إيمان قائد المئة بعد صرخة يسوع

(مرقس 15: 39)
وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هَكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ قَالَ: «حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ!»

يقول المعترض: كيف يؤمن قائد المئة أن يسوع إبن الله لمجرد صرخة؟

 

الرد:

فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح

(مرقس 15: 33-39) 33وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ… 37 فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. 38 وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. 39 وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هَكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ قَالَ: «حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ!»

 

يذكر إنجيل مرقس أن قائد المائة الواقف أمام يسوع المصلوب، حين رأى أن الرب يصرخ ” هكذا وأسلم الروح “، قال ” حقًا كان هذا الإنسان ابن الله”.

كيف يؤمن أحد بألوهية الرب لمجرد أنه سمعه يصرخ بصوت عظيم قبل أن يسلم الروح؟

الإنجيليون الثلاثة متى ومرقس ولوقا سجلوا اعتراف قائد المائة مباشرةً بعد موت المسيح. لكن كل واحد سجل اعترافه من زاوية معينة. إذًا قبل أن نجيب على السؤال المطروح على ما ذُكِر في إنجيل مرقس، سوف نستعرض أقوال الثلاثة أناجيل الأخرى لكي نتحقق إن كان حقًا اعتراف قائد المائة يحمل نفس الصعوبة التفسيرية حتى تكون لدينا صورة شاملة عن هذه المسألة.

 

1 بحسب إنجيل متى يظهر يسوع بأنه ” صرخ بصوت عظيم ” (متى 27: 5) حين أسلم الروح. مباشرةً بعد انشقاق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى تحت، صار زلزال وتشققت الصخور (متى 27: 51).

والمثير حقًا هو انفتاح القبور وكثيرون من الأبرار الذين ماتوا قاموا ودخلوا مدينة أورشليم وظهروا لكثيرين (متى 27: 52-53). إذًا قائد المائة مع مجموعة الجنود الذين كانوا يحرسون يسوع ” لما رأوا الزلزلة وما كان خافوا جدًا وقالوا ” حقًا كان هذا ابن الله ” (متى 27: 54).

هكذا سرد الحدث بحسب إنجيل متى لا يُنشئ حيرة للقارئ فيما يخص اعتراف قائد المائة. فقائد المائة وهو يشاهد، هو والحُراس، هذه الأحداث فوق الطبيعية تتزامن مع موت يسوع، كان بالتالي ما حدث لأجل شخص إلهي.

 

2 بحسب إنجيل لوقا، يصرخ المسيح بصوتٍ عظيم قبل أن يسلم الروح. حسنًا يعطي لوقا الإنجيلي محتوى دقيق لهذا الصوت العظيم: ” ونادى يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك أستودع روحي. ولما قال هذا أسلم الروح ” (لوقا 23: 46). مباشرةً بعد موت الرب ” فلما رأى قائد المائة ما كان مجّد الله قائلاً بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا ” (لوقا 23: 47). لم يسجل لوقا، مثل متى، حوادث فوق طبيعية صاحبت موت يسوع، فيما عدا بالطبع الظُلمة (لوقا 23: 44). إن رد فعل قائد المائة الإيجابي من جهة شخص المسيح لم تكن بسبب الظلمة بل نتيجة طريقة موته. الإختلاف عند لوقا عن الإنجيليين الأولين، في أن قائد المائة لم يعترف بأن يسوع كان حقًا “ابن الله” بل إنسان بار، أى كان بريئًا من جهة الإتهامات التي وُجهت إليه. ونتيجة لذلك لا يستحق أن يموت بهذه الطريقة المهينة.

 

أيضًا يذكر لوقا أن كل الموجودين يتفقون على هذه النتيجة حيث كانوا يقرعون على صدورهم وهم راجعون إلى بيوتهم نادمين من أجل موت يسوع (لوقا 23: 28). هكذا ما سجله لوقا كان واضحًا وسهل التفسير. فالمسيح مات بطريقة تُظهِر أنه كان إنسانًا بارًا، وهذا صار مدركًا جدًا من جانب قائد المائة، ومن جانب الجمع الذين ندموا على صلبه، ولا أحد أظهر هنا استنتاج بأن يسوع كان شخص إلهي.

 

على النقيض، ما سجله مرقس به صعوبة تفسيرية. وهنا، مثلما جاء في متى ولوقا، يرى قائد المائة يسوع ” يصرخ بصوت عظيم وأسلم الروح ” (مرقس 15: 37). الإختلاف يرجع إلى أن قائد المائة يستنتج من شدة صوت يسوع أنه ” حقًا كان هذا الإنسان ابن الله ” (مرقس 15: 39). لم يذكر مرقس مثل لوقا حوادث فوق طبيعية مثل الزلزال أو قيامة أشخاص أموات. لقد ذكر فقط أن حجاب الهيكل انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل (مرقس 15: 38). لكن هذا الحدث لا يمكن أن يساهم في تشكيل فكر قائد المائة بأن يسوع ان ابن الله لأنه بالطبع كإنسان وثني لا يُدرك الحدث الذي يحدث على الجلجثة.

 

هكذا كيف أن صراخ الرب الشديد يقود قائد المائة إلى هذا الاعتراف العظيم، في اللحظة التي فيها اليهود العارفون بوعود العهد القديم وشهود للقدرات الإلهية التي حققها أثناء نشاطه العلني، يستهزئون به ويستفزونه بأن ينزل من على الصليب (مرقس 15: 29، 32، 36).

لكي نفهم أهمية صراخ المسيح المقبل على الموت يجب أن نضع في حُسباننا الآتي: إنهاك المصلوبين خاصةً بعد مرور بضعة ساعات فوق الصليب كان إنهاكًا شديدًا. هذا يرجع إلى فقدان كمية كبيرة من الدم أثناء النزيف والألم المستمر وخاصةً في وضع فرد الأيدي المعلقة بواسطة المسامير، ومن جراء ثقل الجسد تُبذل محاولات كبيرة لتستند الأرجل والجسد مُعلّق هكذا. هذا الوضع لا يسمح للمصلوب أن يتنفس بسهولة: الشهيق والزفير. وعندما يُستنزف المصلوب ولا يستطيع أن يسند جسمه على أرجله يأتي الموت من الاختناق. لأجل هذا، في إنجيل يوحنا نقرأ أن الرومان كسروا أرجل اللصين اللذين قد صُلبا مع يسوع لكي يُسرعوا بموتهما حتى يتسنى لهم إنزالهم بأمان من على الصليب (يوحنا 19: 32)، هكذا حرصوا على أن لا تبقى الأجساد معلّقة حتى لا يهينوا قداسة اليوم التالي، الذي تصادف أن يكون يوم السبت وعيد البصخة (يوحنا 19: 31). فإذا كان التنفس للمصلوب في غاية الصعوبة فكم بالحري التحدث الذي كان صعب جدًا، إذًا نستطيع أن نقول إن قائد المائة شاهد أُناس كثيرين صُلِبوا، إذ كان الموت بالصلب، في هذا الوقت، الجزاء المعتاد الذي يفرضه الرؤساء الرومان على مرتكبي الجرائم الذين لم تكن هويتهم رومانية، وبالتأكيد تنفيذ هذا الجزاء كان من نصيب الجنود الرومان. إذًا للمرة الأولى يرى قائد المائة مصلوبًا وإنسان أُستنزف تمامًا وبالكاد يتنفس بصعوبة قبل أن يسلم الروح، يصرخ بصوتٍ عالٍ هكذا. كما لو أنه لا يخضع للنواميس الطبيعية. إذًا صراخ الرب في هذه اللحظة يشهد على قوته وسلطانه. هكذا موت الرب لم يكن بمثابة هزيمة بل نُصرة، إنه تكميل لرسالته الماسيانية لتحقيق خلاص الجنس البشري.

 

إن الكرازة بأن المسيح هو ابن الله خاصةً في إنجيل مرقس لم يُسمع قبل اعتراف قائد المائة إلاّ فقط في بداية الإنجيل من مرقس نفسه (مر1: 1) ومن الشياطين (مرقس 3: 11)، (مرقس 5: 7). والرب نفسه قِبِل لقب “ابن الله ” أثناء التحقيق معه من قِبَل رئيس الكهنة (مرقس 14: 61-62)، الأمر الذي يمثل أيضًا دافع لإدانته بالموت على هذا التجديف.

 

ليست صدفة إذًا أن يكون قائد المائة هو الأول والإنسان الوحيد في إنجيل مرقس الذي يعترف بألوهية المسيح. لم يقل بالطبع أن يسوع هو “ابن الله” بل “ابن إله”. وهذا يتجاوب مع فِكر الأمم عن تعدد الآلهة في ذلك العصر، على أساسها كل إنسان يُظهِر قدرات خاصة يستطيع أن يُدعى “إلهي” ويُعترف به أن أصله إلهي. إذًا قارئ الإنجيل يرى أن القائد الروماني بدون أن يُدرك تمامًا يصيب الهدف بحق معترفًا بألوهية المسيح. هذا الاعتراف هو بمثابة انفتاح الإنجيل على الأمم الذين كانوا على استعداد لقبول كرازة الكنيسة، بينما على النقيض فيما عدا استثناءات اليهود ظلوا في ضلالهم رافضين تمامًا المسيح.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي