إلهى إلهى لماذا تركتنى

(متي 27: 46) وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي» (أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟)

إن كان المسيح هو الله كيف يقول الهي الهي لماذا تركتني؟

الرد:

للمتنيح الأنبا يوأنس اسقف الغربية

ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلى إيلى لما شبقتنى أى إلهى إلأهى لماذا تركتنى (تخليت عنى) “

(مت 27: 46). عبارة: ” الهى الهى لماذا تركتنى ” هى مطلع المزمور الثانى والعشرين لداود، وفيه يصف بروح النبوة بالتفصيل أحداث الصليب: ثقب يديه ورجليه، اقتراعهم على ثيابه وغير ذلك من الأمور التى تجعل الإنسان يحس وكأن النبى كان حاضراً بنفسه أحداث الصليب.. إن هذه العبارة تثير صعوبتين: الصعوبة الأولى، كيف يكلم المسيح الله ويناديه بقوله الهى الهى.. والصعوبة الثانية هى صعوبة الترك. فهل ترك اللاهوت الناسوت؟!! وهذا التعبير يستند إليه القائلين بطبيعتين فى المسيح. أما عن الصعوبة الأولى فلها إجابتان: أولاً: إن المسيح بهذه العبارة يذكر اليهود بالمزمور الثانى والعشرين وفيه كل أحداث الصليب.و كأنه يقول لهم ارجعوا إلى هذا المزمور فتجدوا كل شئ عن صلبى لأنه من الواضح أن داود لم تثقب يداه ورجلاه وغير ذلك مما جاء فى المزمور. ثانياً: إن المسيح له المجد وإن كان هو الله ظاهراً فى الجسد. لكنه يمكنه أن يخاطب لاهوت الآب أو اللاهوت المتحد به بقوله إلهى. وهو نفسه قال لمريم المجدلية بعد قيامته ” لا تلمسينى لأنى لم أصعد بعد إلى أبى. ولكن إذهبى الى اخوتى وقولى لهم انى أصعد إلى أبى وابيكم وإلهى وإلهكم ” (يو 20: 17). ولو كان المسيح مجرد إنسان لقال لها: ” أصعد إلى أبينا وإلهنا “. ولكن قوله أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم يظهر بوضوح أن صلته بأبيه غير بقية البشر وكذلك إلهى وإلهكم!! لا مانع من القول إن اللاهوت هو إله الناسوت، وإن كان متحداً به.. فالمسيح من حيث هو إنسان يمكنه أن يخاطب اللاهوت – سواء لاهوت الآب الذى هو لاهوت الابن الذى هو لاهوت الروح القدس – وهو اللاهوت الحال به والمتحد به بقوله إلهى.. لان سيدنا المسيح اتخذ له ناسوتاً كاملاً من جسد ونفس ناطقة وناسوت المسيح ناسوت مخلوق وخالقه هو اللاهوت المتحد به الذى يملاْ السماء والأرض.. فإذا خاطب الناسوت اللاهوت يخاطبه إلهى. ولا صعوبة فى ذلك لأن الناسوت كامل وله كل الصفات الناسوتية. والاتحاد بين اللاهوت والناسوت لم يبطل صفات الناسوت أو يعطلها. أما الصعوبة الثانية فنقول فيها إن الترك المشار إليه فى النص ليس تركاً جوهرياً وإنما هو ترك أدبى. والآم الصليب وقعت على الناسوت طبيعياً، وفى نفس الوقت وقعت على اللاهوت أدبياً.. ومعنى العبارة: لماذا تركتنى للألم بينما هو لم يتركه تماماً مثلما يقول طفل يحمله أبوه أ/ام طبيب يجرى له جراحة بسيطة. فيصرخ الطفل ويقول: يا بابا ليه سايبنى؟ إن الأب لم يتركه بل هو ممسك به ويحتضنه، لكن المعنى أنه تركه للألم.. وعلى أية الحالات فإن هذه العبارة تعنى أ، الآلام التى احتملها المسيح على الصليب كاتنت آلاماً حقيقية وشديدة، وليس كما ادعى بعض الهراطقة أن ناسوته كان خيالياً. وان هذا الناسوت بعد اتحاده باللاهوت لازال ناسوتاً كاملاً محتفظاً بكل صفاته. ولو كان اللاهوت ترك الناسوت فى تلك اللحظة أو فارقه مفارقة جوهرية لكان معنى ذلك أن الفداء لم يتم، وأن الصلب كان صلباً واقعاً على الناسوت وحده. ومن ثم يكون للصليب قيمة ” كفارية ” أبدية كالتى صارت له بالفعل. ولو ترك اللاهوت الناسوت لكان معنى ذلك الذى صلب من أجل البشر إنسان. وكيف يقول الكتاب المقدس عن دم المسيح انه أزلى (عب 9: 14)، وانه دم الله كما يقول بولس الرسول لقسوس أفسس أن يهتموا برعاية كنيسة الله التى اقتناها بدمه (أع 30: 28) فإذا كان الدم الذى سال على الصليب يوصف بأنه دم الله فكيف يجوز قول ذلك ما لم يكن اللاهوت متحداً بالناسوت وقت الصلب أيضاً!!

 

إلهى إلهى لماذا تركتنى

حدث صلب يسوع صباحاً حوالي الساعة التاسعة. عندما كانت الشمس لطيفة لم تشتد بعد. لأن نهار اليهود يبدأ الساعة السادسة صباحاً. فتكون الساعة الثالثة عندهم الساعة التاسعة عندنا اليوم.

وهذا التوقيت يعلمنا أن المباحثات عند الوالي الروماني وحكمه على يسوع وجلد المحكوم عليه بالموت وطريقه إلى الجلجثة، لم يدم طويلاً إذ أسرع الوالي واليهود بذلك بطريقة روتينية ماهرة وبلا عطف ولا شفقة بل بازدراء.

 

7- صراع يسوع في الصلاة (الأصحاح 14: 39-42)

39وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى قَائِلاً ذ?لِكَ؟لْكَلامَ بِعَيْنِهِ. 40ثُمَّ رَجَعَ وَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً، فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. 41ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُم: «نَامُوا؟لآنَ وَ?سْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ؟لسَّاعَةُ! هُوَذَا؟بْنُ؟لإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي؟لْخُطَاةِ. 42قُومُوا لِنَذْهَبَ. هُوَذَا؟لَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ؟قْتَرَبَ».

 

خيّمت ليلة الظلام على العالم وعلى يسوع البار. وتكاثف غضب الله على حامل خطايانا. وانقضت جيوش الشر على نفس أتباعه. وذهب يسوع إلى بستان جثسيماني خارح المدينة. وكانت هناك معصرة زيت رمزاً لشخصيته الداخلة إلى معصرة دينونة الله، ليُعصر عوضاً عنا، وينحسق ليخرج منه زيت الروح القدس إلى آخر نقطة، كما يسحق حجر المعصرة الزيتون ليخرج منه زيتاً.

 

ارتجف يسوع واكتأب وحون حتى الموت. لا يوجد إنسان يقدر أن يفسر هذا الخوف والرعب إلا من يحبه ويشعر به. فيفسر هذه المرحلة من حياة يسوع قليلاً وبحذر.

 

ما كان ابن الله خائفاً من الموت، ولا من الشيطان. لأنه صارع سابقاً هذه السلطات الشريرة وغلبها في جسده منتصراً عليها عدة مرات.

 

إنما بعد تواضعه ورفع خطية العالم في محبته، حجب أبوه العادل القدوس وجهه عنه، وجعله «كبش الخطية» نائباً عن جميع الأمم وقاصصه عوضاً عنا.

 

لقد ارتجف يسوع ارتجافاً عميقاً جداً، لأجل انفصاله عن أبيه أثناء دينونة العالم المنسكبة على شخصه. فجسد المسيح ونفسه البشرية كانت معارضة ومضادة لشرب كأس غضب الله المرير المعد للناس عقاباً لخطاياهم.

 

فصل الابن صلاة النجدة ليخلصه أبوه من الساعة الرهبية، إن كانت هناك إمكانية أخرى لخلاص العالم. وبارتجاف وسجود كافح لفداء الكون، طالباً طريقاً آخر إن أمكن، دون استجابة من أبيه. ورغم هذه الأمنية انكسر وأنكر نفسه تماماً، ملتمساً تنفيذ إرادة أبيه قبل كل شيء. واستعد لشرب كأس غضب الله. وهذا الصراع الرهيب يعلمنا أنه لا توجد طريقة أخرى لفداء العالم إلا بالصليب.

 

وأتى يسوع إلى تلاميذه، ليساندوه ويشجعوه بصلواتهم أما

 

17- انفصال الآب عن الابن (الأصحاح 15: 33-36)

33وَلَمَّا كَانَتِ؟لسَّاعَةُ؟لسَّادِسَةُ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى؟لأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى؟لسَّاعَةِ؟لتَّاسِعَةِ. 34وَفِي؟لسَّاعَةِ؟لتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَني؟» (اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِل?هِي إِل?هِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) 35فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ؟لْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا: «هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا». 36فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلَأَ إِسْفِنْجَةً خَلاً وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاُ قَائِلاً: «?تْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!».

 

الساعة السادسة التي ذكرت في اليوم الحزين هي الساعة الثانية عشرة ظهراً. وعادة تبث الشمس حرارتها من السماء الزرقاء في هذا الوقت. أما أنذاك فقد هبت عاصفة رملية على جبال القدس، ممتصة آخر رطوبة من الجسد. ثلاث ساعات هبت تلك الريح الساخنة الناشفة ثم اختفت الشمس، والكل أصبح في ظلمة مخيفة.

 

بعض المفسرين يقولون إن هذه الظلمة كانت ارتكاس الأرواح الشريرة على المصلوب. حتى انقضت جهنم بجميع قواتها على حمل الله في الغيبوبة، لتقوده في شعوره الباطني إلى خطية ما.

 

أما يسوع فكان ممتلئاً بكلمة الله بل هو كلمة الله المتجسد. ولذلك حتى في غيبوبته فقد فاه بكلمات مقدسة، إذ ناب الروح القدس عنه بأنات لا ينطق بها.

 

وفي الساعة التاسعة أي الساعة الثالثة بعد الظهر، صرخ يسوع بصوت عظيم وكانت كلماته على الصليب وبوضوح جلي هي التي تفسر لنا سر الصليب بالعمق. فقد شهد الروح القدس بواسطة صرخة المصلوب أن الله القدوس ترك ابنه، وحجب وجهه أمام المعلق وظهر إلهاً دياناً. إذ سقط غضب الله على الابن المتروك. قد أتت ساعة الظلمة إنما لم تجد حقاً ولا قوة في القدوس. الابن شرب كأس غضب الله إلى المنتهى.

 

لم يتجاسر الرسل أن يكتبوا هذه الكلمات المرعبة العميقة في اللغة العبرانية واليونانية فوراً. لأن معناها مخيف فيظع. حتى سجلوها حرفياً في اللهجة الأرامية وكتبوا معناها باليوناني بعدئذ.

 

سابقاً كان يسوع يقول أنا والآب واحد. هو فيّ وأنا فيه. أما الآن فشهد أنّ وحدة المحبة قد انقطعت والاتحاد الأزلي انفصل. فصرخ لماذا تركتني؟ لا يمكن أن يكون هذا. أنت المحبة ولا تتركني وحيداً.

 

هذه الصرخة من فم المصلوب التي سجلها البشيران متى ومرقس ككلمة وحيدة من فم يسوع على الصليب، هي بالحقيقة عثرة. محيرة لكل الأتقياء والملحدين الذين لم يعرفوا معنى صليب يسوع، فيظنون أن يسوع النجار صرح متشائماً يائساً مداناً من غضب الله.

 

أما نحن فنرى في هذه الكلمة برهاناً على الإيمان بالله ومحبة ثابتة إلينا نحن الضالين. فقد ضحى بِصِلَتِهِ ووحدته مع الآب ليخلصنا نحن البعيدين عن القدوس.

 

لم يكن إنسان ما مستحقاً أن يموت عنا كحمل الله، إلا الله في جسد إنسان. كان بريئاً ومستحاً وقادراً أن يرفع خطية العالم ويحمل كل الدينونة. ولكن بما أن الله هو واحد وليس اثنين يظهر أن الله ظهر كالثالوث الأقدس لأجل فدائنا معلناً نفسه الآب والابن والروح القدس، لكي يستطيع الابن «?لَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّ?هِ بِلا عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا؟للّ?هَ؟لْحَيَّ!» (عبرانيين 9: 14).

 

كل من يدرك هذا السر بمسحة الروح القدس يسجد للآب والابن، ويكرس حياته الفاشلة والمطهرة بدم الحمل لخدمة لله. أمامنا اختياران فقط. إما أن نستهزئ بالمصلوب أو نخدمه شكراً لمحبته الأزلية.

 

أما الجند الروماني والحراس فلم يفهموا كلمات المصلوب باللغة الأرامية، فظنوا أن المائد نادى النبي إيليا فخافوا من ظهور شخص إلهي من الظلمة مساعداً المصلوب لينزل عن الصليب. فمنعوا الرحماء من بينهم الذين شفعوا فيه وأرادوا أن يقدموا للعطشان في العاصفة الرملية اسفنجة مبللة بالماء والخل. فإيمانهم السلبي بظهورات الأموات منعهم من خدمة الإنسانية.

 

إلهى إلهى لماذا تركتنى؟

صرخ السيد المسيح على الصليب قائلاً: “إلهى إلهى لماذا تركتنى (تخليت عنى)؟”

وهنا أيضاً يواجهنا عدة أسئلة:

لماذا صرخ السيد هكذا؟

هل فعلاً تركه الآب؟

وهل فارق لاهوته ناسوته على الصليب؟

 

1. سر الصرخة:

عُلق السيد المسيح على الصليب من الساعة الثالثة(*) إلى الساعة التاسعة(**) أى علق ست ساعات ذاق فيها آلاماً جسدية ونفسية وروحية (كفارية) حادة وكان قد أنهك تماماً وسفك دمه ولم يكن ممكناً فى ذلك الوقت – إذ صرخ قبل الساعة التاسعة بقليل – أن يصرخ هكذا، ولكنه صرخ هذه الصرخة العالية المدوية التى سمعها كل الواقفين حول الصليب فى الخلاء لكى يبين أن ما يتم الآن على الصليب ليس عن ضعف منه بل تحقيقاً لعمله، لما جاء لكى يتممه، تحقيقاً لعمله الكفارى الذى سبق أن وعد به وأعلنه لأنبيائه.

وصرخ هذه الصرخة لأنه كإنسان كان يجتاز الآلام التى كان يجب أن تتحملها البشرية كلها. لقد فعل الإنسان الخطية وأنفصل عن الله بسببها وقد جاز السيد المسيح نيراناً ملتهبة هى نيران الآلام التى يجتازها ونيران الانفصال عن الله كحامل خطايا العالم كله. جاز فى أختبار نتائج الخطية. فقد أتخذ طبيعتنا، أتخذ كل ما للناسوت “كان مجرباً مثلنا فى كل شئ بلا خطية”(1) وعلق على الصليب نيابة عن البشرية كلها وأحتمل الآلام الروحية والنفسية والجسدية، أحتمل الآلام والخزى والعار والصلب ليس بسبب خطية أرتكبها فهو القدوس البار ولكنه لأنه وضع ذاته عن البشرية، “جعل نفسه ذبيحة إثم”(2).

“لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد أنفصل عن الخطاه وصار أعلى من السموات إذ قدم نفسه”(3).

فقد فتح عهداً جديداً مع الآب بتقديم ذاته على الصليب ذبيحة:

“الآن قد حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم”(4).

“وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً… فكم بالحرى يكون دم المسيح الذى بروح أزلى قدم نفسه له بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحى. ولأجل هذا هو وسيط عهد جديد لكى يكون المدعوون إذ صار موت لفداء التعديات الذى فى العهد الأول ينالون وعد الميراث الأبدى”(5).

أنه صرخ كإنسان نائباً عن البشرية وليس كإله، صرخ كنائب عن البشرية التى سقطت فى الخطية وبالتالى سقطت تحت سلطان الظلمة.

 

قال القديس كيرلس عمود الدين

“إذا أعتبرنا أن الابن الوحيد تأنس، فهذا الإعتبار هو الذى يجعلنا نفهم لماذا صدرت عنه هذه الكلمات، لأنه صار كواحد منا ونائب عن كل الإنسانية، وقال هذه الكلمات لأن الإنسان الأول تعدى وسقط فى عدم الطاعة ولم يسمع الوصية التى أعطيت له وإنما تعداها بمكر التنين، فصار أسيراً للتعدى ولذلك بكل حق أخضع للفساد والموت. ولكن الابن صار البداية الجديدة على الأرض ودعى آدم الثانى. وكان الابن الوحيد يقول: “أنت ترى فى أنا الجنس البشرى وقد وصل إلى عدم الخطأ وقدوس وطاهر” فأعطه الأن البشارة المفرحة الخاصة بتعطفك وأزل تخليك، وأنتهر الفساد وليصل غضبك إلى نهايته. لقد غلبت الشيطان نفسه الذى نجح قديماً ولكنه لم يجد فى شيئاً يخصه. هذه معانى كلمات المخلص التى كان يستدعى بها تعطف الآب، ليس عليه هو، بل على الجنس البشرى الذى كان يمثله”(6).

لقد أتخذ الناسوت كاملاً وكان نائباً عن البشرية كوسيط عهد جديد على الصليب ولذا فقد أحتمل الألام الروحية والنفسية والجسدية، التى سبق أن ذكرناها – إلى جانب إحتجاب وجه الآب عنه كإنسان ونائب عن البشرية التى انفصلت عن الله بسبب الخطية، فكانت آلامه آلاماً كفارية حادة ورهيبة، عانى من أهوال فى ناسوته المتحد بلاهوته دون تدخل من اللاهوت للتخفيف عن الناسوت لمنع الألم، وتخفيفه، وإن كان قد أعطاه القدرة على إحتماله، كان لابد أن تكون الآلام حقيقة وغير محدودة فأجتنازها بحسده المحدود المتحد بلاهوته غير المحدود.

عومل معاملة الخطايا، مع أنه لم يعرف خطية، بسبب خطايانا، تحمل عقوبة الخطية وعانى إحتجاب وجه الآب عنه كإنسان “جعل الذى لم يعرف خطية خطية لأجلنا”(7). وكانت هذه مسرة الآب أن يجعله منسحقاً بالآلام والجراح لأجلنا: “أما الرب فسر أن يسحقه بالحزن (الجراح). أن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح… بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها… أنه سكب للموت نفسه وأحصى مع إثمه وهو حمل خطية كثيرين وشفع فى المذنبين”(8).

 

“لماذا قال المسيح إلهى إلهى؟”

“لقد قالها بصفته نائباً عن البشرية، قالها لأنه “أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد، صائراً فى شبه الناس وقد وجد فى الهيئة كإنسان”(9) و”أطاع حتى الموت موت الصليب”(10) أنه يتكلم الآن كإبن للإنسان، أخذ طبيعة الإنسان، وأخذ موضعه، ووقف نائباً عن الإنسان وبديلاً أمام الله، كأبن بشر، وضعت عليه كل خطايا البشر، وهو الآن يدفع ديونهم جميعاً…

هنا نرى البشرية كلها تتكلم على فمه… وإذ وضعت عليه كل خطايا البشر، والخطية إنفصال عن الله، وموضع غضب الله، لذلك تصرخ البشرية على فمه “إلهى إلهى لماذا تركتنى*” (11).

 

قال القديس أثناسيوس الرسولى

“لقد كتب أنه “بكى”… وأنه قال “نفسى قد إضطرب” وقال على الصليب “إلهى إلهى لماذا تركتنى؟…” وطلب أن تعبر عنه “الكأس” فإذا كان المتكلم مجرد إنسان دعوه يبكى ويخاف الموت لكونه إنسان، ولكن إذا كان الكلمة فى جسد… فممن يخاف مع كونه إله؟ أيخاف من الذين يقتلون الجسد” وكيف يرتعب أمام بيلاطس وهيرودس وهو ذاته القائل لإبراهيم “لا تخف لأنى معك”…(12) كان قادراً على تجنب الموت… ولكنه تأثر هكذا بالجسد، فى الناسوت، فهو لم يقل كل هذا قبل التجسد بل عندما “صار الكلمة جسداً” وأصبح إنساناً، فقد كتب إذاً أنه قال هذا بالجسد، أى إنسانياً”(13).

 

قال القديس أغريقوريوس النيزنزى

“وظهر فى التعبير “إلهى إلهى لماذا تركتنى؟” أنه لم يكن هو الذى تُرك سواء من الآب أو من لاهوته كما ذكر البعض، كما لو أنه كان خائفاً من الألم… ولكن كما قلت كان فى شخصه ممثلاً لنا، لأننانحن الذين كنا متروكين ومحتقرين من قبل ولكن الآن ارتفعنا ونجينا بمعاناة ذاك (المسيح) الذى كان يمكن أن لا يعانى (يتألم) فقد جعل عصياننا وخطأنا خاص به هو”(14).

 

قال يوحنا الدمشقى

“أما قول المسيح: “إلهى إلهى لماذا تركتنى؟” فمعناه أن المسيح أختص شخصياً، فإن الآب لا يكون إلهه إلا إذا فصل العقل بتصورات دقيقة بين ما يرى وما يعقل جاعلاً المسيح معنا فى صفنا دون أن يفصله البتة عن لاهوته الخاص، لكننا كنا نحن المهملين والمنسيين، حتى أنه وقد أختص شخصنا صلى الصلاة المذكورة”(15).

2-الصرخة والمزمور 22

كان داود النبى قد سبق وتنبأ عن هذه الآلام وكل ما فيها من آلام مبرحة وصلب وترك فقال بروح النبوة وكأنه كان واقفاً تحت الصليب يشاهد ويتألم ويكتب:

“إلهى إلهى لماذا تركتنى؟… أما أنا فدودة لا إنسان. عار عند البشر ومحتقر الشعب. كل الذين يروننى يستهزئون بى. يفغرون الشفاه وينغصون الرأس قائلين أتكل على الرب فلينجه. لينقذه لأنه سر به… أحاطب بى ثيران كثيرة. أقوياء باشان أكتنفتنى… يبست مثل شقفة قوتى ولصق لسانى بحنكى وإلى تراب الموت تضعنى. لأنه قد أحاطت بى كلاب. جماعة من الأشرار أكتنفتنى. ثقبوا يدى ورجلى. احصى كل عضامى. وهم ينظرون ويتفرسون فى. يقسمون ثيابى بينهم وعلى لباسى يقترعون…”(16).

والسيد هنا يبين لليهود أنه يجتاز ما سبق أن تنبأ به داود النبى عن صلبه وكل ما تم فيه وعن تركه من البشر ومن الآب. فقد ترك من البشر وأصبح وحيداً كإنسان، وترك من الآب يحتمل الآلام حتى الثمالة.

أنه يذكى اليهود بما كتب عنه، أنه ليس مصلوباً بسبب علة أو خطية أو تجديف بل ليتمم المحتوم، يتمم إرادة الآب، والذى سبق أن أعلن للأنبياء فى القديم. “فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة قبل تأسيس العالم ولكنه الآن قد أظهر مرة عند إنقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه”(17).

” لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا. لذلك عند دخوله العالم يقول ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لى جسداً… ثم قلت هأنذا أجئ فى درج الكتاب مكتوب عنى لأفعل مشيئتك يا الله… فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة”(18).

 

3-لم يترك الآب الابن ولم يترك اللاهوت الناسوت

وقول السيد المسيح هذا لا يعنى أن الآب ترك الابن أو انفصل عنه أو أفترق عنه إفتراقاً فى الجوهر، حاشا، فالآب والابن واحد. والآب فى الابن والابن فى الآب، جوهر واحد، لاهوت واحد، طبيعة واحدة، إله واحد، والابن قائم مع الآب والروح القدس فى الذات الإلهية من غير إفتراق من الأزل وإلى الأبد:

“أنا والآب واحد”(19).

“أنا فى الآب والآب فى”(20).

“صدقونى أنى فى الآب والآب فى”(21).

“الآب فى وأنا فيه”(22).

“أنت أيها الآب فى وأنا فيك”(23).

كما أن هذا لا يعنى أن هناك إفتراق بين اللاهوت والناسوت، كلا، لأن إتحاد اللاهوت والناسوت إتحاد حقيقى وجوهرى وتام وكامل وليس إتحاد عرضى أو وقتى وإنما إتحاد أبدى لا نهاية له ولا إنفصال “لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين”.

وإنما قوله “إلهى إلهى لماذا تركتنى؟” يعنى أن الآب تركه يتحمل الآلام الحادة دون التدخل لتخفيف هذه الآلام كنائب عن البشرية. أنه ترك ليتحمل الآلم كاملاً وبلا تخفيف. كما أن اللاهوت لم يخفف عنه الآلام، لم يتدخل للتخفيف على الإطلاق، وإنما أعطى اللاهوت لآلام الناسوت قيمة غير محدودة، لأن الآلام كانت آلام الناسوت المتحد باللاهوت الغير محدود فصارت قيمة الآلام غير محدودة بل ودعيت آلام الله والدم الذى سفك دعى دم الله:

“كنيسة الله التى أقتناها (أشتراها) بدمه”(24).

“لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد”(25).

 

“هذه العبارة لا تعنى أن لاهوته قد ترك ناسوته، ولا أن الآب قد ترك الابن… لا تعنى الإنفصال وإنما تعنى أن الآب قد تركه للعذاب… ولو كان لاهوته قد أنفصل عنه، ما أعتبرت كفارته غير محدودة، تعطى فداء غير محدوداً يكفى لغفران جميع الخطايا لجميع البشر فى جميع الأجيال… إذن فلم يحدث ترك بين لاهوته وناسوته. ومن جهة علاقته بالآب، “لأنه فى الآب، والآب فيه”(26).

 

قال يوحنا الدمشقى:

“ومن المقولات ما هى التماس للعون والنجدة. مثلاً: “إلهى إلهى، لماذا تركتنى و”إن الذى لم يعرف الخطية جعله خطيئة لنا”(27). و”صار لعنى لأجلنا”(28). و”يخضع الابن نفسه للذى أخضع له كل شئ”(29). والحال أن الآب لم يترك ابنه قط لا من حيث هو إله، ولا من حيث هو إنسان. ولم يكن الابن قط خطيئة ولا لعنة، ولم يكن بحاجة أن يخضع للآب. فمن حيث هو إله، وهو مساو للآب وهو ليس معادياً له ومن حيث هو إنسان، فلم يكن قط مقاوماً لأبيه كى يضطر إلى تقديم الخضوع له. وإنما قال هذا لأنه أختص بشخصنا وجعل ذاته بمستوانا، لأننا كنا خاضعين للخطية واللعنة. ولذلك كنا متروكين”(30).

 

إلهى إلهى لماذا تركتنى؟!

القديس كيرلس الكبير

عن الإيمان القويم للملكات

ماذا يقصده، إذن، بقوله: «إلهي إلهي لماذا تركتني»؟!

نقول إنه لَمَّا داس أبونا الأول آدم الوصيةَ المُعطاة له وتغاضى عن النواميس الإلهية

قد تُركَت الطبيعة البشرية بنوعٍ ما من قِبَل الله

وبسبب ترك الله للطبيعة البشرية صارت ملعونةً ومستوجبةَ الموت.

فلما سكن الكلمة ابن الله الوحيد الجسدَ المصاب ليُجدِّده، وأمسك بنسل إبراهيم، وصار مُشابهاً لإخوته (عب 2: 17، 16)، كان يجب أن يضع حدّاً لهذا ”الترك“ الذي أصاب الطبيعة البشرية، كما وضع حدّاً للَّعنة القديمة وللفساد المندس فينا.

لذلك بصفته واحداً من المتروكين، إذ قد اشترك معنا وماثلنا في اللحم والدم، قال: «لماذا تركتني»؟ فهذا قول شخص يُبطل بالفعل الترك الذي أصابنا، ويستميل لنفسه الآب، داعياً رضاه علينا، وكأنه يدعوه على نفسه هو أولاً.

فقد صار المسيح لنا بدايةً ومصدراً لجميع الخيرات، وكلما قيل إنه ينال بصفته البشرية شيئاً من الآب، فذلك لكي يُوصِّله لطبيعتنا نحن. أما هو في ذاته فكامل ولا يُعوزه شيء قط، إذ هو الله

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي