بركات وامتيازات

تكوين 18

تعلمنا من ص 17 كيف أن الله أظهر لإبراهيم في هذه الصفة “الله القدير” أي الذي يقدر أن يتمم مواعيده بالبركة على الرغم من كل صعوبة، وفي نور هذا الإعلان كان لزاماً على إبراهيم أن يسير أمام الله، ويكون كاملاً ولا تكون له ثقة في الجسد.

 

وفي إصحاح 18 الذي أمامنا نرى البركات والامتيازات للشخص الذي كان سيره متفقاً مع إعلان الله لذاته بأنه القدير، ونرى أربعة امتيازات تمتع بها إبراهيم وهي:

أولاً. ظهور الرب شخصياً له (ع 1 – 8).

ثانياً. التوكيد بالبركة عن طريق الوارث الذي وعد به (ع 9 – 15).

ثالثاً. معاملة الله له كخليل فأفضى إليه بما هو فاعله (ع 16 – 21).

رابعاً. إذ كان إبراهيم قريباً من الله واثقاً فيه، تسنى له أن يشفع في الآخرين (22 – 33).

 

الزيارة الإلهية (ع 1 – 5)

إن أول امتياز عظيم يتمتع به المؤمن في نور الإعلان عن الله الذي أعطى نفسه والذي ليست له ثقة في الجسد هو في إظهار الرب ذاته له شخصياً.

 

في أول هذه الإصحاح نرى إبراهيم جالساً في باب خيمته كشخص غريب، في راحة تامة، بعيداً عن العالم وخصوماته. وهل لا يوجد خطر في وقتنا الحاضر على المؤمنين المشغولين بما هو جار من حوادث في هذا العالم؟ ليتنا نعرف أكثر ونقدر أكثر قيمة الراحة التي تجيء إلى النفس نتيجة للاستجابة لدعوة الله فننفصل عن العالم، ونحن في كامل الثقة في إلهنا ودون أن نثق في الجسد. لمثل هذا المؤمن يأتي الرب كما جاء لإبراهيم ليتحادث معه. والكيفية التي جاء بها الرب لإبراهيم تسترعي منا كل انتباه. لقد رفع إبراهيم عينيه ونظر “وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه” ونحن نعلم من تفاصيل القصة أن اثنين منهم كانا ملاكين وقد ظهرا إنهما كذلك في باب سدوم (ص 19: 1) أما الثالث فكان هو الرب نفسه ظاهراً في صورة بشرية، وفي هذه الصورة نرى ظلاً للوقت الذي سيصير فيه ابن الله جسداً، ويحل بين الناس.

 

الخدمة الإلهية (ع 6 – 8)

بحسب الظاهر لم تكن هناك علامة خارجية كان يستطيع إبراهيم أو غيره أن يميز بها حضور الرب، كل ما كان يراه العيان هو ثلاثة رجال أمام باب خيمته، لكن إبراهيم بما أعطي من تمييز روحي كرجل إيمان يعيش قريباً من الله استطاع أن يميز الرب والملاكين، وفي احترام تام سجد إلى الأرض وبدأ يخاطب الرب شخصياً قائلاً له “يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك” كما استأذن أن يأتي بقليل ماء ليغسلوا أرجلهم ويتكئوا تحت الشجرة حتى يعد لهم ما يسند قلوبهم، ويقدمه لهم.

 

ولقد سمح الرب أن يفعل كما تكلم، فأعد لهم الطعام ووضعه قدامهم “وإذ كان هو واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا” ونحن في وقتنا الحاضر إن كنا نسلك في ضوء معرفتنا لله كالآب أفلا نتمتع بكل تأكيد بالشركة الحلوة المباركة مع الأقانيم الإلهية، وإن لم يكن ذلك بالكيفية التي ظهر بها الرب لإبراهيم، لكننا بالروح القدس المرسل من عند الآب ننقاد لهذه الشركة المباركة جداً. ونحن نذكر انه في الليلة الأخيرة في العلية، أخبر الرب تلاميذه بأنه سيتركهم بالجسد، ولكن سيكون ممكناً لهم أن يتمتعوا بقوة الروح القدس بشركة أعمق لم يسبق لهم أن عرفوها مدة وجود الرب معهم على الأرض، وتكلم معهم عن الروح الذي كان الآب مزمعاً أن يرسله فقال لهم “في ذلك اليوم (وهو اليوم الذي نعيش فيه).. الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي”، وأيضاً “إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً”. (يوحنا 14: 16 – 25).

 

وفي هذا الإصحاح من سفر التكوين نقرأ لأول مرة في الكتاب عن غسل الأرجل، والفكرة في غسل الأرجل هنا هي إنعاش الشخص الذي تغسل رجلاه، وإبراهيم يحظى بهذا الامتياز فيقدم ماء لغسل قدمي ذاك الذي سوف يأتي يوماً ويصير جسداً، وفي محبته التي تسر أن تخدم، وفي غنى نعمته، سوف يتنازل لغسل أرجل تلاميذه الفقراء – وإن اختلفت الغاية.

 

الحديث الإلهي (ع 9 – 15)

يتخذ الرب فرصة الشركة هذه فيثبت إيمان إبراهيم مؤكداً له ولادة ابنه، وهذا الموضوع يخص سارة أيضاً لذا سأل الرب إبراهيم “أين سارة امرأتك” ثم واصل الرب كلامه قائلاً “إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن” ومن يقدر أن يقول هذا القول غير الأقنوم الإلهي؟ إن قاله إنسان يكون مجدفاً، لكن الرب وحده يستطيع أن يقول “إني أرجع إليك” وفي هذا الوقت توطد إيمان إبراهيم وتثبت بكلمات الرب اليقينية. والرب هو هو يسر بأن يثبت قلوبنا الخائفة بقوله لنا “آتي أيضاً وآخذكم إلي”، “لا أترككم يتامى إني آتي إليكم” (يو 14: 3 – 18).

 

سمع إبراهيم هذا الوعد العظيم وهو متحقق تماماً بمجد ذاك الذي يكلمه، ولذلك لا نراه يبدي أية دهشة، ولا يقدم أي اعتراض، ولا يظهر شكاً، بخلاف ذلك كانت سارة فلم يكن لها التمييز الروحي الذي كان لزوجها فهي سمعت ما قيل، لكنها لم تتحقق في نفسها مجد المتكلم فشكت في ما قيل، وذلك لأنها نظرت إلى نفسها أنها شاخت، وجسدها ضعف، وحسبت أن الكلام الذي قيل لا يمكن أن يتم، وضحكت في قلبها إذ ضحكت في عدم إيمان، ضحكت لما سمعت أنه سيكون لها ابن، لكن الرب وبخها على عدم إيمانها وذكر إبراهيم أنه إن كان مستحيلاً إتمام هذا الوعد بحسب الطبيعة لكن هل يستحيل على الرب شيء؟

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ب بَرَد 2

 

وإذ واجه الرب سارة بعدم إيمانها خجلت أن تقبل الحقيقة، وكثيراً ما يقود الخوف من النتائج إلى الكذب، وهكذا “أنكرت سارة قائلة لم أضحك” صحيح أنها لم تضحك بصوت عال، لكنها ضحكت في قلبها وكان عليها أن تعلم أنها في حضرة ذاك الذي يستطيع أن يقرأ ما في قلبها ويراها وإن كانت وراء باب الخيمة.

 

النبوة الإلهية (ع 16 – 21)

إنه لأمر مبارك أن يتكلم الرب في وقت لاحق بالنبي أشعيا ويقول عن إبراهيم “خليلي” (أشعيا 41: 8) وفي المشهد الذي أمامنا يعامل الرب إبراهيم كخليله. صحيح كما قيل إننا نتكلم مع الخادم عن عمله الذي يقوم به، لكن مع الصديق نتكلم عما نحن مزمعون أن نعمله، وهنا يعامل الرب إبراهيم كصديق فيقول “هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله” والسبب الذي لأجله يعامل الرب إبراهيم كصديق هام للغاية إذ يقول الرب “لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا براً وعدلاً”. فالشخص الذي يعامله الرب كصديق ليس هو شخصاً مؤمناً فقط بل هو شخص يوصي أيضاً بيته ليعيشوا في مخافة الرب.

 

والرب يقول لنا “أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به” ويضيف “لا أعود أسميكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (يوحنا 15: 14 و 15).

 

وإذ تحدث الرب مع إبراهيم أخبره عما هو مزمع أن يوقعه من قضاء على مدن الدائرة. لكن لنذكر أن هذا الحديث إنما جاء لرجل كان يعيش في حالة الانفصال عن العالم، وقد رفض العالم، بل وانتصر على العالم. ونحن إذا لم نهرب من نجاسات العالم لا بد أن نقول مع الشخص الذي له مجرد الاعتراف “أين هو موعد مجيئه؟” والرسول بطرس يحذرنا أن لا نجهل هذه الحقيقة الخطيرة أن يوم الرب سيأتي كلص في الليل، وفيه سيحل القضاء على عالم الفجار.

 

رأينا في إصحاح سابق أن أهل سدوم كانوا أشراراً وخطاة لدى الرب جداً (تك 13: 13) وهنا نرى أن خطيتهم كانت تصرخ إلى الرب لأجل القضاء لأنها “قد عظمت جداً”. لقد تأنى الرب طويلاً عليهم لكنه لم يكن غير مبال بخطيتهم. لقد كثر صراخهم حتى كملت خطيتهم للقضاء ومع كل ذلك فالرب كان بطيء الغضب في توقيع القضاء لأننا إذ نتتبع خطوات الرجال نقرأ أولاً “أنهم تطلعوا نحو سدوم” (ع 16) ثم “ذهبوا نحو سدوم” (ع 22) وأخيراً نقرأ القول “فجاء الملاكان إلى سدوم مساء” (ص 19: 1).

 

الشفاعة (ع 22 – 33)

ذهب الملاكان لتوقيع قضاء الرب على المدن المقضي عليها، وظل إبراهيم واقفاً أمام الرب آخذاً مركز الشفيع، ولقد بنى شفاعته على أنه لا يمكن أن يهلك البار مع الأثيم، وعلى هذا الأساس أخذ يتشفع لدى الله أن يعفو عن المدينة إذا وجد فيها خمسون باراً، ثم طلب أن لا تهلك إذا وجد فيها خمس وأربعون، ثم أخذ ينقص العدد إلى أربعين وثلاثين وعشرين وأخيراً عشرة، وفي كل مرة كان الرب في نعمته يجيبه إلى طلبه إلى أن توقف إيمان إبراهيم عن إدراك غنى نعمة الله. النعمة التي نقرأ عنها “حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً”.

 

ونختم بما نقرأه في نبوة ارميا عن أورشليم وهي تحت القضاء هذا القول “هل تجدون إنساناً أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها؟” (أرميا 5: 1) لكننا نعلم أن هذا الإنسان قد وجد – هو المسيح – هو الوسيط الواحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع. وبواسطة هذا الإنسان الواحد يُطلب أن تُقام طلبات وصلوات (أو التشفعات) لأجل جميع الناس (1 تي 2: 1 – 6).

 

صداقة العالم

(تكوين 19)

رأينا في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين البركات التي تلاحق المؤمن الذي مسلكه يتفق وإعلان الله لذاته كالله القدير.

 

ونرى في الإصحاح التاسع عشر نكبات المؤمن الذي تخلى عن طريق الانفصال واندمج مع أهل العالم. صحيح أننا سنرى هذا المؤمن خالصاً، ولكنه سيخلص كما بنار، وانتهت قصته بخروجه من العالم تاركاً وراءه قصة مخجلة مزرية.

 

مباينة هامة

إن المباينة بين إبراهيم ولوط تتضح إذا ما وضعنا جنباً إلى جنب أمام عيوننا العدد الأول من الإصحاح الثامن عشر مع العدد الأول من الإصحاح التاسع عشر ففي ص 18: 1 نرى إبراهيم جالساً “في باب الخيمة” بينما في ص 19: 1 نرى لوط جالساً “في باب سدوم”، الأول خارج العالم في وضع ينطق بطابع الغربة، والثاني لا يرى فقط في العالم، بل يرى أيضاً مساهماً في تصريف أموره جالساً في الباب، مكان الحكم والقضاء.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد جديد رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس إسكندر جديد 01

 

نهاية الطريق المنحدرة

في أول الطريق كان لوط في مركز الانفصال كإجابة لدعوة الله ولكنه كان سائراً مع شخص آخر. ثم إذ حدث اضطراب في جو العلاقة بينه وبين إبراهيم تخلى لوط عن طريق الإيمان والانفصال، واختار دائرة الأردن التي رأى أن جميعها سقي ونقل خيامه إلى “مقابل” سدوم (13: 12) ثم سكن في سدوم (14: 12) وأخيراً نقرأ أنه كان جالساً في باب سدوم (19: 1).

 

وسدوم التي وجد فيها لوط لنفسه مكاناً موقراً، ومركزاً محترماً كحاكم كانت مدينة مقضياً عليها، وها قد جاء يوم القضاء. ومن أقوال الرب المذكورة في إنجيل لوقا: نرى أن هذا المشهد المريع إن هو إلا ظل للدينونة المزمع صبها على هذا العالم الحاضر الشرير، إذ نقرأ (كما كان في أيام لوط.. هكذا يكون اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان) (لوقا 17: 28 – 32).

 

انطفاء الشهادة

ما هي الحالة التي كانت عليها سدوم والتي بسببها استوجبت قضاء الله؟ نجد شيئين اتصفت بهما هذه المدينة، فأولاً – كان أهلها أشراراً وخطاة لدى الرب جداً (13: 13). وثانياً – كان المؤمن الحقيقي الموجود فيها شاغلاً مركزاً مرموقاً، وهو في ارتباط مع الخطاة يحكم وينظم في العالم. إذن فهي مدينة اتصفت بارتباط من حسبوا لدى الرب أنهم خطاة مع من هم مؤمنين في الرب. وهذه هي الحالة المكروهة لدى الرب جداً والتي تميز عالم اليوم والتي ستسرع جداً بانتهاء تدبير النعمة الحاضر. إن ما ينهي يوم النعمة ليس هو ببساطة شر العالم. لأن شر العالم يظهر بأشكال مختلفة في كل زمان، والشر في أيامنا هذه ليس أعظم مما ارتكب عندما وصل إلى ذروته في صلب رب المجد. إنه انهيار المسيحية المعترفة حتى أن المؤمنين الحقيقيين الموجودين في العالم ليسوا شهوداً لنعمة الله بل صاروا في ارتباط وثيق بالعالم وهذا ما لا يطيقه الله إذ يستوجب انصباب القضاء. وعندما يترك المؤمنون في العالم ليصيروا شهوداً لنعمة الله ولكنهم يفشلون عندئذ لا تصبح النهاية بعيدة.

 

رسالة تحذير

نقرأ تحذيراً واضحاً للرسول بولس في كلمات واضحة لا تخطئ القول “لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين لأنه أية خلطة للبر والإثم وأية شركة للنور مع الظلمة وأي اتفاق للمسيح مع بليعال، وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن” (2كو 6: 14 و 15) لكن على الرغم من هذه الأقوال الصريحة، ماذا نرى حوالينا اليوم؟ إننا لا نرى فقط عالماً مملوءاً بالظلم والشر، لكننا نرى أيضاً مؤمنين حقيقيين يتصرفون ضد تعليم كلمة الله الصريح، نراهم في شركة مع الغير مؤمنين الذين يهزأون بأقوال الله!!

 

وعندما نجد أولئك الذين يقولون إنهم خدام المسيحية وقد كفوا أن يكونوا شهوداً للمسيح وانغمروا في العالم وهبطوا إلى مستواه وصاروا هم قادة عالميين، عندئذ لا يعود الملح يعطي ملوحته، وصارت دائرة الاعتراف المسيحي تسبب الضيق والغثيان للمسيح ويريد أن يتقيأها من فمه لإيقاع الدينونة على العالم. وبلا شك فإن خراب سدوم يتكلم إلى كل ضمير ويقودنا للإلتفات إلى تلك الكلمة التي تقول “اخرجوا منها يا شعبي لئلا تشتركوا في خطاياها ولئلا تأخذوا من ضرباتها” (رؤ 18: 4).

 

خدمة الملائكة

هنا أيضاً دروس أخرى نتعلمها من القصة. رأينا في الإصحاح السابق أن الرب ظهر لإبراهيم ومعه ملاكان، أما هنا فنحن نرى الملاكين فقط ذاهبين إلى سدوم، ورأينا أيضاً إبراهيم في باب خيمته يتمتع بالشركة الحلوة مع الرب، بينما لوط الذي كان جالساً في باب سدوم لم يحظ بزيارة الرب له – صحيح إن نفسه كانت معذبة بأفعال أهل سدوم – لكن لم تكن له شركة مع الرب.

 

وأيضاً رأينا الرب يأتي لإبراهيم في حر النهار، بينما نرى الملاكين يأتيان إلى سدوم مساء. يأتيان لا ليقدما شهادة علنية لسدوم، بل جاءا سراً في المساء لينقذا مؤمناً مغلوباً من وسط نيران القضاء (18: 1، 19: 1).

 

ونتعلم من كلمة الله أن خدمة الملائكة لها هاتان الصفتان: الأولى – تنفيذ قضاء الله. والثانية – “هم أرواح خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (مز 104: 4، عب 1: 14) ونرى هاتين الخدمتين في سدوم فجاءا ليهلكا المدينة، وليخلصا مؤمناً حقيقياً من وضع خاطئ. ومن المفيد أن نعرف أنه في يومنا هذا، على الرغم من توقع سقوط الدينونة على المسيحية المعترفة فإن المؤمن الحقيقي سيخلص من هذه الدينونة. وهكذا مع الكثيرين فإنهم مثل لوط ستحترق أعمالهم وتضيع، أما هم فسيخلصون ولكن كما بنار (1 كو 3: 15).

 

تضارب لوط

لوط وهو مؤمن حقيقي استطاع أن يميز الزائرين السماويين ويعاملهما بكل احترام، فيطلب أن يكرمهما ويقيهما من إهانات أهل العالم، لكنه يرى نفسه غير قادر على أن يضع حداً لشر أهلها حتى كاد أن ينزلق في عمل شرير بأن عرض ابنتيه لهم لتهدئة الحالة، لكن تصرفه هذا أهاج أهل سدوم أكثر. فقالوا له: “أبعد إلى هناك ثم قالوا جاء هذا الإنسان ليتغرب وهو يحكم حكماً” (19: 9) وبكلمات التهديد هذه التي كانت تعذبه لم يستطع أن ينجو من ثورة الغوغاء لولا تدخل الملاكين اللذين أنقذاه من أيديهم.

هل تبحث عن  م التاريخ مجامع الكنيسة مجامع مسكونية تاريخ المجامع 35

 

فشل لوط

كانت توجيهات الملائكة للوط أن يحذر أقاربه، ويقول لهم إن الرب مزمع أن يهلك المدينة، هذه التوجيهات أظهرت هذه الحقيقة: أن المؤمن الذي يوجد في مركز لا يليق به، لا تكون له قوة للشهادة. نقرأ: فخرج لوط وكلم أصهاره محذراً إياهم من القضاء القادم “فكان كمازح” نعم كان يشهد للحق، لكن الحق دانه. ألم يكن باراً ومع ذلك انجذب إلى سدوم التي اختارها للسكن فيها واتخذ مكاناً بارزاً ومشهوراً فيها؟ هل كان لوط حقاً يصدق أن الرب مزمع أن يهلك المدينة؟ إن حياته كانت على نقيض شهادته فلا عجب إن ظهر في عيونهم كمازح.

 

وهل تعجب إذا كنا نرى أهل العالم لا يعيرون التفافاً للتحذيرات التي يتكلم بها البعض ممن هم خداماً للديانة المسيحية بل وقادة في الأمور العالمية أيضاً؟

 

تردد لوط

وبينما كان لوط يحذر الآخرين نراه هو متوانياً في ترك سدوم، لأنه لما طلب منه أن يخرج بسرعة من هذه المدينة المقضي عليها بالهلاك، نراه يتباطأ، لكن الرب لشفقته عليه أخرجه الملاكان ووضعاه خارج المدينة، وأخرجا معه امرأته وابنتيه، ولكن أملاكه ومقتنياته تركت للحريق فخلص كما بنار.

 

وإذ أنقذه الرب من مجرد رحمته طلب إليه أن يهرب إلى الجبل. لقد قبل الرحمة التي أنقذته لكنه كان قليل الإيمان بذاك الذي يعتني به ويقوده إلى الجبل فتحرك في خوف وتوسل طالباً عدم قلب صوغر المدينة الصغيرة لتكون له ملجأ وقد أجيب إلى طلبه. وإذ أشرقت الشمس دخل لوط إلى صوغر.

 

ما أروع هذه الكلمات “وإذ أشرقت الشمس” إنها تكلمنا عن يوم مشرق خال من أية علامة للقضاء الآتي. وكما قال الرب عن أهل سدوم في أيام لوط “كانوا يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون ويبنون” كل شيء كان يسير بحالة طبيعية “ولكن في اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم أمطر ناراً وكبريتاً من السماء فأهلك الجميعأمطر ناراً ” ثم يضيف الرب هذه الكلمات الخطيرة “هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان”(لوقا 17: 28 – 30). وهكذا يكتب الرسول بولس “إن يوم الرب كلص في الليل هكذا يجيء. لأنه حينما يقولون سلام وأمان، حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة كالمخاض للحبلى، فلا ينجون” (1 تس 5: 32).

 

امرأة لوط

نظرت امرأة لوط إلى الوراء. نعلم أن لوطاً شخصياً كان رجلاً باراً، وإن كان قد وقع في شراك العالم، أما امرأته فكان لها مجرد الاعتراف فقط فهي خرجت من المدينة لكن قلبها كان هناك – نظرت إلى المكان الذي كان يحتل عواطفها، وقد أصبحت عبرة لكل الأشخاص الذين لهم مجرد الاعتراف الذين إذ تعترضهم فترة خوف ينفصلون عن العالم لكنهم لا يعرفون شيئاً عن دعوة الرب، ما أخطر كلمات الرب “اذكروا امرأة لوط”. (لوقا 17: 32).

 

وبالمباينة مع لوط الذي خلص كما بنار، ومع زوجته التي نظرت إلى الوراء، نرى الرجل المنفصل الذي كان ينظر المدينة التي لها الأساسات، نراه في المكان الذي وقف فيه أمام الرب، فرأى عن بعد خراب مدن الدائرة. ثم نرى حقيقة هامة رائعة، وهي أنه إن كان لوط قد أنقذ من وسط الانقلاب فذلك يرجع إلى هذا السبب وهو “أن الله ذكر إبراهيم”. ربما كان لوط وهو جالس في باب مدينة سدوم ينتقد عمه إبراهيم لانعزاله وابتعاده عن المجتمع. ربما قال ما فائدة إبراهيم للعالم وهو بعيد في خيمته؟ لكن لا ننسى أن الله قال لإبراهيم المنفصل “وتكون بركة” وهكذا كان. فنجاة لوط يرجع كل الفضل فيها لأن الله ذكر إبراهيم.

 

خوف لوط

مع أن لوط نجا من القضاء الذي وقع على سدوم، إلا أننا نرى هذا المسكين فريسة الخوف. فالمدينة التي اختارها كان خائفاً من السكن فيها، فصعد وسكن في الجبل الذي قيل له أولاً أن يهرب إليه، لكن حتى في هذه الحالة كان هروبه إلى الجبل خوفاً من الناس لا منقاداً بقوة الإيمان في الله، وهناك في المغارة عرض نفسه للتصرف الرديء – تصرف ابنتيه معه – وبهذه المأساة انتهى تاريخ لوط، وأسدل الستار على حياته، تاركاً وراءه نسلاً أصبح عدواً لدوداً دائماً لشعب الله.

 

يا له من تاريخ إذ نسلط نور حوادثه علينا يفحص قلوبنا – مؤمن كان يعيش وقتاً في حالة الانفصال، ثم تخلى عن هذه الحالة واختلط بأهل العالم، وهناك لم تكن له شركة مع الله، ولا قوة على وقف شر العالم المتزايد، بل ولا قوة للشهادة للحق، ولا ثقة في عناية الله الحافظة له. وأخيراً يخرج من العالم في خزي وعار.

 

 يا ليت هذه القصة تقودنا للشعور العميق بضعفنا في ذواتنا، فنرتمي على الله القادر أن يحفظنا غير عاثرين، ويوقفنا أمام مجده بلا عيب في الابتهاج.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي