الفصل الثالث


البرهان الداخلى

 


اولا: تفاسير لقصة المرأة الزانية

 

تقول دائرة المعارف الكتابية عن انجيل يوحنا:

1- الخطوط العريضة للهجوم والدفاع: لقد تعرض الدليل الخارجي للإنجيل الرابع للنقد، ولكن – قبل كل شئ – تقوم معارضة نسبة كتابة الإنجيل إلي يوحنا وحجيته التاريخية، علي أسس داخلية، فيشدد المعارضون علي التباين الواسع – والمعترف به – في الأسلوب والطبيعة والمنهج، بين الإنجيل الرابع والأناجيل الثلاثة الأولي، وعلي ما يزعمونه من صبغته الفلسفية (عقيدة الكلمة – “اللوجس”)، وعلي أخطاء ومتناقضات مزعومة، وعدم الاضطراد في القصة.. إلخ.

 

أما الدفاع عن الإنجيل فيقوم عادة علي أساس إبراز أهداف الإنجيل المتنوعة، وتفنيدا لمبالغات في الاعتراضات السابق ذكرها، وإثبات أنه بطرق كثيرة، يكشف كاتب الإنجيل عن شخصية، وأنه هو الرسول يوحنا. فقد كان – علي سبيل المثال – يهودياً من سكان فلسطين ملما بطبوغرافية أورشليم.. إلخ، كما كان رسولاً، وشاهد عيان، ” والتلميذ الذي كان يسوع يحبه” (يوحنا 13: 23،20: 2، 21: 20و7)، والشهادة المسجلة فيه (21: 24) من الذين عرفوا الكاتب إبان حياته، لهي شهادة بالغة القيمة في هذا المجال. وبدلاً من تتبع هذه الخطوط المعروفة (انظر في هذا الخصوص: جودت ولوتهاردت، وستكوت، أبوت، دراموند.. إلخ، في مؤلفاتهم السابق ذكرها). سيتجه بحثنا هنا إلي برهان علي أساس دراسة شاملة حديثة.

 

2- افتراضات نقدية لا مبرر لها: إن دراسة كتابات يوحنا بصفة عامة، والإنجيل الرابع بصفة خاصة، قد طرقت بسبل متعددة، ومن وجهات نظر متنوعة. وأحدى أكثر هذه الطرق شيوعاً – في المؤلفات الحديثة – هي التي تزعم أن إنجيل يوحنا هو نتاج الفكر المسيحي حول الحقائق المذكورة في الأناجيل الأخرى، وأن هذه الحقائق قد طورتها خبرة الكنيسة، فهي إذاً تعكس فكر الكنيسة في نهاية القرن الأول أو بداية القرن الثاني – فيفترضون أنه في ذلك الوقت – وقد أصبحت الكنيسة بصفة رئيسية كنيسة من الأمم – قد تأثرت كثيراً بالثقافة اليونانية الرومانية، حتي انعكس هذا علي تاريخها، وهكذا تحول تراثها الأصيل ليتلاءم مع البيئة الجديدة، ويزعمون أننا نرى في الإنجيل الرابع أبلغ عرض لنتائج هذه العملية. ويبدأ بيكون الموضوع بالرسول بولس وتأثيره، ويتابع ذلك حتى يصل إلي القول بقيام مدرسة من اللاهوتيين في أفسس هي التي أخرجت كتابات يوحنا، وأن فكر الكنيسة قد استراح لهذا العرض الجديد للمسيحية (انظر كتابه عن “الإنجيل الرابع بين البحث والحوار”). إن ما يراه هذا النوع من العلماء في الإنجيل الرابع، إنما هو أفكار هيلينية في صيغة عبرية، بعد أن تحولت حقائق الإنجيل لتكون مقبولة عند الفكر اليوناني.

ويأتي آخرون إلي الإنجيل الرابع ولديهم افتراض مسبق بأن القصد منه هو أن يقدم للقارئ صورة مكتملة عن حياة يسوع، باستكمال وتصحيح أقوال الأناجيل الثلاثة الأخرى، وتقديم المسيح في صورة تشبع الاحتياجات الجديدة للكنيسة في بداية القرن الثاني، بينما يري آخرون هدفاً جدلياً في هذا الإنجيل، فمثلاً يرى فيه “ويزساكر” هدفاً جدلياً قوياً ضد اليهود، ويقول: “هناك الاعتراضات التي أثارها اليهود ضد الكنيسة بعد أن أكتمل انفصالها، وبعد أن مر تطور شخص مسيحها في أهم مراحله..” (العصر الرسولي جزء 2 – ص 222). ويتوقع المرء أن عبارة بمثل هذه القوة، يجب أن تستند إلي بعض البراهين وأن نجد بعض الأدلة التاريخية عن قيام جدال بين اليهود والكنيسة، غير ما يرونه في الإنجيل الرابع ذاته، ولكن ويزساكر لا يقدم شيئاً من ذلك، سوى القول بأنها مواضيع جدلية بين مدارس فكرية مختلفة، وإنها بصورتها الراهنة ليست إلا مفارقات تاريخية. ولكننا نعرف من الحوار بين ستينوس الشهيد وتريفو اليهودي، الموضوعات التي تناولها الحوار بين اليهود والمسيحيين في منتصف القرن الثاني، ويكفي أن نقول إن هذه الموضوعات – كما يخبرنا يوستينوس – كانت تتعلق بصورة رئيسية بتفسير العهد القديم، وليست تلك الموضوعات التي يناقشها الإنجيل الرابع.

ولعل أكثر الافتراضات إثارة للدهشة فيما يتعلق بالإنجيل الرابع، هي تلك التي تعتمد علي افتراض أن القصد من الإنجيل الرابع هو الدفاع عن تعليم مسيحي عن الأسرار كان قد ازدهر في بدء القرن الثاني. وطبقاً لهذا الافتراض، قد أرسي الإنجيل الرابع تعليماً عن الأسرار جعلها في موقع فريد كوسيلة للخلاص. ونحن لا نعلق كثيراً عن وجهة النظر هذه، لأن التفسير الذى يرى تعليم الأسرار فى الإنجيل الرابع، تفسير لا أساس له، فهذا الإنجيل لا يضع الأسرار فى مقام المسيح، كما يزعمون. وأخيراً، فإننا لا نجد حجة مقبولة للذين يؤكدون أن الإنجيل الرابع كتب لجعل إنجيل يسوع أكثر قبولا عند الأمم، والحقيقة هي أن إنجيل متى كان أكثر الأناجيل قبولاً عند الأمم، فقد اقتبسوا منه واستشهدوا به أكثر من سائر الأناجيل. ففي كتابات الكنيسة الأولي، اقتباسات من إنجيل متى تعادل كل الاقتباسات من باقي الأناجيل مجتمعة. ولم يبرز الإنجيل الرابع إلى المقدمة فى الكنيسة المسيحية إلا عندما ثار الجدل حول شخص المسيح، فى القرن الثالث.

 

3 – الهدف الحقيقي للإنجيل – والنتائج: عندما نعود إلى الإنجيل نفسه بحثاً عن الهدف منه، نجد الجواب بسيطاً واضحاً، إذ يقول كاتب الإنجيل مؤكداً: “وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب فى هذا الكتاب. وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه” (يو20: 31و30)، وإذا سرنا وراء هذا الدليل الواضح، وطرحنا كل الافتراضات التى تزخر بها المقدمات والتفسيرات وتواريخ عصور الرسل وما بعدها، لوجدنا الكثير من المفاجاءات:

 

أ – علاقته بالأناجيل الثلاثة الأولي: هناك فروق كثيرة بين هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى، ولكن ما يثير الدهشة حقاً، هو تلك الحقيقة، أن نقاط الالتقاء بين هذه الأناجيل والإنجيل الرابع قليلة جداً. فبينما يقول جميع النقاد – الذين أشرنا إليهم سابقاً – إن الكاتب أو المدرسة التى جمعت كتابات يوحنا، مدينة للأناجيل الثلاثة الأخرى بكل الحقائق الواردة فى الإنجيل الرابع تقريباً، نجد أنه فيما عدا أحداث أسبوع الآلام، لا توجد سوى نقطتين فقط من نقاط الالتقاء، تظهران فيه بوضوح، هما إشباع الخمسة الآلاف، والمشي على البحر (يوحنا 6: 4-21). أما شفاء ابن خادم الملك (يو 4: 46-53) فليس هو نفسه شفاء خادم قائد المئة (فى متى ولوقا)، وحتى إذا افترضنا تطابق الحادثتين، فيكون هذا هو كل ما عندنا فى الإنجيل الرابع عن أحداث خدمته فى الجليل، ولكن هناك خدمته الأولي فى اليهودية وفى الجليل التى بدأت قبل أن يلقي يوحنا المعمدان فى السجن (يو3: 24) وهو ما لا يوجد ما يقابله فى الأناجيل الثلاثة الأخرى. فلا يكرر نقل المعلومات التى يمكن جمعها من الثلاثة الأخرى، بل يسير على نهج خاص به وينتقى من الأحداث ما يريد، ويقدمها من وجهة النظر الخاصة للإنجيل، كما أن له مبدأه الخاص فى هذا الانتقاء أو الاختيار، وهو المبدأ الذى ذكره فى الفقرة التى سبق أن اقتبسناها. فالمشاهد التى يصورها والأعمال التى يحكى عنها، والأقوال التى يرويها والتعليقات التى يقدمها الكاتب، كل هذه موجهة نحو هدف مساعدة القراء على الإيمان بأن يسوع المسيح هو ابن الله، كما أن الكاتب يقرر أن نتيجة هذا الإيمان هى أن تكون لهم حياة باسمه.

 

ب – الزمن الذى يغطيه الإنجيل: وعلينا – استرشاداً بالمبدأ الذى ذكرناه – أن نعود للإنجيل، وأول شيئ يستلفت نظر القارئ هو الزمن القصير الذى تغطيه أو تشغله المشاهد التى يصفها الإنجيل. ولنأخذ ليلة تسليمه ويوم الصلب، فنجد أن الأمور التى حدثت والأقوال التى قيلت فى ذلك اليوم – من غروب الشمس إلى غروبها (أى يوم كامل) – لا تشغل أقل من سبعة أصحاحات من الإنجيل (من 13-19). وعلاوة على الأصحاح التكميلي (الأصحاح الحادى والعشرين)، هناك عشرون أصحاحاً فى الإنجيل تحتوى على 797عدداً، وهذه الأصحاحات السبعة تحتوى على 257عدداً، أى أن أكثر من ثلث الإنجيل كله تستغرقه أحداث يوم واحد. ونعلم مما جاء فى سفر الأعمال (1: 3) أن الرب المقام ظل يظهر للتلاميذ مدة أربعين يوماً، ولكن يوحنا لا يسجل كل ما حدث فى أثناء هذه الأيام، بل يسجل فقط ما حدث يوم القيامة، وما حدث فى يوم آخر بعد ذلك بثمانية أيام (الأصحاح العشرون)، أما الأحداث التى سجلت فى الأناجيل الأخرى، فتتوارى كقضية مسلم بها، ولا يسجل سوى الآيات التى حدثت فى هذين اليومين، وهو يسجلها لأن لها أهمية خاصة بالنسبة للهدف الذى كان أمامه، وهو أن يؤمنوا بحقيقة أن يسوع هو المسيح ابن الله. وإن سرنا فى أثر الدليل المقدم لنا فى الإنجيل، فإننا نندهش لقلة الأيام التى تم فيها أى شئ. وعندما نقرأ قصة الإنجيل الرابع نجد كثيراً من الإشارات عن مرور الوقت، وعبارات كثيرة دقيقة عن التواريخ، ونعلم من الإنجيل أن خدمة يسوع قد استغرقت – على الأرجح – ثلاث سنوات، ونستنتج هذا من عدد الأعياد التى حضرها فى أورشليم، كما أن لدينا بعض ملحوظات عن الوقت الذى قضاه فى السفرات، ولكن ليس لدينا معلومات عما حدث فى أثنائها، وقلما تذكر الأيام التى حدث فيها أي شئ، أو قيل فيها أي حديث. ولكنه يذكر لنا بكل دقة أنه: ” قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر” (يو12: 1)، وبالنظر إلى هذه الأيام الستة لا يحدثنا إلا عن العشاء وعن حادثة دهن مريم لقدمي يسوع بالطيب، والدخول إلى أورشليم وزيارة اليونانيين، وعن وقع هذه الزيارة عند يسوع. كما أننا نرى ما انطبع فى فكر البشير عن عدم إيمان اليهود، ولكنا لا نعرف ما هو أكثر من ذلك. ونحن نعلم أن أموراً كثيرة جداً قد حدثت فى تلك الأيام، ولكنها لم تسجل فى هذا الإنجيل. ولم يسجل لنا شيئاً عن اليومين اللذين مكثهما فى الموضع الذى كان فيه عندما بلغه خبر مرض لعازر، وقصة إقامة لعازر هى قصة يوم واحد (الأصحاح الحادى عشر). والأمر كذلك أيضاً مع قصة شفاء الأعمى، فقد تم الشفاء فى يوم ما، وما ثار من جدل حول أهمية ذلك الشفاء، هو كل ما سجله عن يوم آخر (الأصحاح التاسع). وما يسجله فى الأصحاح العاشر هو قصة يومين. وقصة الأصحاحين السابع والثامن – ويقطعهما الحاد4 العرضي عن المرأة التى أمسكت فى ذات الفعل – هى قصة لا تستغرق أكثر من يومين. وقصة إطعام الخمسة الآلاف والحديث الذى أعقبها (الأصحاح السادس) هى قصة يومين أيضاً. وليس من الضروري الدخول فى تفصيلات أكثر، ومع هذا فإن الكاتب – كما لاحظنا – دقيق جداً فى ملحوظاته عن الوقت، فهو يلاحظ الأيام، وعدد الأيام التى يتم فيها عمل ما، أو التى قيل فيها حديث ما. ونحن نذكر هذه الملحوظات التى قد تكون جلية أمام كل قارئ يهتم بها، نذكرها أساساً بهدف إثبات أن الإنجيل – بكل وضوح وجلاء – لا يقصد ولم يقصد مطلقاً أن يقدم قصة كاملة عن حياة المسيح وأعماله. وهو يقدم لنا – على أكثر تقدير – معلومات عن عشرين يوماً من بين أكثر من ألف يوم هى مدة خدمة الرب. وهذا وحده كاف لنقض فكرة الذين يتناولون الإنجيل الرابع، كما لو كان مقصوداً منه أن يحذف أو يكمل أو يصحح الروايات المذكورة فى الأناجيل الثلاثة الأخرى، فواضح تماماً أن هذا الإنجيل لم يكتب لهذا الغرض.

 

ج-سجل شخصي: يذكر الإنجيل بكل وضوح أنه استرجاع لذكريات الماضي، لشخص كانت له صلة شخصية بالخدمة التى يصفها، فالنغمة الشخصية واضحة فى الإنجيل من بدايته إلى نهايته، فهي موجودة حتى فى المقدمة لأنه فى الآية التى يعلن فيها الحقيقة العظمى عن التجسد، يستخدم الصيغة الشخصية “رأينا (نحن) مجده” (يو 1: 14)، ويمكن اعتبار هذا الفكرة الأساسية للإنجيل كله. وفى كل المشاهد الواردة فى الإنجيل يعتقد الكاتب أن فى جميعها أظهر يسوع مجده وعمَّق إيمان تلاميذه. فلو سألنا يوحنا: متى عاين مجد الكلمة المتجسد؟ لكان جوابه: فى كل المشاهد الموصوفة فى الإنجيل. فإذا قرأنا الإنجيل من وجهة النظر هذه، نجد أن الكاتب كان له مفهوم عن مجد “الكلمة” المتجسد يختلف تماماً عن المفهوم الذى ينسبه إليه النقاد. إنه يرى مجد “الكلمة” فى حقيقة أنه “تعب” من السفر (يو4: 6)، وفى أنه صنع من التفل طيناً وطلي به عيني الأعمى (يو9: 6)، وفى أنه بكى عند قبر لعازر (يو 11: 35)، وفى أنه انزعج فى نفسه (يو 11: 38)، وأنه يمكنه أن يكتئب ويحزن حزناً لا يعبر عنه كما حدث بعد مقابلته لليونانيين (يو12: 27). لذلك فهو يسجل كل هذه الأشياء، لأنه يعتقد أنها متناغمة مع مجد الكلمة المتجسد. إن التفسير السليم لا يمكن أن يتجاهل هذه الأمور، بل يجب أن يعتبرها جزءاً من مجد الكلمة المعلن.

فالإنجيل إذاً بكل وضوح هو ذكريات شاهد عيان، ذكريات شخص كان موجوداً بنفسه فى كل المشاهد التى يصفها، ولا شك أن هذه الذكريات كثيراً ما كانت تجعله يتأمل فى معنى ودلالة ما يصفه، فكثيراً ما كان يتوقف ليقول كيف أن التلاميذ – وهو واحد منهم – لم يفهموا فى ذلك الوقت معنى بعض الأقوال، أو دلالة بعض الأعمال التى عملها يسوع (يو 2: 22، 12: 16.. إلخ). وفى بعض الأحيان لا نكاد نميز بين كلمات السيد وبين تعليقات يوحنا، ولكننا أيضاً كثيراُ ما نقابل نفس الظاهرة فى الكتابات الأخرى، ففى الرسالة إلى أهل غلاطية، مثلاً يكتب بولس عما واجه به بطرس فى أنطاكية: “… إن كنت وأنت يهودى تعيش أممياً لا يهودياً فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا” (غل 2: 14)، وبعدها بقليل ينتقل إلى التعليق على الموقف. ويستحيل علينا أن نحدد أين ينتهى الحديث المباشر، ومتى يبدأ التعليق. وهكذا الأمر فى الإنجيل الرابع، ففي الكثير من الحالات، يستحيل علينا أن نقول أين تنتهى كلمات يسوع وأين تبدأ تعليقات الكاتب. وهذا ما نراه – على سبيل المثال – فى الحديث عن شهادة المعمدان فى الأصحاح الثالث. فلعل كلمات المعمدان تنتهى بالعبارة: “ينبغى أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص” (يو 3: 30)، أما ما بعدها فقد يكون تعليق الكاتب على الموضوع.

 

د – ذكريات شاهد عيان: “هكذا نجد أن الإنجيل هو ذكريات شاهد عيان للأحداث الماضية مع انطباعاته عن معنى ما مر به من اختبارات. لقد كان موجوداً فى المشاهد التى يصفها. لقد كان موجوداً فى دار رئيس الكهنة”، وكان حاضراً عند الصليب ويشهد بحقيقة موت يسوع (يو 18: 15، 19: 35). وإذ نقرأ الإنجيل نلاحظ مقدار التأكيد الذى يضعه على كلمة “يشهد” ومشتقاتها، فهو يستخدم هذه الكلمة كثيراً (يو 1: 19و8و7، 3: 33و26و11، 5: 31، 12: 17، 21: 24 … إلخ)، وهو يستخدمها هكذا لتأكيد الحقائق التى عاينها. وفى هذه الشهادات نجد ربطاً غير عادي بين فكر رفيع وقوة ملاحظة دقيقة. ففى وقت واحد، يحلق البشير عالياً من عالم روحى ويتحرك فى يسر وسهولة بين أثمن وأسمى عناصر الاختبار الروحي، مستخدماً كلمات عادية، ولكنه يضمنها أعمق المعاني عن الإنسان والعالم، مما لم يخطر من قبل فى فكر إنسان. وتجتمع فى كتاباته العجيبة أسمى درجات التصوف مع الإدراك العملي المفتوح العينين. وفوق كل شيء تدهشنا روعة إحساسه بالقيمة العظمي للجانب التاريخي، فكل معانيه الروحية لها أساس تاريخي، وهذا واضح فى رسالته الأولي وضوحه فى الإنجيل، حيث نراه رائعاً جلياً. وبينما كان اهتمامه الأصيل أن يشد انتباه قارئيه إلى يسوع وعمله وكلمته، فإنه – دون قصد – سجل تاريخ حياته الروحية، وشيئاً فشيئاً ونحن نطالع الإنجيل مندمجين فى روحه، نجد أننا نسير فى موكب نهضة روحية عظيمة ونتابع نمو الإيمان والمحبة فى حياة الكاتب، إلى أن تصبح هذه هى النغمة السائدة فى حياته كلها. فمن ناحية نجد أن الكتاب رؤية موضوعية عظيمة عن حياة فريدة، وقصة إعلان ابن الله لشخصه، وإعلان الآب فى يسوع المسيح، إلى أن تصل إلى غايتها عبر التطورات المتضاربة من الإيمان والشك عند الذين قبلوه وعند الذين رفضوه. ومن الناحية الأخرى نجد فيه عنصراً ذاتياً فى قلب الكاتب، حيث يخبرنا كيف بدأ الإيمان وكيف نما وتقدم حتى وصل إلى معرفة ابن الله. إننا نستطيع أن نستجلي الأزمات المتنوعة التى اجتاز فيها، والتى عن طريقها – وهو يجتازها على التوالي – حصل على اليقين الذى يعبر عنه بمثل هذا الهدوء، فهي التى أمدته بالمفتاح الذى به استطاع أن يكشف عن سر اعلانات يسوع للعالم. إن انتصار الإيمان الذى يرسمه لنا، قد اختبره فى داخل نفسه أولاً، وهو ما تتضمنه تلك العبارة الرائعة ذات الدلالة العميقة: “رأينا مجده” (يو 1: 14).

 

ه – إيضاح لذكريات الماضي: ويتأكد الإنجيل تأكيداً قاطعاً، بالتأمل فى طبيعة “التذكر” بوجه عام، فالقاعدة العامة للتذكر هى أننا عندما نتذكر شيئاً ما أو حادثاً ما، فإننا نتذكره بكل كلياته مع كل الملابسات المصاحبة له، وعندما نخبر الآخرين به، فعلينا أن نختار ما يلزم لتوضيح المعنى الذى نريده. والطبائع غير الفنية ليس لها القدرة على الاختيار، بل تصب كل ما يخطر على البال (كما يقول شكسبير). إن أروع خصائص التذكر نجدها بوفرة فى الإنجيل الرابع، وهى تقدم لنا برهاناً قائماً بذاته على أنه بقلم شاهد عيان. ولا يتسع المجال أمامنا هنا إلا لذكر أمثلة قليلة. لاحظ أولاً تلك الملحوظات الدقيقة عن الوقت فى الأصحاح الأول، والملحوظات الخاصة عن كل شخصية من التلاميذ الستة الذين قابلهم يسوع فى الأيام الأربعة الأولي من خدمته. ولاحظ الصورة التى يسجلها من أن نثنائيل كان تحت التينة (1: 50)، ثم ملحوظة وجود أجران الماء الستة فى قانا الجليل حسب عادة اليهود فى التطهير (يو 2: 6). ويمكن أن نشير فى هذا الخصوص إلى الملحوظات الجغرافية التى وردت كثيراً فى سياق القصة، والتى تبين معرفة وثيقة بفلسطين، وإلى الإشارات العديدة للنواميس والعادات والمعتقدات والاحتفالات الدينية اليهودية، والتى يعترف الجميع الآن أنها تدل على دقة الكاتب وتصويره الرائع للأحداث. إن هدفنا الرئيسي هو أن نسترعى الانتباه إلى تلك الأمور العرضية التى ليست لها أهمية رمزية، ولكنها سجلت لأنها من الملابسات التى تداعت فى الفكر عند تذكر الحادث الرئيسي. وهو يرى أيضاً “الغلام” صاحب الأرغفة الخمسة من الشعير والسمكتين (يو 6: 9)، ويتذكر أن مريم جلست فى البيت بينما هرعت مرثا لتقابل الرب عندما اقترب من بيت عنيا (يو 11: 20)، ويذكر لعازر وهو يخرج مربوط اليدين والرجلين بأكفان القبر (11: 44)، وترتسم أمامه صورة حية لحادثة غسل أرجل التلاميذ (13: 1-5)، وكذلك التصرفات والأقوال التى صدرت عن التلاميذ فى تلك الليلة المليئة بالأحداث. وهو مازال يرى مسلك الجند الذين جاءوا للقبض على يسوع (18: 3-8)، ويتذكر سيف بطرس وهو يلمع فى الظلام (18: 10)، ومشاركة نيقوديموس فى دفن يسوع، وأنواع وأوزان الحنوط التى أحضرها لتحنيط الجسد (19: 38-40). ويتحدث عن العناية الواضحة فى طي الثياب الكتانية، وكيف كانت موضوعة فى القبر الفارغ (20: 4-8). هذه بعض اللمسات الحية فى هذه الذكريات، والتى لا يستطيع أن يذكرها بهذه الدقة والروعة إلا شاهد عيان، وإذ يلقى البشير نظرة إلى الوراء، يذكر المشاهد المتنوعة، وكلمات السيد بكل كمالها كما حدثت، ويختار تلك اللمسات الحية التى تحمل علامة الصدق لكل القراء.

 

و – نتائج: هذه اللمسات من الواقع الحى تبرر القول بأن كاتب هذا الإنجيل يصور المشاهد من واقع الحياة، وليس من خياله. وهو إذ يلقي نظرة على تاريخه الروحي الشخصي، يتذكر بصورة خاصة تلك الكلمات والأعمال التى قام بها المسيح والتى حددت مسار حياته الخاصة وقادته إلى يقين الإيمان الكامل ومعرفة ابن الله. ويمكن فهم الإنجيل من وجهة النظر هذه، ويبدو لنا أنه لا يمكن فهمه عن أى طريق آخر دون تجاهل كل الظواهر التى أشرنا اليها على سبيل المثال. وعندما ننظر إلى الإنجيل من وجهة النظر هذه، نستطيع إهمال الكثير من المناقشات المستفيضة حول احتمال تغير موضع بعض الأصحاحات (كما يزعم سبيتا وآخرون). وعلى سبيل المثال، لقد ذُكر الكثير عن الانتقال الفجائي فى المشهد من الجليل إلى اليهودية عندما ننتقل من الأصحاح الرابع إلى الأصحاح الخامس، والانتقال الفجائي المماثل فى العودة إلى الجليل (يو 6: 1)، وقد وضع الكثير من المقترحات، ولكنها كلها تنبع من افتراض أن تذكر الأحداث الماضية يجب أن يكون متصلاً، وهو غير الواقع. وبينما يحتمل جداً أنه كان هناك تتابع فى ذهن الكاتب، ولكن هذا لا يضطرنا إلى التفكير فى تغير موضع بعض الأصحاحات، وإذ نأخذها كما هى فى الإنجيل، فإن الأدلة المختارة – سواء حدثت فى اليهودية أو فى الجليل – تشير فى كل الأحوال إلى نوع من التقدم. وهى – من ناحية – تعبَّر عن مجد يسوع الظاهر، ومن الناحية الأخرى، عن نمو الإيمان وتطور عدم الإيمان. وهذا يفتح أمامنا مجالاً جديداً للاعتراض والتساؤل، وهو ما سنتناوله الآن:

 

رابعاً – التقدم والتطور فى الإنجيل: إن الاعتراض الرئيسي الذى يتردد بإلحاح ضد وجهة النظر القائلة بنسبة الإنجيل الرابع إلى الرسول يوحنا، هو أنه ليس به أى تقدم أو تطور أو نقطة تحول أو أى شيء يعادل فى أهميته – مثلا – اعتراف الرسول بطرس فى قيصرية فيلبس (مت 16: 13-17). كما أنهم يزعمون أن هذا ينطبق أيضا على شخصية يسوع، حيث يبدأ الإنجيل بعقيدة اللاجوس “الكلمة” ثم لا يحدث فيها أى تقدم من البداية إلى النهاية، وكذلك فيما يتعلق بموقف التلاميذ، إذ يزعمون أنهم يبدون فى هذا الإنجيل على نفس الدرجة من الإيمان بأن يسوع هو المسيح، من البداية إلى النهاية. ولكن الحقيقة على العكس من ذلك تماماً، فكلما تقدمنا فى الإنجيل – كما سبق أن قلنا – نجد مجد الرب يظهر بصورة متزايدة باستمرار، وأن التلاميذ يتقدمون إلى إيمان أعمق، كما أن عدم إيمان الذين يرفضونه، يزداد وضوحاً ورسوخاً إلى أن يصبح رفضاً مطلقاً. والمتأمل الدقيق المتأني يرى ذلك بكل جلاء.

 

1-صورة يسوع فى الإنجيل: ويتخذ الاعتراض على الصورة التى يرسمها هذا الإنجيل ليسوع، أشكالاً متنوعة، يحسن أن ندرس كلاً منها على حدة:

أ – الغياب المزعوم للتقدم فى شخصية يسوع: فأول كل شيئ، يؤكدون أنه لا يوجد فى الإنجيل الرابع أى تقدم فى شخصية يسوع، كما لا يوجد شيئ من الإشارات التى نجدها فى الأناجيل الثلاثة الأولي عن الأفاق التى تتسع باستمرار، ولا إشارة إلى أن معنى وغرض وغاية دعوته كانت تزداد وضوحاً بمرور الأيام. وهناك إجابتان على هذا الزعم: الأولي هى أنه فى سلسلة من المشاهد من حياة يسوع منتقاة للهدف المحدد المذكور فى الإنجيل، لا يلزم أن نطلب تاريخاً متصلاً لخدمته، فقد تم اختيار تلك المشاهد بكل دقة لبيان حدة بصيرته النفاذة إلى أعماق الطبيعة البشرية ودوافعها، وقوته على الشفاء إشفاقاً على الناس، وسيطرته على الطبيعة، وسلطانه المطلق على الناس وعلى العالم. والأمر الثاني هو أنه حتى فى الإنجيل الرابع توجد إشارات إلى نقطة تحوُّل فى خدمة الرب يسوع حين أعلن المعنى الكامل لخدمته (على سبيل المثال، عند زيارة اليونانيين فى الأصحاح الثاني عشر). وسوف نرى فيما بعد أنه ليس صحيحاً أننا نجد فى هذا الإنجيل، ولا فى الأناجيل الثلاثة الأخرى أيضاً، أن يسوع قدم نفسه علانية على أنه المسيا، منذ البداية.

 

ب – استقلال يسوع المزعوم: وشبيه بما سبق، الاعتراض على تاريخية الإنجيل لأنه يقدم يسوع دائما على أنه يوجه مسار حياته بنفسه، متعاليا على الناس، ورافضا أن يتأثر بهم، ويعتقدون أن هذا نتيجة سيطرة فكرة اللوجوس فى مقدمة الإنجيل. والرد على هذا هو أنه لا يوجد فى الحقيقة أى اختلاف جوهرى بين موقف يسوع فى هذه الناحية فى الأناجيل الثلاثة الأخرى، وإنجيل يوحنا، ففيها جميعها يتصرف بسلطان. فهو يستطيع أن يقول فى الأناجيل الثلاثة الأولي “أما أنا فأقول لكم” (مت 5: 32و28و22 …إلخ)، وفيها أيضاً يعلن أنه معلم الحق المطلق، والمخلص، وصاحب السلطان، والديان لجميع الناس. وفى هذا الخصوص لا يوجد أى شيئ جديد من هذه الناحية فى الإنجيل الرابع. حقيقة أنه قال: “ليس أحد يأتى إلى الآب إلا بي” (يو 14: 6)، ولكنه قال أيضاً: “تعالوا إلي … وأنا أريحكم” (مت 11: 28). وهكذا نجد أن دعوى السلطان على الناس، قائمة فى كل الأناجيل. كما نرى أيضا فيها جميعها، يسوع يقدم الولاء والخضوع والطاعة للآب، وليس الإنجيل الرابع بأقلها فى ذلك، بل بالحري أكثرها وضوحاً: “لأن أبي أعظم منى” (يو 14: 28)، والأقوال التى ينطق بها هى أقوال الآب، والأعمال التى يعملها هى أعمال الآب (يو 5: 20و19، 7: 18و16 … إلخ)، “هذه الوصية قبلتها من أبي” (يو 10: 18). وهكذا نرى فى كل الأناجيل نفس الشخص الواحد غير المتغير المملوء نعمة.

ج – عدم إمكانية إدراك “فكرة اللوجس”: وهناك اعتراض آخر يهدف إلى إثبات أنه من السهل إدراك أن هذا الإنجيل لا يمكن أن يكون من عمل “رسول بسيط”، وهو اعتراض يبدو قوياً فى ذاته، وكذلك لأهمية الشخص الذى يثيره، إذ يقول “ويزساكر” (فى كتابه: “العصر الرسولي”): إنها لمعضلة، أن تلميذ الإنجيل المحبوب، الذى جلس على المائدة بجوار يسوع، يمكن أن يبلغ إلى اعتبار أن كل اختباراته الماضية كانت حياة مع “كلمة الله المتجسد”. من المستحيل تصور أي قوة للإيمان والفلسفة تبلغ من العظمة حداً تختفي معه ذكريات حياة واقعية، لتحل محلها تلك الصورة العجيبة لشخص سماوي. يمكن أن نفهم أن شخصاً مثل بولس – الذى لم يكن قد عرف يسوع، ولم يتقابل معه كإنسان – يمكن أن يعترض على أقوال شهود العيان عن الشخص السماوي، مما يجعله يستبدل الظهورات الأرضية، بالمسيح الذى هو روح، وأن الإيمان يجب أن يسمو به فوق الصورة الأرضية التى لم تكن سوى مجرد مرحلة، ولكن هذا ما لا يمكن تصديقه عن رسول بسيط مثل يوحنا، وهنا فصل الخطاب (الجزء الثاني –211)). ومن السهل أن نقول: “إن هذا ما لا يمكن تصديقه عن رسول بسيط”، ومع هذا فإننا نعلم أن هذا الرسول البسيط قد آمن أن يسوع قد قام من الأموات وأنه ارتفع رباً ومخلصاً، وأنه جلس عن يمين الله، وأنه رب على الكل (أع 2: 22-36). وإن كنا نسلم بأن الكنيسة الأولي قد آمنت بهذه الأمور، فليس من السهل أن نقول إن الخطوة التالية التى نجدها فى الإنجيل الرابع لا يمكن تصديقها. وفى الواقع إن اعتراض ويزساكر ليس موجهاً ضد الإنجيل الرابع، بل هو موجه بنفس الدرجة ضد المسيحية بعامة، فإذا كان المسيح هو هو كما تتحدث عنه الأناجيل الثلاثة الأولي، وأنه هو هو كما كانت الكنيسة الأولي تعتقد فيه، فإن المفهوم الأساسي للإنجيل الرابع يكون صادقاً مفهوماً. وإذا كانت المسيحية صحيحة، فالإنجيل الرابع لا يضيف جديداً إلى صعوبة الإيمان، بل بالحري يقدم أساساً ثابتاً لإيمان عقلاني.

 

3-نمو الإيمان وتزايد عدم الإيمان: وكما هو الحال مع شخصية يسوع، هكذا الأمر مع الزعم بعدم نمو إيمان التلاميذ، فالفحص الدقيق يثبت أيضاً أن هذا الاعتراض لا أساس له.

 

أ – الاعترافات المبكرة: وهنا يقولون إننا نعرف الخاتمة منذ البداية، ففى الأصحاح الأول يطلق على يسوع مرتين اسم “المسيا” (يو 1: 45و41)، ويوصف مرتين بأنه “ابن الله” (1: 49و34)، ويشير إليه المعمدان فى هذه المرحلة المبكرة على أنه “حمل الله الذى يرفع خطية العالم” (1: 29)، كما يشيرون إلى حديثه مع نيقوديموس (يو 3: 1-21)، وإلى اعتراف السامريين (يو 4: 42و41)، وأحداث أخرى مشابهة، لإثبات أنه فى هذه المرحلة المبكرة من خدمة الرب يسوع، كانت مثل هذه الاعترافات غير محتملة، بل بالحري مستحيلة. ولكننا نلاحظ أن هذه الاعترافات جاءت نتيجة إعلانات خاصة من يسوع للأشخاص الذين أدلوا بهذه الاعترافات، وأن هذه الإعلانات هى التى هيأت الجو النفسي لهذه الاعترافات، وهذا واضح فى حالة نثنائيل. وليس الاعتراض على شهادة يوحنا المعمدان اعتراضا لا يمكن دحضه، لأن المعمدان طبقاً لما هو وارد فى الأناجيل الثلاثة الأولي، قد وجد الشهادة له فى الأصحاح الأربعين من إشعياء، حيث وجد نفسه، ووجد إرساليته، فوصف نفسه كما نرى فى الإنجيل الرابع بالقول: “أنا صوت صارخ فى البرية، قوَّموا طريق الرب كما قال إشعياء النبي” (يو 1: 23، انظر أيضاً مت 3: 3، مرقس 1: 3و2)، كما نقرأ أيضاً “أما يوحنا فلما سمع فى السجن أعمال المسيح، أرسل اثنين من تلاميذه، وقال له أنت هو الآتي أم ننتظر آخر” (مت 11: 3و2)، فأجابه يسوع بما جاء فى الأصحاح الحادي والستين من إشعياء، فقد كانت هذه فى نظر يسوع هى العلامات الحقيقية لملكوت المسيا. وهل هناك من سبب يمنعنا من القول بأنه كما وجد يوحنا المعمدان الشهادة له فى الأصحاح الأربعين من إشعياء، وجد أيضاً طبيعة وعلامات الشخص الآتي فيما ورد عن العبد المتألم فى الأصحاح الثالث والخمسين؟ وإن كان قد وجد ذلك، فهل هناك ما هو أبسط من أن يصف الشخص الآتي بأنه “حمل الله الذى يرفع خطية العالم”؟ وفى جواب يسوع على يوحنا، يطلب منه أن يستمر فى قراءة تلك النبوة التى وجد فيها الكثير بالنسبة له.

 

ب – نمو الإيمان عند التلاميذ: وبغض النظر عما يمكن أن يقال عن هذه الاعترافات المبكرة، يمكن القول بحق إن هناك علامات كثيرة لنمو الإيمان عند التلاميذ. وإذ نذكر جيداً حقيقة أن كل اعتراف من هذه الاعترافات – كما سبق القول – قد جاء نتيجة إعلان معين لمجد المسيح، نستطيع أن نتقدم إلي الأجزاء التى تبين كم كان إيمان التلاميذ ناقصا. ويجب أن نذكر أيضاً أن يوحنا استخدم كلمة واحدة للتعبير عن كل درجات الإيمان، من أقل درجة إلى الاقتناع القلبي الكامل والتسليم المطلق (ويمكن الرجوع إلى المعالجة الدقيقة الشاملة لمعاني الكلمة “الإيمان” التى أوردها أبوت فى كتابه: “مفردات يوحنا”). ويستخدم يوحنا فى الإنجيل الرابع صيغة الفعل لا الاسم، وحينما تستخدم الكلمة فإنها تدل على التأثير الحادث سواء كان تأثيراً ضئيلاً وعابراً، أو عميقاً وراسخاً. ونحن نرى خطوات متتابعة من القبول كلما كان التلاميذ يتقدمون إلى الإيمان الكامل والمطلق.

وإذ نقرأ الإنجيل، نجد أن يسوع قد اختبر وامتحن إيمان تلاميذه، وجعل من أعماله ومن كلماته اختباراً للإيمان ودافعاً إلى نموه. ونتيجة لأقواله عن خبز الحياة، قال الكثيرون من تلاميذه: “… إن هذا الكلام صعب. من يقدر أن يسمعه” (يو 6: 60)، وبسبب صعوبة كلامه “… رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه” (6: 66)، وفى حديثه إلى الذين لم يذهبوا عنه، نجد أن الصعوبة قد أصبحت أمامهم فرصة لإيمان أعظم (6: 69و68). إن أحداث ليلة تسليمه، والأحاديث التى دارت فى تلك الليلة، توضح مدى ضعف إيمان وثقة تلاميذه، وكم كانوا بعيدين عن الفهم الكامل لقصد السيد، ولم يبلغ إيمانهم درجة الكمال إلا بعد القيامة وفرحة رؤية ربهم المقام، فى العلية.

 

ج – الإعلان تدريجياً عن أنه المسيا، وازدياد عدم الإيمان: وفى الجانب الآخر، يوجد بكل وضوح تزايد فى عدم الإيمان، من مجرد الشك العابر إلى عدم الإيمان بيسوع ورفضه تماماً. وجيد أن نلاحظ أن الاعترافات التى سبق أن أشرنا إليها، جاءت من أفراد أُتيحت لهم فرصة الاتصال بيسوع اتصالاً خاصاً، فهذا هو ما حدث مع نثنائيل ونيقوديموس والسامرية وشعب السامرة. ويضع الكاتب القراء فى هذه العلاقة الوثيقة حتى يؤمن كل من يقرأ. ولكن مثل هذه العلاقة الوثيقة بيسوع كانت من نصيب القلة. كما هو واضح فى هذا الإنجيل. وليس صحيحاً – كما سبق أن لاحظنا – أن يسوع فى هذا الإنجيل، يبدو كمن يعلن نفسه بصورة قاطعة أنه المسيا، إذ يوجد هنا شيء من التحفظ الموجود فى الإناجيل الثلاثة الأخرى، فهو لم يؤكد دعواه ولكنه تركها للاستنتاج. إن إخوته يطلبون منه أن يثبت دعواه أمام الناس (يو 7: 4و3)، ونجد فى الأصحاح السابع حديثا عن الشكوك والأفكار التى حامت حوله، فالناس يترددون ويتساءلون ويفكرون: هل هو إنسان صالح أم هو مخادع يضل الشعب؟ (7: 12)، هل أرسله الله حقاً؟ (7: 14-30). كل هذه إنما تثبت أن أفراداً معينين قد أُتيحت لهم هذه المعرفة الوثيقة به، تلك المعرفة التى تؤدى بهم إلى قبوله والإيمان به. ونقرأ فى الأصحاح العاشر: “وكان عيد التجديد فى أورشليم، وكان شتاء، وكان يسوع يتمشي فى الهيكل فى رواق سليمان، فاحتاط به اليهود وقالوا له إلى متى تعلق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً” (10: 22-24). وكما يقول دكتور ساندى: “وواضح جيداً ” أنه لم يكن أمام الشعب حديث محدد بدقة. لقد تُركوا ليستنتجوا بأنفسهم، وقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه بما كان لديهم من أقوال، ولكن لم يكن هناك قول قاطع من يسوع نفسه بأنه المسيا أو بأنه ليس المسيا. ان مدى تزايد عدم الإيمان يقدمه البشير فى هذه الكلمات: “ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به” (يو 12: 37)، ومن الناحية الأخرى فإن ذروة الإيمان تظهر فى كلام الرب لتوما: “… لأنك رأيتني ياتوما آمنت. طوبي للذين آمنوا ولم يروا” (يو 20: 29).

 

1-) مقدمة لأنجيل يوحنا

 

(مقدمات للعهد الجديد، القمص تادرس يعقوب ملطى، ص 83)

في إنجيل يوحنا كثيرًا ما نرى السيد يتحدث مع أفراد في لقاءات شخصية مثل نيقوديموس والسامرة والمولود أعمى ومفلوج بيت حسدا، ومريم ومرثا أختا لعازر الخ، ليدخل مع كل أحدٍ في علاقة شخصية. إنه يود أن يقدم ذاته لكل شخص لكي يقتنيه بكونه الكلمة الإلهي، خبز الحياة، نور العالم، الراعي الصالح، القيامة الخ.

 

كان التساؤل أمام الإنجيليين الثلاثة الأولين هو: هل يمكن ذاك الذي صنع كل هذا، وله كل هذا السلطان الإلهي، وله هذه المعرفة الفائقة أن يكون إنسانًا حقًا أم هو كلمة اللَّه الذي التحف جسديًّا خياليًا؟ لقد تشكك البعض في ناسوت السيد. أما وقد كاد القرن الأول أن يعبر، وكاد أن ينتهي الجيل الذي عاين السيد المسيح، جاء السؤال مختلفًا: هل هو بالحقيقة اللَّه ذاته أم اعظم معلم في العالم؟ هل هو المسيّا مخلص العالم كله أم هو نبي؟ لهذا أكدت الأناجيل الثلاثة الأولى ناسوت السيد المسيح جنبًا إلى جنب مع لاهوته؟ وجاء الإنجيل الرابع يؤكد شخص المسيح بكونه الكلمة الأزلي جنبًا إلى جنب مع ناسوته.

 

تحدث الإنجيلي عن لاهوت ابن اللَّه “شريك الآب في السرمدية”، “الخالق”، “ابن اللَّه”، “الابن الوحيد”، “حمل اللَّه”، مؤكدًا أيضًا حقيقة تأنسه، وذلك للرد على بعض الهرطقات التي ظهرت مع نهاية القرن الأول وبداية الثاني. في كل اصحاح نجد شهادة حيّة للاهوت السيد المسيح، وجاء أكثر من نصف السفر يعرض لنا أسبوع البصخة أو الأسبوع الأخير من حياته على الأرض. وكأن الإنجيلي قد ركز على أمرين: المسيح الكلمة الإلهي المتجسد، والمسيح مخلص العالم. يقدم لنا الإنجيلي يوحنا في هذا السفر شخص المسيح لنؤمن به بكونه ابن اللَّه المتجسد، وفي رسائله لكي ننعم بسمة الحب التي له، وفي الرؤيا لكي ننتظره! تكررت كلمة “يؤمن” ومشتقاتها 101 مرة في هذا السفر.

 

يقول: “الحق الحق…” 25 مرة، فهو يتحدث بسلطان. ووردت كلمة “الحق
Truth” 47
مرة إذ جاء يكشف عن الحق الخفي.وردت كلمة “العالم” 80 مرة، فقد اتسم هذا السفر بالكشف عن إنجيل المسيح للعالم كله. والعالم بالنسبة ليوحنا الحبيب هو المكان الذي فيه يعلن اللَّه عن الحق المحرر (32: 8)، فيأخذ الإنسان قراره النهائي: إما أن يؤمن فيقبل المسيح خبز الحياة (35: 6)، ونور العالم، أو لا يؤمن، أي يخطئ فلا يسلك في المسيح.

 

كتب في النهاية للكنيسة، لهذا دُعي “إنجيل الكنيسة”، يقدم لنا “مسيح الكنيسة”، كأن الفكرة اللاهوتية الرئيسية هنا هي الربط بين يسوع المسيح التاريخي ومسيح الكنيسة الحّال فيها يعمل. في الكنيسة يقترب السيد المسيح إلى المؤمن لكي يقتنيه. “وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع” (32: 12).

 

يود أن يضم الكل إلى كنيسته ليفيض عليهم بأسراره الإلهية، ومن أمثلة ذلك:

 

أ. في عرس قانا الجليل (1: 2-12) وإشباع الجماهير (1: 6-13) نرى المسيح مروي مؤمنيه ومشبعهم خلال سّر الإفخارستيا. وفي شفاء مريض بيت صيدا (1: 5-14) والمولود أعمى 1: 9-7 يعلن عن عمله في المعمودية. ونزول الدم والماء من جنب المصلوب (34: 19) يعلن عن وحدة السرين وتكاملهما.

 

ب. تحدث السيد مع نيقوديموس عن المعمودية (1: 3-12) ومع تلاميذه عن الإفخارستيا (22: 6-59). كما اهتم بإبراز وعد السيد لكنيسته بالروح القدس بكونه الباراقليط (المعزي والشفيع) في حديثه الوداعي (ص14-17).

 

ج. إذ يكتب عن “مسيح الكنيسة” يميز بين المؤمنين وغير المؤمنين، بالإيمان لا نُدان (18: 3)، بل ننال الحياة الأبدية (36: 3)، وننتقل من الموت إلى الحياة. لكنه ليس إيمانًا مجردًا عن الحب (34: 13،35)، إنما مرتبط بحفظ وصايا الرب (21: 14-4).

 

كلمة “يوحنا” تعني “يهوه حنان”. هو ابن زبدي، من بيت صيدا في الجليل، دعاه السيد المسيح مع أخيه يعقوب الذي قتله هيرودس أغريباس الأول.

 

يبدو أنه كان على جانب من الثراء، إذ كان والده يستخدم أجرى في سفنه (مر10: 1)، وكان يوحنا معرفًا لدي رئيس الكهنة (يو16: 18). وكانت أمه سالومي سيدة فاضلة تقية تبعت السيد المسيح على الدوام (لو3: 8)، اشتركت مع النساء اللواتي اشترين حنوطًا كثير الثمن لتكفين جسد السيد المسيح، وهي على الأرجح أخت مريم أم يسوع (يو25: 19).

 

اتخذ مهنة صيد السمك حرفة؛ وكان هو وأخوه شريكي سمعان في الصيد (لو10: 5)؛ وقد اختار السيد المسيح سمعان واندراوس ويوحنا ويعقوب كأول تلاميذ له. وإذ كان يوحنا وأخوه حادي الطبع دعاهما “بوانرجس” أي “ابني الرعد” مر17: 3. وقد صار يوحنا رسول الحب رقيقًا للغاية، جاء إنجيله ورسائله ورؤياه تدور حول “الحب”. وبقي يكرز بالحب حتى شيخوخته، حيث كان يحمل على المنبر لينطق بهذه الكلمات: “حبوا بعضكم بعضًا”. ودُعي “التلميذ الذي كان الرب يحبه” 20: 21. ويعتبر مع بطرس ويعقوب من التلاميذ المخصوصين الذين انفردوا مع السيد في كثير من المواقف كالتجلي (مت1: 17)، وإقامة ابنة يايرس (مر37: 5)، وفي بستان جثسيماني (مت37: 26)؛ وقد انفرد بتسلم القديسة مريم من السيد عند الصليب.

 

خدم مع بطرس الرسول في أورشليم (أع1: 3-23: 4) وفي افتقاد كنيسة السامرة (أع 14: 8-17)، وحسب الرسول بولس أحد أعمدة الكنيسة (أع6: 15، غل9: 2). كرز في آسيا الصغرى، لاسيما في أفسس، وعُذب في أيام دومتيانوس ونفي إلى جزيرة بطمس حيث تمتع برؤيا يوم الرب (سفر الرؤيا). بقي في منفاه حتى تنيح سنة 98م أثناء حكم تراجان (98-117م). يكمل صورة السيد المسيح كما سجلها الإنجيليون الثلاثة السابقون، فتحدث عن لاهوت ابن الله مؤكدًا أيضًا حقيقة تأنسه، وذلك للرد على بعض الهرطقات التي ظهرت مع نهاية القرن الأول وبداية الثاني، فالبعض تشكك في لاهوته بينما الغنوسيون تشككوا في حقيقة تأنسه، حاسبين أنه حمل جسدًا خياليًا. اختار 8 معجزات تؤكد لاهوته.

 

في هذا السفر يقدم لنا شخص المسيح لنؤمن به بكونه ابن اللَّه المتجسد، وفي رسائله الثلاث لكي ننعم بسمة الحب التي له، وفي الرؤيا لكي ننتظره!

 

في الأناجيل الثلاثة السابقة نجد فيضًا من الآيات التي صنعها السيد يعلن خلالها حنانه وحبه. يري كثير من الدارسين أن الأناجيل السابقة قدمت للعالم لكي يتقبلوا المسيح الملك الروحي والخادم الحقيقي والصديق لكل البشر، أما القديس يوحنا فكتب في النهاية للكنيسة، لهذا دُعي “إنجيل الكنيسة”، يقدم لنا “مسيح الكنيسة”، كأن الفكرة اللاهوتية الرئيسية هنا هي الربط بين يسوع المسيح التاريخي ومسيح الكنيسة الحّال فيها يعمل، ومن أمثلة ذلك:

 

أ. في عرس قانا الجليل (1: 2-12) وإشباع الجماهير (1: 6-13) نرى المسيح مشبع مؤمنيه خلال سّر الإفخارستيا في كنيسته؛ وشفاء مريض بيت صيدا (1: 5-14) والأعمى (منذ ميلاده) 1: 9-7 يعلنان عن عمل المسيح في المعمودية. ونزول الدم والماء من جنب المصلوب (34: 19) يعلن عن وحدة السرين وتكاملهما.

 

ب. قدم لنا الإنجيلي في صراحة حديث السيد المسيح مع نيقوديموس عن المعمودية (1: 3-12) وعن الإفخارستيا (22: 6-59). كما اهتم الإنجيلي بإبراز وعد السيد المسيح بالروح القدس لكنيسته بكونه الباراقليط (المعزي والشفيع) في حديثه الوداعي (ص14-17).

 

ج. في الأناجيل السابقة تُقسم البشرية إلى صالحين وأشرار، أما هنا فإذ يكتب عن “مسيح الكنيسة” يميز بين المؤمنين وغير المؤمنين، بالإيمان لا نُدان (18: 3)، بل ننال الحياة الأبدية (36: 3)، وننتقل من الموت إلى الحياة. لكنه ليس إيمانًا مجردًا عن الحب (34: 13، 35)، وهو مرتبط بحفظ وصايا الرب (21: 14).

 

2-) مدخل الى اسلوب يوحنا

(تفسير انجيل يوحنا، المكتبة البولسية)

تعوّد التقليد المسيحيّ أن يشبّه يوحنّا بالنسر الذي يحدّق ببهاء الشمس بعينيه الثاقبتين. إنّ يوحنّا ينقلنا منذ الصفحة الأولى من إنجيله إلى التأمّل في الله وسرّه الأزليّ. ولكنّه في الوقت ذاته يشير إلى البحث الصوفيّ كما يدلّ على ذلك استعمال فعل طلب في إنجيله. فأوّل كلمة قالها يسوع لتلميذيه العتيدين: “ماذا تطلبان” (1: 38)؟ والسؤال الذي وجّهه إلى مريم المجدليّة في صباح الفصح كان: “من تطلبين” (20: 15)؟ وكما دعا المسيح تلميذيه لأن يأتيا وينظرا (1: 39)، هكذا يدعو يوحنّا قراءه إلى أن يقتربوا بإيمان متجدّد من ذلك الذي سمّى نفسه “الطريق والحقّ والحياة” (14: 6). هذا هو الشرط لنحمل ثمرًا يثبتُ في الحياة الأبديّة. إلى هذا الإنجيل سنتعرّفُ فندرسُ الوجه الأدبيّ للإنجيل الرابع وتكوينه وخلفيّته الدينيّة. وبعد أن نتوقّف عند لاهوت إنجيل يوحنّا نعالج العلاقة بين الحقيقة التاريخيّة والتفسير الرمزيّ.

 

1- الوجه الأدبيّ للإنجيل الرابع

 

عندما نقرأ الإنجيل الرابع قراءة إجماليّة نشعر أوّلاً أنّه يختلف عن الأناجيل الإزائيّة حيث تبرز المعجزات والمجادلات والأمثال وتبدو وكأنّها وضعت من دون ترتيب: أمّا إنجيل يوحنّا فيتضمّن مجموعاتٍ مبنيّةً بناءً محكمًا. هناك المقدّمة (1: 1- 18)، حوار يسوع مع السامريّة (4: 1- 42)، خطبة خبز الحياة (ف 6) وحدث شفاء الأعمى (ف 9) وقيامة لعازر (ف 11)، وخبر الالام (ف 18- 19).

 

قدّم الشرّاحُ تصاميمَ عديدةً، فشكلّ كلّ تصميم لقطة عن مجمل الإنجيل. لكلّ تصميم حقيقته النسبيّة، ولكن كل هذه التصاميم لا تقود بالقدر عينه إلى فهم النصّ فهمًا وافيًا. اهتمّ المفسّرون الأقدمون بكتابة حياة يسوع فتوقّفوا عند إشارات الزمان والمكان فأبرزوا إحدى ميزات يوحنّا: إنّه الإنجيل الوحيد الذي يساعدنا على تحديد زمن رسالة يسوع العلنيّة. وبيَّن أحد الشرّاح أهمّية الأعياد التي تتوزّع مسيرة الإنجيل: أوّل عيد للفصح في أورشليم (2: 13)، عيد آخر في أورشليم (5: 1)، الفصح في الجليل (6: 4)، عيد المظالّ (7: 2) الذي صعد فيه يسوع إلى أورشليم صعودًا مستترًا، عيد التجديد (10: 22)، فصح الصلب (11: 55- 19: 42) والقيامة (ف 20). وهكذا نستطيع أن نقدّم تصميمًا على أساس سباعيّة الأعياد أو الاسابيع. انطلق يوحنّا من رمز العدد 7 فدلّ على أنّ الملء المسيحانيّ قد تمّ في حياة يسوع ونشاطه الرسوليّ. واقترح شارح آخر أن يقسم إنجيل يوحنّا قسمين، على أن يقسم كلّ قسم جزئين. القسم الأوّل: يوم يسوع، حياته العلنيّة، كشف خفيّ لمجده (1: 19- 12: 50). ويتضمّن هذا القسم كتابَ الآيات (ف 2- 4) وكتابَ الأعمال (ف 5- 12). القسم الثاني: ساعة يسوع، كشف مجده. ويتضمّن هذا القسم كتاب الوداع (ف 13- 17) وكتاب الآلام (ف 18- 20) يتبعه ملحق. يشدّد هذا العرض على موضوع الكشف والوحي وعلى كلمات يوحنّاويّة هامّة: المجد، الآية، العمل، والساعة. ولكنّنا نتساءل عن الفرق بين العمل والآية. ونقول إنّ كلمة “الآلام” لا توافق الطريقة التي بها يعرض يوحنّا دراما الجلجلة.

 

وأبرز شارح ثالث أهمّية 13: 1- 2: “وكان يسوع يعرف، قبل عيد الفصح، أنّ ساعته جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، وهو الذي أحبّ أخصّاءه الذين هم في العالم، أحبّهم منتهى الحبّ”. فبعد نهاية ف 12 التي تشكّل 12: 37- 50 يبدأ ف 13 في صيغة متوازية لبداية الإنجيل (في البدء كان الكلمة). وهكذا يُقْسَمُ الكتاب قسمين: كتاب الآيات وكتاب الالام. ويتميّز كتاب الآيات بسبع حلقات. نلاحظ أنّ خبر عدد من الآيات ينتهي بخطبة طويلة وهكذا يتوحّد العمل والكلمة في القسم الأوّل. أمّا القسم الثاني فمن المفضّل أن نسمِّيَه كتاب الساعة (13: 1) أو كتاب المجد.

إنّ كلمة “الحياة” تسود في ف 1-6 (42 مرة من أصل 56). وينتهي ف 6 بشكل دراماتيكيّ حين يبتعد التلاميذ ويعلن بطرس إيمانه وينبى يسوع بخيانة يهوذا. إذًا لا بدّ من إبراز هذا الفاصل الهامّ. ونبدأ مع ف 7 بمجموعة تسود فيها كلمة موت (24 مرة من أصل 35): “ما شاء يسوع أن يسير في اليهوديّة لأنّ اليهود كانوا يريدون أن يقتلوه ” (7: 1). مجادلات عن أصل يسوع، إعلانات تتبعها تهديدات بالموت خلال عيد الفصح وعيد التجديد حتّى قيامة لعازر.

 

3-) تفسير القمص تادرس يعقوب ملطى لقصة المرأة الزانية

 

“أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون”.

 

في الأصحاح السابق رأينا المضايقات التي حلت بالسيد المسيح خاصة بواسطة القيادات، والآن إذ حل الغروب ترك المدينة وذهب إلى جبل الزيتون، إما ليستريح في بيت أحد أصدقائه أو تحت إحدى مظال عيد المظال. ويرى البعض أنه لم يجد في أورشليم من يأويه في بيته، فانطلق إلى الجبل. ويرى آخرون أنه خرج ليقضي الليلة في الصلاة.

 

“لبث السيد المسيح يُعلم في أورشليم وفي الهيكل يوم العيد الأخير كله، أي اليوم الثامن من عيد المظال، وناقض أقوال الفريسيين. هؤلاء رجعوا عند المساء إلى منازلهم، وأما هو فمضى إلى جبل الزيتون، لأنه كان في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل يخرج يبيت في جبل الزيتون معلمًا إيانا ألا نقتني منازل من حرفة، بل نقتنع بما تدعو الضرورة إليه للراحة فقط، عالمين أننا سنترك هذه الأبنية بعد قليل، وننتقل إلى العالم الباقي، ويكون تعبنا لأجل هذه المنازل باطلاً وعبثًا.”(القديس يوحنا الذهبي الفم)

 

“ثم حضر أيضًا إلى الهيكل في الصبح، وجاء اليه جميع الشعب، فجلس يعلمهم”.

 

جاء السيد المسيح إلى الهيكل في الصباح المبكر لكي يعلم الشعب الذي جاء إليه. بالأمس كان يعلم، وها هو يأتي اليوم باكرًا، مع أنه ربما قضى الليلة كلها على جبل الزيتون يصلي، لكنه كمحبٍ لعمله، ولشوقه أن يتمتع الكل بالمعرفة جاء إلى الهيكل مبكرًا. إنه يحب المبكرين إليه، إذ قيل: “أنا أحب الذين يحبونني والذين يبكرون إليّ يجدونني” (أم ٨: ١٧). وها هو يبكر إلى أحبائه. أراد أن يلتقي مع الشعب داخل الهيكل، إذ لم يأتِ لكي يهجر الشعب القديم بل ليهبهم مفاهيم جديدة ونظرة جديدة نحو الناموس والهيكل والعبادة. جلس يعلمهم، بكونه صاحب سلطان، يود أن يجلس الكل معه، ويستقروا معه، يستمعون إلى الحق ويتمتعون به. اعتاد كبار المعلمين أن يجلسوا أثناء التعليم، إذ يمتد ذلك إلى فترات طويلة، خاصة وان الإنجيلي يوحنا يقول: “جاء إليه جميع الشعب”، فمن جهة فعل “جاء” يحمل استمرارية الحضور، ومن جهة أخرى كلمتا “جميع الشعب” تشيران إلى جموع كثيرة. فكانت الحركة مستمرة ومتزايدة منذ الصباح المبكر (لو ٢١: ٣٨).

 

“وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت في زنا، ولما أقاموها في الوسط”.

 

يرى البعض أنه بسبب انتشار الزنا لم تُعد تطبق الشريعة الخاصة بالمرأة الزانية بأن تحضر أمام الكاهن وتشرب ماء الغيرة (عد ٥: ١٤)، وذلك لأن كثير من الأزواج أيضًا كانوا ساقطين في الزنا. لاحظ الكتبة والفريسيون تجمع أعداد ضخمة من الشعب حول السيد المسيح يسمعون تعليمه منذ الصباح المبكر، فأرادوا من جانب أن يفسدوا هذه الجلسة بإحضار المرأة الزانية لكي ينشغل الكل بأمرها لا بما يعلم به السيد. ومن جانب آخر أرادوا نصب شبكة له، فإن عفا عنها حُسب كاسرًا للناموس، وإن دانها ينفرون منه كشخصٍ قاسٍ.

 

“قالوا له: يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل”

 

يدعونه “يا معلم” بينما في اليوم السابق دعوه مضللاً (٧: ٤٧). فقد الكتبة والفريسيون جوهر رسالتهم وهو الدخول بكل نفس إلى معرفة مشيئة الله، وتمتع الكل بالحب الإلهي. وصار انشغالهم منصبًا في الحرف القاتل، بغض النظر عن خلاص الإنسان وتمتعه بالشركة العميقة مع الله. لهذا لم يكن صعبًا عليهم أن يجدوا امرأة في حالة تلبس بجريمة الزنا. جاءوا بها إلى السيد، كل منهم يحمل في قلبه حجرًا يروي أعماقه المتعطشة لسفك الدماء، مطالبين في داخلهم برجمها، كما برجم شخصية السيد المسيح. لم يدركوا أن السيد المسيح، كلمة الله، لن ينقض الناموس لكنه يكمله، فيرفعه من الحرف القاتل إلى الاهتمام ببنيان الداخل وتقديس الأعماق. ظن الحرفيون في الناموس أنهم حتمًا يتمتعون برؤية المرأة وهي تطرد من الحياة برجمها، إذ لا تستحق الوجود على الأرض، ولا السكنى في بيت، بل تُلقى في حفرة وتنهال عليها الحجارة. ولم يدركوا أنهم جاءوا بها إلى غافر الخطية القدير، الذي وحده يجتذبها من بيت إبليس ويسحبها من منزل الزنا، لا ليعفو عنها، وإنما لتجد في القدوس عريسًا لنفسها، وفي السماء بيت زوجية تستقر فيه.

 

قصة هذه المرأة الزانية تفتح أمام كل نفس باب الحب الإلهي والرحمة، لتجد ناموس المسيح قانونها الداخلي الجذَّاب، فتنعم بالصوت الإلهي: “إني لم آتِ لأدين العالم بل لأخلص العالم” (يو ٣: ١٧؛ ١٢: ٤٧). فلا تجد من يحكم عليها بالموت الأبدي، بل من يشتريها بالدم الثمين ويهبها برَّه السماوي، ويشفع فيها أمام الآب، ويدخل بها إلى الأحضان الإلهية. تحولت هذه القصة من وقوف في محكمة إلى دخولٍ في عرس أبدي سماوي.

 

في رسالته عن العذارى إلى إستوخيوم
Eustochuim
يكتب القديس جيروم مطالبًا إيّاهن أن يتركن بيت أبيهن، أي إبليس، لكي يرتبطن بالعريس السماوي. [ربما تقولين لي: لقد تركت بيت طفولتي، لقد نسيت أبي، ووُلدت من جديد في المسيح، أيّة مكافأة أنالها؟ يُظهر النص ذلك: “يشتهي الملك حُسنك” (مز 45). هذا هو السرّ العظيم. فإنه لهذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويصير الاثنان (ليس كما جاء في النص جسدًا واحدًا)، بل روحًا واحدًا (أف 31: 5-32). عريسكن ليس متشامخًا ولا مستخف بكن… إنه يقودكم إلى حجاله بيده الملوكية].

 

“وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم، فماذا تقول أنت؟”

 

لم يأمر موسى بالرجم بل أمرت الشريعة أن يحكم على الزاني والزانية بالموت (لا ٢٠: ١٠؛ تث ٢٢: ٢٢). لكن كانت وسيلة الحكم بالموت في ذلك الحين هي الرجم. إذ كان عطشهم لسفك الدماء ملتهبًا، ورغبتهم في تلفيق تهم خطيرة ضد السيد المسيح ملتهبة، جاءوا بالمرأة ليقدموا قضية غير متكاملة من الجانب القضائي، إذ لم يأتوا بمرتكب الجريمة مع المرأة، ولا أحضروا الشهود. ومع هذا لم يرفض السيد القضية لعدم تكاملها، لكنه حوَّل أنظار الكل إلى عمق الوصية وغاية الناموس الحقيقية.

 

“ألحوا عليه بالجواب على سؤالهم الخبيث، إذ قد كان في ظنهم لا يقدر أن يفلت من سؤالهم ذي الحدين. إن حّل الزانية يكون قد تجاوز الناموس وقلب نظام الشريعة، وفتح بابًا للزنا، وإن أمر برجمها يكون قد ابتعد عن دعته وحلمه، إلا أن السيد المسيح الذي لم يزل حليمًا، ولا ابتعد عن شفقته، ولا علّم ضد الناموس، لكنه حامى عن الناموس، ولم يفنده، ولم يفسخه، وأنقذ المرأة من القتل.” (القديس يوحنا الذهبي الفم)

 

“قالوا هذا ليجربوه، لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه، وأما يسوع فانحنى إلى أسفل، وكان يكتب بإصبعه على الأرض”

 

جاءوا إليه كقاضٍ يجب أن يحكم بالناموس وإلاَّ حُسب كاسرًا للناموس، ومجدفًا يستحق هو الرجم، ولم يدركوا أن المعزي السماوي. حقا إنه الديان الإلهي لكنه في نفس الوقت المحامي الذي يطلب الخطاة ويطرد الخطية. كتب “بإصبعه على الأرض”، هذا الذي سبق فكتب الوصايا العشرة بإصبعه على حجارة، وسلمها لموسى، يكتب بإصبعه على الأرض ليكتشف الكل أنهم كسروا الوصية، وعاجزون عن تنفيذ الرجم لأنهم خطاة ومستحقون الموت. إنه لا يزال يكتب على أرض قلوبنا، ليحول ترابها الفاسد إلى سماء مقدسة. يكتب بروحه القدوس (بإصبعه) ليكمل الناموس؛ نكتشف خطايانا فلا ننشغل بخطايا الآخرين، بل بخلاصنا وخلاصهم. يسجل بإصبعه عمل الحب فينا! لو أنه حكم عليها بالموت لاشتكوه لبيلاطس أنه أصدر حكمًا بالموت، الأمر الذي نُزع من القيادات الدينية وصار في سلطان الحاكم الروماني وحده. هذا وأن القانون الروماني لم يكن يحكم بالموت بسبب الزنا. وإن عفا عنها يُتهم بأنه يسمح بالتسيب وعدم الحزم بخصوص العفة والطهارة، بجانب كسره للناموس. لم يطلبوا مشورته عن إخلاص لمعرفة الحق، وإنما ليجربوه، لهذا لم يستحقوا أن ينالوا إجابة صريحة، وإنما أن يكشف لهم عما في قلوبهم وأفكارهم وما ارتكبوه سرًا، فصاروا في عارٍ دون أن يعرف أحدهم ما فعله الآخر. لقد ستر عليهم ولم يوبخهم مجاهرة.

 

“إن سألت: ماذا كتب السيد المسيح على الأرض؟ أجبتك: يُحتمل أنه قد رسم شيئًا يسبب حياءً وخجلاً للكتبة والفريسيين، وتبكيتًا لخطاياهم.” (القديس يوحنا الذهبي الفم)

 

“بهذه الكلمات والآراء ربما كانوا قادرين على إشعال الحسد ضده، وإثارة اتهامات ضده، وتكون سببًا لطلب إدانته. ولكن هذه ضد من؟ لقد وقفت الحماقة ضد الاستقامة، والبطلان ضد الحق، والقلب الفاسد ضد القلب المستقيم، والجهالة ضد الحكمة. متى أعد مثل هؤلاء الناس شباكًا، ولم يلقوا برؤوسهم أولاً فيها؟ انظروا إذ أجابهم الرب حفظ البرَّ ولم يفارق اللطف. لم يسقط في الشباك المنصوبة له، بل بالأحرى سقطوا هم فيها، إذ لم يؤمنوا به أنه قادر أن يسحبهم إلى الشبكة التي نصبوها.” (القديس أغسطينوس)

 

“ولما استمروا يسألونه، انتصب وقال لهم: من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر”

 

كان نظام الرجم عند اليهود حسب فكر الحاخامات هو هكذا. تُربط يدا المجرم من خلف وهو نصف عارٍ، ويوضع على منصة ارتفاعها عشرة أقدام أو اثني عشرة قدمًا، ثم يدفعه الشاهدان بكل قوة، فإن مات ينتهي الأمر، أما إذا لم يمت يحمل أحد الشاهدين حجرًا ضخمًا ويضرب به على صدره، وغالبًا ما تكون الضربة القاضية. غير أن هذا النظام لم يكن يُتبع في كل حالات الرجم. إذ ألحوا عليه واستمروا يطلبون رأيه وهو صامت كمن لا يسمع أخيرًا سلمها ليحكموا هم إن استطاعوا.

 

“ثم انحنى أيضًا إلى اسفل، وكان يكتب على الأرض”. (8)

 

جاء في بعض المخطوطات أنه كان يكتب على الأرض خطاياهم. لم يكتب السيد على رخامٍ أو نحاسٍ بل على التراب، لأنه كتب خطاياهم إلى لحظات وتزول، فإنه ينقش أسماءنا على كفه لتبقى خالدة، أما خطايانا فيكتبها على الأرض في التراب لكي تُدفن مع التراب وتنتهي. كتب في التراب لكي يحكم التراب على التراب، أما هو فما جاء ليدين بل ليخلص.

 

“كأن السيد المسيح يقول: قد أريتكم أيها الكتبة والفريسيين جرائمكم على شبه جرم هذه الزانية، بل وأعظم منها كما تشهد عليكم ضمائركم. فإذًا لا تلحوا على دينونة هذه المرأة الزانية بلجاجة وصرامة، بل تذكروا خطاياكم، وافحصوا عن جرمها، لأنكم أنتم خطاة ومجرمون، ومؤهلون للعقاب على شبهها، وإن كنتم تدينونها، فبالأولى أن تدينوا أنفسكم أيضًا، وإن آثرتم رجمها فبالأولى وجب رجمكم… إذًا فقد أنقذ السيد المسيح المرأة الزانية من الموت، ولم يخالف الناموس، لأنه لم يزل قادرًا وحكيمًا ورحيمًا.” (القديس يوحنا الذهبي الفم)

 

“أراد العاصون عن الناموس تنفيذ الناموس، بهذا صاروا مُهتمين بإهماله وليسوا منفذين له، دينوا كزناة بواسطة العفة! لقد سمعتم أيها اليهود، أيها الفرّيسيون، يا معلمو الناموس وحارسوه لكنكم لم تدركوا (يسوع) أنه معطي الناموس! ماذا يعني عندما يكتب بإصبعه على الأرض؟ لقد كُتب الناموس بإصبع اللَّه، لكنه كُتب على حجر بسبب قسوة قلوبكم (الحجرية). الآن يكتب الرب على الأرض لأنه يطلب ثمرًا. لقد سمعتم الناموس، ليته يُنفذ، ليت الزناة يُرحمون… ولكن هل بعقاب هذه المرأة يتم الناموس بالذين هم مستوجبون العقوبة؟ ليتأمل كل إنسانٍ في نفسه، ليدخل إلى نفسه، ويصعد على كرسي الحكم الذي لذهنه، ويضع نفسه وراء قضبان ضميره، ويلزم ذاته بالاعتراف. فإنه يعرف أنه هو، إذ لا يعرف أحد ما للإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. ليتطلع كل واحد بحرصٍ إلى نفسه فيجد نفسه خاطئًا. نعم حقًا، إما تتركوا المرأة لسبيلها، أو تنالون معها عقوبة الناموس.

لو أنه قال بأن الزانية لا تُرجم لبرهن أنه غير عادلٍ، وإن قال إنها ترجم لما ظهر أنه حنًان. ليقل ما قاله كلطيفٍ وعادلٍ: “من كان منكم بلا خطية فليرجمها أولاً بحجر”هذا هو صوت العدالة. لتُعاقب الخاطئة، ولكن ليس بواسطة الخطاة. ليُنفذ الناموس لكن ليس بكاسري الناموس.” (القديس أغسطينوس)

 

“وأما هم فلما سمعوا، وكانت ضمائرهم تبكتهم، خرجوا واحدًا فواحدَا، مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين، وبقي يسوع وحده، والمرأة واقفة في الوسط”

 

إن كانوا قد انصرفوا فكيف كانت المرأة واقفة في الوسط؟ الذين انصرفوا هم المتهمون لها، أما الشعب الذي جاء يستمع للسيد المسيح فبقي واقفًا والمرأة في الوسط. وكأن الله لم يكتب خطايا كل الشعب، إنما الذين اتهموها وحدهم. فمن يدين أخاه يُدان! وبالحكم الذي يحكم به على الغير يُحكم عليه. المغلوبون من الخطية غالبًا ما يكونوا مملوئين عنفًا ضد الخطاة، وأما الأبرار فيترفقون بهم، إذ يدينون أنفسهم لا الآخرين.

 

أظهر الكتبة والفريسيون بتصرفهم هذا أنهم غيورون ضد الخطية، لكن ظهر أنهم هم أنفسهم ليسوا متحررين منها، كانوا كما قال لهم السيد مملوءين من الداخل نجاسة (مت ٢٣: ٢٧-٢٨). بتصرفهم ليس فقط تحاشى السيد الشبكة التي نصبوها له، وإنما سمح لهم أن يسقطوا في ذات الشبكة، إذ صاروا في عارٍ أمام الجمع. لم يستطيعوا تنفيذ الناموس، ولم يوجد أحد منهم مستحقًا أن يرفع أول حجرٍ يلقيه بها. ليتنا لا نلقي الحجارة على اخوتنا بينما نحن أنفسنا نستحق الرجم.ارتعبوا مما كتبه السيد على الأرض كما سبق وارتعب بيلشصر الملك عندما رأى يدًا تكتب على الحائط أمامه (دا ٥: ٢٥). طوبى للذين يجدون سلامهم فيما يكتب السيد المسيح، والويل لمن يرتعب أمام ما يكتبه السيد.

 

حول السيد المسيح أنظارهم من التطلع إلى تصرفات المرأة الزانية أو من انتظار الحكم عليها إلى ضمائرهم الداخلية، ليروا الفساد الداخلي، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الله. لقد اكتشفوا فسادهم، وبدلاً من الاعتراف به وقبول مشورة طبيب النفوس هربوا كما من المعركة (٢ صم ١٩: ٣). كل ما فعلوه أنهم خشوا الفضيحة والعار فهربوا لا إلى المسيح مخلصهم بل إلى خارج المسيح حتى لا يفضحهم نوره.إذ انسحب المشتكون كان يمكن للمرأة أن تهرب، لكنها وجدت خلاصها في السيد المسيح. بتصرفه هذا لم يهادن الخطية، لكنه أعلن أنه جاء ليخلص العالم لا ليدينه، فلم يخشَ الخطاة والعشارون اللقاء معه وهو العارف بأسرار الجميع وخفياتهم.سرعان ما تغير الموقف! امرأة بائسة تترقب رجمها بعد لحظات، وقد أرهبها لا منظر الحاملين للحجارة لرجم جسدها بل ملامح القادة وقد وجدوا سعادتهم في سفك دمها. الآن تركها الكل لتجد نفسها أمام الحب الفائق للخطاة والعمل الإلهي العجيب لتقديس حياتها لحساب ملكوت السماوات! عوض الرعب صارت كمن في عرسٍ. ترى السماء متهللة تنتظر يوم عرسها الأبدي!

 

“فإذ خرجوا أظهروا بالإقرار على أنفسهم أنهم مجرمون على هذه المشابهة، وما أسرعوا بالخروج إلا خوفًا من أن يبتدئ بذكر خطاياهم واحدًا فواحدًا…”مبتدئين من الشيوخ”: خرج الشيوخ أولاً، إما لأنهم كانوا قد ارتكبوا خطايا أكثر، بسبب سنوات عمرهم الأكثر، أو لأنهم فهموا قوة كلام السيد المسيح قبل غيرهم لنباهة فهمهم.” (القديس يوحنا الذهبي الفم)

 

“فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحدًا سوى المرأة، قال لها: يا امرأة، أين هم أولئك المشتكون عليكِ؟ أما دانك أحد؟ فقالت: لا أحد يا سيد. فقال لها يسوع: ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضًا”.

 

يرى البعض أن المرأة تعرضت لمعاملة غاية في القسوة والعنف ممن أمسكوا بها، فاكتفى بهذا التأديب لها.

 

“قول السيد المسيح للمرأة الزانية: “ولا أنا أدينك”، كأنه يقول: “إنني أنا وحدي الذي أستطيع أن أدينك يا امرأة، لأنني وحدي الديان، ولكن لأنني إنما أتيت لأخلص العالم لا لأدينه، فلست أدينك.وبقوله: “اذهبي” كأنه يقول: “اذهبي وكوني في طمأنينة، فإن زناكِ قد نُزع عنكِ، لأنني قد نزعت عنكِ خطاياكِ، فإذًا اذهبي…وقوله: “ولا تخطئي أيضًا” أي أوصيكِ ألا تعودي تخطئي فيما بعد لئلا أدينك على ما تخطئين به. من الآن لا تعودي إلى الخطية مرة أخرى كما يعود الكلب إلى قيئه (أم 26: 11؛ 2 بط 2: 22)، ولا تعودي فيما بعد لئلا تعاقبين.” (القديس يوحنا الذهبي الفم)

 

“الذي غيَّر طبيعة الخمسة أرغفة وصيَّرها أرغفة كثيرة، وأنطق طبيعة الحمار غير العاقل، وجاء بالزانية إلى العفة (يو 8)، وجعل طبيعة النار المحرقة بردًا على الذين كانوا في الأتون، ومن أجل دانيال لطَّف طبيعة الأسود الكاسرة، كذلك يقدر أن يغَّير النفس التي أقفرت وتوحشت بالخطية، ويحولها إلى صلاحه ورآفاته وسلامه بروح الموعد المقدس الصالح. ” (القديس مقاريوس الكبير)

 

“لقد سمعنا صوت العدالة (7)، لنسمع أيضًا صوت الرحمة… ذاك الذي طرد خصومها بلسان العدل رفع عيني الرحمة إليها، قائلاً لها: “ولا أنا أدينك؛ اذهبي، ولا تخطئي أيضًًا” (18).ليحذر الذين يحبون في الرب لطفه، ليخشوا حقه! فإن الرب حلو وحق” (مز 35: 8). أنت تحبه بكونه حلوًا، لتخشاه بكونه حقًا… الرب رقيق، طويل الأناة، حنّان، لكن الرب أيضًا عادل وحق. إنه يفسح لك المجال للإصلاح، لكنك تحب تأجيل الدينونة أكثر من إصلاح طرقك! هل كنت بالأمس شريرًا؟ لتكن اليوم صالحًا. هل أنت مستمر اليوم في شرِّك؟ على أي الأحوال تغيّر غدًا… لكن كيف تعرف أن غدًا يأتي؟… اللَّه وعد بالغفران لمن يُصلح من شأنه، لكنه لم يعدني بأن يطيل حياتي (للغد)!.” (القديس أغسطينوس)

 

يحذرنا القديس أغسطينوس من اليأس كما من الرجاء الباطل، فمن ييأس ظانًا أن اللَّه لا يغفر له يقتل نفسه باليأس، ومن يسترخي مهملاً في التوبة بدعوى رحمة اللَّه تنقذه غدًا يهلك نفسه بالرجاء الباطل. قدم الكتبة والفريسيون امرأة أُمسكت في زنا وسألوه عن حُكمه عليها إن كانت تُرجم حسب شريعة موسى أم لا. ولعلهم كانوا يتوقعون أنه يوافق على رجمها، فيطلبون منه أن يبدأ بالرجم، فينفر الكثيرون منه بعد أن لمسوا فيه الرقة واللطف حتى مع الخطاة، وإن رفض يُحسب كاسرًا للناموس فيلزم محاكمته.

 

لم يعترض على حكم الشريعة لكنه سأل عمن يتأهل للبدء بالرجم، “من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر” (7). انسحب الشيوخ أولاً ثم الآخرين بينما كان يكتب السيد المسيح على الأرض، بلغة قرأ كل منهم فيها خطيته الخفية. بقيت المرأة الزانية وحدها تقف أمام ديان العالم كله الذي ما جاء ليدين بل ليخلص، فسألها ألا تعود للخطيئة. هو وحده من حقه أن يدينها، لكنه يفتح أبواب الرجاء أمام الخطاة للتوبة. قدم نفسه محررًا للنفس، بكونه الحق الإلهي (32). مع لطفه وحنانه نحو الخطاة من الشعب اظهر حزمه مع القيادات الدينية التي طلبت أن تمارس عمل أبيها: إبليس القتال، أب الكاذبين. أراد أن يحررهم من بنوتهم لإبليس، فيتمتعوا بالحق عوض الكذب، ويمارسوا الحب عوض شهوة القتل. ظنوا أنهم أبناء إبراهيم الحر، مع أنهم لم يمارسوا أعماله بل أعمال إبليس. أما يسوع فأعلن أن إبراهيم هذا تهلل أن يرى يومه، فرأى وفرح (56).تكشف قصة تعامل السيد المسيح مع المرأة الخاطئة عن طبيعة السيد المسيح الملتهبة بالحب نحو الخطاة، يشرق عليهم بأشعة حبه ليبدد ظلمتهم.

 

4-) تفسير الخورى بولس الفغالى للقصة

 

إتخذ يسوع موقفاً ضد الشريعة وممثّليها، فلم يحكم على المرأة. ولكن آ 7 ب (يرميها بأول حجر) تدلّ على أنه أخذ بالعقاب الأقسى الذي هو الرجم فارتبط مع تث 17: 7 (أيدي الشهود تكون عليه لقتله). بالإضافة إلى ذلك، طلب أن يمتحن الشهود هم أيضاً: هل هم أبرياء من كل خطيئة؟

 

إن قساوة الحل الذي قدّمه في خط العهد الجديد، يقابل مع مت 5: 28 (وأنا أقول لكم: من نظر إلى إمرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه) أو مر 10: 9 (ما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان).

 

نحن نخطىء إن استخلصنا من هذا المقطع أنه لا يحق لأحد أن يعلن حكماً إلاّ إذا كان بلا خطيئة. أو أن الحكم بالإعدام منافٍ للتقليد البيبلي. فجواب يسوع لا يتوجّه إلى قضاة رسميين يسألونه نصيحة، بل إلى أناس يحاولون أن يهلكوه بالموقف الذي يتّخذه. ثم إن يسوع يعرف الأسباب التي دفعت المتهمين ليراقبوا هذه المرأة.

 

أول ما نكتشف في هذا النصّ هو أن يسوع هو المعلّم

 

منذ البداية، جعله يوحنا في موقف السلطان والتعليم. فالخبر يبدأ في مساء يوم من التعليم في الهيكل. وعاد كلّ واحد إلى بيته (7: 53). وذهب يسوع بدوره إلى جبل الزيتون كما اعتاد أن يفعل (رج لو 22: 39). وفي الصباح الباكر نجده في الهيكل يعلّم الشعب جميعاً (رج 21: 37). نحن لسنا هنا أمام مضمون تعليم، بل أمام الفعل التّعليمي بحدّ ذاته أي: تفسير الشريعة بحكمة. إنه معلّم، وبصفته معلّماً سيخضع لإمتحان وتفتتح الدعوى على المرأة الزانية (آ 3- 9) بانتظار أن تكون دعوى وحكماً على يسوع.

 

منذ البداية يظهر التعارض بين الكتبة والفرّيسيين، المفسّرين الرسميين للشريعة، وبين يسوع. أوصانا موسى في الشريعة… وأنت ماذا تقول؟

 

الزنى يتبعه الحكم بالإعدام. كيف يتمّ؟ بالرجم، كما يقول تث 22: 23- 24 عن صبية غير متزوجة: “إذا كانت فتاة بكر مخطوبة لرجل، فصادفها رجل في المدينة فضاجعها، فأخرجوهما إلى باب تلك المدينة (حيث المحكمة) وأرجموهما بالحجارة حتّى يموتا”. فاستنتج بعض الشرّاح أن المرأة الزانية في يوحنا رجمت، لأنها كانت عذراء غير متزوّجة. ولكن لا ننسى أن الرجم كان الطريق العادية للحكم بالإعدام عند اليهود (رج حز 16: 38- 40). وتلك كانت الحالة في أيام يسوع.

 

لماذا اقتادوا هذه المرأة إلى يسوع؟ فالمجلس الأعلى قد حكم عليها وانتهى! ولكن يسوع يقول: “ألم يحكم عليك أحد”؟ ثم كيف نتخيّل أن السلطات اليهودية ربطت حكماً رسمياً بواعظ “صغير” لا مكان له يعلّم فيه (هو يعلّم على الطرقات). وظنّ شرّاح آخرون أن الحكم لم يصدر في المرأة، لأن المجلس الأعلى لم يعد له بعد سنة 30 ب. م. سلطان الفضاء والحكم، بعد أن سلبه الرومان إمكانية الحكم بالإعدام. وقد نكون أمام خطف سريع لإمرأة أخذت في زنى، فطُلب من يسوع أن يوافق.

 

مهما يكن من أمر، فالفخ مرعب وسيسقط فيه هذا “الواعظ” لا محالة. إذا انضمّ يسوع إلى القائلين بالحكم على هذه المرأة حسب ناموس موسى، دخل في خط التمرّد على السلطة الرومانية. هذا من الوجهة السياسية. ومن الوجهة الدينية، يعارض أعظم ما في تعليمه حول إله رحيم وحنون. كان رفض أن يحكم، فهو يعارض موسى، السلطة العليا في العالم اليهودي. فخّ محكم، وهو قريب من حدث الجزية التي تُدفع لقيصر (مر 12: 13- 17).

 

ووقف يسوع وجهًا لوجه أمام الشريعة!

 

نحن لا نجد في هذا النصّ الجواب على جميع أسئلتنا. فما لا يقوله يساعدنا على تركيز الخبر على يسوع الخاضع لمحنة صعبة قد تدلّ على ضعفه أو قوّته. فناموس الموت يعاقب بالإعدام هذه المرأة. هو يحكم على خطيئتها وحدها بشكل نهائي. ولا يقول شيئًا عن الرجل الذي خطئت معه، والذي هو مسؤول مثلها. جاء جواب يسوع لبقًا. وبدت لباقته انفتاحًا على الحياة لا انغلاقًا على الموت.

 

في البداية كان جواب يسوع الصمت. ظلّ يسوع جالسًا، ولم يجب على سؤالهم الأول إلاّ بخطوط رسمها على الأرض. هل كتب أموراً واضحة؟ تخيّل تقليد يعود إلى القدّيس ايرونيموس، أن يسوع دوّن خطايا متهميها. وافترض آخرون أنه كتب نصّ إر 17: 13: “كل الذين يتركونك يخزون. والذين مالوا عنك يكتبون على التراب”. أو خر 23: 1: “لا تضع يدك بيد الشرير لشهادة زور”.

 

وفكّر آخرون بالقاضي في الشرع الروماني، الذي يكتب أمامه الحكم قبل أن يعلنه. أما يسوع، فرسم خطوطًا على الأرض ليطول الصمت فيعطي الحكم الآتي وزنه وأهميته. وإصبعه المنتصب هو تساؤل وحكم على قضاة ينسون خطاياهم الخاصة. وألحّ القضاة، فأحالهم يسوع إلى وضعهم كخطاة أمام هذه الشريعة التي يرفعون رايتها: “من لم يخطىء يومًا…”. فراحوا وهم يجرّون أذيال الخيبة. وكان أول الذاهبين الشيوخ الذين كانوا أحكم من غيرهم في التعرّف إلى حالتهم الخاطئة. وانتهت المحنة، وخرج يسوع منتصراً. فلم يبقَ إلاّ ذاك الذي لم يعرف الخطيئة (يسوع) وتلك التي أعلنت خطيئتها (المرأة). وقال اغوسطينس: “بقي اثنان في الساحة المرأة التعيسة والرحمة اللامتناهية).

 

لم يبق هناك إلاّ يسوع والمرأة (آ 10- 11)

 

إنتهت المواجهة وانتهى الجدال. والخبر سينتهي. تلك كانت حالة خبر الجزية لقيصر. ولكن “طعم الفخ” هنا ليس شيئاً مادياً لا روح له. ليس مجرّد نقد نتبادله. ليس قطعة نقود. إنه كائن بثري قد أذلّ وأهين. إنه إمرأة لا مستقبل لها وقد سُجنت في حلقة الموت. لقد أغلقوا عليها في دائرة حكمهم. إنفتحت دائرة، ولكنها ظلّت مسجونة فيها لا تجسر أن تخرج منها. إنها تحتاج إلى من يكلّمها ويسمح لها بأن تخرج من سجن خطيئتها. هذا ما فعله يسوع. قال لها: “إذهبي، ولا تعودي إلى الخطيئة من بعد). حينئذ صارت إنسانة، وانفتح المستقبل أمامها من جديد. لم تلغَ الشريعة ولم تُمح. ولكنها صارت “إنسانية” (رحيمة)، صارت طريق حياة وفداء. وكشف يسوع عن نفسه أنه معلّم حكمة، معلّم الإنسان.

 

5-) تفسير القس انطونيوس فكرى للقصة

 

حدث في القرون الأولى أن بعض النساخ لم يكتبوا هذه الآيات لأنهم ظنوها تشجع على الخطية. ولكن هذه القصة موجودة في معظم النسخ وبالذات في النسخ القديمة جداً. وقد وردت حرفياً في كتاب تعليم الرسل في موضوع قبول المسيح للخطاة. ووردت في الدسقولية. والمسيح هنا لم يتساهل مع الشر بل هو صفح مع وصية أن لا تخطئ ثانية.

 

الآيات (1-6): “أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون. ثم حضر أيضاً إلى الهيكل في الصبح وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم. وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت في زنا ولما أقاموها في الوسط. قالوا له يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل. وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت. قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه وأما يسوع فانحنى إلى اسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض.”

 

في آية (1) المسيح يذهب إلى جبل الزيتون، فيظهر التناقض واضحاً فالفريسيين ذهبوا إلى بيوتهم أي لأماكنهم الشريرة أمّا المسيح فذهب إلى جبل الزيتون حيث كان يصلي أي إلى حيث علاقته مع الآب. ولأن يسوع كان معتاداً على الذهاب إلى جبل الزيتون عرف يهوذا مسلمه هذا المكان وسلًّمه فيه (لو37: 21،38). المسيح تكلم فيما سبق عن الروح القدس ثم ها هو يذهب لجبل الزيتون، وزيت الزيتون هو زيت المسحة الذي به يحل الروح القدس على الممسوح كاهناً أو ملكاً ومنه زيت الميرون. الذي به يحل الروح القدس على كل معمد ويمسح بزيت الميرون.

 

جلس يعلمهم= كانت هذه عادة المعلمين أن يجلسوا لأنهم يستمرون في التعليم لساعات طويلة (لو20: 4+ مت1: 5+ مت55: 26). حضر أيضاً إلى الهيكل= قوله أيضاً يشير لأن يسوع صار معلماً معروفاً والشعب يلتف حوله وهذا أغاظ الفريسيين والكهنة.

 

وقد أتوا للمسيح بهذه الزانية وكان هدفهم إحراجه فالمفروض أن يذهبوا بها للقاضي فهل المسيح قاضي لهم ولنلاحظ:

 

1.عقوبة الزانية الرجم بحسب الناموس (لا10: 20) فإن حَكَمَ المسيح بغير الرجم يكون مخالفاً للناموس ويلقون القبض عليه ويكون مستحقاً القتل.

2.لوحَكَمَ بالرجم يكون خالف نفسه لأنه يدعو للرحمة والحب.

3.هم كانوا يحرجونه فمن استهزأوا به كيف يجعلونه قاضياً فجأة؟!

4.يتضح من هذا ظلمهم، فلماذا لم يأتوا بالرجل الذي أمسكت معه في ذات الفعل، هل يحكمون بمكيالين؟! فالحكم يجب أن يكون على الزاني والزانية.

5.إن حَكَمَ المسيح بالرجم فيكون هذا ضد قوانين روما التي تمنع اليهود من أن يصدروا أحكاماً بالقتل.

6.قالوا له يا معلم.. موسى أوصى. فكيف وهم يقولون له يا معلم يذكروه بناموس موسى.. هذا للإحراج قطعاً.

 

والمسيح أتي لا لينقض الناموس بل ليكمله. ولم يأتي في مجيئه الأول ليدين العالم بل ليخلص العالم (يو17: 3+ 47: 12+ 22: 5). هو جاء ليبرئ الخاطئ لا ليقتله ولكن هذا سيكون على حساب نفسه، إذ سيموت هو عوضاً عن الخاطئ. فالمسيح حين حكم ببراءتها دفع هو حياته ثمناً لهذه البراءة. وكان هذا هو التشريع الجديد أو الناموس الجديد في مقابل ناموس موسى الذي يقضي برجم الزانية. ناموس موسى هو قاضٍ ضد المتهم أما المسيح فهو قاضٍ ومحامٍ في آن واحد. ليجربوه= هو نفس إسم إبليس= المجرب (مت1: 4،3) ملحوظة: ناموس موسى كأي قانون يحكم بحسب الظاهر وليس بحسب القلب.

 

إنحنى الرب ليكتب على الأرض= ماذا كان يكتب المسيح؟ ربما كتب لهم خطاياهم ليرى كل واحد صورة نفسه دون أن يفضحهم أمام الآخرين. وغالباً هو كتب الخطايا أو الوصايا التي كسروها كما كتب في القديم على لوحي الحجر، وربما كان يضع كل واحد أمام ضميره، وكانت فرصة للهدوء في هذا الإندفاع الأهوج ضد المرأة. المسيح وضع رأسه لأسفل فهو القدوس لم يشأ أن ينظر لهؤلاء الخبثاء ولهذه الزانية، هو حزين لما إنحدر إليه البشر. وكثيراً ما يفعل المسيح هذا معنا، إذ حينما نتكلم على أحد ونشهر به تبكتنا قلوبنا إذ تكون لنا نفس الخطية أو خلافها.

 

الآيات (7-9): “ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر. ثم انحنى أيضاً إلى اسفل وكان يكتب على الأرض. وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين وبقي يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط.”

 

لكنهم استمروا يطالبونه بالجواب فكتب ثانية بعد أن وضع مبدءاً جديداً فليرمها بحجر من كان بلا خطية. لذلك ربما في كتابته أولاً وضعهم أمام ضمائرهم ولما لم تستيقظ ضمائرهم وضع هذا المبدأ أن لا يجوز لشرير أن يحاكم شريراً آخر وجلس في المرة الثانية ليكتب خطاياهم صراحة فخجلوا وإختشوا إذ وجدوه يعرف كل شئ وفاحصاً للقلوب والكلى. هنا كتب خطاياهم على الرمل فيمكن أن تمحى بالتوبة، ولكن هناك تسجل ولا تمحى فيدانوا. وأظهر الرب أن المسيح الذي بلا خطية هو الديان الواحد الوحيد.

 

هنا المسيح لم يخالف ناموس موسى بل وافق عليه ولكنه وضعهم أمام مشكلة من الذي ينفذه، من الذي يستحق؟! بهذا هو يكمل ناموس موسى ويكمل ما نقص فيه وفيهم. وهنا كان قضاة هذه المرأة مثل قضاة سوسنة. فإنسحب الجميع إذ إنكشفوا أمام الرب. والشيوخ إنسحبوا أولاً إذ لطول مدة حياتهم على الأرض كانت خطاياهم أكثر، والشيوخ المفروض هم رمز للحكمة والطهارة. لقد ستر الرب عليهم ولم يفضحهم فكان عليهم أن يستروا على المرأة، ولنستر نحن إخوتنا. وبإنسحاب المدعين والشهود سقطت القضية وبقيت المرأة ولم تنسحب وهذا دليل على بداية مشاعر التوبة والإنسحاق عند المرأة. هي وجدت في المسيح سلطان وقداسة وغفران ومحبة تحتاج لهم. والله كما كتب الوصية في العهد القديم، يكتب الآن بروحه القدوس (إصبعه) على قلوبنا. فنطيع وصاياه بالحب. المسيح أتى بالحنان والرحمة، وهذا ظهر في هذا الموقف. وظهر أن الله يدين الخطية لكنه يريد خلاص الخطاة.

 

الآيات (10،11): “فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحداً سوى المرأة قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك أما دانك أحد. فقالت لا أحد يا سيد فقال لها يسوع ولا أنا أدينك اذهبي ولا تخطئي أيضاً.”

 

ما حدث هنا هو بالضبط ما جاء المسيح ليعمله. فقبل المسيح ما كان يمكن غفران أي خطية. أي خطية كانت تتسبب في هلاك الخاطئ (فبسبب خطأ من موسى حُرِم من دخول أرض الميعاد). ولكن بدم المسيح تغفر الخطية والدينونة = ولا أنا أدينك. ويكون لنا فرصة أخرى= إذهبي ولا تخطئ أيضاً.

خسر المشتكون قضيتهم وإنسحبوا كقضاة وإتضح أن الناموس عاجز إذ لا يوجد القاضي الذي هو نفسه بلا خطية والمؤهل للحكم على الخطاة ويضاف لعجز الناموس أنه يدين بحسب الظاهر، أمّا حكم المسيح فهو بحسب الداخل. لذلك إذ إنسحب القضاة الناموسيون لم يبق سوى المسيح الديّان وحده. ولكنه في مجيئه الأول لم يأت ليدين بل ليكفر عن خطايا البشر بدمه.

 

وبرأها المسيح فهو أتى ليبرئها بدمه ولكن بشرط إذهبي ولا تخطئ أيضاً وهذه دعوة للتوبة بل منحها قوة لكي لا تعود تخطئ وقوله إذهبي فيه منحها بركة وسلام، مع غفران= ولا أنا أدينك. ويوحنا وضع هذه القصة هنا ليشرح الفارق بين ناموس موسى وشريعة المسيح. الناموس ليس به عيب ولكن العيب في البشر (فساد الشهود كما حدث في قصة سوسنة ونابوت اليزرعيلي) كما أن الناموس يحكم بالموت على الخاطئ ولا يعطي فرصة للتوبة كما عمل المسيح. وإنتصار النعمة على الناموس في هذا الموقف يعطينا ثقة في القدوم للمسيح فيغفر خطايانا ولاحظ المسيح يقبل الخاطئ ولكنه لا يقبل أن يستمر الخاطئ في خطيته. فلنتقدم الآن لأن المسيح مازال يكتب خطايانا على الرمال فإذا إعترفنا بخطايانا غفرت لنا ونسمع صوت الرب على فم الكاهن مغفورة لك خطاياك.. لا تعود تخطئ.. إذهب بسلام الرب معك. والقديس أبو مقار تعلَّم هذا الدرس من المسيح وستر على الأخ الزاني وقال له لا تفعل ذلك ثانية. ولكن الآن بعد أن برأنا المسيح فمن يستهين بدم المسيح فدينونته أعظم (عب1: 2-3+ عب26: 10-31).

 

6-) تفسير الخادم بنيامين بنكرتن

 

لما تفرق اخصام المسيح كل واحد إلى بيتهِ مضى هو إلى جبل الزيتون خارج المدينة التي رؤساؤها كانوا كذئاب خاطفة ثم رجع إلى الهيكل اليوم التالي صباحًا فجلس يُعلم فخطر ببال الكتبة الماهرين بالشريعة والفريسيين المتعصبين بالدين أنهم يستطيعون أن يخجلوا المسيح قدام جميع الشعب فقدموا إليهِ امرأة أُمسكت في زنا وأقاموها في الوسط. ثم خاطبوه كَمُعلَّم متظاهرين بأنهم يكرمونهُ وأخبروهُ جهارًا بدعوى تلك المرأة المشكو عليها. فلا يوجد ريب بأنها مذنبة.

 

ولكن يا ترى ماذا يجب أن يفعلوا بها؟ كان موسى قد أوصاهم في الناموس: أن مثل هذه ترجم (انظر لاويين 10: 20؛ تثنية 22: 22). ثمَّ قالوا للمسيح: فماذا تقول أنت؟ فعملوا ذلك بالرياء والمكر لأنهم من زمان طويل لم يرجموا زانية وظنوا أن الرب لا يقدر أن يتخلَّص من هذه الشبكة، لأنهُ إن قال لهم اتركوها فهو مُخالف لناموس موسى فيكون أمرهُ واضحًا للجميع. ونرى فيهم معظم رداءة قلب الإنسان بحيث أنهُ يستعمل شريعة الله العادلة المقدسة لكي ينقض بها النعمة المجانية التي نحتاج إليها جميعنا. وأما يسوع فانحنى إلى أسفل، وكان يكتب بإصبعهِ على الأرض. كان كامل الحكمة وعرف كيف يتصرف مع أولئك المكارين الذين رفضوا النعمة، ولم يزالوا يخالفون الناموس. لسنا نعلم ماذا كان الرب يكتب على الأرض؟ ولكننا نعلم أنهُ كان قادرًا لو شاء أن يكتب أسماءهم وقائمة خطاياهم مقابلها.

 

فاستمرُّوا يسألونهُ وربما افتكروا، أنهُ مرتبك في مسألتهم، ولا يقدر أن يجاوبهم خوفًا من النتيجة. فتأنى عليهم إلى أنهم أظهروا أنفسهم تمامًا قدام الجميع، ثمَّ انتصب وقال لهم: من منكم بلا خطية فليرمِها أولاً بحجر. فمعناهُ أن حكم الناموس على مثل هذه المرأة هو صادق، ولا اعتراض عليهِ غير أنهُ يقتضي وجود من يجريهِ. نحن جميعًا خطاة، وإذا أخذنا الناموس لكي نحكم بهِ على الآخرين فيحكم علينا نحن قبل الكل. فأنهُ مثل سيف حادّ بلا مقبض فكل خاطئ يمسكهُ إنما يجرح نفسهُ. ثمَّ انحنى أيضًا إلى أسفل، وكان يكتبّ على الأرض. كان هادئًا غاية الهدوء لأن كلامهُ كان مثل النور الذي يخرق الظلام الدامس. وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحدًا فواحدًا مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين. فأخذوا يتذكرون كل واحد بخطاياهُ، لأن كلام الرب مسَّ ضمائرهم القاسية رغمًا عنهم، ولكنهم عملوا مثل آدم بعد سقوطهِ حين سمع صوت الله وخاف وابتعد عن حضورهِ. فلم يريدوا أن يأتوا إلى النور لئلا توبخ أعمالهم (راجع إصحاح 20: 3).

 

لو ابتدأت فيهم التوبة لخرُّوا أمام الرب معترفين بخطاياهم طالبين منهُ نفس الرحمة التي كانت تلك الزانية تحتاج إليها لأن من عثر في نقطة واحدة من الناموس قد صار مجرمًا في الكل. فشعروا بخطاياهم، ولكنهم خافوا على صيتهم قدام الناس فابتعدوا عن النور خوفًا من أنهُ يكشف شرورهم، ويجلب عليهم إهانة من الناس. كانت خطايا جميعهم كثيرة، ولو أراد الرب أن يشهرهم لكان قادرًا على ذلك بكل سهولةٍ. وأما الشيوخ فخافوا أكثر فأسرعوا إلى الخروج وسبقوا الآخرين. فهذه حالة الإنسان إذا ظهرت لهُ خطاياهُ أمام الله والنعمة ليست عاملة فيهِ لتأتي بهِ إلى التوبة لأنهُ يهرب من النور مفصلاً صيتهُ الكاذب مع الناس على الاقتراب إلى الله والاعتراف بخطاياهُ لخلاص نفسهِ. ولا يُخفى أن الصيت الحسن في الديانة هو أعظم فخ لصاحبهِ، ويمنعهُ عن الخضوع لنعمة الله. كما قال الرب مرةً عن أولئك الرؤساء: أيُّها القادة العميان، الذين يصفُّون عن البعوضة ويبلعون الجمل. ويل لكم، أيُّها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تنقون خارج الكأس والصفحة، وهما من داخل مملوآن اختطافًا ودعارة (مَتَّى 24: 23، 25). لا شك بأن المرأة التي اشتكوا عليها كانت مذنبة، ولكن لو انتبهوا لحالتهم لرأوا أنفسهم أذنب منها أضعافًا.

 

وبقى يسوع وحدهُ والمرأة واقفة في الوسط. ولكننا نعلم أن الناموس صالح، إن كان أحد يستعملهُ ناموسيًّا (تيموثاوس الأولى 8: 1). فعرف الرب أن يستعمل الناموس ناموسيًّا فبكَّت بهِ ضمائر اخصامهِ وسدَّ أفواهم. لا يقدر الإنسان أن يقف أمام الله على مبدأ الناموس. كما قال داود النبيّ: ولا تدخل في المحاكمة مع عبدك فأنهُ لن يتبرَّر قدامك حيٌّ (مزمور 2: 143). فخرج أولئك المراؤون معتنين بصيتهم الحسن، ولكن محكوم عليهم في ضمائرهم من نفس الشريعة فبقيت واقفة في الوسط أمام الرب.

 

فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحدًا سوى المرأة قال لها: يا امرأة، أين هم أولئك المشتكون عليكِ. أما دانكِ أحدٌ، فقالت: لا أحد يا سيد، فقال لها يسوع: ولا أنا أدينك، أذهبي ولا تخطئي أيضًا. قابل هذا مع ما قالهُ سابقًا. لأنهُ لم يرسل الله ابنهُ إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص بهِ العالم (إصحاح 17: 3). فلم يحضر المسيح في الأول لكي يجري الدينونة فأبى هنا أن يدين تلك المرأة الخاطئة من بعد هبوط دعوى المُشتكين عليها. ثمَّ صرفها قائلاً: أذهبي، ولا تخطئي أيضًا. فلا يذكر هل آمنت بهِ أم لا؟ ولا هل نالت مغفرة خطاياها أم لا؟ لأن ذلك ليس من مقصد الوحي بما أدرجهُ هنا بحيث أنهُ يرينا إياهُ كالنور الذي أضاء في الظلام المُبكت منهُ، ولم يدركهُ.

 

7-) التفسير التطبيقى للكتاب المقدس

 

يو 8: 6 قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ.

 

لأن المرأة أمسكت في ذات فعل الزنا فقد تجاهل رؤساء اليهود الشريعة إذ أحضروها بدون الرجل. وقد طالبت الشريعة برجم كلا الطرفين (لا 20: 10 ؛ تث 22: 22). أما رؤساء اليهود فاستخدموا المرأة فخا لاصطياد الرب يسوع. فلو قال يسوع ألا ترجم المرأة لأمسكوه بسبب انتهاكه لشريعة موسى. ولو حثهم على قتلها لأوصلوا ذلك إلى الرومان الذين لا يسمحون لليهود بتنفيذ حكم الإعدام بأنفسهم.

 

يو 8: 7 وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!»

 

هذه عبارة هامة عن إدانة الآخرين. وبذكر الرب يسوع لعملية رمي الحجارة أو الرجم لم يكن ممكنا اتهامه بأنه ضد الشريعة. ولكن بقوله إن من هو بلا خطية فليرمها أولا بحجر ركز الضوء على أهمية الرحمة والمغفرة. فإن أمسك غيرك في خطية هل تسرع بإدانته؟ لو فعلت هذا فكأنك لم تخطيء على الإطلاق. ولكن هذا هو دور الله في الدينونة وليس دورنا نحن. أما دورنا فهو إبداء الشفقة والغفران.

 

يو 8: 9 وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسَطِ.

 

عندما قال الرب يسوع لهم من كان منهم بلا خطية فليرمها بأول حجر ابتدأ الجميع في الانسحاب ابتداء من الشيوخ إلى الشبان. وبالتأكيد إن الشيوخ كانوا أكثر إدراكا لخطاياهم من الشباب. فالسن والخبرة تحد من مثالية الشباب وبرهم الذاتي، ومهما كان عمرك ألق نظرة أمينة على حياتك واعترف بطبيعتك الخاطئة الآثمة وأنفق وقتا أكثر في البحث عن طرق لمساعدة الآخرين بدلا من تجريحهم.

 

يو 8: 11 فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً».

 

لم يحكم الرب يسوع على المرأة المتهمة بالزنا ولم يدنها، لكنه أيضا لم يتجاهل خطيتها أو يتجاوز عنها. بل قال لها “اذهبي ولا تعودي تخطئين”. إن الرب يسوع مستعد أن يغفر أي خطية في حياتك لكن الاعتراف والتوبة معناهما تغيير القلب. وبمعونة الله يمكننا أن نقبل غفران المسيح ونكف عن فعل الخطايا.

 

😎 تفسير القس بسام مدنى

 

سرد لنا الرسول في فاتحة الفصل الثامن حادثة المرأة التي أمسكت في خطية الزنى. قال زعماء اليهود من كتبة وفريسيين للمسيح: يا معلّم إن هذه المرأة أخذت في الزنى في ذات الفعل. وقد أمرنا موسى في الناموس (أي في الشريعة المدوّنة في كتاب التوراة) بأن مثل هذه ترجم. فماذا تقول أنت؟ قالوا هذا ليجرّبوه ليكون لهم ما يشكونه به. أما يسوع فانحنى إلى أسفل وجعل يخطّ بإصبعه على الأرض.

 

لم تكن غاية الكتبة والفريسيين نبيلة أو شريفة عندما جاؤوا بالمرأة الزانية إلى المسيح وطلبوا منه أن يدلي باجتهاده في تفسير وتطبيق الشريعة الموسوية. وكانت هناك عند اليهود وفي أيام المسيح محاكم شرعية تعالج أمور الأحوال الشخصية وتبتّ في هكذا جرائم أخلاقية. أفهمنا يوحنا الرسول أن أعداء المسيح جاؤوا إليه بتلك القضية ليكون لهم ما يشكونه به. فانحنى المسيح إلى أسفل وجعل يخط بإصبعه على الأرض. وموقف المسيح هذا أي انحناؤه إلى أسفل وكتابة بعض الكلمات بإصبعه على الأرض، أشار إلى امتعاضه الكبير من موقف الزعماء الدينيين وعدم استعداده للإجابة على سؤالهم المفرض. ولما ألحوا عليه بالإجابة وقف وقال لهم: من كان منكم بلا خطيّة فليرمها بحجر أولاً.

 

كان زعماء اليهود في القدس يدّعون بأنهم حفظوا شريعة موسى أي أنهم كانوا يعيشون بطريقة منسجمة مع نصوصها في أمور الحلال والحرام. وكانوا يقفون موقف المتزمتين طالبين من السلطات الدينية في القدس وفي بقية أنحاء الأرض المقدسة بأن تشدد على أهمية تطبيق العقوبات المنصوص عليها في الشريعة. ولم يكن السيد المسيح من الداعين إلى نقض الشريعة أو جعلها بدون مفعول في حياة معاصريه. لكنه كان يرغب من الناس بأن يفهموا ويختبروا غاية الشريعة وخاصة وصايا الله العشر التي تنظّم حياة المؤمنين والمؤمنات في بعديها العمودي والأفقي. (أعني بهاتين العبارتين أن الوصايا العشر تنظّم أولا أمور الدين والعبادة بين الله والإنسان وذلك في الوصايا الأربعة الأولى – وهذا ما ندعوه بالبعد العمودي للواجبات الدينية. بينما تنظّم الوصايا الستة الباقية علاقة الإنسان بجاره أو قرينه الإنسان – وهذا ما نسمّيه بالبعد الأفقي لمتطلبات الشريعة.)

 

أراد السيد المسيح بأن يشدّد على وجوب النظر إلى خطية كل بشري، تلك الخطية الكامنة في قلبه والمسيطرة على جميع نواحي حياته. لكن الناس لا ينظرون عادة إلا إلى خطايا ومعاصي وزلات الآخرين! أخطأت تلك المرأة فجاؤوا بها إلى المسيح طالبين منه أن يعطي كلمته في العقاب الذي يصاحب خطية الزنى.ولم يكن المسيح ليقلل من بشاعة أو خطورة تلك الخطية، لكنه أراد أن يسلط هؤلاء المتدينون نور الشريعة الإلهية على أنفسهم وليس فقط على خطايا الآخرين. وهكذا تفوّه المسيح بهذه الكلمات الشهيرة: من كان منكم بلا خطية فليرمها بحجر أولاً.

 

لم يبرّر المسيح المرأة الزانية بمعنى أنه لم يقلّل من خطورة خطيّتها ولم ينظر إلى تلك الخطية وكأنها أمر اعتيادي كما يقوم بذلك العديدون من معاصرينا والذين لا يؤمنون بتعاليم الشريعة الإلهية التي تأمرنا بالعفّة والطهارة الجنسية. لفت المسيح أنظار المشتكين على المرأة الزانية إلى أن اهتمامهم الأوّلي كان يجب أن ينحصر في خطاياهم ومعاصيهم وآثامهم. ومن منهم لم يكن قد ارتكب خطية جنسية إن لم يكن بالفعل فعلى الأقل بالفكر والتصوّرات الشهوانيّة؟

 

ما أن سمعوا كلمات المسيح هذه حتى صارت ضمائرهم توبّخهم فطفقوا يخرجون واحداً فواحداً من الشيوخ إلى الآخرين. عملت كلمات المسيح التيكيتيّة عملها المنعش فشعر الفريسيّون والكتبة في قرارة قلوبهم أنهم كانوا خطاة وأثمة وأنهم لم يكونوا أحسن حالاً من المرأة الزانية. كتب الرسول يوحنا قائلاً: وبقي يسوع وحده وتلك المرأة قائمة في الوسط. فلما اعتدل يسوع ولم ير أحداً سوى المرأة قال لها: يا امرأة، أين الذين يشتكون عليك؟ ألم يحكم عليك أحد؟ فقالت: لا أحد يا سيّدي. فقال يسوع: ولا أنا أحكم عليك، اذهبي ولا تخطئي بعد.

 

اذهبي ولا تخطئي بعد! الخطية والغفران. اعترفت المرأة بخطيّتها. هذه هي الخطوة الأولى في حياتها الجديدة. الاعتراف القلبي بالخطية. لم تدع تلك المرأة قائلة: إنني لم أخطئ، ولم تقل كما يقول العديدون من معاصرينا أن خطية الزنى وغيرها من الخطايا الجنسية ليست بخطية فيما إذا ما قام بها الناس بكل حرّية وعفوية! لم تتفلسف المرأة الزانية ولم تقلل من جرمها الأخلاقي. اعترفت بخطيتها وسمعت بعد ذلك كلمات المسيح العذبة: ولا أنا أحكم عليك. لكن هذه الكلمات لم تكن الوحيدة التي تفوّه بها السيد المسيح بل استطرد قائلاً بسلطة ذلك الذي جاء من السماء لتتميم الشريعة في حياته بصورة تامة ومطلقة وبهدف التكفير عن خطايا البشر: اذهبي ولا تخطئي بعد.

 

علّمنا المسيح بواسطة هذه الكلمات تعليماً جوهرياً وهو يعدّ من لبّ الإنجيل. جاء له المجد من السماء ليبني لنا صرحاً وطيداً وأساساً جباراً للغفران. فنحن بني البشر، بغض النظر عن أصلنا وفصلنا، بحاجة ماسة إلى الغفران. يقدّم لنا المسيح غفرانه المجاني وذلك بناء على ما قام به من أجلنا عندما ذهب عنا إلى الصليب ومات مكفّراً عن خطايانا. لكن عقيدة الغفران المجاني المبنية على موت المسيح الكفاري على الصليب لا تعني التساهل مع الخطية أو تناسيها أو الانغماس فيها. ترنّ كلمات المسيح في عالمنا هذا عبر القرون المتتالية: اذهبي ولا تخطئي بعد. يولّد الغفران المجاني الذي ننادي به في انجيل الله المقدس، الحياة الجديدة التي تدور في فلك محبة الله ومحبة القريب الإنسان. ومحبة الله ومحبة القريب تعني الامتناع عن الخطايا ولا سيما عن الخطايا الجنسية المتفشية بين أهل القسم الأخير من القرن العشرين.

 

مأساتنا اليوم هي أننا نتجاهل فداحة الخطية ولا سيما الخطايا الجنسية التي عاثت بالأرض فساداً وانتشرت نظراً لتكاثر المشاهد الخلاعية في دور السينما وعلى شاشات التلفزيون وبواسطة الفيديو. وإن تمادينا في تجاهل خطورة الخطايا الجنسية فإنها ستتغلّب علينا وتطاردنا وكأنها الطاعون من طراز جديد. لا فلاح ولا نجاة إلا إذا اعترفنا أمام الله خالقنا بفداحة حالتنا الروحية والأخلاقية وهرعنا إلى المسيح يسوع المخلّص الذي جاء من السماء ليقضي على الخطية وليحررنا من عبوديتها الغاشمة وليمنحنا الغفران المجاني. من آمن بالمخلّص المسيح اختبر الغفران والسلام مع الله كما اختبرت المرأة الزانية التي قال لها المسيح بعد أن هرب المشتكون عليها: ولا أنا أحكم عليك، اذهبي ولا تخطئي بعد. آمين.

 

9-) تفسير القس الدكتور دك وودوورد

 

في الإصحاحِ السَّابِع من إنجيلِ يُوحَنَّا، نقرَأُ أنَّهُ عندما علَّمَ يسُوع، كانَ أعظَمَ مُعَلِّمٍ في العالم، وعندما وعظَ، كانَ أعظَمَ واعِظٍ في العالَمِ قاطِبَةً. كم كُنتُ أتَمَنَّى لو كانَ بإمكانِي أن أُصغِيَ إلى تلكَ العِظَة العَظيمة التي ألقاها يسُوع، والتي نَجِدُها مُدَوَّنَةً بشكلٍ مُلَخَّص في يُوحَنَّا 7: 37- 39. وكما نتوقَّعُ، ظهَرَ تجاوُبٌ مُزدَوِجٌ لهذه العِظَة العظيمة.

 

فبعدَ الأحداث التي تمَّ وصفُها في الإصحاحِ السَّابِع، نقرَأُ أنَّ كُلَّ واحِدٍ ذهبَ إلى بيتِهِ، أمَّا يسُوعُ فصَعِدَ إلى جَبَلِ الزَّيتُون. كانت هذه عادَتُهُ. وعِندَما ذهَبَ الآخرُونَ إلى منازِلِهِم، وجدَ يسُوعُ مكانَاً مُنفَرِداً ليُصَلِّيَ فيهِ. ثُمَّ نقرَأُ أنَّهُ عندَ الفَجر، كانَ في أَروِقَةِ الهَيكَل، معَ كَثيرينَ تجمَّعُوا حولَهُ، وكانَ هُوَ جالِساً في الوَسَطِ يُعَلِّمُهُم. عندما كانَ مُعَلِّمُوا النَّامُوس يُعَلِّمُونَ وهُم جالِسين، كانَت هذه إشارَةٌ إلى سُلطَتِهِم.

 

فأتى إليهِ مُعَلِّمُو النَّامُوس والفَرّيسيُّون بإمرأَةٍ أُمسِكَت بِفِعلِ الزِّنَى. فجعَلُوها تَقِفُ بِخَجَلٍ أمامَ الجمُوعِ، وقالُوا لِيَسُوع: “أيُّها المُعَلِّمُ، إنَّ هذه المرأَة أُمسِكَت في فِعلِ الزِّنَى. وبِحَسَبِ النَّامُوس، أمَرَنا مُوسى بأن نرجُمَ هكذا إمرأَة. فماذا تَقُولُ أنتَ؟”

 

لقد كانَ سُؤالُهُم فخَّاً. إعتَقَدُوا أنَّهُ سيُخالِفُ قولَ مُوسى، ولهذا أرادُوا فضحَ مَوقِفَهِ هذا الذي كانُوا يتوقَّعُونَهُ. أعتَقِدُ أنَّهُ منَ المُثيرِ للإهتِمامِ أنَّهُم كانُوا يعتقِدُونَ أنَّهُ سيُخالِفُ نامُوسَ مُوسى. كانَ ينبَغي أن يفهَمُوا بِوُضُوحٍ من تعليمِهِ، ومنَ الطريقة التي تعامَلَ بها معَ النَّاس، أنَّهُ كانَ رَحيماً وأنَّهُ كانَ يُحِبُّ بِدُونِ شُرُوط. لم يَرَ هَؤُلاء كيفَ كانَ يسُوعُ سيُمَرِّرُ نامُوسَ اللهِ عبرَ عَدَسَةِ محبَّةِ اللهِ، قبلَ أن يُطَبِّقَ هذا النَّامُوس على حياةِ النَّاس، حتَّى ولو كانُوا خُطاةً، وأن يبقَى أميناً لكُلِّ حرفٍ من نامُوسِ مُوسى.

 

فإنحَنَى يسُوعُ وأخذَ يكتُبُ بإصبَعِهِ على الأرض. وعندما أصَرُّوا على الإستِمرارِ بطَرحِ سُؤالِهِم، وقفَ يسُوعُ وقالَ لهم، “من كانَ منكُم بِلا خَطِيَّة، فليَرمِها أوَّلاً بِحَجَر.” ثُمَّ إنحَنَى مُجدَّداً وتابَعَ الكتابَةَ على الأرض.

 

وجواباً على هذا السُّؤال، أُولئِكَ الذينَ أرادُوا إدانَةَ هذه المرأة ورجمَها، بدأُوا يُغادِرُونَ، واحِداً بعدَ الآخر، مُبتَدِئِينَ منَ الشُّيُوخ، إلى أن بَقِيَ يسُوعُ وحدَهُ والمرأة واقِفَةً أمامَهُ. فوقفَ يسُوعُ وسألَها قائِلاً، “يا إمرَأَة، أينَ هُم المُشتَكُونَ عليكِ؟ أما دانَكِ أحَدٌ؟” فأجابَتْهُ، “لا أحَد يَا سَيِّد.”

 

المَعنَى العميق والمُباشَر هُنا هُوَ أنَّهُ لَم يَدِنْها ولا أيُّ إنسان، ولكنَّ يَسُوع هُوَ أكثَر من مُجَرَّدِ إنسان. فبِحَسَبِ السُّؤال الذي أجابَ بهِ يسُوعُ سُؤالَ رِجالِ الدِّين، الإنسانُ الوحيدُ الذي كانَ مَوجُوداً هُناك، وكانَ يَحِقُّ لهُ أن يرمِيَها بِحَجَرٍ في ذلكَ اليوم، كانَ يسُوع. وهذا يجعَلُ من كَلِماتِهِ لهذه المرأة، أجمَلَ كَلِماتٍ يُمكِنُ أن يسمَعَها الخاطِئُ: ” ولا أنا أدينُكِ. إذهَبِي ولا تُخطِئي أيضاً.”

 

لاحِظُوا أنَّهُ في إنجيلِ يُوحَنَّا، إحدَى الطُّرُق التي يُعَلِّمُ بها يسُوعُ، هي ما نُسَمِّيهِ “العمَل الرَّمزِيّ.” لقد أحَبَّ الأنبياءُ أن يُعَلِّمُوا مُستَخدِمينَ أعمالاً رمزِيَّة. كانَ إرميا بطلَ هذا الأُسلُوبِ الرَّمزِي منَ التَّعليم، ودُعِيَ حزقِيالُ “بالنَّبِيِّ التَّمثِيليّ” لأنَّهُ مثَّلَ عظاتِهِ.

 

فإرميا مثلاً أخذَ وِعاءً كبيراً إلى الهَيكَلِ، عندما كانَ الهيكَلُ مُكتَظَّاً بالنَّاس. ثُمَّ ألقَى بالوعاءِ الخَزَفِيِّ إلى الأرض، مُحطِّماً إيَّاهُ إلى قطَعٍ صَغيرة، وبعدَ ذلكَ ألقَى عِظَةً جبَّارَةً، أعلنَ فيها التَّالِي: “هذا ما سيَعمَلهُ اللهُ بهذه الأُمَّة، إن لم تَتُوبُوا عن خطاياكُم، وسوفَ يستَخدِمُ اللهُ البابِليِّينَ ليعمَلُوا ذلكَ!” بإمكانِنا أن نتأكَّدَ أن إرميا لفتَ إنتِباهَ أُولئِكَ الذين سَمِعُوا تلكَ العِظَة، قبلَ أن يُلقِيَها! كَثيرُونَ منَ الأنبياء أمثال إرميا وحزقِيال وعظوا وهُم يستخدِمُونَ الأعمال الرَّمزِيَّة.

 

 في رُوحِ الأنبياء، لاحِظُوا كَم من عِظاتِ يسُوع العَظيمة قد سُجِّلَت في هذا الإنجيل، كم منها تبدأُ بعملٍ رَمزِيٍّ عَمِلَهُ يسُوع. فالإصحاحُ الثَّانِي بِأَكمَلِهِ يُمكِنُ أن نُصَنِّفَهُ ضِمنَ هذا المجال. في الإصحاحِ الثَّالِث، نَجِدُ أكثَرَ تصريحاتِ المسيح عقائِديَّةً، نَجِدُها تُستَبَقُ باللِّقاءِ معَ نيقُوديمُوس. في الإصحاحِ الرَّابِع، يستَبِقُ يسُوعُ تصريحَهُ الذي قالَ فيهِ أنَّهُ ماءُ الحياة الذي يُروِي عطَشَنا، والذي يُصبِحُ نبعاً يشرَبُ منهُ الآخرُونَ مياهً حيَّةً. في الإصحاحِ نفسِهِ، نَجِدُ أنَّ تعليمَهُ العَظيم عنِ الزَّرع والحِصادِ الرُّوحِيّ قد إستَبَقَهُ يسُوعُ بمُقابَلَةٍ معَ امرأةٍ عطشَى، إكتَشَفَت ماءَ الحياة وأَصبَحَت نبعَاً حقَّقَ منهُ الآخرُونَ الإكتشافَ نفسَهُ، أي أنَّهُم أصبَحُوا يشرَبُونَ ماءَ الحياةِ ويرتَوُونَ إلى الأبد.

 

ثُمَّ يستَبِقُ يسُوعُ هذا الحوارَ العظيم معَ رجالِ الدِّين، الذي من خلالِهِ يُعَلِّمُ عدَّةَ أُمُورٍ، إستَبَقَ ذلكَ بِشِفاءِ الرَّجُلِ عندَ بِركَةِ بيتِ حسدا. في الإصحاحِ السَّادِس، أطعَمَ يسُوعُ خمسَةَ آلافِ عائِلَةٍ جائعة، ثُمَّ ألقَى عِظَتَهُ عن كَونِهِ خُبز الحياة.

 

يبدَأُ الإصحاحُ الثَّامِنُ بِعمَلٍ رَمزِيٍّ آخر، الذي هُوَ كَلِماتُ يسُوع المُحِبَّة لهذه المرأة الخاطِئة. لا شَكَّ في أنَّهَا كانت خاطِئَةً، أو في كونِها قد أُمسِكَت في فعلِ الزِّنَى. وهكذا أتبعَ يسُوعُ هذا العملَ الرَّمزِيَّ بعِظَةٍ ديناميكيَّةٍ فصيحة عن الخطيَّة. عندما أجابَ يسُوعُ على سُؤالِ الكَتَبَة والفَرِّيسيِّين، بِسُؤالِهِ العميق، منَ المُثيرِ للإهتِمامِ أنَّهُم، بدأُوا مُبتَدَأً منَ الشُّيُوخِ إلى الأصغَرِ سِنَّاً، كما تَقُولُ إحدَى التَّرجماتُ، “مُبَكَّتِينَ بِضَميرِهِم على خطاياهُم، بِمُغادَرَةِ المكانِ واحداً بعدَ الآخر بِدُونِ أن يَرمُوها بِحَجَرٍ، إلى أن بَقِيَ يسُوعُ والمرأَةُ وحدَهُما.”

 

جَرَتْ الكثيرُ منَ الإفتِراضاتِ لمُحاوَلَةِ معرِفَةِ ماذا كتبَ يٍسُوعُ على الأرض، بينَما كانَ يتجاهَلُ هؤُلاء المُتَّهِمِين. قرأتُ ما كتَبَهُ أحدُ المُفَسِّرينَ التَّقَوِيِّين، الذي لمَّحَ أنَّهُ لرُبَّما كانَ يسُوعُ يكتُبُ أسماءَ الرِّجالِ الواقِفينَ حولَ المرأَةِ الزَّانِيَة ليَرجُمُوها، والذين مارَسُوا معَها خَطِيَّةَ الزِّنى في الماضِي. رُغمَ أنَّ هذا التَّفسير هُو مُجرَّدَ إفتِراضٍ وتحامُلٍ على النَّصّ بإقحامِ ما ليسَ مَوجُوداً فيهِ، ولكنَّهُ يجعَلُنا نتساءَلُ عمَّا كتبَهُ يسُوع على الأرض.

 

يقتَرِحُ البَعضُ أنَّهُ كانَ يكتُبُ وصايا، أدركَ هؤُلاء النّاس المُتجمهِرينَ حولَهُ أنَّهُم كَسَرُوها. فكَونُهُ هُوَ الله، وكونُهُ يعرِفُ ما كانَ في الإنسان، يفسحُ المجالَ أمامَ إفتِراضاتٍ لا نهايَةَ لها. فلَرُبَّما كانَ يكتُبُ على الأرضِ أُمُوراً لا شأنَ لهُم بها، ليُظهِرَ لهُم أنَّهُ كانَ يتجاهَلُهُم. ولكنَّ قَلبَ هذه الحادِثَة كانَ مَوقِفُهُ تجاهَ الخَطيَّة، والطَّريقَة التي بها تعاطَى بها معَ خاطِئٍ مُذنِب.

 

إحدَى الطُّرُق لإعلانِ رأيٍ عن نُفُوسِنا، هي الطريقة التي بها نُقارِنُ أنفُسَنا بالآخرين. فعندما إتَّهَمَ رِجالُ الدِّينِ هؤُلاء المرأةَ بإرتِكابِ خَطِيَّةِ الزِّنَى، سألَهُم يسُوعُ بِحِكمَة، “هل أنتُم بِدُونِ خَطيَّة؟ من كانَ منكُم بِلا خَطِيَّة، فليَرْمِهَا أوَّلاً بِحَجَر.” فأدرَكَ الشُّيُوخُ قبلَ الشُّبَّان أنَّهُم خُطاةٌ. فإن كُنتَ تَظُنُّ أنَّكَ لَستَ خاطِئاً، قد نتساءَلُ، “كم عُمرُكَ؟” أُولئِكَ الذين كانُوا قد أصبَحُوا في الخَمسينَ من عُمرِهِم، كانَ لديهِم جوابٌ أكثَرُ صِدقاً على هذا السُّؤال من أُولئكَ الذين كانُوا لا يزالُونَ في العِشرين. في الإصحاحِ الثَّالِث من هذا الإنجيل، نقرأُ أنَّ يسُوعَ لم يأتِ إلى العالم لِيَدِينَ العالم، بَل لِيَخلُصَ بهِ العالَمُ (يُوحَنَّا 3: 16- 18). فهُوَ لم يكتَفِ بِمُجَرَّدِ الوَعظِ بالحقيقَة. ولقد أظهَرَ هذا البُعدَ من رسالَةِ إنجيلِهِ. أعتَقِدُ أنَّ الخُطاةَ بإمكانِهِم أن يقرَأُوا هذا الأمرَ في عَينَيهِ وفي تعابِيرِ وجهِهِ عندما نظرَ إليهِم. فَلِماذا بدا الخُطاةُ وكأنَّهُم أحبُّوا يسُوعَ وأحبُّوا رِفقَتَهُ؟ عندما ذهبَ ليأكُلَ معَ العَشَّارِينَ والخُطاة، لم يَشعُرُوا فقط بالرَّاحَةِ لكَونِهِم مَعَهُ؛ بل بدَوا أنَّهُم أحَبُّوا وُجُودَهُ معَهُم. هل كانَ ذلكَ لأنَّهُ ضَحِكَ على نُكاتِهِم المَشبُوهَة، أم لأنَّهُ وافَقَ على ما كانُوا يقُولُونَهُ ويفعَلُونَهُ؟ كلا بتاتاً!

 

أنا مُقتَنِعٌ أنَّ السَّبَبَ هُوَ لأنَّهُ أحبَّهُم، وهُم عرفُوا أنَّهُ أحبَّهُم. لقدِ إستطاعُوا أن يَرَوا ذلكَ في عَينَيهِ. وإستطاعُوا قراءَةَ ذلكَ في وجهِهِ. وشعرُوا من خلالِ نبراتِ صَوتِهِ أنَّهُ لم يأتِ لِيَدِينَهُم. بل أظهَرَ لهُم وأخبَرَهُم بأنَّهُ لم يَدِنْهُم. ولقد عبَّرَ أيضاً عن محبَّتِهِ لهذه المرأة عندما قالَ لها، “إذهَبِي ولا تُخطِئي أيضاً.” أحدُ الكُتَّابِ المُفضَّلينَ عندي، كتبَ مرَّةً أنَّهُ تُوجَدُ ثلاثُ حقائِق عنِ الخَطيَّة. أوَّلاً: الخطيَّة لها عِقابٌ. ثانِيَاً: الخطيَّة لها سُلطة. ثالِثاً: الخطيَّة لها ثَمَنٌ. هذه هي الحقائِقُ الثَّلاث عنِ الخطيَّة. ولقد كتبَ يقُولُ أيضاً أنَّهُ تُوجَدُ ثلاثُ حقائِق عنِ الخلاص. أوَّلاً: عقابُ الخطيَّةِ أُلغِيَ بسببِ موتِ يسُوع المسيح. فأوَّلُ حقيقَةٍ عنِ الخطيَّة تمَّ التغلُّبُ عليها بالحقيقةِ الأُولى عنِ الخلاص – أي بما فعلَهُ يسُوعُ عندما ماتَ على الصَّليب.

 

ثانِياً: الحقيقَةُ الثَّانِيَة عنِ الخلاص هي أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ هو سُلطَةٌ قويَّةٌ بِشكلٍ كافٍ لتُسيطِرَ على الخطيَّة. “لأنَّ الذي فيكُم أقوَى منَ الذي في العالم.” (1يُوحَنَّا 4: 4). بهذه الطريقة عبَّرَ هذا الرَّسُول عن الحقيقَةِ الثَّانِيَة عنِ الخلاص في رسالَتِهِ التَّأكيديَّة التي جاءَت في نهايَةِ العهدِ الجديد. فإذا آمنتَ، وإذا شَرِبتَ من ماءِ الحياة، وإن كانَ الرُّوحُ القُدُسُ يتدفَّقُ منكَ مثلَ نبعٍ أو نهرٍ، عليكَ أن تُدرِكَ أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ هُوَ أيضاً سُلطَةٌ قادِرَةٌ بأن تتغلَّبَ على الخَطيَّةِ في حياتِكَ. هذه هي الحقيقَةُ الثَّانِيَة عنِ الخلاص: الخطيَّةُ هي سُلطة، ولكنَّ الرُّوحَ القُدُسَ هُوَ سُلطةٌ أكبَر وأعظم من سُلطَةِ الخطيَّة.

 

الحقيقَةُ الثَّالِثَة عنِ الخطيَّة هي الأكثَرُ صُعُوبَةً للتَّغلُّبِ عليها من خلالِ مُعجِزَةِ الخلاص. فالذي نُسَمِّيهِ “لَطخَة” الخطيَّة أو ثَمَن الخطيَّة، يترُكُ سِماتٍ لا تُمَّحَى. كتبَ بُولُس يَقُولُ أنَّ الخَطِيَّةَ تستَحِقُّ أُجرَتَها، ويَصِفُ أُجرَتَها بكَونِها “المَوت.” (رُومية 6: 23). إستِعارَةُ المَوت المجازِيَّة في هذا الإطار تعني أسوأَ العواقِب. فيُمكِنُ أن تَكُونَ عواقِبُ الخطيَّةِ رهيبَةً، وغالِباً ما تَكُونُ لا يُمكِنُ تحاشِيها. فلا يُمكِنُنا أن نُعيدَ البيضَ المخفُوق ليرجِعَ على شكلِهِ الأساسِي كما خرجَ منَ الدَّجاجة، وهكذا أيضاً عواقِبُ الخطيَّةِ لا يُمكِنُ درؤُها أو إرجاعُها. أسوأُ عواقِبِ الخطيَّة يُمكِنُ وَصفُها بِكَونِها “سِماتٍ لا تُمَّحَى.” مثلاً، إذا إقتَرَفنا خَطِيَّةَ القَتلِ، وجئنا إلى يسُوع طالبينَ الغُفران، فإنَّ العقابَ الذي نستَحِقُّهُ على خَطيَّتِنا في الأبديَّة يُمَّحى بالِصليبِ. ولكنَّ هذا لا يُعيدُ الضَّحِيَّةَ إلى الحياة، ولا يُحَرِّرُنا من السِّجنِ والعِقابِ الذي يرى المُجتَمَع أنَّنا نَستَحِقُّهُ.

 

تُوجَدُ كَلِمَةٌ جَميلَةٌ في الكتابِ المُقدَّس، التي تَصِفُ الطريقة التي بها يتغلَّبُ اللهُ على الحقيقَةِ الثَّالِثَة عنِ الخطيَّة، بواسِطَةِ الحقيقَةِ الثَّالِثَة عنِ الخلاص. إنَّها كَلِمَة “مُبَرَّرِين.” فعندما نُؤمِنُ بالمسيح للخلاصِ والغُفران، لا يتوقَّفُ الأمرُ عندَ الغُفرانِ لنا ومُسامَحَتِنا. بل نُصبِحُ وكأنَّ خطيَّتَنا لم تحدُثْ أصلاً. تصوَّرُوا أنَّ حياتَكُم هي شَريطٌ مُسجَّل. وتصوَّرُوا أنَّ المسيحَ سوفَ يجعَلُكُم تُشاهِدُونَ شَّريطَ حياتِكُم أمامَ كُرسِيِّ دينُونَتِهِ. ولكن قبلَ أن يُشَغِّلَ شريطَ حياتِكُم، يقطَعُ الشَّريط من حيثُ تبدأُ خطيَّتُكُم وإلى حَيثُ تنتَهِي. ويرمي بَعيداً بهذه القطعة منَ الشَّريط التي تَصِفُ خطاياكُم. وعندَما يُشَغِّلُ الشَّريط، تبدُو حياتُكُم وكأنَّكُم لم تُخطِئوا أصلاً. وإلى جانِبِ عبارَةِ الإنجيل الجميلة التي هي “مُبَرَّرِين،” تُوجَدُ أيضاً عبارة “أمامَ عينيهِ” التي نَجِدُها أكثَر من مائة وخمسينَ مرَّةً في العهدِ الجديد. أمامَ عينيهِ، لا تُوجَدُ خَطيَّة. ورُغمَ أنَّهُ تُوجَدُ سماتٌ لا تزالُ تُلطِّخُ المُستَوى الأُفُقِي في العلاقاتِ البَشَريَّة، ولكن أمامَ اللهِ لا تُوجَدُ سماتٌ ولا لَطخاتٌ. قد تُقدِّرُونَ قيمَةَ كون هذه الحقيقة أخباراً سارَّة، إذا قدَّمتُ لكُم إيضاحاً عنها.

 

تصَوَّرُوا أنَّكُم تُحاكَمُونَ على جَريمَةٍ أنتُم منها بَرَاء. ومُحاكَمَتُكُم تَتِمُّ أمامَ قاضٍ في قاعَةِ محكَمَةٍ تعُجُّ بالمُتَفَرِّجِين. وقد تحتاجُونَ إلى مُحامٍ ليُقنِعَ القاضِي بِبراءَتِكُم، وليسَ أن يُقنِعَ القاعَةَ المليئةَ بالمتُفَرِّجِين. قد يستَطيعُ المُحامِي أن يُقنِعَ الجُمهُورَ الذي يحضُرُ محاكَمتَكُم بأنَّكُم أبرياء، ولكن إن لم يقتَنِع القاضِي، سوفَ تُوجَدُونَ مُذنِبين. ولكن، حتَّى ولو ظَنَّ جميعُ المُتَفَرِّجينَ أنَّكُم مُذنِبُونَ، ولكنْ إذا ظَنَّ القاضِي أنَّكُم أبرِياء، فسوفَ يُطلَقُ سراحُكُم. القَضَيَّةُ الهامَّةُ هي ما يعتَقِدُهُ القاضِي صحيحاً حيالَ ذَنبِكُم أو براءَتِكُم. تعلَّمنا في الإصحاحِ الخامِس أنَّ الآبَ لن يَدينَ النَّاس، بل قد أعطَى كُلَّ الدَّينُونَةِ للإبن (5: 22). عندما نظهَرُ أمامَ دَيَّان كُلِّ الأرض، هذا البُعد الأُفُقِيّ للدَّينُونَة والتَّبرير من قِبَلِ النَّاس سوفَ يُصبِحُ بِدُونِ معنىً. البُعدُ الوَحيدُ للدَّينُونَةِ والتَّبرير، الذي سوفَ يكُونُ مُهِمَّاً عندَها، سيَكُونُ ما يَظُنُّهُ المسيحُ عن ذَنبِكُم وبراءَتِكُم. هذا يجعَلُ من الكلماتِ الثَّلاث التي تظهَرُ عدَةَ مرَّاتٍ في العهدِ الجديد، يجعَلُ منها أخباراً سارَّةً جداً. إنجيلُ التَّبرير هو أنَّهُ “أمامَ عينَيِ اللهِ” سوفَ نَكُونُ أبراراً وكأنَّنا لم نُخطِءْ أصلاً. ولكن تُوجَدُ وَصَماتٌ لِلخَطِيَّةِ لا تُمَّحَى في حَياتِنا، وخاصَّةً على المُستَوى الأُفُقِيّ في علاقَاتِنا. فعندما نُخطِئُ، نحنُ لا نَتَسَبَّبُ فقط بِوَصمَةٍ لِنُفُوسِنا، بل وَلِلآخرين حولَنا أيضاً. هذا ما قَصَدَهُ مارتن لُوثر عندَما قالَ أنَّ “الخطايا هي عادَةً توائِم.” فبِما أنَّنا نُخطِئُ معَ شَخصٍ آخر، نترُكُ وصَماتٍ على حياتِه كما نترُكُ على حياتِنا.

 

وبِكَلِماتِ يَعقُوب، عندما نخرُجُ إلى العالَم، وكأنَّنا نرتَدي ثَوباً أبيَضَ نقِيَّاً لا عَيبَ فيهِ. وعندما نُخطِئُ، نضَعُ لطخَةً أو وصمَةً على هذا الثَّوب، ولَرُبَّما نضَعُ أيضاً وصمةً على ثَوبِ الشَّخصِ الآخر. وهكذا نستَمِرُّ بتلطيخِ هذا الثَّوب بالخَطيَّة، حتَّى أنَّنا عندما نقتَرِبُ منَ المسيح، يبدُو ذلكَ الثَّوبُ وكأنَّهُ ثوبُ رَسَّامٍ، مُلطَّخٌ بالألوانِ في كُلِّ مكانٍ. ولكنَّنا الآن، عندما نقتَرِبُ منَ المسيح، يَكُونُ هذا الثَّوبُ في عَينَيهِ خالِياً من كُلِّ وصمة. ولكن على المُستَوى الأُفُقِيّ، أي في علاقَتِنا معَ الآخرين، سيكُونُ منَ الصَّعبِ جدَّاً، وأحياناً سيَكُونُ منَ المُستَحيلِ أن نمحِيَ هذه الوصماتِ. فعلى المُستَوى الأُفُقِيّ، حتَّى اللهَ لا يستَطيعُ أحياناً أن يمحِيَ مُشكِلَةَ الوَصَماتِ، السِّماتِ، أو العواقِب الحتميَّة لِلخَطيَّة. لهذا أشَرتُ إلى أنَّ يسُوعَ أظهَرَ محبَّةً عظيمَةً لهذه المَرأَة عندما قالَ، “إذهَبِي الآن ولا تُخطِئِي أيضاً.”

 

بما أنَّهُ تُوجَدُ وَصَماتٌ لِلخَطيَّة لا تُمَّحَى على المُستَوى الأُفُقِيّ، عندما يَكُونُ ولَدُكَ خارِجاً في العالم، وأنتَ عالِمٌ بأنَّهُ لا يَسيرُ معَ الرَّبّ، ما ينبَغي أن تُصَلِّيَ لأجلِهِ هُوَ، “يا الله، إحفَظْهُ [أو إحفَظْها] منَ الوَصَماتِ التي لا تُمَّحَى. لهذا يُعَلِّمُنا الكتابُ المُقدَّسُ بأن لا نُخطِئَ. فاللهُ يُحِبُّنا ويُريدُنا أن نحمِيَ أنفُسَنا منَ عواقِبِ الخطيَّة الرَّهيبة. فلا يُوجَدُ أيُّ شَيءٍ صالِحٍ في الخطيَّة. أكُرِّرُ هذا. لا يُوجَدُ أيُّ أمرٍ صالِحٍ في الخطيَّة. فلا تُخطِئُوا. “إذهَبوا ولا تُخطِئُوا أيضاً.” الأخبارُ السَّارَّةُ عن أوَّلِ حقيقَتَينِ للخلاص، هي أنَّ عِقابَ الخطيَّةِ قد أُزيلَ، وأن سُلطَتَها يُمكِنُ أن تُغلَبَ. ولكن أُفُقِيَّاً، يُمكِنُ أن تبقَى تسعيرَةُ الخَطيَّةِ باهِظَةً جدَّاً. “أُجرَةُ الخَطيَّةِ هي مَوتٌ.” ما يعنيهِ هذا هُوَ أنَّهُ لا يُوجَدُ شَيءٌ صالِحٌ في عواقِبِ الخطيَّة. الحقيقَةُ الدِّيناميكيَّةُ التي ينبَغي إكتِشافُها في العَمَلِ الرَّمزِيِّ الذي يبدَأُ بهِ هذا الإصحاح، هُوَ مَوقِفُ يسُوع تجاهَ الخاطِئ، وموقِفُ ذلكَ الخاطِئ تجاهَ يسُوع، وموقِفُ يسُوع تجاهَ الخَطيَّة. ما يُعَلِّمُنا إيَّاهُ هذا العَمَلُ الرَّمزِيُّ هُوَ إيضاحٌ جميلٌ عنِ الإنجيل الذي جاءَ يسُوعُ ليُؤسِّسَهُ وينشُرَهُ في هذا العالم.

 

10-) تفسير الخادم ابراهيم سعيد

 

هذه حادثة فريدة في بابها, موسومة في طابع خاص في أسلوبها وموضوعها لذلك قد أحيطت بشيء من الشبهة, سيما من جانب الذين لم يفهموا حقيقة مراميها, فظنوا خطأ أنها تعلم التساهل في الشر, وقد فاتهم أن الصفح عن الشر شيء, وأن التساهل في شيء آخر. هؤلاء يمسخون رسالة هذه الحادثة إذ يبترونها, فيذكرون الجزء الأول من قول المسيح للمرأة: “ولا أنا أدينك” وينسون – أو يتناسون – الجزء الثاني منه: “اذهبي ولا تخطئي أيضاً”. لم يقصد المسيح بالجزء الأول من كلامه, أن يشجع المرأة على الشر, وإنما أراد أن يشجعها على ترك الشر. فكانت كلمته لها, مشرطاً حاداً قطع به كل صلة بينها وبين ماضيها الأسود. بل كانت يداً لطيفة رفعت عنها حملاً أثقل كاهلها, وبلسماً شافيا للشلل النفسي الذي أصابها بسبب الخوف, والفزع, وتأنيب الضمير. لا بل كانت قوة سحرية, فتحت أمامها باباً متسعاً من الرجاء.

 

ما أشبه هذه الحادثة بشعاع قوة كشاف, كشف لنا عما في قلب المسيح من طهر وصفاء وتسامح. وأعلب ما في قلوب الكتبة والفريسيين من خبث, وقسوة, وعدم نزاهة. في هذا الحادث, يتجلى أمامنا سلطان المسيح البار, وجبن الفريسيين

 

“اما يسوع فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. 2ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ”

 

الأشرار. كلمة واحدة وجهها المسيح إليهم, كانت شبيهة بقذيفة شتت شملهم, فخرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ. وما هي إلا كلمة الحق أمتد أمامهم فلول البطل. ولا شيء يعدل شجاعة البار, سوى جبن الشرير.

 

عدد 1 كلمة تاريخية عامة: “أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون”. هذه الكلمة التاريخية, مكملة لتلك التي أختتم بها الإصحاح السابق: “فمضى كل واحد إلى بيته.. اما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون” – هذا هو بيت المسيح الذي قضى فيه ليلي عديدة منفرداً في الصلاة.

 

من السنهدريم إلى جبل الزيتون! لعله وجد في وحوش البرية قلوبا أكثر إيناسا من قلوب أولئك الوحوش المتسربلين لباس البشر. فكم من وحوش مستأنسة, وكم من بشر مستوحشين! “إلى جبل الزيتون”! في بيوت البشر لم يجد مكانا يسند إليه رأسه, فوجد هذا المكان بين أحجار الجبال فيا لظلم البشرية, ويا لتعاستها. فقد جهلت فاديها. وأنكرت أكبر محسن إليها.

 

عدد 2. كلمة تاريخية خاصة بالحدث: “ثم حضر أيضا إلى الهيكل في الصبح.. “. طلعت شمس الطبيعة من وراء أفق جبل الزيتون, وأطلت على العالم الذي خيم عليه ظلام الليل الدامس, فنثرت عليه أشعتها الذهبية حاملة ضياء وشفاء. وفي هذا الوقت عينه, “في الصبح”, خرج “شمس البر”, تاركا جبل الزيتون عينه, وأطل بوجهه الوضاح على الساكنين في وادي ظلال الموت, “فأشرق عليهم, وفي أجنحته شفاء”. وأول ما كان نشر في

 

“وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. 3وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسَطِ”

 

أشعة أنواره, هو “الهيكل”: “وجاء إليه جميع الشعب” المتشوق للنور, “فجلس يعلمهم”. والعلم نور سواء كان في عالم الأدب أم في عالم النور.

 

عدد 3. (أ) عدم نزاهة الفريسيين ووحشتهم: “وقدم إليه الكتبة الفريسيين امرأة أمسكت في زنا” – هذا برهان عدم نزاهتهم. لم فشل هؤلاء القوم في إلقاء القبض على المسيح, وعجزوا عن أن يقاوموا حكمته المقنعة, لجأوا إلى حيلة مقنعة, ليقيموا منها فخا يمسكون فيه المسيح بكلمة. ولا شيء دل على عدم نزاهتهم أكثر من انتهازهم فرصة ضعف امرأة مسكينة اغويت على الشر, وذلت بها القدم, فاتخذوا منها وسيلة بها يمسكون المسيح بكلمة. فكأنهم جعلوا من ضعف المرأة وقودا لتغذية نيران حقدهم على المسيح. وإن أناسا هذا شأنهم, لو لم يجدوا امرأة ساقطة, لأسقطوا امرأة لينالوا مأربهم. “ولما أقاموها في الوسط” – ياللقسوة! بدلا من أن يقيموها من سقطتها, ويعالجوا بقوتهم ضعفها, عرضوا بها وشنعوا بخطيتها. إذ “أقاموها في الوسط”, فأقاموا منها جحة على قسوة قلوبهم وهم لا يدرون. لم يبالوا بانكسار قلبها, وتعاموا عن مرارة نفسها وهم فرحون شامتون. وأي شخص انحدر إلى مهاوي الرذيلة, مثل إنسان يهنىء نفسه على سقوط غيره. هذه هي المرة الوحيدة التي وردت فيها كلمة: “كتبة” في بشارة يوحنا, مع أن كلمة “الفريسيين” وردت فيها 20 مرة.

 

“4قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ 5وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ.”

 

عدد 4. (ب) عدالتهم العرجاء: “قالوا يامعلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل”. ما هي الصفات التي يوسم بها قوم نصبوا أنفسهم بوليساً على الآداب، تطفلا منهم, حتى يمسكوا امرأة في ذات الفعل؟ وإذا أرادوا أن يكون حماة الآداب حقاً، فلماذا أتوا بالمرأة وحدها؟ أين الرجل الساقط الذي شاركها, بل أسقطها في فعلتها؟ حقاً إن الحياء يستحى منهم!

 

عدد 5و6. (ج) خداعهم المبرق “وموسى في الناموس” – كلمة: “موسى في الناموس”, اختص بها يوحنا البشير وحده (1: 45و9: 4).

 

كان الوقت عيداً, والمنازل مزدحمة بساكنيها مع الضيوف الآتين إلى العيد, فاضطر كثيرون وكثيرات أن يناموا في الخلاء. هذه الظروف هيأت مزالق انحدرت عليها قدما تلك المرأة المسكينة, وكان في إمكان أولئك الكتبة والفريسيين أن يرثوا لحالها, وينظروا إليها نظرتهم إلى مريضة تحتاج إلى الشفاء, لا إلى مجرمة يتقدمون بها إلى القضاء.

 

“موسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم” – تظاهروا بالحرص على وصية موسى, لكنهم كانوا حريصين على الإيقاع بالمسيح. فوجهوا هذا السؤال إلى المسيح, لا لكي يستنيروا برأيه, فقد اعترفوا بأنهم عالمون بالناموس (تت 22: 23و24, ولاويين 20: 10), بل قصدوا من سؤالهم هذا, شركاً يوقعون المسيح فيه. فان قال لهم: “ارجموها

 

“فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» 6قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ”

 

ألصقوا به تهمة الاعتداء على حقوق قيصر (أنظر يوحنا 18: 31), واشتكوا عليه لدى بيلاطس.وإن قال لهم: “ارحموا واعفوا عنها”,نسبوا إليه تهمة الاعتداء على حقوق موسى الذي قال في ناموسه: “إن مثل هذه ترجم”, واشتكوا عليه لدى مجمع السنهدريم. هذه أحبولة خفية دنيئة, نصبوا ليوقعوا فيها مخلص البشرية, فهي شبيهة بحرب الخنادق. إن قوما كهؤلاء لا يستحقون أن يحسبوا في عداد بني آدم. بل هم من أبناء المجرب (8: 4), فالكلمة التي استعملت عنهم في عدد6: “ليجربوه”, هي عين الكلمة التي استعملت عن إبليس المجرب (مت 4: 1و3).

 

فلا عجب إذا امتلأ قلب المسيح بالحزن عليهم: “فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض”. إن في صمت المسيح أبلغ جواب على سؤالهم المليء بالمكر. ولعله امتنع عن الجواب لأن مثل سؤالهم لا يستحق جواباً, ولأنه صرح مراراً وتكراراً, أنه لم يأتي ليدين بل ليخلص. تشعبت أفكار المفسرين في محاولة أن يعرفوا السبب الذي من أجله أجاب المسيح بالكتابة على الأرض, يقول بعضهم إن المسيح كان يكتب على الأرض بعض الكلمات التي تفض هذا الأشكال, كتلك التي جاءت في لاويين 20: 10, وتث 22: 22. ويقول الآخر إنه كان يكتب ما جاء في عدد 5: 17, عن شريعة تقدمه الغيرة المتعلقة بامرأة تحيد عن

 

“بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ. 7وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: “

 

رجلها وتخونه: “يأخذ الكاهن وتخونه من الغبار…. ويجعل في الماء ويوقف الكاهن المرأة أمام الرب.. “. ويقول آخرون إن المسيح كان يشير بكتابته إلى ما جاء في أرميا 17: 13 “الحائدون عني في التراب يكتبون”. ويقول قوم إن المسيح لم يقصد بكتابته على الأرض شيئاً, سوى عدم إجابة المشتكين على سؤالهم. ويقول آخرون إن المسيح أشار بكتابته إلى الشريعة المكتوبة على صفحات ضمائرهم بإصبع الله. ويعتقدون آخرون كتابة المسيح على الأرض, تشير إلى كآبته وحزنه على القوة التي تملكت بها الخطية على قلوب الناس, فأغرت امرأة على السقوط, وهوت بالزعماء الدينيين إلى حضيض الخبث. ويقول غيرهم أن المسيح كان يكتب حكم القضاء عليهم, وأنه كتبه على دفعتين. وربما كان الفكران الأخيران أقرب الجميع إلى الصواب.

 

وجدير بنا أن نلاحظ أن هذه هي المرة الوحيدة التي نرى فيها المسيح يكتب.

 

عدد 7. الجواب الفاحص. “ولما استمروا يسألونه انتصب وقال: “. لم يعتبر أولئك القوم بصمت المسيح. ولعلهم ظنوه صمت العجز, فألحوا عليه في الكلام, “ولما استمروا يسألونه” ألقى سلاح الصمت جانباً, وصوب إليهم جواباً قاطعاً كالسيف, نافذاً كالسهم, كاشفاً كالنور, لاذعاً كالسوط, ملهباً كالنار.. “فانتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا

 

“«مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» 8ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ. 9وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا”

 

بحجر”. أمام هذا القول الفاحص وقعوا في الهوة التي حفروها بأيديهم.

 

عدد8. تتمة القضاء. ولكي يترك المسيح لضمائرهم مجالا لتحتج عليهم, عاد إلى صمته الأول: “ثم انحنى أيضا إلى أسفل وكان يكتب على الأرض”. ومن المهم أن نذكر أن المسيح لم يجبهم بهذا الجواب, من قبيل التحدي والإفحام وكفى, لكنه قدم بقوله هذا, مبدأ أساسيا للدينونة الحقيقية. لأنه لا يحق لشخص أن يجلس على كرسي الدينونة إلا المسيح الكامل الأوحد. بهذا الجواب أراهم المسيح أن سلطة القضاء قد ذهبت عنهم بسبب خطاياهم واستعبادهم للنير الأجنبي. على أن المسيح لم يقدم هذا الجواب باعتبار كونه ديانا, إنما قدمه باعتبار كونه مخلصاً ومعلما أدبياً, وروحياً. فكان جل قصده أن يحمل أولئك المشتكين على أن ينصرفوا عن مراقبة الناس, إلى إصلاح ذواتهم – هذا خير وأبقى. سيما وأنهم لم يكونوا قضاة بحكم وظيفتهم بل بحكم ادعائهم. بهذا القول أنقذ المسيح المرأة من الموت, من غير أن ينقض ناموس موسى, إذ عطل الأيادي المنفذة من غير أن يعطل الشريعة. أما احترامه لناموس موسى, فظاهر من قوله, “فليرمها أولا بحجر”. وأما تعجيزه للأيادي المنقذة, فواضح من القول: “من كان منكم بلا خطية”.

 

عدد 9.

 

(أ) القضاة يدخلون قفص الاتهام: “وأما هم فلما سمعوا.. ” في الفترة التي انحنى فيها المسيح ليكتب على الأرض, استراح أولئك الناس

 

“وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ”

 

من نظرات الفادي التي كانت مصوبة إليهم, لكنهم لم يستريحوا من تأنيب ضمائرهم. ومن العجب, أن ضمائرهم ظلت حية متيقظة رغم خطاياهم المنوعة التي كانوا عائشين فيها. فقد كنا نخشى, ومع تلك المرأة المسكينة, أنه بمجرد خروج آخر كلمة من فم المسيح, ينهال عليها أولئك الناس بالأحجار, ليبينوا بذلك أنهم بلا خطية, لكننا نحمد الله على وجود الضمير في قلب جميع الناس حتى المنحطين. فهو البقية الباقية من نور الله في قلب الإنسان بعد سقوطه. إن كلا منهم تطلع إلى الآخر منتظراً أن يكون هو البادىء برمي أول جحر, فخاب انتظارهم في بعضهم البعض, بعد أن خاب انتظارهم في أنفسهم. فلم يبق أمامهم إلا أن ينسلوا خارجين, مبتدئين من المعتبرين. وهنا أمسى القضاة متهمين, فتطوعوا بالدخول إلى قفص الاتهام فرداً فرداً, لأن الضمير يحاكمنا أفراداً لا جماعات. ولأن قضاءه يبتدىء من المتقدمين فالآخرين. كذلك قضاء الله العادل – فردي, ويبتدىء أولاً من بيت الله (1 بط4: 17). عجيب أن شيخوخة الشيوخ لم تنسهم خطاياهم, وأن نزق الشباب لم يدفعهم إلى الاقتحام. وربما خرج الشيوخ أولا لأن قائمة خطاياهم كانت قد طالت بطول أعمارهم.

 

إن كل خاطىء يحمل في قلبه أسداً رابضة, وعند أقل إشارة من الضمير, تثور هذه الأسد الضارية فتسلب الإنسان كل سلام واطمئنان.

 

(ب) الكامل الأوحد: “وبقي يسوع وحده والمرأة واقفا في الوسط”

 

“وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسَطِ.”

 

إننا نحتاج إلى ريشة ملائكية لتصوير إحساس تلك المرأة المسكينة, بعد أن وجدت نفسها أمام يسوع وحده. هنا التقت الإنسانية في أحط دركاتها – ممثلة في تلك المرأة الساقطة, بالإنسانية في أسمى درجاتها – ممثلة في المسيح. هنا تلاقى قلب الليل بصدر النهار. هنا شعرت المرأة أن غمامة سوداء قد أزيحت عنها ورأت نفسها وجها لوجه أمام “شمس البر”. “يسوع وحده”- هذا هو الكامل الأوحد الذي لم يعرف خطية. فهو وحده الذي له الحق أن يرميها أولا بحجر, وهو وحده الذي لم يفعل ذلك. لأنه لم يأت ليدين بل ليخلص. إن أسرع الناس إلى الحكم على الناس, هم أحط الناس لا أشرفهم. وكلما ارتقى الإنسان على سلم الشرف صار أكثر عطفاً على الجهال والضالين. العين الشريرة ترى لتحكم. والعين الطاهرة ترى لتنصح وتصلح. القلب الدنس يفتش عن المعايب بمصباح ديوجين ليشهرها, والقلب الطهور يفتش عن المحاسن ليشجعها. يسوع وحده‍ هذا جبل تجل آخر رفعت عليه المرأة (قابل مت 17: 8). الآن وقد انصرف عنها الوحوش المتأنسة رأت نفسها أمام الله المتأنس.

 

الآن سكتت عنها أصوات المشتكين لكن لم يسكت عنها صوت الضمير. وذهب عنها حكم الناموس فبقى لها أن تسمع حكم النعمة.

 

“وقفت في الوسط”- في المكان الذي أوقفها فيه المشتكون, بل في المكان الذي أوقفتها فيه خطيتها, بل في المكان الذي ينبغي أن يقف فيه كل خاطئ أمام الله, ولولا أن أدركها المسيح بكلمة الغفران لظلت واقفة في ظلام وحدتها ووحشتها إلى الأبد.

 

“10فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى الْمَرْأَةِ قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟» 11فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ.”

عدد 10. استجواب النعمة “قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتمون عليك. أما دانك أحد”؟ كان في إمكان المسيح أن يرميها بحجر, وأن يوقع عليها أي قصاص, ليبرهن أنه هو بلا خطية, وليعلن تفوقه في السلطان على المشتكين. إلا أنه أظهر فعلاً هذا النفوق في السلطان, ولكن برحمة النعمة, لا برجمه الناموس. فإذا كان رجم المذنب يستلزم سلطان القاضي, فإن غفران الخطايا يستلزم سلطاناً أعظم – سلطان الله نفسه, لأن غفران الخطايا, حق لله وحده. سأل المسيح هذين السؤالين لكي يعيد إلى المرأة المسكينة اطمئنانها, ولكي يفهم الموجودين من الجمع – وهم غير المشتكين – أن القضية سقطت, لأن المشتكين انسحبوا من الجلسة. فلا مدع ولا شاهد.

 

عدد 11. حكمة النعمة. “فقال لها يسوع ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضا”. في جواب المسيح هنا, نرى رحمة, فتبريراً, فقضاء. أما الرحمة فظاهرة من القول: “ولا أنا أدينك”. إذا كان الذين أجلسوا أنفسهم على كراسي الدينونة قد تنازلوا عن الدينونة, فهل يدينها الفادي الذي جاء ليخلص (يو 3: 17)؟ تذكرنا هذه الكلمة بما جاء في رومية 8: 34 “من هو ليخلص الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات”. أما التبرير فواضح من قوله: “اذهبي”.

 

“اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً».”

 

ولا يبرحن عن أذهاننا أن البراءة شيء والتبرير شيء آخر. فالبراءة إعلان برارة البار. لكن التبرير هو حسبان المذنب كأنه بار ومسامحته على ذنبه. لم يقل المسيح للمرأة: “اذهبي بسلام”, كما قال لغيرها (لوقا 7: 50, 8: 48), ذلك لأنها لم تأت طائعة مختارة طالبة الغفران, لكن غيرها قد أتى بها. إنما هذه هي هبة الغفران قدمت لها, ولها الحق أن تقبلها أو أن ترفضها. هذا باب جديد للرجاء, لها أن تدخله أو أن تتحول عنه. فلن يكون السلام من نصيبها حتى تدخل إلى فردوس الغفران وتتمتع بلذيذ ثماره. وأما القضاء, فظاهر من قوله: “لاتخطئي أيضا”. نعم هذا قضاء, بل دينونة – ولكن على الخطية, لا على المرأة. فالمسيح برر المرأة. ودان خطيتها. وهو لم يدن تلك الخطية الخاصة التي وقعت فيها وكفى, لكنه دان الخطية بوجه عام. فقد عالج شجرة الخطية من جذعها, لا من أحد فروعها. يخطئ من يعتقد أن المسيح تساهل معها في خطيتها. ذلك لأنه لم يتجاهل خطيتها. بل ذكرها بها, ولكن بلطف. إذ قال لها: “لاتخطئي أيضاً”. علم الفادي أن أكبر عقبة في سبيل تلك المرأة, هي خطيتها. فلو بقيت عائشة تحت سحابة خطيتها, لانغمست في الشر, وعاشت فيه محترفة. لذلك رأى الفادي أن أعظم علاج لها, أن يقطع كل صلة تربطها بالماضي, وأن خير علاج يقطع صلتها بالماضي هو الغفران. فلم يرد المخلص أن يتركها فريسة الماضي الأسود, بل جعلها ابنة المستقبل المنير.

 

11-) تفسير القس منيس عبد النور

 

قال المعترض: »ما ورد في يوحنا 8: 1-11 من قصة المرأة التي أُمسكت في زنا« أُضيف إلى إنجيل يوحنا في وقت لاحق. هكذا قال هورن وغيره«.

 

وللرد نقول: قال هورن: »ارتاب البعض في صحة ما ورد بين يوحنا 7: 53 و8: 1-11. فقد جاء اليهود إلى المسيح بامرأة أُمسكت في زنا، وطلبوا منه أن يرجمها، فقال لهم: »من كان منكم بلا خطيئة فليرْمها أولاً بحجر«. ثم قال لها: »ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضاً«. فارتاب في صحة الحادثة فريق من المدققين لأنها لم ترِدْ في بعض النسخ القديمة، ولم يستشهد بها بعض آباء الكنيسة الذين فسَّروا إنجيل يوحنا. غير أن القصة موجودة في معظم النسخ المكتوبة بخط اليد. وقد أورد كريسباخ شواهد على صحتها من أكثر من ثمانين نسخة متداولة. فإذا لم تكن صحيحة فكيف ثبتت في هذه النسخ؟ ورأى المحققون أنها موجودة في 300 نسخة من النسخ المكتوبة بالحرف الدارج، بدون علامة أو إشارة تدل على الارتياب فيها. نعم لم توجد في أربع نسخ قديمة، غير أن هذه النسخ تنقصها بعض أوراق، ومنها الأوراق التي تشتمل على هذه القصة وغيرها. وقال إيرونيموس، الذي راجع الترجمة اللاتينية القديمة إنها موجودة في نسخ كثيرة يونانية ولاتينية.

 

 ثم أنه ليس في هذه القصة ما ينافي صفات المسيح الطاهرة، بل بالعكس إنها توافق حِلْمه ووداعته ولطفه. وقد أكد أغسطينوس صحتها، وقال إن سبب حذف البعض لها هو خشيتهم من أن يظن البعض أن المسيح تساهل مع الخاطئة وسمح لها أن تذهب بلا عقاب.

 

ولكن واضحٌ أن المسيح أعلن أنه لم يأت ليدين العالم (يوحنا 3: 17 و8: 15 و12: 47 ولوقا 12: 14). وهذا ما فعله مع الخاطئة. ولو أنه عاقبها لكان هذا تخطياً للسلطة القضائية القائمة في وقته، الأمر الذي ينافي ما أظهره من طاعة أولياء الأمور.

 

ويتفق قول المسيح لشيوخ اليهود: »من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر« يتوافق مع قول الوحي »الكل قد زاغوا معاً. فسدوا. ليس من يعمل صلاحاً. ليس ولا واحد« (مزمور 14: 3 ورومية 3: 12).

 

وحسبما جاء في تثنية 17: 6 كان يجب وجود شاهدين قبل رجم الزاني، يأخذ أولهما الحجر ويرمي به، إعلاناً للحاضرين ليتمموا العقاب. ولكن كل الشهود غادروا المكان لما سجَّل المسيح خطاياهم، فسقط الركن القانوني في القضية، فقال المسيح للمرأة: »ولا أنا أدينك« (يوحنا 8: 11). ولو أن الركن الأخلاقي من القضية ظل باقياً، لأن الزانية الخاطئة محتاجة للتوبة، فقال المسيح لها: »اذهبي ولا تخطئي أيضاً« (يوحنا 8: 11).

 

وقد قال هورن (ج1 ص 231): »ولا أرى وجهاً للشك في صحة هذه القصة، فقد ذُكرت بكيفية طبيعية، عليها مسحة الصحة«.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي