الرجل المولود أعمى


«


إنما أعلم شيئًا واحدًا، إني كنت أعمى والأن أبصر» (يو 9: 25)


مقدمة

كانت الظلمة تحيط بالرجل الأعمى من كل جانب، لقد ولد أعمى، أو في لغة أخرى إنه لم يعرف النور يومًا واحدًا في حياته، فلم يكن كالعميان الذين فقدوا بصرهم في الصغر أو في الكبر، ولكن الظلمة لم تكن تلف عينيه فقط، بل كانت تلف حياته بأكملها، إذ كان فقيرًا يستعطي، ولو أن مصورا أتيح له أن يراه على قارعة الطريق، لرسم صورة للبؤس العميق الذي حفرته الحياة على غضون وجهه، على أن ظلمة روحية أعمق من الظلمة المادية، والاجتماعية، كانت تكتنف نفسه، لقد كان لا يستطيع الإجابة عن السبب الذي من أجله جاء إلى العالم، وإلى أين يسير، وما مصيره، وعندما جاءه المسيح أنقذه من هذه الظلمات جميعًا، إذ منح عينيه النور، وأخرجه من حياة التعطل والفاقة إلى حياة الكفاح والنضال، فلم يعد أغلب الظن بعد ذلك يستعطي، وأكثر من ذلك نقله من الظلمة الروحية إلى الإيمان الكامل بابن الله!! أجل هذه هي الصورة التي صنع عليها المسيح معجزاته بل الصورة التي تكشف كيف أنه وهو نور العالم يستطيع أن يعط النور من كل وجه وسبيل، ولعل من المهم أن نرى كيف تختلف معاملة المسيح للأعمى عن جميع الناس، وكيف يبقى السيد فريدًا في المعالمة، دون أن يناظره أو يدانيه آخر، ومن ثم يحسن متابعة القصة فيما يلي
:


الأعمى والنظرة الفلسفية

وهي نظرة التلاميذ التي لم تر في الأعمى إلا موضوعًا للنقاش والتساؤل: «أأخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى» وقد كان حريًا بهم أن يستوقفهم الرجل بتعاسته وبؤسه، لقد كان أعمى منذ ولادته، حرم نور البصر، وكان إلى جانب ذلك فقيرًا يستعطى، وكان واجب التلاميذ أن ينظروا إليه بقلوبهم قبل عقولهم، ولكنهم مع ذلك جعلوه مادة لنقاشهم وجدلهم… ولعل موطن الغرابة في هذا الجدل، ليس الربط بين الخطية والألم أو العقاب، فهذه حقيقة قديمة متغلغلة في الفكر الإنسان، وقد ربطها أصدقاء أيوب بالمعاناة التي كان يعانيها الرجل، وأنه لابد قد ارتكب من الآثام ما يحصد معه النتيجة الرهيبة التي انتهى إليها: «اذكر من هلك وهو بريء وأين أبيد المستقيمون. كما قد رأيت أن الحارثين اثمًا والزارعين شقاوة يحصدونها. بنسمة الله يبيدون وبريح أنفه يفنون» (أيوب 4: 7 – 9).. وقد احتج أيوب ما وسعه الاحتياج على ذلك، وبين أن الشر يلحق بالأبرار، في الوقت الذي يتمتع فيه الأشرار بالكثير من رغد الحياة ومتعها وشهواتها وعطاياها، وفي الحقيقة إن الشر سيلحق إن آجلاً أو عاجلاً بالأشرار لأن هذا ناموس الله الطبيعي في الحياة، لكن الحجة مع ذلك ليست قاطعة في ارتباط الألم بالخطية، فقد يتألم البار أيضًا نتيجة تمسكه بالحق والإصرار عليه، وقد يكون الألم نوعًا من التدريب أو الامتحان أو التقديس أو لإظهار مجد الله، كما ذكر السيد هنا، والإنسان لذلك لا يجوز له القطع بهذا أو ذاك من الأحكام القاسية الشديدة، لكن التلاميذ مع ذلك ألقوا السؤال بحثًا عن المجهول، والأمل في الوصول إلى العلة، وقد كان سؤالهم في الشطر الأول أغرب منه في الشطر الثاني، إذ كيف يخطئ الإنسان وهو في بطن أمه، يقول البعض إن التلاميذ أرادوا أن يناقشوا المعتقد اليهودي الذي تمسك به بعضهم، والذي يزعم أن الجنين يتعرض للخطية، وفي بعض تقاليدهم أن واحدًا سأل أحد الربين اليهود، من أي وقت يبدأ الشيطان عمله مع الإنسان، هل منذ لحظة تكوينه في بطن أمه، أو منذ ولادته، وقد أجابه الربي: منذ لحظة تكوينه، واعترض للسائل قائلا: لو كان هذا حقًا لتضايق الجنين في بطن أمه، ويعتبر المكان سجنًا. ويبتديء برفس ويمزق أحشاء أمه، وربما يؤدي ذلك إلى موتها، وحاول الربي أن يجد دليلاً كتابياً، وزعم أن قول الله لقايين إن هناك خطية رابضة عند الباب، يمكن أن تشير إلى باب الرحم حيث تكمن الخطية، وتنتظر اللحظة التي يتكون فيها الإنسان، لتلازمه طيلة فترة الحمل، ومن المحتمل أن اليهود في أيام المسيح، تأثروا بالفكر اليوناني عن الوجود السابق للروح، وأن جميع الأرواح موجودة من أيام الإنسان الأول، على ما يتصور أفلاطون وغيره، وأنها تنتظر أن تلبس الأجساد لتأخذ قصتها الأرضية في الحياة، ومع أننا نعتقد أن التلاميذ لم يقصدوا كل هذا في السؤال الذي ألقوه لمجرد الاستطلاع أمام السيد، إلا أنهم كانوا أوفى إلى التصور اليسير السهل بأن الأطفال يرثون خطايا آبائهم على أساس القول: «افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي» (خر 20: 50).. «مفتقد إثم الآباء في الأبناء وفي أبناء الأبناء في الجيل الثالث والرابع» (خر 34: 7).. «بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع» (عد 14: 18). «لتنقرض ذريته في الجيل القادم ليمح اسمهم، ليذكر إثم آبائه لدى الرب ولا تمح خطية أمه» (مز 109: 13، 14).. ولعل التلاميذ رأوا في الرجل الذي يستعطي نوعًا من السخط الإلهي الذي كان أساسه الأبوين، ولحق بالابن الذي مازال يعاني من الوراثة والغضب الإلهي، لأنه مثل أبويه من مبغضي الله!! على أي حال، إن المسيح في جوابه لم يربط بين الخطية والنتيجة، لا لأنه ليست هناك خطية، لكن لأن الله كثيرًا ما يتمهل على الخطية، فما أكثر النتائج التي يوجلها الله لمن يفعل الشر والإثم والدنس، ولا شبهة في أن هناك ناموسًا مكسورًا خرج بسببه هذا الإنسان إلى العالم دون أن يبصر، عندما تحدث قوم إلى المسيح عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم، ولعلهم تساءلوا أليس هذا بسبب خطاياهم الكثيرة ارتكبوها. وجاء الجواب: «أتظنون أن هؤلاء الجليلين كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين الذين كابدوا مثل هذا. كلا أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. أو أولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم أتظنون أن هؤلاء كانوا مذنبين أكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم، كلا أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون» (لو 13: 2 – 5).. وجواب السيد يؤكد أنه توجد أسئلة كثيرة ليس من السهل على الإنسان أن يجد جوابها في الوقت الحاضر، ويكفي أن ننظر إليها بقلوبنا أكثر من عقولنا، وبعطفنا أكثر من نقاشنا، ان المتألم الذي يتلوي من آلامه هو في حاجة إلى أن تهتم بهذه الآلام، أكثر من أن تشرحه لتفهم سر الألم الذي يعانيه، أو تجعله مثار نظريات فلسفية يمكن أن تمتع الذهن على حساب تعاساته وآلامه وأحزانه
!!
 

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس هـ هَدَدْ رِمّون ن


الأعمى والنظرة المتفرجة

وهي نظرة الجيران ومن إليهم الذين اختلفوا حول شخصية الرجل، فبعضهم أكد أنه هو والبعض الآخر ظنوا أنه شبيه به، ولعل هؤلاء كان من الصعب عليهم أن يعتقدوا أنه هو، إذ أن الرجل تغير تغييرًا كبيرًا، لا لأنه أعطى عينين أغلب الظن أنهما أصبحتا أجمل شيء فيه، ولكن لأن البؤس والشقاء والألم التي كانت تصاحب فقدان البصر قد اختفت وحل محلها الابتسام والرجاء والإشراق. وإذ اختلف الناظرون إلى الرجل فيما بينهم، أخذوه إلى الفريسيين!! وجميع هؤلاء الجيران والمعارف لم يروا في قصة الرجل أكثر من ملهاة أو مسرحية تدعو إلى التفرج والتسلية!!.. يالضعف الإنسان وقسوته البالغة تجاه أخيه الإنسان!!… عاد الجندي من ميدان القتال وقد فقد بصره، وأرادت أخته أن تحس إحساسه، وتدرك مشاعره، فعصبت عينيها لمدة أسبوع، حتى لا ترى أحدًا أو شيئًا، وتعيش في عالم الظلام حتى تدرك بعض ما يعانيه أخوها بعد أن ضاع بصره في ميدان القتال،… عندما فقد دكتور مون بصره وهو في أوج قدرته وقواه العقلية، كانت الكارثة أكثر من احتماله، وكان دائمًا يقول: «وما فائدة كل ما وصلت إليه».. «وما قيمة قواي، وقد أغلق بيني وبين العالم».. على أنه سرعان ما تنبه إلى أنه يستطيع أن يعين العميان فاخترع طريقته المعروفة التي أضاءت الدنيا أمام نظرائه ليقرأوا كلمة الله، وتنفتح لهم سبل المعرفة بين الناس، وجاء بعده لويس بريل، وكان قد فقد بصره منذ الصغر، وتعلم أن يقرأ القراءة بطريقة مون التي تجسم الحروف، وكانت طريقة متعبة ومؤلمة، وفكر بريل في طريقة أسهل استعمل فيها النقط بدلاً من الحروف، وهكذا ابتكر الطريقة المعروفة باسمه عام 1829. وبعد مرور مائة عام اجتمع عدد من العميان في المدينة الصغيرة التي ولد فيها بريل – وقد فقد بصره في الثالثة من عمره – ليحتفلوا بالعيد المئوي لاختراعه المذكور، وقد أقيم له تمثال يمر العميان به، ويضعون أيديهم على وجهه ليذكروا الرجل الذي فتح أمامهم باب القراءة والنور! لقد حرص كتاب الله في نظرة العطف والألم والاشفاق تجاه الأعمى على القول: «وقدام الأعمى لا تجعل معثرة» (لا 19: 14) «ملعون من يضل الأعمى عن الطريق» (تث 27: 8
).
 


الأعمى والنظرة الخائفة

والنظرة الخائفة هي نظرة الأبوين اللذين لا نستطيع تصور مدى غبطتهما بعودة ابنهما إليهما مفتوح العينين مبتهج القلب متسع الابتسامة، ولكن الشيء الغريب جداً، هو التنصل من الإعلان عن هذه الحقيقة، خوفًا من اليهود، لقد ترك الأبوان الابن ليواجه الموقف بمفرده إزاء التهديد اليهودي بالطرد، والحرمان الديني، وقد كان عند اليهود نوعان من الحرمان: الأول الايقاف الديني لمدة محدودة قد تصل في أقصاها – إلى شهر كامل، وهناك الحرمان أو العزل من المجمع طيلة العمر، في وهذه الحالة يحرم المخالف جهارًا عيانًا، ويلعن اسمه أمام الجميع. ويعزل عن الناس، وعن الله.. وكان خوف اليهود من تلك الحالة شديدًا إذ يتضمن حرمانهم من الله، وإذ خاف الأبوان مما كان مزمعًا أن يحدث لابنهما، تنصلا منه، ولم يتنصل منه يسوع المسيح، وعلى أي حال مهما تكن الأسباب الداعية للانفصال بين الابن ووالديه فسيبقى السيد أقرب إليه من أقرب الأقربين.. عندما نبذت أم موسى ولدها، وتركته في السفط يبكي على حافة النهر كان الله هناك أقرب إليه من عمرام ويوكابد ومريم أخته، وعندما اضطر داود أن يترك أبويه وقال: «ان أبي وأمي تركاني والرب يضمني» كان الله الصديق الذي لا يتخلى عنه في غدواته وروحاته إلى آخر لحظة من لحظات حياته!! وعندما تركت خطيبة جورج ماتيسون الواعظ الاسكتلندي العظيم، خطيبها وهو في آخر سنيه الجامعية، عندما أصيب بمرض في عينيه انتهى به إلى العمى، وجد صديقه الألزق من الأخ، وخرج ماتيسون على الدنيا بأغنيته العظيمة. والتي مطلعها: «أيتها المحبة التى لا تدعني أذهب» حيث وجد هناك الصدر الحنون الذي يسند إليه رأسه المتعب، ونفسه المحزونة، وحيث يجد في بحر الحب الغني والسعادة التي لا يجدها في أي مكان
!!
 

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ع عمّيئيل ل


الأعمى والنظرة المنتقدة

على أن أسوأ النظرات جميعًا كانت النظرة المنتقدة، والتي اعتبرت شفاء المسيح للرجل عملا خاطئًا لأنه حدث في سبت، فإذا كان المسيح قد تفل على الأرض، وصنع من التفل طينًا، فقد كسر وصية السبت التي كانت لا تجيز أي عمل حتى مجرد ملء طبق من الزيت أو إشعال المصباح أو إطفائه، وكان حمل الأثقال ممنوعًا، فإذا كان الحذاء به مسامير غليظة، فإن لبسه في السبت يعتبر جريمة، بل قص الأظافر، أو نتف شعرة من الذقن يعتبر عملاً غير مشروع في السبت، فإذا تعلق الأمر بالشفاء، فإن المعونة الطبية الجائزة يوم السبت هي التي يتوقف عليها إنقاذ الحياة، ودفع الخطر فقط، دون العلاج العادي المحظور في السبت، ومن ثم لم يكن من الضروري أن يشفي الرجل في يوم السبت. ولا مانع من أن يتم الشفاء أو تجرى المعجزات. ولكن في يوم آخر غير السبت، وقد نتعجب لهذا الصنف العجيب من الناس، ولا نكاد نتصور تفكيرهم وعقليتهم، ولكنها للأسف الصورة المتكررة في كل العصور لمن يشغلهم الشكل عن الموضوع، ولمن لا يمكن أن يروا حسنات الحياة إن لم تأت عن طريقهم وأسلوبهم، ما أتعس أن يصل الإنسان بحقده وتعصبه وضيق فكره، إلى الدرجة التي يرى معها الجمال قبحًا، والخير شرًا، والحق باطلاً، فيحكم على الحق بدلاً من أن يحكم له، ويعاقب الخير بدلاً من أن يسر ويهتف له
!!
 


الأعمى والنظرة الحنون

وهذا يأتي آخر الأمر إلى موقف المسيح من الأعمى، وقد لا نستطيع فهم الموقف على الوجه الصحيح مالم نربطه بما جاء في الأصحاح السابق في إنجيل يوحنا حيث قال المسيح: «أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة» (يو 8: 12). وقد أراد المسيح أن يكشف بصورة نموذجية هذه الحقيقة أمام الجميع. فاختار المولود من بطن أمه أعمى ليبين الفرق بين من يعيش معه، ومن يبتعد عنه.. قيل عن محام من أقدر المحامين الأمريكيين في نيويورك أنه قضى صيفًا بأكمله في الجبال البيضاء المرتفعة في عزلة كاملة، وعندما قالت له سيدة: يبدو أنك أطلت أجازتك الصيفية أكثر من المعتاد.. أجاب: نعم لأن الطبيب أخبرني بأني سأفقد البصر بعد ثلاثة شهور، ولذلك جئت إلى الطبيعة العظيمة أتملى من مناظرها التي سأفقدها بعد أن تخيم الظلمة على عيني!! أجل! ولا يعرف جمال البصر على حقيقته إلا من يفقده، فإذا نظرنا إلى الأمر من الزاوية الأخرى، فإننا نرى إنساناً خرج إلى الدنيا. وهو لا يراها سوى ظلام في ظلام، والمسيح بالنسبة لدنيانا هو النور الذي بدونه يغرق الإنسان في الظلام.. تحدث المسيح عن نفسه بأنه «نور العالم» في عيد المظال، وقد كان يوجد في الهيكل المنارة الذهبية ذات السبعة الشعب لتضيء القدس، كما كانت هناك أعداد كبيرة من المصابيح تنير المدينة كلها، وتحولها إلى شعلة من نور، وكان اليهود في ذلك العيد يذكرون عمود النور الذي كان يقودهم في الصحراء، وكان من الطبيعي بعد ذلك أن يبدو الفقير الأعمى رمزًا للعالم كله في حاجته إلى يسوع المسيح، وفي الحقيقة إن أي إنسان لم يتعرف على المسيح بعد، هو أعمى عن حقائق الله العظمى المعلنة في المسيح
.

كانت آلام الرجل فرصة أمام يسوع المسيح، وكان هو النور الذي يضيء في الظلمة لم يجلس ليتفلسف حول آلام الأعمى، كما فعل التلاميذ، أو ليتسلى بمنظره كما تسلى الجيران. أو ليخاف مما يحدث كما خاف الأبوان ولم ينتقد كما انتقد اليهود بل قال: «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار ويأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل، مادمت في العالم فأنا نور العالم» (يو 9: 4 و5) أو بعبارة أخرى إن الحياة هي فرصتنا الكبرى فى الخدمة والأنقاذ.. والفرصة كالشعرة على حد قول شكسبير إن لم تمسك بها ضاعت وطارت، وأضاف السيد ما ينبغي أن نتحذر منه بالتمام، عن الليل الذي سيأتي حين لا يملك الإنسان أن يعمل، والعبارة الأخيرة كما يقول بروفسور جيكي: هي العبارة التي حفرها دكتور جونسون على ساعته، والتي دونها كابتن سكوت على المزولة في ابتسفورد، وجعلها كارليل شعاره فيما كان يكتب من مؤلفات، وويل للإنسان الذي لا يغتنم نهاره قبل أن يأتي ليل القبر عندما تنتهي خدمته في هذه الحياة
!!

وقد كان المسيح عجيبًا في الطريقة التي فتح بها عيني الرجل، لقد تفل على الأرض وصنع من التفل طينًا، وطلي بالطين عيني الأعمى، وأرسله ليغتسل في بركة سلوام.. وهناك اعتقاد عند الكثيرين من المفسرين، بأن الرجل كان مفقود المقلتين وأن المسيح الذي صنع الإنسان من التراب، كان لابد أن يكمل المقلتين من نفس المادة التي صنع منها الإنسان، وقال آخرون إن الأمر يمكن أن نراه من جانب آخر، إذ أن الطين في العادة يؤذي البصر ويضره، ولا يمكن أن تفتح عينا إنسان بحفنة من التراب أو الطين توضع في عينيه، كما أن الاغتسال لو أننا أخذناه بقياسه المادي سيذيب الطين ويسقط من العينين دون أن يلصق بهما!! لكن المسيح ترك الرجل يسير في الطريق متأملاً ليمتحن إيمانه ويذكيه ويقويه، وهو يفعل هكذا على الدوام، ومن واجبنا أن نطيع ونسلم حتى ولو بدا الأمر خارجًا عن المتعارف عليه، أو المألوف أو المدرك بين الناس
.

هل تبحث عن  ئلة مسيحية ما أضيق الباب ونيرى هين كيف ذلك ك

ونلاحظ أن هذا كان الفرق بين الفريسيين وبين الرجل بعد أن أبصر، أما هم فقد كانوا غير مستعدين لقبول روايته أو لتفسير المعاني المستخلصة منها، أما هو فقد تزايد إيمانه حتى بلغ الكمال آخر الأمر
.

منذ سنوات عديدة تجدد رجل في أوروبا، وأحب الإنجيل لدرجة جعلته يفكر أنه يجب أن يذهب ويكرز به، وفعلا قام، واجتمعت حوله جماهير غفيرة لتسمعه من باب الفضول، غير أنها لم تلبث أن قل عددها مع الأيام حتى لم يعد يرى أحدًا. وفعل الرجل شيئًا غريبًا إذ أذاع نشرة في المدينة بأنه على استعداد في يوم معين وحتى الساعة الثانية عشرة ظهرًا أن يسدد ديون أي إنسان يتقدم إليه في هذه الأثناء، وانتشرت الأخبار في المدينة بأنه على استعداد في يوم معين وحتى الساعة الثانية عشرة ظهرًا أن يسدد ديون أي إنسان يتقدم إليه في هذه الأثناء، وانتشرت الأخبار في المدينة، ولم يصدقها الناس، وقال البعض إنها نكتة لا أكثر ولا أقل، وفي الموعد المحدد لم يأت أحد، سوى رجل جاء في الساعة العاشرة وكان يتمشى أمام المكتب ناظرًا هنا وهناك حتى لا يراه أحد، ولما لم يجد أحدًا دخل، وعرض على صاحب المكتب دينه ومستنداته، ودفع له الرجل كل الدين، وجاء ثان وثالث، والرجل يستبقي الثلاثة، حتى مرت الساعة الثانية عشر، فخرجوا ليجدوا آخرين يسألونهم هل صدق الرجل فيما قال.. وأسرعوا بالدخول عندما تبينوا أن الأمر حقيقي، ولكن الموعد كان قد أنتهى!! لقد طلب المسيح من الرجل شيئًا غريبًا، وفي الوقت نفسه لم يكن عسيرًا، وأطاع وعاد مبصرًا، ولست أعلم بأي صورة كانت عودته، وهو يرى الطبيعة والحياة والناس لأول مرة منذ ولادته، هل تطلع إلى الشمس وغني، هل قبل الأشجار والزهور في الطريق، هل ضحك مع الطفل، وغنى مع الشاب، وانهال على أبيه وأمه تقبيلاً ولثما!! على أن القصة كانت – بلا شك – ستكون مبتورة ناقصة لو انتهت عند هذا الحد، لقد أعاد المسيح إليه البصر، ولكن هناك البصيرة التي هي أهم وأعظم، لقد أرسل الله إليه النور يبزغ في وجدانه، كما يبزغ نور الشمس ويتلألأ، لقد رأى المسيح أولا انسانًا، ثم نبيًا، فالسيد الذي ينبغي الإيمان به والسجود له.. وقد حرم من المجمع من أجل المسيح دون أن يبالي، وخرج طريدًا ويعمى الذين يبصرون» (يو 9: 39).. والمسيح إلى اليوم مازال يفعل هكذا.. ومازال يفتح عيون الناس بوسائل مختلفة وأساليب مختلفة لكي ترى الحق وتتبعه قبل أن يحتويها الظلام إلى الأبد، إذا أهملته ورفضته كما فعل قدامي اليهود والفريسيين.. هناك رجل كان من أشهر الطيارين الأمريكيين اسمه چون فين وكان يعمل تحت قيادة الچنرال ماك آرثر في الحرب العالمية الأخيرة، وكان هذا الطيار بطبيعته شريرًا مستبيحًا، وحدث أنه كان مريضًا وكان يذهب إلى إحدى المستشفيات في عام 1946 للعلاج وفي الطريق إلى المستشفى كان يرى على جانبي الطريق كلمات دينية مكتوبة كالقول: «إنه وقت لطلب الرب».. الأبدية أين تقضيها»!!؟ «بعد ذلك الدينونة»!. وعندما وقفت عيناه على أول عبارة من هذه العبارات استاء وزمجر ضد من كتبوها!! ولما رأى غيرها وغيرها ازداد ضيقًا وغيظًا، لكن هذه الكلمات كانت تطالعه في ذهابه إلى المستشفى وفي عودته منها، وفي مساء أحد أيام السبت أحس الرجل لدهشته أن الكلمات صادقة، وأنه هالك وضائع إذ هو بعيد عن الرب، واستولى عليه رعب مخيف فركع على ركبتيه وصاح قائلاً: ««أيها الرب إلهي إذا غفرت لي ووهبتني السلام، وأعطيتني يقين الخلاص، فأفعل كل ما تطلبه منى» واستجاب الله صلاته البسيطة هذه، وسارع الرجل إلى دعوة أخيه بالتليفون طالبًا منه أن يلتقيا وكانت أمهما تعلمها عن الإيمان بالله والثقة بيسوع المسيح… وفي اليوم التالي كان كلاهما راكعًا أمام الله، يستعيد ذكرى الأيام الحلوة، أيام الطفولة الجميلة البريئة، وتحول الطيار بعد ذلك إلى خادم يشهد للناس كيف أنار المسيح حياته وخلصها!! ليت كل إنسان غارق في الظلام يغني له قائلاً: «اكشف عن عيني فأرى عجائب من شريعتك» (مز 119: 18).. آمين آمين

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي