبول هذا الوحي الذي يصل إلى البشر محمولاً على أجنحة التاريخ.

 

يمكن للمرء أن يتساءل عن ضرورة هذا الوحي. ذلك يرجع إلى أن الله يعلو على كلّ أفكار وكلمات الإنسان (أيوب 42: 3)، فهو إله متحجب (إشعيا 45: 15)، وبالتالي أعظم من أن يستقصى، ولاسيما بعد ما أفقدت الخطيئة الإنسان كل ألفة معه. وتدبيره سرّ” يخفى عن أعين البشر (راجع عاموس 3: 7). “من الرب خطوات الرجل أما الإنسان فكيف يفهم طريقه ” (أمثال 20: 24). وفي محاولات الإنسان لاكتشاف سر وجوده (راجع مزمور 73: 21- 22)، لا يمكنه أن يصل من تلقاء ذاته إلى وضوح الرؤية، فلا بد له أن يحوّل أنظاره إلى من بيده “الخفايا” (تثنية 29: 29)، لكي يكشف له أسراره العسيرة الإدراك (راجع دانيال 2: 17- 18)، و”يريه مجده ” (خروج 33: 18). إلا أن الله قبل أن يلجأ الإنسان إليه، يأخذ المبادرة ويبدأ بالتكلّم معه.”

 

فالوحي فائق الطبيعة، فإن ما يعمله الله باستعمال وسائط طبيعية ثانوية يسمى «طبيعياً» وما يعمله بإجراء قوته رأساً بدون استعمال وسائط ثانوية يسمى «فائق الطبيعة» ومنه الوحي، لأن الوحي لم ينشأ عن علم الإنسان ولا عن استعداده الطبيعي ولا عن أحواله الخارجية، بل عن فعل الروح القدس فيه رأساً لغاية معلومة. ولذلك يمتاز الوحي عن أعمال عناية الله العامة الجارية دائماً، كما يختلف عن فعل النعمة الإلهية في قلوب المؤمنين لإنارتهم وتجديدهم وتقديسهم بواسطة الروح القدس. ونجد الاختلاف في أن الذين أُوحي إليهم قليلو العدد ومختارون ومفرَزون لذلك. وأما الذين أُنيروا وتجددوا بالروح القدس فهم كل المؤمنين الحقيقيين، الذين أنارهم الله وأرشدهم وقدسهم في قبول الحق المُعلن، لا بكشف حقائق جديدة لهم غير معلنة في الكتاب المقدس، أي مجرد مساعدتهم على إدراك ما في الأسفار الإلهية من التعليم. وأيضاً في أن الوحي يجعل الموحَى إليهم معلّمين معصومين، ولكن ليس من الضرورة أن يقدسهم، مثل بلعام الذي أُوحي إليه رغم عدم قداسته، وكذلك شاول (1صم 10: 10، 11) وقيافا (يو 11: 51). وأما الإنارة فمن وسائط التقديس.

 

يمتاز الوحي في عُرف اللاهوتيين عن الإعلان، لأن الإعلان هو كشف حقٍ إلهي لعقل النبي مباشرةً، لا يقدر أن يعرفه بطريقة أخرى. والوحي هو إرشاد الروح للنبي إرشاداً خاصاً يجعله قادراً أن يبيّن الحق بدون خطأ. فغاية الوحي هي حفظ الموحَى إليه من الخطأ في القول والكتابة. وغاية الإعلان تبليغ المُعلَن له بما هو مجهول عنده. فالوحي يعمُّ كل ما كُتب عن يد صاحبه للإرشاد الديني، سواء كان تعليماً أم خبراً أم نصيحة أم توبيخاً أم نشر ما أُعلن له عن المستقبل. وأما الإعلان فكشف ما فوق الطبيعة من الأسرار عند الاقتضاء فقط. ومن الناس مَن كان له الأمران معاً كموسى وبولس ويوحنا، ومنهم مَن كان له واحد منهما كبعض كتبة الأسفار المقدسة ولا سيما أسفار العهد القديم الذين أُوحي إليهم دون إعلان لعدم حاجتهم إليه، ومثل لوقا الذي لم يعرف ما كتبه بواسطة الإعلان بل من الذين «كانوا من البدء معاينين وخدَّاماً للكلمة» (لو 1: 2). فكل إعلان وحيٌ، وليس كل وحي إعلاناً.

 

كان المُوحى إليهم آلاتٍ في يد الله، بمعنى أن ما علَّموه أو كتبوه هو تعليم الله. فلم يغيرّ الله طبيعتهم، ولا قادهم بطريقة تخالف قواهم الطبيعية، لأن الذين استعملهم آلات في يده استعملهم دائماً حسب طبيعتهم، سواء كانوا ملائكة أو بشراً، كما استعمل العناصر. والخلاصة أنه لم يكن كتبة الكتاب عند قبولهم الوحي بدون حسّ أو عقل، ولا كانوا في يد الروح كآلات ميكانيكية أو كأقلام كتب بها الروح كيفما شاء، بل تكلّموا مسوقين من الروح القدس كآلات حيَّة ناطقة عاقلة ذات إرادة مسترشدة بروح الله، لم يوقف الروح قواهم أثناء وحيه لهم، ولا نزع ما امتاز به أحدهم عن الآخر من المواهب. فالعاميّ منهم تكلم كلام العاميّ كعاموس، والعالِم تكلم بكلام العالِم كموسى، وذو العواطف الرقيقة ومحبّ التأمل كتب حسب طبيعته كيوحنا، وذو العقل المنطقيّ تكلم كلام المنطقي وأورد الأدلة المنطقية كبولس. فكتب كل منهم حسب قدراته العقلية. لذلك نرى في جميع الأسفار المقدسة ما يدل على صفات كتبتها كأنهم لم يكونوا تحت سلطان الوحي، ومع كل ذلك كانوا آلات حقيقية في يد الروح القدس. لقد نالوا مساعدة الروح القدس وإنارته بحضوره في عقولهم على الدوام وإرشاده لأفكارهم حتى تمكّنوا من النطق بالحق الإلهي تماماً. ومع ذلك لم يخسروا شيئاً من صفاتهم الخاصة ومواهبهم الشخصية التي ميّزت أحدهم عن الآخر.

 

كانت العناية الإلهية دائماً تُجهز ما يلزم من الأمور الخارجية لكتابة الأسفار المقدسة، فكانت الوسائط الطبيعة تشترك مع التي هي فائقة الطبيعة. فقد أعدَّت عناية الله في الأوقات المناسبة أشخاصاً من أهل الصفات والمعرفة والاختبار التي تؤهلهم لعملهم كموسى وداود وإشعياء وبولس ويوحنا. ثم أعطاهم الله موهبة الوحي وعمل المعجزات حسب الاقتضاء





[3]




.

 

إننا من هنا نفهم ان صاحب السفر لا دور له مُطلقا فى إعتبار السفر وحى من الله ام لا، بل إن الوحى ذاته قادر على إثبات نفسه وحياً من الله دون الحاجة الى معرفة من هو الكاتب؟ من هو المُؤلف؟ ان كل هذا لا يُؤثر على عظمة المكتوب، كأن يكون لدينا نظرية رياضية قوية جدا وحسمت اموراُ كثيرة مُختلف بها، فهل معرفة الكاتب اكليدس ام فيثاغورس سيُؤثر على عظمة هذه النظرية؟ بالتأكيد لا، بل حتى لو لم نعلم من هو الكاتب تماما ولم نجد أية إحتمالات فإن قوة النظرية ستبقى، قوة الخاتمة ستبقى، قوة القيامة ستبقى، قوة الصعود ستبقى!!!

 

تسلمت الكنيسة انجيل مرقس متضمناً نهايته الطويلة وشهد بهذا آباء الكنيسة وحتى الكتب الأبوكريفية استقت منها وقد عرضنا هذا سابقا فى محور حديثنا على دور الآباء فى الشهادة للخاتمة الطويلة ضمن عرضنا للبرهان الخارجى لخاتمة مرقس!

 

فقد نشأت كنيسة العهد الجديد وانتشرت، كما هو واضح من شهادة أسفار العهد الجديد، بفعل الكرازة الشفهية في جهات عديدة، وقبل أن تكتب هذه الأسفار: “وقال لهم اذهبوا في الأرض كلها، وأعلنوا البشارة للخليقة كلها… فذهب أولئك يبشرون في كل مكان والرب يعينهم…” (مر 16: 15- 19). هذا يعني، أنه كما حدث في العهد القديم، فإن التسليم الشفهي في العهد الجديد، وهو البشارة ذاتها المنقولة شفاها، وجد قبل الكتاب المقدس، لا بل قبل الكنيسة نفسها، إن جاز التعبير، حيث كان هو الواسطة المباشرة لتأسيسها وامتدادها.

 

الرب يسوع المسيح لم يكتب شيئاً، بل كان كانت شخصيته غير المنفصلة عن كلامه وأعماله الإعلان الأعظم عن الله، ولذلك كان الإيمان قائماً بالدرجة الأولى على رؤيته وسماعه، “تعال وأنظر” (يو 1: 46) ثم فيما بعد بقبول شهادة الذين رأوه وسمعوه: “الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به” (1 يو 1: 3).

 

التقليد نشأ قبل الكتاب، لأن الله أراد بحكمته أن يجعل حقائق الإعلان الإلهي تعطى شفاهة لكي يسهل قبولها وتمثلها، لأنه لو أعطيت حقائق الإيمان منذ البداية كتابة لما انتشرت بهذه السهولة والقوة: “الإيمان بالسّماع بينما السماع بكلمة الله” (رو 10: 17).

 

المخلص نفسه أمر رسله أن يكرزوا شفاهة: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به”(متى 28: 19- 20) ولكن بمعنونة الروح القدس الذي سيلبسهم قوة من الأعالي (لوقا 24: 49) وهو روح الحق الذي يمكث معهم ويكون فيهم (يو 14: 17) ويعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله يسوع لهم (يو 14: 26).

 

هكذا لم تكن كتابات الرسل وحدها بالهام الروح القدس بل أيضاً كلامهم المنطوق: “وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة” (1كو 2: 4) “ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس” (1كو 2: 12-13).

 

في الكنيسة الأولى لم تكن هناك ثنائية البتة بين ما كان يحمله الرسل وتلاميذهم من بشارة شفهية حياتية وبين ما سجلوه منها كتابة، فيما بعد، بحسب الاحتياجات الرعائية للكنائس، بصيغة رسائل وأناجيل وأعمال رسل الخ. فكل هذا مع أسفار العهد القديم كان محور تعليم وحياة الكنيسة التي كانت تتسلّمه وتسلّمه بأمانة بمعونة الروح القدس. وحين حاول الهراطقة التلاعب بهذه الأسفار، حذف وإضافة مثل مركيون اول مهرطق فى الكنيسة حاول اضافة وحذف نصوص، حددت الكنيسة بلسان آبائها ومجامعها المحلية أسفار العهد القديم والجديد القانونية، معتمدة في هذا على التسليم الذي عندها مكتوبا كان أم شفهياً.

 

ولم تكتف الكنيسة بكتابة أسفار العهد الجديد، بل تابعت تسجيل بشارتها الحية بلسان رعاتها وآبائها وفنانيها القديسين، ومجامعها المحلية والمسكونية، بمختلف الوسائل المنسجمة مع ظروفها عبر العصور المتلاحقة التي عاشتها كالكتابة نثر وشعراً، والفنون المختلفة كالموسيقى والبناء والتصوير. كذلك لم تتوقف البشارة عن الانتقال بالتسليم الشفوي كالعظات والتعليم والصلوات والأسرار والحياة المشتركة والقدوة الحية، على نمط الكنيسة الأول. كما يشهد بذلك سفر أعمال الرسل: “وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات” (أع 2: 41). وبالطبع فاهم ما أعطته حياة الشركة في الكنيسة هو المسيح نفسه ومواهب الروح القدس، عبر الأسرار الإلهية بالتسليم.

 

يقول القمص عبد المسيح بسيط ابو الخير مُوضحا دور التسليم الشفهى فى كيفية انتقال نصوص الكتاب المقدس





[4]




:

“سلم السيد المسيح تلاميذه ورسله الإنجيل شفاهة ولم يذكر الكتاب أنه كتب سوى مرة واحدة وكان يكتب بإصبعه على الأرض”، وذلك فى حادثة المرأة التى أمسكت فى الزنى، وكلمة إنجيل ذاتها كما بينّا فى الفصل الأول، تعنى بالدرجة الأولى، الأخبار السارة والبشارة المفرحة، بشارة الخلاص الأبدى، أى الكرازة ب “جميع ما أبتدأ يسوع يفعله ويعلم به إلى اليوم الذى أرتفع فيه”. وكانت كرازة الرسل بالأخبار السارة، هى ذاتها الإنجيل، الإنجيل الشفوى “ويكرز ببشارة الملكوت هذه كل المسكونة”. وتوضح الآيات التالية عمل الله فى الرسل فى نشر الإنجيل شفاهة بالتسليم:

 

“الخدمة التى أخذتها من الرب يسوع لأشهد ببشارة نعمة الله”، “وأعرفكم أيها الأخوة بالإنجيل الذى بشرتكم به وقبلتموه وفيه تقومون”، “أن إنجيلنا لم يصر إليكم بالكلام فقط بل بالقوة أيضاً وبالروح القدس”، “أشكر إلهي… لسبب مشاركتكم فى الإنجيل من أول يوم إلى الآن” “هاتين اللتين جاهدتا معى فى الإنجيل مع أكليمندس أيضاً وباقى العاملين معى”، “تيموثاوس أخانا العامل معنا فى إنجيل المسيح”، “ثم أريد أن تعلموا أيها الأخوة أمورى قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل”، “ولدتكم فى المسيح يسوع بالإنجيل”.

 

ولذلك فعندما يقول الرسول “يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلى” و”للقادر أن يثبتك حسب إنجيلى”، يقصد كرازتى، عملى فى حمل البشارة، وعندما يقول “أنى أوتمنت على إنجيل الغرلة كما بطرس على إنجيل الختان”، يقصد كرازته بين الأمم وكرازة بطرس بين اليهود “فإن الذى عمل فى بطرس لرسالة الختان عمل فىّ أيضا للأمم”. انتشر الإنجيل شفاهة فى كل البلاد التى كرز فيها الرسل ولم تكتب الأناجيل المدونة سوى بعد أكثر من خمسة وعشرين سنة من صعود السيد المسيح.

 

وايضا يقول القمص عبد المسيح بسيط





[5]




:

 “آمن الآباء الرسوليُّون، تلاميذ الرسل وخلفاؤهم، ومن بعدهم تلاميذهم وأيضًا خلفاؤهم الذين لُقِّبوا بآباء الكنيسة، خاصَّة المدافعين عن الإيمان القويم (الأرثوذكسي) والعقيدة المسلَّمة مرَّة، بنفس ما آمن به وسلَّمه لهم الرسل، سواء من خلال الكلمة المكتوبة بالروح القدس، العهد الجديد إلي جانب العهد القديم، أو ما سلَّموه لهم شفاهةً، أيّ بالتقليد المسلَّم مرّضة للقدِّيسين كما يقول القدِّيس يهوذا أخو يعقوب بن حلفي بالروح القدس ” الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ ” (يه3)، والذي سلَّمه الرسل لتلاميذهم وخلفائهم بكلِّ دقةٍ وأمانةٍ.

 

 فقد كان تلاميذ المسيح ورسله يسلِّمون الإيمان المسيحيّ لتلاميذهم بكلِّ حرصٍ وأمانةٍ وبكلِّ دقّةٍ، بالروح القدس، ويطلبوا من هؤلاء التلاميذ أنْ يعلِّموا هم أيضًا ويسلِّموا ما تعلَّموه وتسلَّموه لأناسٍ آخرين، أمناء ولهم الكفاءة لتسليمه لآخرين.

 

يقول القدِّيس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس بالروح ” وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاساً أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضاً ” (2تي2/2)، ويحذِّره من الفكر الهرطوقيّ الذي ” يُقَاوِمُ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ، حَسَبَ إِنْجِيلِ مَجْدِ اللهِ الْمُبَارَكِ الَّذِي اؤْتُمِنْتُ أَنَا عَلَيْهِ ” (1تي1/10-11)، ويقول له ” إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُعَلِّمُ تَعْلِيماً آخَرَ، وَلاَ يُوافِقُ كَلِمَاتِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحَةَ، وَالتَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ حَسَبَ التَّقْوَى فَقَدْ تَصَلَّفَ ” (1تي6/3-4)، ” لأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ فِيهِ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ، بَلْ حَسَبَ شَهَوَاتِهِمُ الْخَاصَّةِ يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ (يَقُولُونَ لَهُمْ كَلاَماً يُدَاعِبُ الآذَانَ) ” (2تي 4/3). ويقول له أيضًا، مشدِّدًا ” يَا تِيمُوثَاوُسُ، احْفَظِ الْوَدِيعَةَ، مُعْرِضاً عَنِ الْكَلاَمِ الْبَاطِلِ الدَّنِسِ، وَمُخَالَفَاتِ الْعِلْمِ الْكَاذِبِ الاِسْمِ ” (1تي6/20)، ” اِحْفَظِ الْوَدِيعَةَ الصَّالِحَةَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ السَّاكِنِ فِينَا. ” (2تي 1/14).

 

ويقول لأهل كورنثوس: ” فَأَمْدَحُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ عَلَى أَنَّكُمْ تَذْكُرُونَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَحْفَظُونَ التَّعَالِيمَ كَمَا سَلَّمْتُهَا إِلَيْكُمْ ” (1كو11/2).

 

ويقول لأهل فيلبي: ” وَمَا تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَتَسَلَّمْتُمُوهُ، وَسَمِعْتُمُوهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، فَهَذَا افْعَلُوا، وَإِلَهُ السَّلاَمِ يَكُونُ مَعَكُمْ ” (في4/9).

 

ويقول لتلميذه تيطس أنَّه يجب أنْ يكون الأسقف ” مُلاَزِماً لِلْكَلِمَةِ الصَّادِقَةِ الَّتِي بِحَسَبِ التَّعْلِيمِ، لِكَيْ يَكُونَ قَادِراً أَنْ يَعِظَ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ وَيُوَبِّخَ الْمُنَاقِضِينَ”(تي1/9). ويقول له ” وَأَمَّا أَنْتَ فَتَكَلَّمْ بِمَا يَلِيقُ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ” (تي2/1). ثمَّ يُحذِّره من الهراطقة قائلاً ” اَلرَّجُلُ الْمُبْتَدِعُ بَعْدَ الإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ أَعْرِضْ عَنْهُ. عَالِماً أَنَّ مِثْلَ هَذَا قَدِ انْحَرَفَ، وَهُوَ يُخْطِئُ مَحْكُوماً عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ” (تي3/10-11).

 

كما يًحذِّر من قبول أي تعليم آخر غير الذي استلموه من تلاميذ المسيح ورسله ويقول لهم ” وَلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا». (محرومًا)” (غل1/8).

 

وهكذا سلَّم الرسل ما تسلَّموه من المسيح لتلاميذهم وخلفائهم وسلَّمه تلاميذهم وخلفاؤهم أيضًا للأجيال التالية لهم بكلِّ دقَّةٍ.”

 

و أكد هذا المفهوم، القديس ايريناؤس الشهير بابو التقليد الكنسى فى مُؤلفه ضد الهرطقات موضحاً اهمية التقليد الكنسى فى تسلم العقائد ومن ضمنها الأسفار المقدسة ونصوصها إذ يقول





[6]




: ” رغم أن الكنيسة منتشرة فى كل العالم، منتشرة فى كل المسكونة من أقاصيها إلى أقاصيها، فقد استلمت من الرسل وتلاميذهم الإيمان بإله واحد، الآب ضابط الكل، خالق السماء والأرض والبحار وكل ما فيها؛ والإيمان بالمسيح يسوع الواحد، الذى هو ابن الله، الذى تجسد لأجل خلاصنا؛ والإيمان بالروح القدس الذى أعلن التدبير بواسطة الأنبياء، أى بمجيء المسيح وميلاده العذراوى وآلامه وقيامته من بين الأموات، وصعود ربنا المحبوب المسيح يسوع إلى السماء جسديًا، وظهوره ثانيةً من السماء فى مجد الآب لكى يجمع كل الأشياء فى نفسه ولكى يقيم أجساد كل البشر إلى الحياة، لكى تجثو للمسيح يسوع ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا كل ركبة، بحسب مشيئة الآب غير المنظور، ولكى يعترف كل لسان له، ولكى يجرى دينونة عادلة للجميع ولكى يطرد أرواح الشر والملائكة الذين تعدوا وصاروا مضادين وكذلك الأثمة والأشرار ومخالفى الناموس والدنسين، ويطرح الجميع فى النار الأبدية؛ ولكن فى نعمته سوف يهب الحياة ومكافأة عدم الفساد والمجد الأبدى لأولئك الذين حفظوا وصاياه وثبتوا فى محبته سواء منذ بداية حياتهم أو منذ وقت توبتهم. هذه الكرازة وهذا الإيمان تحفظه الكنيسة باجتهاد رغم أنها مُشتتة فى كل العالم، تحفظه بكل اجتهاد كما لو كانت كلها تسكن فى بيت واحد، وهى تؤمن بهذا وكأن لها عقل واحد وتكرز وتعلّم وكأن لها فم واحد، ورغم أن هناك لغات كثيرة فى العالم، إلاّ أن معنى التقليد واحد، وهو هو نفسه. لأن نفس الإيمان تتمسك به وتسلّمه الكنائس المؤسسة فى ألمانيا، وأسبانيا، وقبائل قوط، وفى الشرق، وفى ليبيا، وفى مصر، وفى المناطق الوسطى من العالم. ولكن كما أن الشمس وهى مخلوقة من الله، هى واحدة، وهى هى نفسها فى كل المسكونة، هكذا أيضًا نور كرازة الحق، الذى يضيء على كل الذين يرغبون أن يحصلوا على معرفة الحق. ولن يستطيع أى واحد من القادة فى الكنائس، مهما كان له موهبة فائقة فى الفصاحة أن يعلّم تعاليم مختلفة عن هذه (لأنه ليس أحد أعظم من الرب والسيد)؛ ومن الجهة الأخرى، فإن مَنْ عنده نقص فى قوة التعبير لن يسبب ضررًا للتقليد. لأن الإيمان هو نفسه على الدوام واحد لا يتغيّر بل يظل هو نفسه كما هو، فلا يستطيع ذلك الشخص الذي يمكنه أن يتحدث عن التقليد حديثًا طويلاً أن يعمل أية إضافة عليه، كما أن الشخص الذى لا يستطيع أن يتكلّم سوى القليل، لا يمكن أن يُنقض منه شيئًا.

 

استودع الرسل فى يدى الكنيسة بفيض كبير جدًا كل الأمور المتصلة “بالحق”، حتى يستطيع كل من يرغب أن يستقى منها “ماء الحياة”.فالكنيسة هى الباب المؤدى إلى الحياة… لذلك ينبغى أن نمسك بكل ما يتصل بالكنيسة بكل اجتهاد، وهكذا نمسك “بتقليد الحق”.

 

فلو افترضنا أنه أُثير جدال بخصوص مسألة هامة عندنا، ألا ينبغى أن نلجأ إلى أقدم الكنائس التى أسسها الرسل، ونعرف منهم، ما هو يقينى وواضح من جهة هذه المسألة التى أمامنا؟ لأنه كيف كان ينبغى أن يكون الحال لو أن الرسل أنفسهم لم يتركوا لنا كتابات. ألا يكون ضروريًا فى هذه الحالة أن نتبع “التقليد” الذى سلّموه لأولئك الذين ائتمنوهم على الكنائس؟

 

وهذا هو المنهج الذى قبلته شعوب كثيرة من بين البرابرة الذين يؤمنون بالمسيح، فهؤلاء إذ كانوا حاصلين على الخلاص مكتوبًا فى قلوبهم بواسطة الروح بدون ورق أو حبر، وهم يحتفظون بالتقليد القديم مؤمنين بالإله الواحد خالق السماء والأرض وكل ما فيها، بالمسيح يسوع، ابن الله، الذى بسبب محبته الفائقة جدًا نحو الخليقة، تنازل ليُولد من العذراء. وبعد أن وحّد الإنسان بالله من خلال نفسه، وبعد أن صُلِب على عهد بيلاطس البنطى، فإنه قام ثانية ورُفع فى المجد، وسوف يأتى ثانيةً بمجد عظيم.

 

وهو مخلِّص الذين خَلِصوا، كما أنه هو ديَّان الذين يُدانون؛ والذين يغيّرون الحق ويحتقرون الاب ومجيء المخلص هؤلاء سيرسلهم إلى النار الأبدية. والذين آمنوا بهذا الإيمان دون أن يقرأوا أية وثائق مكتوبة، هؤلاء من جهة لغتنا هم برابرة، ولكن من جهة العقيدة، والأخلاق، ومعنى الحياة، هم حكماء جدًا فى الحقيقة. وذلك بسبب الإيمان؛ وهم يُرضون الله مدبرين كل سلوكهم بكل بر، وتعفف وحكمة. فلو أن أحدًا حاول أن يكرز لهؤلاء الناس بمبتدعات الهراطقة، مستعملاً لغتهم الخاصة، فإنهم يصمّون آذانهم فى الحال، ويهربون بعيدًا، غير محتملين حتى أن ينصتوا إلى حديث المجدّفين. وهكذا بواسطة تقليد الرسل القديم هذا، فإنه ذهنهم لا يحتمل أن يتصور أى تعليم من التعاليم التى ينادى بها هؤلاء الهراطقة الذين لم تنشأ فى وسطهم لا كنيسة ولا تعليم عقيدى فى أى وقت أبدًا.”.

 

تراجليس بعد ان وصل الى النتيجة النهائية التى يصفها هو بنفسه: “ان الأعداد الأثنى عشر، أيما يكن الكاتب، تحمل بداخلها شهادة كاملة على قبولها كجزء قانونى للإنجيل الثانى، وهذا القبول الكامل للشواهد القديمة لها لا يحوى على الأقل اى رفض منهم للأعداد كجزء ليس من الكتاب القانونى”، يُعلن بقوة وجرأة حكمه على نقطة كاتب الجزء فيقول: “يوجد فى بعض العقول نوع من الجبن تجاه الكتاب المقدس، كما لو ان انطباعتنا الشخصية عن الوحى تعتمد على معرفتنا لمن هو الكاتب لكل جزء مُنفصل، بدلاً من النظر ببساطة الى انها اُعطيت من الله”





[7]




.

 

يا لها من كلمات رائعة حقاً، ها هو العالم المتخصص فى النقد النصى والذى كان احد منافسى تشيندروف فى مجالهم الواحد، يُقر بكل صراحة اننا يجب ان ننظر الى النص انه من الله ولا نتعامل مع الكتاب على انه سجل بشرى لا نثق به ان لم نعرف من هو كاتبه، إننا بحاجة الى قرون طويلة لنتخلص من هذه الثقافة الإسلامية العربية التى غزت فلسفتنا المسيحية…!

 

غير أننا نُؤيد ان كاتب الخاتمة هو مرقس، وقد أيدنا قولنا هذا بالفصل السابق حينما شرحت نظريتى ورؤيتى للخاتمة، كون مرقس هو كاتبها.






[1]




الدفاع، الفصل التاسع





[2]




راجع الأب جورج فلورفسكى ، الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد ، وجهة نظر أرثوذكسية ، تعريب الأب ميشال نجم ، منشورات النور لبنان 1984 ص 19 ـ 43





[3]




علم اللاهوت النظامى، القس جيمس انس، راجعه ونقحه القس منيس عبد النور، إصدار الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة، ص 60، للمزيد انظر : علم اللاهوت الكتابى، جيرهارد فوس، تعريب الدكتور عزت زكى، إصدار دارثة الثقافة 1982، ص 461 – 470





[4]




الإنجيل كيف كُتب؟ وكيف وصل إلينا؟، القمص عبد المسيح بسيط ابو الخير، الطبعة الأولى 1994، ص 82





[5]




هل آمنت الكنيسة الأولى بان المسيح هو الله؟ القمص عبد المسيح بسيط ابو الخير، ص 19 – 21




[7]


An Account Of The Printed Text Of The Greek New Testament
،London 1854
،By Samuel P. Tregelles
،P. 258-259

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي