إسرائيل

 

1- أطلق الرب اسم " إسرائيل
" على يعقوب بن إسحق بن إبراهيم بعد مصارعته طيلة الليل في فنئيل في طريق
عودته من فدان أرام، حيث قال له الرب: " لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل
إسرائيل. لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت " (تك 32: 28) وكرر له الرب ذلك
عندما باركه في بيت إيل (35: 10)، ومعنى الاسم " يجاهد مع الله " أو
" يصارع الله ".

2- ثم اطلق الاسم على كل نسل يعقوب،
وهذا الشعب هو موضوع البحث التالي:

تاريخ شعب إسرائيل

مقدمة:

أولاً – المصادر:

إن الكتاب المقدس نفسه هو المصدر الرئيسي المفضل الذي يمكننا منه أن نتعرف
على هذا الشعب وعلى تاريخه، وبخاصة العهد القديم الذي يحدثنا عن قصة هذا الشعب من
البداية.

1- في العهد القديم:

يذكر أصل إسرائيل في سفر التكوين وفي باقي الأسفار الخمسة نرى إقامة دولة
ثيوقراطية (السيادة الدينية)، ونقرأ عن دخول كنعان في سفر يشوع، وعن فترة ما قبل
الملوك في سفر القضاة، وعن إقامة المملكة وتطورها في سفري صموئيل والأصحاحات
الأولى من سفرى الملوك حيث نقرأ أيضاً عن انقسام المملكة إلى مملكتين، وعن
تاريخهما حتى انهيارهما. أما سفرا أخبار الأيام فيحتويان – مثل الأسفار السابق
ذكرها – على عرض للتطور التاريخي من آدم حتى سبي بابل، ولكنهما يقصران هذا العرض
على الناحية الدينية لهذا التاريخ. ويرتبط بسفري الأخبار سفرا عزرا ونحميا –
ويحتمل أنهما كانا في الأصل جزءاً من الأخبار – ولكنهما يتخطيان فترة السبي ويبدآن
بقصة العودة من السبي. ويحتوى هذان السفران على أحداث بعينها من تاريخ العودة مما
له أهمية بخصوص عودة السيادة الدينية اليهودية، لذلك لا نجد القصة المذكورة فيهما
كاملة التفاصيل وتتوقف قصص التوراة تماماً عند القرن الخامس. أما بالنسبة للقرن
الثاني قبل الميلاد فإننا نجد مصدراً جديداً في سفري المكابيين اللذين يقدمان
سجلاً متصلاً عن الصراعات التي كانت قائمة وكذلك عن حكم الأسمونيين الذي استغرق من
174 الى 135 ق. م فقط.

وتزداد القيمة التاريخية لأسفار العهد القديم كلما كان الكاتب أو مصادره
أكثر قرباً للأحداث المذكورة. لذلك يرى البعض أن محتويات سفري الملوك بصفة عامة
كمصادر تاريخية ذات قيمة أعظم من سفري الأخبار اللذين كتبا في فترة لاحقة. ومع ذلك
فيمكن أن يكون كاتب الأخبار قد استفاد من المصادر القديمة التي كان قد أغفلها
الكتَّاب السابقون. وهذا هو واقع الحال بالنسبة لعدد له اعتباره من المواد التي
سجلها كتَّاب سفري الأخبار، والتي تضيف إلى المقتطفات القليلة جداً التي سجلها كاتبو
سفري الملوك. ثم أن أسفار الأنبياء لها قيمة غير عادية كمراجع تاريخية، وذلك لأنها
تقدم إيضاحات للمواقف والأحداث التاريخية من أفواه الأشخاص المعاصرين لها. فمثلاً
يمكننا أن نشير إلى الازدهار العارض لمملكة يهوذا في عهد الملك عزيا والتي لم يذكر
عنها سفرا الملوك في الواقع شيئاً، ولكن يقدم سفراً الأخبار عنها تفصيلات تؤكدها
شهادة النبي إشعياء.

2- يوسيفوس:

كتب فلافيوس يوسيفوس سجلاً مترابطاً عن تاريخ إسرائيل. ويعتبر ما قام به
تحت عنوان " تاريخ اليهود القديم " – إذا أخذت درجة الثقة به في
الاعتبار – في مرتبة أقل من سفري أخبار الأيام، حيث أن التقاليد اليهودية التي
جاءت بعد ذلك قد أثرت في روايته إلى حد بعيد، إلا أنه في الحالات التي استطاع فيها
أن يستفيدمن المصادر الأجنبية القديمة، مثل تاريخ مانيتون المصري والمؤلفين
الفينيقيين، فإنه في هذه الحالة يقدم لنا مادة ذات قيمة. كذلك فإنه يملأ فراغاً
خاصاً عن بضعة القرون القليلة التي سبقت عصره. وهو يعتبر بصفة خاصة أفضل المصادر
عن الأحداث التي اجتاز هو فيها والتي يسجلها في أحد مؤلفاته عن " الحروب
اليهودية " حتى وإن كان لم يخل من نوع من الانحياز الشخصي. كذلك يجب أن تؤخذ
في الاعتبار التقاليد المسجلة في التلمود عن العادات والممارسات في العصور
اليهودية المتأخرة. ومع ذلك فإن كتابات يوسيفوس " أجدر بالثقة " من
كتابات اليهودي الإسكندري فيلو. أما الكتَّاب الأجانب كالمؤرخين اليونانيين
واللاتينيين، فإن مؤلفاتهم تحوى معلومات عن الأمم المحيطة بإسرائيل لا عن التاريخ
القديم لإسرائيل نفسها.

3- الآثار:

من الناحية الأخرى، إن الاكتشافات الأثرية الحديثة قد أثرت التاريخ القديم
لإسرائيل ثراء كبيراً. أما في فلسطين نفسها فإن الاكتشافات التاريخية والأثرية
كانت تعتبر حتى العصر الحاضر هزلية إلى درجة ما، إلا أن التنقيب في المواقع
القديمة لتعنك ومجدو وأريحا وجازر والسامرة قد كشف عن أشياء هامة، مما يدعونا إلى
التطلع إلى اكتشافات أثرية وثقافية يمكن أن تلقي الضوء على الكثير من الأمور التي
مازالت غامضة وغير مؤكدة. كذلك فقد اكتشفت وثائق هامة في البلاد المحيطة بفلسطين
(مثل حجر موآب والنقوش الفينيقية).

كذلك فإن اكتشاف الكثير من الآثار في مصر وأشور وبابل، وفك رموز الكتابات
عليها، قد زاد كثيراً من معرفتنا بتاريخ إسرائيل نفسها. إن هذه الاكتشافات لم تكشف
لنا بجلاء عن العلاقة بين تاريخ هذا الشعب وتاريخ العالم فحسب، بل إن تاريخ
إسرائيل نفسه قد أصبح حقيقة ملموسة. وفي بعض الأمور التفصيلية أخلت الآراء
التقليدية الطريق إلى مفاهيم أكثر وضوحاً. مثال ذلك، إن ترتيب تواريخ العهد القديم
– عن طريق الأبحاث الأشورية – أصبح يقوم على أسس سليمة. ولكن في هذه جميعها، أكدت
الاكتشافات الأثرية الثقة الموضوعة في الكتاب المقدس كمرجع تاريخي.

ثانياً – الخصائص الدينية للتاريخ الإسرائيلي:

في الحقيقة إن القواعد المطبقة على التاريخ الدنيوي لا يمكن – دون تعديل –
تطبيقها على الكتابات التاريخية للعبرانيين، فلقد اهتم كتاب قصص التوارة بشيء أكثر
من مجرد المحافظة على الحقائق والمعلومات التاريخية. وبنفس القدر لم يكن غرضهم
تمجيد شعبهم أو حكامهم، كما نرى في اللوحات التذكارية لملوك المصريين والأشوريين
والبابليين. فإذا نظرنا فقط من وجهة نظر التاريخ الدنيوي، نجد أشياء كثيرة لم ترد
في أسفار العهد القديم التاريخية، وكانت موضوع الاعتراض. فهناك فترات بأكملها قد
أغفلت أو عولجت باختصار شديد. كذلك أيضاُ قلما يذكر الخط السياسي أو الروابط
المدنية في حركات الأمم والأحداث التاريخية، ذلك لأن هدف الكاتب كان دينياً. ويظهر
هذا في حقيقة أن هذا التاريخ يبدأ بخلق العالم ثم يسجل التقاليد القديمة المتعلقة
بأصل الجنس البشري وتاريخه القديم في ضوء إعلان إله إسرائيل، وهكذا يجعل من هذا
التاريخ القومي جزءاً من التطور التاريخي العام للجنس البشري. والأسفار الخمسة
الأولى تقدم لنا صورة تاريخ إسرائيل بحسب خطة خالق الكون من نحو هذا الشعب. كذلك
عندما كان الكتَّاب يذكرون التغيرات القومية لإسرائيل، كان كل اهتمامهم هو إظهار
قيادة العناية الإلهية بوضوح، فهم يعطون أهمية خاصة للأحداث التي تظهر فيها يد
الله، ويشرحون بتفصيل كامل حياة أولئك الذين استخدمهم الله لقيادة شعبه، كموسى
وصموئيل وداود وسليمان وغيرهم. ولم يكن هدف الكتاب تمجيد أولئك الأشخاص في ذواتهم،
ولكن بالأحرى بيان أهميتهم بالنسبة لتاريخ إسرائيل روحياً ودينياً. وفي هذا المجال
يمكن أن نلاحظ الاختصار الشديد الذي ذكرت به حروب داود التي نجحت سياسياً، كما
جاءت في صموئيل الثاني، والملاحظات المقتضبة التي يسجل بها كاتب سفري الملوك تاريخ
حكم الملوك المختلفين، وكيف أنه باختصار شديد يشير إلى بقية التفاصيل الخاصة
بهؤلاء الملوك في أسفار أخرى لم تشتمل عليها الأسفار المقدسة. ولكن من الجانب
الآخر نرى كيف يقدم الكتاب المقدس تفاصيل كاملة عن التاريخ المبكر لواحد كصموئيل
أو داود حيث تظهر قيادة العناية الإلهية وحمايتها بهذا الشكل الملموس، أو عندما
يصف عملية بناء الهيكل بواسطة سليمان كأحد القمم في التاريخ الدينى لإسرائيل. أو
في الحديث عن خدمة أنبياء قادة كإيليا أو أليشع. كانت خطة رواة قصص الكتاب هي ذكر
القليل عن أعمال الناس والكثير عن أعمال الله في وسط شعبه. هذه الحقائق تفسر لنا
أيضاً ظاهرة عدم المحاباة أو عدم الانحياز، وهو الأمر الذي لا يوجد في الكتابات
القديمة حيث نجد الكتاب المقدس يسجل ضعفات وأخطاء أسلاف وملوك إسرائيل حتى عن أكثر
ملوكهم احتراماً، كما يذكر أكبر هزائم الشعب المخجلة.

ولكن هذه المميزات الدينية لا تبدو بنفس الوضوح في كل الأسفار، فقصص يعقوب
ويوسف وداود وغيرهم يبدو فيها طابع البساطة، بينما نرى في سفري الأخبار أن هذه
الأمور تذكر فقط عندما تقتضيها الأحداث الجارية. فقصص الأشخاص كشمشون ويفتاح
وأبيمالك وباراق وغيرهم تبدو كالأساطير أو قصص الأبطال القدماء، والتي نجد مثلها
في تقاليد الأم الأخرى. ولكن كاتب سفر القضاة يروي القصة كلها من وجهة النظر
التأديبية.

وإذا دققنا النظر فيها فإننا نجد أنه لاينقصها العنصر الديني، وكان هذا
العامل منذ البداية هو الخاصية الفريدة لهذا الشعب وتاريخه، كما تدين إسرائيل لهذا
العامل بانفرادها ووجودها كشعب منفصل بين الشعوب. ولكن بمرور الزمن أدركت أدركت
أكثر فأكثر رسالتها كشعب الرب على الأرض، تعلمت أن تفهم كل تاريخها من وجهة النظر
هذه. بناء على هذا فإن تقديم تاريخ إسرائيل لا بد أن يراعى بصورة خاصة تطورها
الديني. لأن أهمية هذا التاريخ بالنسبة لنا هي أن هذا التاريخ كان إعداداً للإعلان
الأعظم في المسيح يسوع. ففي جوهره ولبه هو تاريخ فداء البشر. وهذا هو ما يعطي هذا
التاريخ صفاته ومميزاته الواضحة، فلا ينبغي أن نقيس أشخاص وأحداث هذا التاريخ
بمقاييس الحياة اليومية العادية. فإن كنا نجد في هذا التاريخ أعمال عناية الله
الحي تظهر بطريقة فريدة، فلا ينبغي أن نعتبر أن هذا شيء غريب إذ أن النتيجة
النهائية لهذا التطور التاريخي وهي ظهور يسوع المسيح، تسمو بما لا يقاس على كل
التاريخ البشري. ومن الجانب الآخر لا ينبغي أن نعتبر أن تاريخ إسرائيل هذا أمراً
منفصلاً تماماً. فقد أثبتت الأبحاث الحديثة كيف أن هذا التاريخ يرتبط ارتباطاً
وثيقاً بتاريخ الأمم الأخرى. فقد وجدت فعلا علاقات كثيرة بين طقوس العبادة الدينية
في العهد القديم وطقوس الشعوب السامية الأخرى فالتعبيرات وطقوس العبادة الدينية
عند الإسرائيليين كثيراً ما تشبه في اللغة والصور عبادات الكنعانيين والفينيقيين
والأراميين والبابليين والمصريين. ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن تاريخ وديانة
إسرائيل قد انبثقت من البابلية. فكما كان الإسرائيليون يتشبثون بعناد بحياتهم
القومية حتى عندما كانت تحاصرهم أمم قوية أو حتى عندما كانوا يتشتتون بين هذه
الأمم، كما حدث في السبي، فإن ديانتهم كذلك – على الأقل في ممثليها الرسميين –
كانت قادرة على الدوام على أن تحتفظ بأصالتها العالية واستقلالها الواضح بعمل روح
الله الذي كان يملؤها.

ثالثاً – أصل إسرائيل قبل العصر الموسوى:

1- المواطن الأصلي:

عرف الإسرائيليون في كل العصور أن كنعان لم تكن موطنهم الأصلي، ولكن
أجدادهم قد هاجروا إلى تلك البلاد. إذاً فما هو موطنهم الأول؟ نعلم أنهم جاءوا من
حاران في وادي الفرات الأعلى، ولكن قبل ذلك كانوا قد جاءوا إلى حاران من أور
الكلدانيين، أي من مدينة في جنوبي بابل تدعى الآن " مغير " (
Mugheir). ومدينة أور – المعروفة الآن جيداً من المخطوطات البابلية – لم
تكن بالتأكيد الموطن الأصلي لأسلاف إسرائيل، فهم على الأغلب ينتمون إلى قبيلة
سامية خالصة شقت طريقها من شمالي الجزيرة العربية إلى تلك المناطق. ويؤكد هذه
الفكرة جداً صورة وجدت على جدران مقابر بني حسن الصخرية في صعيد مصر. هؤلاء
الأجانب المرسومة صورهم هناك (من عهد الأسرة الثانية عشرة) يدعون " آمو
" وهم بدو من شمالي شبه الجزيرة العربية أو من شبه جزيرة سيناء تبدو عليهم
سمات الوجه اليهودي التي لا جدال فيها، مما يثبت أنهم كانوا ينتمون تماماً إلى
القبائل التي جاء منها إبراهيم. كذلك فإن قائد القافلة " أبشاع " (أو
أبيشوع) له اسم شبيه باسم " إبراهيم ". ومما لا شك فيه أن موسى عندما
هرب بعد ذلك إلى بلاد المديانيين رحب به قوم له بهم صلة قبلية.

2- أصل نسبهم:

يهتم الأسرائيليون على الدوام بتسلسل أنسابهم وعلاقتهم بالإمم الأخرى. فهم
يعلمون تماماً أنهم ينتمون إلى جماعة سامية يطلق عليها اسم العبرانيين. ولكنهم
يرجعون بأصلهم إلى أبعد من ذلك إلى أصل العشيرة وهو " سام ". ويؤكد
علماء اللغات والأجناس، بصفة عامة، العلاقة الوطيدة بين العشائر السامية المذكورة
في التكوين (10: 21 … الخ) فليس من ينكر هذه العلاقة بين الأشوريين والأراميين
والقبائل العربية المختلفة. وكانت هناك جماعة سامية على نطاق ضيق تدعى بالعبرانيين،
ولقد استخدم هذا التعبير في سفر التكوين بمعنى أوسع عما حدث بعد ذلك عندما أصبح
يستخدم مرادفاً لإسرائيل. وطبقاً لعلم اشتقاق الكلمات، فإن الكلمة تعني "
الذين في العبر " أى الذين يسكنون على الجانب الآخر من النهر أو الذين أتوا
من عبر النهر. و النهر المقصود هنا ليس هو نهر الأردن بل نهر الفرات. وفي نفس
الوقت تقريباً الذي هاجر فيه أسلاف إسرائيل إلى كنعان ومصر، هاجرت عشائر أخرى
غرباً، وكان الكنعانيون والمصريون يدعونهم " أبريم " وهذا التعبير نفسه
هو نفس التعبير " حابيري " الموجود في رسائل تل العمارنة، حيث يذكر
غزوهم للبلاد. ولايمكن أن يكون إسرائيل هو المقصود هنا، ولكن المقصود قبائل من نفس
الجنس ومن الممكن أن تكون الكلمة " أبريو " هي نفس الكلمة.

3- أصل الآباء وتاريخهم:

يقرر الإسرائيليون أنهم قد انحدروا من عائلة خاصة متميزة. فبناء على طبيعة
الآباء في حياتهم القبلية لا شك في أن عشيرتهم نمت من أسرة واحدة. وكان أبو
العشيرة " إبراهيم " هو رأس هذه الأسرة الصغيرة، وقد أنجبت أطفالاً
كثيرين حتى أصبحت جملة عشائر أو أسباط. كما ينبغي أن لا ننسى أن مثل هذه العشيرة
يمكنها أن تتسع بسرعة بدخول عبيد وأتباع فيها (تك 14: 14)، فهؤلاء العبيد والأتباع
كانوا يعتبرون رئيس العشيرة أباً لهم ويعتبرون أنفسهم أبناء له دون أن يكونوا في
الحقيقة من نسله. ومن المحتمل أن العشيرة التي هاجرت أولاً إلى حاران ومن هناك إلى
كنعان كانت أكثر عدداً مما يبدو من القصة الكتابية التي تأخذ في الاعتبار الشخصيات
القيادية فقط. كما يجب أن نذكر أن الإسرائيليين بسبب تمسكهم بنظام الآباء، اعتادوا
أن يغلفوا كل علاقات الأمم في إطار الأسرة. وبهذه الطريقة جاءت هذه السلاسل من
أنساب الأمم المذكورة في التكوين (10، 11) فهنا وضعت الشعوب والمدن والبلاد في هذه
السلاسل من الأنساب دون أن يفكر الكاتب نفسه في أشخاص بعينهم يحملون هذه الأسماء،
مثل مصرايم (مصر) وكوش (الحبشة) … الخ. وكانوا في الحقيقة أبناء لحام. وكان الغرض
من كتابة سلسلة النسب بهذا الشكل هو التعبير عن الروابط الوثيقة أوالبعيدة بين
مجموعة من الأمم. كما أن التكوين (25: 1 … الخ) يعطى لنا مثالاً كيف أن هذه
القبائل قد اتحدت معاً بطريقة مستقلة. فمثلاً زوجة جديدة كقطورة لم يكن من المناسب
وضعها في سلسلة أنساب عائلة إبراهيم، ولكن الكاتب أراد أن يشير إلى جماعة عربية
أخرى تنتمى إلى نفس الدم الذي ينتمي إليه إسرائيل، ولكنها في الحقيقة تبعد عن
الإسرائيليين أكثر من الإسماعيليين. ولا أساس لمزاعم من يقولون إن أسماء شخصيات
كإبراهيم ويعقوب ويوسف ليست إلا أسماء تشخيصية لعشائر، وإن التاريخ اللاحق لتلك
العشائر قد تشخص في حياة أولئك الأشخاص، فمثلاً اسم إبراهيم لا يمكن أن يكون اسماً
لعشيرة أو لإله. فقد وجد في اللوحات البابلية القديمة أن اسم إبراهيم كان اسماً
لشخص يدعى " أبو رامو " ولكنه كان بلا شك ينطق في العشائر البدوية
" أبيرام " ومعناه " أبى (أو الأهي) قد تعظم " ونفس الشيء
ينطبق على يعقوب (وهو في الواقع يعقوب إيل) ويوسف (يوسف إيل) وإسماعيل وغيرهم،
ونجد أسماء مشابهة لها في الأسماء العربية القديمة.

1- الظروف التي أحاطت بالآباء (تك
14):

إن رسائل تل العمارنة ترينا أن ظروف الحياة المرسومة في تاريخ الآباء في
الكتاب تتفق تماماً مع ما جاء بتلك الرسائل، عن الظروف التي كانت سائدة في أرض
كنعان، فبالرغم من التأكيدات السابقة بأنه كان من المستحيل لعشيرة واحدة أن تشق
طريقها عنوة إلى أرض كنعان في الوقت الذي كانت فيه البلاد مكتظة بالسكان، أصبح من
المعروف الآن في نفس الوقت الذي دخل فيه أسلاف الإسرائيليين، كانت هناك قبائل أخرى
مشابهة لهم شقت طريقها إلى هناك أيضاً بالطرق السلمية أحياناً وبالعنف أحياناً أخرى.
وفي ذلك الوقت كانت مصر تتحكم في تلك البلاد ولكن سيادتها وقتئذ لم تكن قوية. ولقد
سببت عشيرة إبراهيم وغيرها من القبائل التي اقتحمت تلك البلاد متاعب كثيرة للسكان
الأصليين. والأصحاح الرابع عشر من سفر التكوين يسجل الحادث الوحيد الذي فيه تجد
فترة من التاريخ العالمي طريقها إلى قصة أجداد تلك العشيرة، فتصبح وثيقة عظيمة
القيمة إذ أنها تعكس بطريقة رائعة واقع الأحوال في أسيا في ذلك الوقت. هذه الحملات
الغازية التي اتجهت إلى بلاد البحر المتوسط، قام بها – في عصر مبكر – الحكام
البابليون أمثال " سرجون الأول " وابنه " نارام سين " فقد قام
هذا الأخير بحملة إلى بلاد " ماجان " بنفس الطريقة المذكورة في الأصحاح
الرابع عشر من التكوين عما حدث في أيام أمرافل أو حمورابي. وحقيقة أن حمورابي نفسه
كان تحت سيادة عيلام، تتفق تماماً مع القصة التي وردت في النقوش البابلية التي
يذكر فيها أن حمورابي البابلي كان قد حرر نفسه من سيطرة عيلام. كما أن حقيقة أن
حمورابي حسب التوقيت المقبول، قد حكم بعد 2000 سنة ق.م بقليل، تتفق تماماً مع
توقيت الكتاب المقدس الذي يضع إبراهيم في هذا الوقت بالذات. هذه الحملات في بلاد
" مارتو " كما كان البابليون يسمون " سوريا " كانت ترمى إلى
الاستيلاء على الغنائم والحصول على الجزية.

وقد اكتشف العلماء منذ زمن بعيد الكثير من المصادر التي تؤيد هذه القصة
والتي يمكن منها بسهولة ملاحظة أن موقف الآباء عندما كانوا غرباء في تلك البلاد،
لم يكن مريحاً على الاطلاق. وأي رواية شعرية أو خيالية كان ولابد أن تضفي صورة
البطولة والكمال على الآباء، ولكننا نجد أن ضعفات وأخطاء أولئك الآباء والأمهات لم
تُغفل، ولكن حقيقة أن الرب الذي اتكلوا عليه في كل الأوقات والذي أعانهم ولم يسمح
بأن يبيدوا، بل جعل منهم أساس مستقبل شعبه، هذه الحقيقة هي الخيط الذهبي الذ يربط
كل هذا التاريخ، ولذلك يظهر جلياً الفرق بين الشخصيات المختلفة. فمثلاً نجد صوراً
مسجلة لشهامة إبراهيم ومشاعره الكريمة المرهفة بالنسبة للأمور العالمية (انظر تك
13: 8 و 9، 14: 22 – 24، 23: 7 – 16) وهي صورة على النقيض مما يذكر عن يعقوب
واصراره على الحصول على حقوقه ومصالحه الخاصة. هذا الاتساق في تصوير الشخصيات
المختلفة لا بد أن يؤكد الثقة في الصفة التاريخية لهذه القصص. كذلك فإن التوافق مع
الأحوال والعادات المصرية، في قصة يوسف، حتى في أدق تفاصيلها – كما أكدها بصورة
خاصة عالم المصريات " ايبرز " – تؤيد هذه الثقة في تاريخيتها.

ب-أفكار عن الله:

أما الفكر أو العقيده عن الله التي اعتنقها هؤلاء الآباء فقد كانت بسيطة في
خصائصها، إلا أنها احتوت كل عناصر التطور الديني.

ج- النزول إلى مصر:

في أثناء فترة طويلة من الجوع وجد أبناء يعقوب – في ظل العناية الإلهية
التي استخدمت يوسف أداة لها – ملجأ في مصر، في مناطق المستنقعات التي كثيراً ما
وجدت القبائل السامية مستقراً مؤقتاً لها هناك، على امتداد حوض النيل الأسفل. ولقد
تبين أن أرض جاسان في الشمال الشرقي من الدلتا وهي المنطقة المحيطة بفاقوس (صفط
الحنة) ولم تكن هذه المناطق وقتئذ قد امتد إليها تنظيم الحكم المصري الدقيق، ومن
ثم كان من الممكن أن تستقر فيها هذه العشائر البدوية. ولأن أبناء يعقوب كانوا إلى
ذلك الحين رعاة متجولين، حتى وإن تحولوا بين الحين والحين مثل سائر هذه العشائر،
إلى حرفة الزراعة (تك 26: 12)، ولأنه من المحتمل أنه كانت تحكم مصر السفلى في ذلك
الحين أسرة من الهكسوس الساميين، يصبح من السهل ادراك أن العشائر – التي تمت لهم
بصلة القرابة – كانت تفضل الإقامة في مناطق الحدود هذه. وإذا أخذنا في الاعتبار أن
تلك المناطق الخصبة كانت وفيرة المياه، لأدركنا كيف تزايد عدد الناس والحيوانات
بسرعة، بل تستطيع القبيلة القوية في قرون قليلة أن تنمو لتصبح أمة قوية. فبينما
قامت جماعة من هذه العشائر برعي قطعانها ذهاباً وإياباً في البراري، قامت جماعة
أخرى ببناء البيوت والإقامة في وسط المصريين والاشتراك معهم في المشروعات الزراعية
وفلاحة البساتين (عدد 11: 5). كما وجدت الفنون المصرية والتجارة طريقها إلى هذا
الشعب، وكان من بينها وبلا شك فن الكتابة، على الأقل في حالات فردية معينة. وهكذا
نرى أن رحيلهم إلى هذا البلد كان عاملاً فعالاً في تعليم هذا الشعب. هذه الإقامة
توضح لنا جزئياً السبب في أن الإسرائيليين في كل الأزمان كانوا أكثر تقبلاً
للثقافة كما كانوا أكثر قدرة في هذا المجال، من جيرانهم الأدوميين والعمونيين
والموآبيين وغيرهم. فقد تعلم موسى كما تعلم يوسف كل أسرار حكمة المصريين. ولكن من
الجانب الآخر كان التغرب في هذا البلد العريق المتحضر خطراً على عقيدة الشعب
الإسرائيلي. فطبقاً لما جاء في يشوع (24: 14)، وحزقيال (20: 7 …. الخ، 23: 8 – 19)
نراهم قد اكتسبوا عادات وثنية أخذوها عن جيرانهم. ولذلك كان نافعاً لهم أن يذكروا
أنهم فيها قد عانوا من مرارة الظلم القاسي.

رابعاً – قوميتهم بقيادة موسى:

1- إسرائيل في مصر:

جاء في الخروج (1: 8) أن فرعونا جديداً اعتلى العرش لم يكن يعرف يوسف، وهذا
يعني بلا شك أن أسرة فرعونية جديدة جاءت إلى السلطة وتبنت سياسة جديدة في معاملتها
لجيرانها الساميين. كان قد سبق هذا طرد الهكسوس وأصبحت هناك معارضة جادة ضد
الساميين. كما أن الحكومة الجديدة اتجهت بقوة إلى التوسع في اتجاه الشمال الشرقي.
في ظل هذه الظروف، ليس غريباً أن تفرض قوانين الامبراطورية بعنف في مناطق الحدود
هذه، وبهذا انتهت الحريات التي كانت تتمتع بها قبائل الرعاة غير المرغوب فيهم. ولقد
نتج عن هذا زيادة مضطردة في استخدام أساليب العنف. وبهذه الطريقة زادت تعاسة الشعب
حتى اضطروا إلى الهجرة أخيراً.

1- الأحداث التاريخية:

مازال الاعتقاد السائد هو أن رمسيس الثاني هو فرعون الاضطهاد، وقد كان هذا
الملك شديد الولع بتشييد المباني بصورة خارقة وقد حدد " إدوارد ماير "
تاريخ ملكه الطويل من 1310 – 1244 ق.م وبهذا يكون ابنه منفتاح هو فرعون الخروج.
ولكن إذا افترضنا هذا، فإن التسلسل التاريخي للكتاب المقدس لا يواجه صعوبات خطيرة
فحسب، بل يلزم تجزئة سفر القضاء إلى أجزاء صغيرة جداً، وهناك أيضاً معلومات تاريخية
محددة تؤيد تاريخاً مبكرة لخروج إسرائيل، فإن الملك منفتاح يفخر في أحد النقوش
بأنه في أحدى حملاته على سوريا حطم رجال إسرائيل (وهنا يذكر اسم إسرائيل لأول مرة
على أحد الآثار المصرية) كذلك فإن الملك سيتى أبا الملك رمسيس الثاني يذكر اسم
" أشير " بين الذين هزمهم في شمالي فلسطين وهي المنطقة التي احتلها هذا
السبط فيما بعد. هذه المعلومات التاريخية تبرر القول بأن الخروج حدث في زمن الأسرة
الثامنة عشرة، وهو شيء محتمل في ذاته، حيث أن حكام هذه الأسرة المقتدرين قد ساروا
على خطة جديدة في تعاملهم مع هذه المنطقة. وبذلك يكون الذي فرض السخرة على إسرائيل
هو تحتمس الثالث (حسب رأي ماير، من سنة 1501 – 1447 ق.م) وأن الخروج قد حدث في عهد
خلفه أمينوفيس الثاني. ويتفق مع هذا ما سجله مانيثون المؤرخ من أن " البرص
" (ويقصد بهم الإسرائيليين) قد طردهم الملك أمينوفيس.

وطبقاً لما جاء في التكوين (15: 13) نرى أن مدة تغرب الإسرائيليين في مصر
كانت بالتقريب حوالي 400 سنة، وبتحديد أكثر حسب الخروج (12: 40 و 41) كانت 430 سنة.
ولكن هذا النص الأخير جاء في السبعينية كما يلي " مدة تغرب أبناء يعقوب التي
عاشوها في مصر وفي أرض كنعان " (وتوجد نفس القراءة في النسخة السامرية مع ذكر
كنعان قبل مصر). وحيث أن الآباء عاشوا 215 سنة في كنعان، فتكون مدة تغربهم في مصر
215 سنة أيضاً وهذا يتفق مع التقليد اليهودي الذي ذكره الرسول بولس (غلاطية 3: 17)
وكذلك مع ما ذكره يوسيفوس. وتؤيد قائمة الأنساب هذه الحقبة القصيرة، ولكن لعدم
اكتمالها، لا يمكنها أن تحسم الأمر. ولتأييد فترة إقامة أطول لتغربهم في مصر،
فإننا نستطيع الرجوع ليس فقط إلى تكوين (15: 13) وهو نفس الموجود هنا في السبعينية،
ولكن أيضاً إلى العدد الكبير للذين غادروا مصر بحسب ما جاء في سفر العدد الأصحاح
الأول والأصحاح السادس والعشرين، فقد ذكر أن عدد الرجال 600.000 وبذلك يفترض أن
تعدادهم جميعاً كان نحو مليوني نسمة.

ب- موسى:

بينما لا يذكر بالتفصيل تاريخ مدة تغرب إسرائيل في مصر، فإنه يذكر بالتفصيل
تاريخ الخروج نفسه والذي يحدثنا عن مولد إٍسرائيل كأمة، ففي هذه الأزمة كان موسى
هو الوسيط النبوي الذي تمت على يديه أعمال الله العجيبة. فكل أعمال الله التي تمت
بواسطة هذا النبي أصبحت إعلانات الله لهذا الشعب. إن موسى نفسه لم تكن له أي سلطة
أو قوة إلا تلك التي أعطيت له، كأداة في يد الله. لقد كان الآلة البشرية لتحقيق
الصلة بين إسرائيل ويهوه على توالى العصور. وبعمله هذا نادى بإله الآباء القديم،
ولكن تحت اسم جديد هو "يهوه " الذي لم يكن معروفاً للشعب من قبل، وقد
أصبح علامة مميزة للإعلانات الموسوية. وباسم هذا الإله المطلق السلطان طالب موسى
بالحرية لإسرائيل حيث أن هذا الشعب هو " ابن الله البكر " (خروج 4: 22).
والصراع الذي احتدم بين موسى وفرعون، باسم هذا الإله، أصبح شيئاً فشيئاً صراعاً
بين هذا الإله وبين آلهة مصر الذين كان فرعون يمثلهم على الأرض. أما الضربات التي
حلت بمصر فقد قامت على الظروف الطبيعية لهذا البلد، ولكنها حدثت بقوة وبسرعة خارقتين
للعادة وبناء على تنبؤ موسى، بل وبناء على أمره لكي تقنع هذا الشعب، وأخيراً تقنع
فرعون نفسه بالقدرة المطلقة لهذا الإله على تربة هذه البلاد. كما أن عملية الخلاص
عند البحر الأحمر يمكن تفسيرها أيضاً بتضافر القوى الطبيعية وبخاصة الرياح والمد
والجزر، ولكن حقيقة أن هذه القوى لعناصر الطبيعة – التي أثبتت في هذا الوقت الحرج
أنها كانت في خدمة شعب الله كما كانت مدمرة لإعداءه – لدليل لا يخطيء على قوة الله
المعجزية. ولقد اختبر الإسرائيليون هذا أيضاً في رحلتهم عبر الصحراء عندما كانوا
يعتمدون كلية على القيادة والعناية الإلهيتين. ولقد كانت محصلة هذه الاختبارات –
وفي نفس الوقت ذروتها العظيمة – هي إعطاء ناموس العهد في سيناء. ومنذ هذا الوقت
فصاعداً أصبح الله إله هذا الشعب، وأصبح إسرائيل شعب الله. ولقد أعلن الله أنه هو
الحاكم الوحيد والمطلق على هذه الأسباط، التي اتحدت في أمة واحدة، ونتج عن هذا
تلقائياً أن أصبح موسى – كأداة لله – ليس فقط السلطة التي تتخذ القرار الصائب في
كل النزاعات ولكنه أصبح أيضاً الشخص الوحيد الذي منه صدرت كل التشريعات الجديدة
الكاملة، لقد أصبح موسى هو معطي الناموس.

2- الخصائص التاريخية للخروج:

لا يمكن أن تكون الخصائص التاريخية للخروج من مصر موضعاً للشك بالرغم من أن
البعض يتشككون في أن تكون الأمة كلها قد اشتركت في اجتياز البحر الأحمر، ويظنون أن
بعض الأسباط كانت قد سبقت قبل ذلك بالهجرة نحو الشرق. ويجب أن لا ننسى أن أغنية
الانتصار في الأصحاح الخامس عشر من سفر الخروج لا تذكر كلمة واحدة عن هلاك فرعون
نفسه في البحر. كما أن الادعاء بأن أمة بأكملها لا يمكن أن تهاجر في ليلة واحدة،
لا يمكن التمسك به إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن سكان نفس وادي الطميلات الذي
سار فيه الإسرائيليون، قد هاجروا هم أيضاً في ليلة واحدة في أواخر القرن الماضي
ولنفس الأسباب.

أ الرواية المصرية عن الخروج:

وكون أن الآثار المصرية لا تذكر شيئاً عن هذه الحادثة، – المشينة للمصريين
– فهو أمر طبيعي حيث أنها سجلات رسميه كان المتبع فيها، إغفال الحقائق غير المرغوب
فيها والتي فيها إهانة للمصريين، ومع ذلك فإن التاريخ المشهور لهذا الشعب الذي
كتبه " مانيثون " قد احتفظ لنا ببعض الإشارات إلى هذه الحادثة. وفي
الواقع فإن ما يذكره مانيثون عن الهكسوس لا يرتبط بهذا الشعب حيث أنهم ليسوا هم
الهكسوس: على أي حال فإن يوسيفوس يروي قصة يمكن أن تكون ببساطة هي التقليد الخاص
بخروج بني إسرائيل بعد أن تعدل نتيجة للتداول الشعبي له. لقد أراد الملك أمينوفيس
– كما يقول يوسيفوس – أن يرى الآلهة، ولقد وعده الرائي الذي يحمل نفس الاسم بأن
أمنيته ستتحقق إذا ما تطهرت بلاده من البرص وجميع النجسين، ويقال إنه طبقاً لهذا،
طرد 80.000 من هؤلاء الأشخاص إلى المحاجر شرقي النيل. ولما كان هذا الرائي يخشى أن
تتسبب هذه الإجراءات في غضب الآلهة، وفي اخضاع البلاد لمدة 13 سنة لسيطرة الأجانب،
فقد أعطى لهؤلاء البرص، المدينة التي تدعى أفاريس والتي كانت للهكسوس فعينوا لهم
كاهناً يدعى " أسارسيف " الذي سمى فيما بعد " بموسى " رئيساً
عليهم وهو الذي أعطاهم مجموعة خاصة من القوانين كما قام بمحاربة المصريين، وبمعونة
الهكسوس حكم مصر مدة 13 سنة، طُرد بعدها هو وأتباعه إلى سوريا. وتوجد قصص مشابهة
في كتابات " خيرومون" و " ليسيماخوس " وغيرهم. وعندما نذكر
أنه من غير المعقول أن يسمح للبرص بالعمل في المحاجر، وأن المصريين أيضاً من
الناحية الأخرى كانوا يسمون الساميين " الوباء " فلا بد أن نعتبر أن هذه
القصة تشير إلى أمة غير مصرية. ويقدم " هيكاتيوس الأبديري " رواية عن
هذا الأمر تشبه إلى حد كبير ماجاء بقصة التوراة، بأنه عندما انتشر الوباء في مصر،
اعتقد الناس أن الآلهة غاضبة على المصريين لإهمالهم الطقوس الدينية، ولهذا طردوا
كل الأجانب. ويقول إن جزءاً منهم قد هاجروا بقيادة موسى إلى اليهودية، وهناك أسسوا
مدينة أورشليم.

ب القضايا الجغرافية:

البحر الأحمر الذي اجتازه الإسرائيليون بقيادة موسى، هو بلا شك الامتداد
الشمالي لهذا البحر حيث كان يصل في الأزمنة القديمة إلى الداخل أبعد مما يصل إليه
خليج السويس الآن (انظر كتاب فيثوم مدينة المخازن لإدوارد نافيل وطريق الخروج)
ولهذا العلامة شرف تحديد موقع " سكوت " – بناء على الآثار – على أنها "
تل رماشوتا " الحديثة والتي هي " فيثوم " وهو اسم المعبد الذي كان
موجوداً في ذلك الموقع، ثم أطلق على المدينة فيما بعد اسم " هيروبوليس ".
وطبقاً لهذا، سار الطريق مخترقاً وادي الطميلات إلى البحيرات المرة شمالي السويس.
وإنه لأمر بالغ الصعوبة أن نقتفي أثر الطريق جغرافيا على الجانب الآخر من البحر،
لأن هناك تساؤلاً عما إذا كان " جبل الرب " الذي كان هدفاً للرحلة هو
الذي يقع في شبه جزيرة سيناء، أو في بلاد الأدوميين، أو على الساحل الغربي للعربية.
إن العلاّمة " سايك " وآخرين يرفضون الموقع التقليدي لشبه جزيرة سيناء
لهذا الجبل، ويقولون إن الإسرائيليين ساروا مباشرة نحو الشرق في اتجاه خليج العقبة
يذكر " سايك " أسبابه لذلك (في كتابه " دلائل الآثار " صفحة
263) ولكن وإن كان هذا الافتراض ينهي عدداً من المشاكل، إلا أن هناك حججاً كثيرة
تؤيد الموقع التقليدي في سيناء وبخاصة روعة وعظمة هذه السلاسل الجبلية نفسها التي
لم يكتشف ما يماثلها في بلاد الأدوميين ولا في الشمال الغربي للعربية. لقد وصف
الرحالة " بالمر " الذي جاب سيناء، روعة المناطق المحيطة بتلك السلاسل
الجبلية وبخاصة " جبل موسى " و " رأس الصفصافة " التي يرى
أنها المكان الذي تم فيه إعطاء " العهد ".

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ى يجبهة 1

ج-رحلة البرية:

تقدر فترة الرحلة في البرية – في كل مكان في الكتاب – كما في (عاموس 5: 25)
بأربعين سنة. ويتفق مع هذا حقيقة أن القليلين فقط ممن تركوا مصر عاشوا ليدخلوا
كنعان. ويبدو أن الإسرائيليين قضوا الجزء الأكبر من هذه الأربعين سنة في قادش. على
أي حال فقد كان هناك " مقدس للرب " حيث كان يقوم موسى بالقضاء للشعب،
بينما يحتمل أن بقية الأسباط كانت مبعثرة في البراري والمناطق الصالحة للزراعة.
أما المقدس الرئيسي الذي أقامه موسى فكان " خيمة الاجتماع " التي كانت
تحتوى على " تابوت العهد ". وكان هذا التابوت المقدس وعليه الكاروبيم
يمثل عرش الله الجالس فوق الكاروبيم. أما التابوت نفسه فقد كان قاعدة كرسيه. وكما
كان يحدث دائماً في معابد المصرين فإن القوانين المقدسة كانت توضع تحت قدمي تمثال
الآلهة وهكذا فإن نواميس الله المقدسة (الوصايا العشر) التي كانت على اللوحين كانت
موضوعة في هذا التابوت. وتابوت العهد هذا يفترض وجود إله غير منظور ولايمكن أن
يشبه بصورة ما. أما القوانين والفرائض الأخرى التي أعطاها موسى للشعب فقد شملت
كافة التشريعات العامة والخاصة التي أُعطيت عندما ظهرت الحاجة إلى أهميتها لحسم
هذه الأمور. وفي هذه القوانين (الناموس) ربط موسى بين نظامه وبين المباديء
التقليدية القديمة التي كانت شائعة قبلاً بين القبائل. وقد تأكدت هذه الحقيقة من
مجموعة تشريعات حمورابي التي تحتوي على شرائع مماثلة وبخاصة مع الخروج (20: 1 – 23:
19). ولكن موسى سما بالقوانين التقليدية القديمة للقبائل الأخرى وأضفى عليها صفات
إنسانية أكثر، ووضع كل تشريع في ضوء عبادة الرب (يهوه) وذلك بحذف كل شيء لا يتفق
مع هذه العبادة وهكذا استطاع أن يرتفع بالحالة الروحية والأخلاقية لهذا الشعب إلى
مستوى أعلى.

ولكن كانت التيارات الخفية للخرافات والفجور مازالت لها قوتها. وكان على
موسى منذ البداية أن يعمل الكثير لمقاومة المعارضة التي واجهها من اللفيف المختلط
الموجود بين الشعب. كما أن حقيقة استطاعته في فترة 40 سنة أن يمسك بزمام قيادة هذا
الشعب العنيد، بغير قوة عسكرية، إنما هي ظاهرة واضحة تبين تماماً معونة الرب
الرائعة له. إلا أنه على كل حال لم ينجح تماماً في الارتفاع بكل الشعب إلى مستوى
معرفته هو بالله وإيمانه به، وكان لا بد لهذا الجيل أن يموت في البرية لأنه كانت
تنقصه الشجاعة المقدسة لامتلاك أرض الموعد. لكن موسى كان قد وضع أساس الحكم الإلهي
والذي يجب ألا نخلط بينه وبين الرياسة الكهنوتية.

 

د- الدخول إلى كنعان:

كان يشوع خليفة موسى هو الذي استطاع أن يتمم العمل وأن يمتلك الأرض، فعلى
بعد قليل من أريحا قاد الشعب عبر الأردن واحتل المدينة التي كانت تعتبر منيعة لا
يمكن اقتحامها. وبجيشه الشعبي تمكن بعد ذلك من هزيمة الكنعانيين في معارك حاسمة
بالقرب من جبعون، وعند مياه ميروم، ثم عاد ونزل بخيامه في الجلجال عند الأردن.
وبعد ذلك تقدم بسبطه أفرايم إلى عمق البلاد، بينما استطاع الأسباط الآخرون في
الجنوب أن يقتحموا المناطق المعينة لهم. ولكن وبدون مبرر يهاجم النقاد هذه الرواية
كشيء لا يمكن تصديقه. ولقد ظن النقاد أن سائر الأسباط بمبادراتهم الخاصة، احتلوا
أراضيهم سواء بالسلم أو بالقوة. ولكن من الطبيعي تماماً أن نفترض أن سكان البلاد
الذين عبأوا أنفسهم لمقاومة هذا الاحتلال الإسرائيلي، كان لا بد أولاً من إخضاعهم
بهزائم حاسمة، قبل أن يسمحوا لأسباط إسرائيل بالدخول: هذا الدخول الذي غالباً ماتم
– بناء على ذلك – بدون مقاومة خطيرة. ويتبين من الأصحاح الأول من سفر القضاة
بالتفصيل أن هذا الاحتلال لم يكن كاملاً. وكذلك فإنهم لم يقوموا بحرب الإبادة في
المناطق التي أصبح لإسرائيل فيها اليد العليا، كما كان قد أمرهم موسى، ولكنهم
اكتفوا بأن يجعلوا من الكنعانيين الذين سكنوا معهم عبيداً خاضعين لهم. ولكن هذه
العلاقة أصبحت في أوقات لاحقة، قابلة للتغيير بسهولة وبخاصة في الحالات التي كان
فيها السكان الأصليون للبلاد يمثلون الأغلبية.

كما يجب أن نذكر أيضاً أن هؤلاء السكان الأصليين كانوا على درجة أعلى من
المدنية مما كان عليه الإسرائيليون، وهكذا كان من السهل طبقاً لهذا أن يعتنق
الإسرائيليون عادات وأفكار الكنعانيين، ولكن لو تم هذا لتعرضت ديانتهم للخطر. كما
استولى الإسرائيليون على الأماكن المقدسة للسكان الأصليين ومذابحهم ومعابدهم بل
أصبح الكثير من هذه الأشياء من بين مقدسات أحفاد إسرائيل وبها ارتبط الكثير من
ذكرياتهم. ونتيجة لهذا حدث بسهولة أن إسرائيل اتخذت لها رموزاً قديمة وطقوساً
دينية بما فيها عبادة البعل وعشتاروث، ومهما كانت هذه قليلة، إلا أنه كان من
الممكن أن تندمج في عبادتهم لله. ولكن لو فقد الإسرائيليون ديانتهم الفريدة لأصبحت
علاقتهم بإخوتهم من الأسباط الأخرى، وكذلك استقلالهم في طي النسيان ولذابوا بسهولة
في الكنعانيين.

خامساً – عصر القضاة:

1- الخصائص العامة لذلك العصر:

في مثل هذه الفترة التي ضعفت فيها الحياة القومية والدينية، كان من السهل
أن تفقد إسرائيل تفوقها الذي أحرزته بالسيف، كما أمكن للكنعانيين أن يبسطوا
سيطرتهم على أجزاء كبيرة من الأرض. كذلك استطاعت قبائل البدو كالعمونيين
والموآبيين والشعوب المحاربة الأخرى كالفلسطينيين، أن تخضع البلاد كما حدث فعلاً
في عصر القضاة. ويذكر سفر القضاة عدداً من هذه المرات التي خضعت فيها إسرائيل
للأعداء، وإن كان هذا لم يشمل كل البلاد إلا أنه حدث في أجزاء مختلفة، وفي نفس
الوقت لم يشترك سبطا يهوذا وشمعون في الجنوب في هذا الصراع بل كانت لهما معاركهما
الخاصة. وهذا ما حدث بالنسبة للأسباط شرقي الأردن، وقد كان منسى وأفرايم في تحالف
وثيق. وكانت تتبع كل فترة من الإذلال – طالت أم قصرت – انتفاضة للروح القومية ضد
هذا الإذلال. وفي جميع هذه الحالات كان البطل الشعبي الذي يتقدم لتحريرهم، كان
يستنفر وعيهم الديني الذي كان هو رباط الوحدة بين كل الأسباط الإسرائيلية وإلههم
يهوه. ومهما كانت الطريقة الجامحة التي عبر بها الشعب عن الانتفاضة الفتية في هذه
المناسبات، فقد كانوا على أي حال مدركين أنهم يخوضون حرباً مقدسة، كانت في كل مرة
تنتهي بالانتصار على الروح الوثنية والعبادة الزائفة التي وجدت طريقها إلى أسرائيل.
وتعتبر أغنية دبورة (قض 5) أثمن أثر تاريخي لذلك العصر فهي كالمرآة تعكس بأمانة
ظروف وأحوال وأفكار ذلك العصر.

وترجع بنا الأصحاحات من 17 – 21 من سفر القضاة إلى بداية ذلك العصر. وتذكر
أول هذه القصص القديمة هجرة جزء كبير من سبط " دان " إلى أقصى شمالي
البلاد، وكيف نشأت عبادة الأصنام في ذلك الإقليم (ص 17 و 18). ولكن القصة الثانية
أيضاً في شكلها ومضمونها تعتبر – على الأقل في جزء منها – قديمة جداً. كما أن سفر
هوشع (9: 9، 10: 9) يؤيد قيمتها التاريخية ضد هجمات النقاد المحدثين. فهذه القصة
تروى حرباً مقدسة للانتقام من سبط بنيامين الذي رفض تقديم الترضية اللازمة عن
جريمة بشعة ارتكبت في جبعة في أرضهم، وبدافع التضامن الوثيق والمسئولية العليا كما
يبدو من عقاب هذه الجريمة، يمكننا أن نرى الأثر الذي كان مازال باقياً من أيام
موسى ويشوع.

 

2- القضاة المختلفون:

تأتي أولاً قصة ملك آرام النهرين الذي أذل إسرائيل ثماني سنوات (قضاة 3: 8)
ومن المحتمل أن المقصود بهذا هو ملك الميتانيين الذين كانوا في ذلك الحين يشقون
طريقهم إلى مصر عبر كنعان، فخلصهم عثنيئيل بن قناز وهو من عشيرة تنتمي إلى سبط
يهوذا. أما المخلص الثاني فكان إهود البنياميني وهو الذي خلص القسم الجنوبي الشرقي
من البلاد من عبوديتهم لعجلون ملك الموآبيين بعد أن قتله إهود (قضاة 3: 12 – 30).
ولكن كانت هناك معركة فاصلة واسعة النطاق ضد ملوك الكنعانيين في الشمال الذين
تحالفوا معاً وتسلطوا على إسرائيل مدة 20 سنة. وبناء على دعوة من دبورة جاء باراق
وهزم سيسرا رئيس جيش الملك المعادي، والذي كان يقود جيشاً عظيماً من المركبات، في
وادي قيشون (قضاة 4 و 5). وفي نفس المنطقة حدثت معركة جدعون مع جحافل المديانيين
البدو الذين أذلوا إسرائيل كثيراً (قضاة 6 – 8). أما أبيمالك فقد كان ابناً
منبوذاً من أبيه البطل الذي كان يخاف الله، فكان بعد موت أبيه أنه أقام مملكة
محلية في شكيم لم تدم طويلاً، وانتهت نهاية غير كريمة. ثم يأتي بعد ذلك أشخاص لا
نكاد نعرف أكثر من أسمائهم أمثال " تولع " من سبط يساكر " ويائير
الجلعادي " (ص 10: 1 – 5). ثم تذكر بعد ذلك بتفصيل اكثر قصة يفتاح الذي خلص
البلاد من العمونيين الذين جاءوا من المشرق (ص 11)، ويرتبط بهذه القصة الصراع مع
الأفراميين الذين حسدوه (ص 12). ثم تأتي بعد ذلك القصة بتفصيل أكثر عن الغزوات
الشخصية لشمشون النذير الذي كان ينتمي لسبط دان، مع الفلسطينيين الذين زحفوا من
الجنوب والذين برهنوا – على مدي سنوات كثيرة – على أنهم أخطر أعداء إسرائيل.

ولقد أطلق اسم القضاة على كل هؤلاء الأبطال وآخرين غيرهم أقل منهم شهرة.
ويسجل لكل واحد منهم بالتتابع كم قضى لإسرائيل. وإلا أنهم لم يكونوا حكاماً بالمفهوم
العادي للكلمة، ولكنهم كانوا " محررين للشعب " الذين بوحي من الله أعطوا
إشارة البدء لحروب مقدسة. وبعد أن أحرزوا النصر – كرجال لله – أصبحت لهم مكانة
مرموقة على الأقل بين أسباطهم. ونتيجة لما قاموا به من تحرير لقومهم، أصبحت لهم
السلطة العليا في الأمور السياسية والشرعية، ويحتمل في الأمور الروحية أيضاً. لقد
أطلق عليهم اسم " قضاة " للتفريق بينهم وبين السلطان الملكي، الذي كان
عند إسرائيل وقفاً على الله وحده، حتى إن جدعون – عندما أراد الشعب أن يجعله ملكاً
– رفض ذلك على اعتبار أن الرب هو المتسلط عليهم (ص 8: 22 و 32). لقد أدرك الشعب
عمل روح الرب في قدرته العظمي التي حلت على هؤلاء الرجال، ودفعتهم للنهوض بشعبهم
من سباتهم المعيب. ولهذا السبب أيضاً منحت لهم الثقة فيما بعد لإصدار القرارات
القضائية في تجاوب مع فكر الله وروحه، كما حدث من قبل بالنسبة للنبية دبورة. ولكن
لا يحتمل أن يكون شمشون (بالرغم من ص 16: 31) قد قام بشئون القضاء. كما أنه لم
يذكر عنه إطلاقاً أنه حارب على رأس الشعب، ولكنه قام بغزواته على الفلسطينيين
بنفسه ولو أنه كشخص نذير للرب كان شاهداً لقوة الله.

3- توقيت عصر القضاة:

هناك بعض الصعوبات المعينة في توقيت عصر القضاة فلو جمعنا معاً المدد
التاريخية المذكورة بالتتابع في سفر القضاة لوجدنا مجموعها حسب القضاة (3: 8 – 16:
31) هو 410 من السنين. ولكن هذا الرقم يعتبر كبيراً جداً لا يتوافق مع ال 480 سنة
المذكورة في الملوك الأول (6: 1) والتقليد اليهودي، (سيدهر عولام) بناء على هذا لا
يدخل في هذا الحساب سنوات الإذلال، ولكنه يعتبرها جزءاً من زمن كل قاض منهم وعلى
هذا يحذف حوالي 111 سنة. ولكن يبدو أن كاتب سفر القضاة لم يأخذ بهذا الرأي فإن
النقاد المعاصرين يعتقدون أن الكاتب قد جمع بين طريقتين في تحديد أزمنة القضاة
إحداها على أساس فترات يبلغ كل منها 40 سنة، بينما الأخرى اشتملت على أرقام محددة.
وبهذا يمكن اختصار هذه الفترة كما يفعل التقليد اليهودي، ومن السهل تبرير ذلك،
فبناء على ماجاء في الأصحاح العاشر (عد 7) يمكن اعتبار الفترة التي أذلهم فيها
العمونيون (10: 8 – 11) كانت معاصرة لفترة إذلال الفلسطينيين لهم (ص 13: 1). كذلك
فإن الأحداث الأخرى التي ورد ذكرها في القصص كأنها متعاقبة، يمكن أن تكون قد حدثت
في وقت واحد أو في تتابع مختلف ومع ذلك فإنها قصة تاريخية صحيحة تتحدث عن شخصيات
كدبورة ويفتاح وإهود وجدعون وأبيمالك وشمشون كوقائع تاريخية ملموسة. وحتى في حالة
شمشون لا يمكن أن يكون مجرد شخصية أسطورية، ولكنه كان ولابد شخصية قومية بطولية في
ذلك العصر يتمثل فيه الكثير من المميزات الجسمية والعقلية للأمة الفتية، وكذلك
ثباتهم وعدم اكتراثهم ولا مبالاتهم عند مواجهة الأعداء الغادرين.

4- تفكك التنظيم الشعبي:

كان هناك احساس قوى بعدم وجود قوة سياسية مركزية في عهد القضاة، إلا أنه
بسبب حالة الشعب المبعثر في تلك البلاد التي قسمت بينهم إلى أقسام صغيرة وكذلك
بسبب ضعف الحماس الديني الذي تميز به الجيل السابق، اختفت الوحدة القلبية والفكرية
العميقة، وليس صحيحاً أن نتصور أنه لم تكن هناك في ذلك العصر أي سلطة حكومية على
الإطلاق، فقد كان هناك منذ البداية نظام أبوي فعَّال، فأبو العائلة كان الرئيس
الشرعي لكل من ينتسب للعائلة، كما أن العشيرة كانت تخضع " لشيخ " له
حقوق إدارية واسعة في تنفيذ القانون، ولكن كان عليه أيضاً واجب حماية أتباعه
ورعايتهم وقت الحاجة. ولكن للأسف ليس لدينا معلومات عن كيفية اختيار هؤلاء الشيوخ،
أو عما إذا كانت مناصبهم وراثية، ولكن بعض الفقرات القليلة كالتي وردت في إشعياء
(3: 6 و 7) تلقي شعاعاً من الضوء على هذا الموضوع. فقد كان موسى هو الذي أنشأ نظام
الشيوخ الذي استقر وتطور بعد ذلك (خروج 18: 13 – 27). ولقد استمر هذا النظام في كل
أدوار تاريخ إسرائيل، فعندما بدأ أفراد الشعب يعيشون في مراكز أكبر، كان من
الطبيعي أن تتكون مجالس من شيوخ المدينة، كما كان على رأس الأسباط شيوخ أيضاً.
ولكن هذا النظام لم يكن كافياً بالنسبة لعمل مشترك على مستوى الأمة كلها، وبخاصة
في حالة الحرب، فلم يكن بنو إسرائيل يشعرون بأنهم يتمتعون بالامتياز الذي يتمتع به
أعداؤهم الذين كان لهم ملك يقودهم. لهذا السبب نمت في إسرائيل الرغبة في وجود ملك
لهم. أما الحكام الدكتاتوريون في عصر القضاة، فقد حققوا للشعب حاجاتهم وقتياً.

سادساً – المملكة: إسرائيل ويهوذا:

لقد شعر الإسرائيليون بحاجتهم إلى ملك وبصفة خاصة في الوقت الذي أذلهم فيه
الفلسطينيون، فبعد أن مات شمشون، حدث للشعب – في ختام عصر الانتصارات هذا – أن وقع
تحت سيادة شعب محارب استقر في الآونة الأخيرة على الساحل الغربي لفلسطين، ومن هذا
الموقع بدأوا يقتحمون طريقهم إلى عمق البلاد.

1- صموئيل:

بعد الهزائم المنكرة والمحزنة والتي فُقد في أثنائها تابوت العهد، قام من
أجل الشعب أب ومخلّص هو صموئيل، الذي أنقذهم في فترة من أخطر الفترات. وما فعله في
الإرتفاع بالشعب، لا يمكن تقييمه بدرجة كافية، لكن كان – فوق كل شيء وفي زمن السلم
– الحارس الأمين لمقدسات إسرائيل. كما كان نبياً لم ير الشعب له نظيراً منذ عهد
موسى، كما أنه كان بلا شك المؤسس لمدارس بني الأنبياء الذين أصبحوا فيما بعد أصحاب
الأثر البالغ في تنمية الروح الدينية في إسرائيل، فقد كان بكل قواه حارساً لكل
الأمة بالقضاء لهم حسب الشريعة، وغرس التقوى في البلاد.

2- مملكة شاول:

ولكن عندما شاخ صموئيل أيضاً، واستنتج الشعب لأسباب وجيهة أنه لن يخلفه
أشخاص جديرون بذلك، عندئذ لم يكن ممكناً أن يصمتوا أكثر من ذلك فطلبوا لهم ملكاً.
وعبثاً حاول صموئيل أن يثنيهم عن طلبهم هذا الذي كان يبدو له أنه دليل على شكهم في
عناية الله. ولكنه اضطر بناء على وحي من الله، أن يخضع لرغبتهم ويمسح لهم ملكاً
عينه له الله. ويزعم النقاد أنه توجد روايات متعددة في سفر صموئيل فيما يختص
باختيار شاول للمملكة، وأن هذه الروايات تختلف فيما بينها، فإحداها تعتبر أن
المملكة بركة والأخرى تعتبرها لعنة. ويقولون إن وجهة النظر الأولى – والتي يزعمون
أنها الأقدم – موجودة في صموئيل الأول (9: 1 – 10 و 16، ص 11) بينما يقال إن الثانية
موجودة في صموئيل الأول (الأصحاح الثامن، 10: 17 – 27، 11: 12 – 14) ولكن الحقيقة
التي لا شك فيها هي أن صموئيل آخر القادة الحقيقيين الذين كانوا يؤمنون بالسلطة
الإلهية هو الذي وضع أساس المملكة، ولكن مما لا شك فيه أنه اتخذ هذه الخطوة عن غير
رضى داخلي حيث أن هذه البدعة كانت في نظره تعني اهدار المثل العليا للشعب والتي ظل
هو وفياً لها كل أيام حياته. إن طلب الشعب ملكاً كان نتيجة لدوافع عالمية، ولكن
الله حولها للخير " فمسيح الله " كان خطوة متقدمة في تاريخ ملكوت الله.

واستطاع شاول في البداية بقوة وكفاية أن يحل المشاكل الفورية وأن ينتصر على
أعداء الشعب. ولكنه بسرعة بدأ يتصور أن مملكته كممالك الأمم الوثنية فلم يخضع لله
ولا لممثل الله المعين من قبله، وسرعان ما نشب صراع واضح بينه وبين صموئيل. وتظهر
حقيقة أن روح الله قد فارقه في حالة الاكتئاب العقلي الذي أصابه وجعله يتمادى في
أعمال العنف. وتحت هذه الظروف فارقته أيضاً بركة الله، الأمر الذي تأكد بانتهاء كل
جهاد حياته في هزائمه الأخيرة أمام الفلسطينيين.

3- داود:

وفي مقابل هذا، نرى داود أعظم ملوك إسرائيل، الذي خلف شاول. فقد كان لديه
مفهوم صحيح عن مركزه الملكي. وحتى في ذروة نجاحه، لم ينس قط أنه دعي ليحكم "
كعبد الرب " وكحاكم موهوب عمل على تقوية مملكته من الداخل ولم يكن هذا أمراً
سهلاً بسبب اختلاف الطبائع في هذا الشعب. كما عمل على اتساعها من الخارج بالتغلب
على الجيران الحاقدين، وبهذا أصبح هو المؤسس الحقيقي لمملكة قوية. كما أن فتحه
لأورشليم واختيارها عاصمة له يدلان أيضاً على حكمته السياسية. إلا أنه من الحق
أيضاً أنه كانت له أيضاً سقطاته الخاصة، فقد ارتكب عدة أخطاء سببت له متاعب سياسية
استمرت حتى إلى شيخوخته. ولكن تواضعه في كل الأحوال جعله قادراً على أن يخضع تحت
يد الله، وكان هذا التواضع مبنياً على موقفه الروحي من نحو الله، كما يظهر ذلك في
مزاميره. وبهذه الطريقة أصبح بحق حلقة الاتصال بين الله وشعبه، وعلى هذا الأساس
واصل الأنبياء التنبؤ، فقد تنبأوا عن وحدة أوثق بين الله والشعب في " ابن
داود ".

وبينما كان شاول من سبط بنيامين، كان داود من سبط يهوذا وملك لفترة قصيرة
على سبطه في حبرون قبل أن تختاره سائر الأسباط ملكاً عليهم، بعد أن عانوا من حكم
ابن شاول. وبعد ذلك مباشرة شيد مدينة أورشليم لتكون عاصمة لمملكته الجديدة وكانت
في الحقيقة تقع في نصيب سبط بنيامين، كما أنه أفرز هذه المدينة لتكون المركز
الديني للشعب، بنقل تابوت العهد إليها، وبهذا نجح داود بحكمته وشجاعته المشهورة في
أن يزيد من اتحاد الأسباط تحت سيادته، واستطاع بصفة خاصة أن يزيد من ارتباط سبط
يهوذا بسائر الأسباط بعد أن كان – إلى ذلك الحين – يعيش لذاته. وأصبح إسرائيل تحت
حكم داود مملكة مرموقة. وفي الواقع لم يكن هذا المركز القوي مقبولاً من جيرانهم
المحيطين بهم، ولقد حاول الفلسطينيون أن يحطموا هذه المملكة الطموحة، ولكنهم
انهزموامراراً، ولكن شعوباً مجاورة أخرى – لم يأخذ منها داود موقفاً معادياً –
ناصبوه العداء لأنهم خشوا قوته. وكم كانت الحرب قاسية وشرسة ضد تحالف العمونيين
والأراميين. ومع أن الأدوميين اعتبروا أن ذلك الوقت كان ملائماً لمهاجمة إسرائيل،
فإن كل هذا الصراع قد انتهى بانتصار كامل لداود، وخضعت له كل البلاد المجاورة من
البحر المتوسط إلى حماة (2 صم 8: 9) ومن حدود لبنان – وقد وقف شعبه من داود موقف
المودة – إلى حدود مصر التي اعترفت أيضاً بنظام الحكم الجديد.

 

4- سليمان:

أما سليمان بن داود فقد عمل على التنمية الداخلية للمملكة القوية التي
ورثها عن أبيه، وكان في رأي أبيه الرجل المناسب لهذا المنصب بسبب ميوله السلمية
وقدراته العقلية الرفيعة، ولقد حقق الآمال الموضوعة فيه. ولولائه لله بنى الهيكل
على جبل صهيون، كما نظم شئون الدولة وادارة القضاء. وباتفاقياته التجارية مع
الفينيقيين (الملك حيرام) جلب الرخاء للبلاد. لقد كان عصره بحق العصر الذهبي
لإسرائيل. كما عمل على تقدم الثقافة والحضارة بصروة واضحة بين الشعب، حيث عمل على
توسيع أفقهم، وأدخل أدب الأمثال الذي كان إلى ذلك الحين مزدهراً على نطاق واسع عند
الشعوب المجاورة (أدوم – العرب – المصريين)، بل عمل على تطوير هذا الأدب إلى أعلى
مستوى. ولكن من الجانب الآخر، تسبَّب الحكم الرائع لسليمان في مخاطر شديدة للمملكة
ففكره المتحرر في معاملته لنسائه الأجنبيات بالسماح لهن بالاحتفاظ بعبادتهن
الوثنية، لأنه – على الأرجح – كان يرى أنهن – بعد كل شيء – يعبدن نفس الإله في صور
مختلفة. كل هذا كان يعرض للخطر العبادة الدينية بطقوسها المهيبة وأخلاقياتها
الصارمة. وبهذا السلوك، خسر الملك – بالضرورة – تعاطف الإسرائيليين الأتقياء. وفي
الوقت نفسه فقد تجاوز حبه للمباني الضخمة كل المقاييس التي كانت تعتبر سليمة
بالنسبة " لمسيح الرب ". كما أن مجهوداته – التي لا غبار عليها في ذاتها
– لإرساء نظام أكمل للمملكة، كانت سبباً في إثارة روح التذمر، فلم يعرف سليمان –
كما عرف أبوه – كيف يحترم الاتجاهات الشعبية الموروثة في حب الحرية. لقد شعر الشعب
بعبء الخدمات المضنية والضرائب الفادحة التي أجبروا على الرضوخ لها وبخاصة
الأفرايميين الذين كانوا بين الحين والحين يظهرون روح الغيرة إذ لم يستطيعوا أن
ينسوا سلطانهم الضائع.

5- انقسام المملكة:

لاشك في أنه طالما كان سليمان الحكيم ومشيروه في مركز القيادة لم يكن
ممكناً للاتجاهات المتمردة المتنوعة أن تظهر. ولكن بعد موته حلت النكبة. فقد برهن
ابنه رحبعام على أنه لم يتفهم الموقف إطلاقاً عندما قدم له الأفرايميون في شكيم
نوعاً من الشروط قبل تتوجيه. ولقد تسبب موقفه المتغطرس في أن تصل الأمور إلى
ذروتها. ولابد أنه كان سعيداً لبقاء سبط يهوذا على الأقل موالياً له. أما الأسباط
الشمالية فقد اختارت يربعام الأول ملكاً عليهم، ولكن قبل ذلك قد اشترك في اضطرابات
ثورية، عندما تنبأ له النبي أخيا الشيلوني بأن المملكة ستؤول إليه (1 مل 11: 26 –
40). وهكذا تمزقت إسرائيل إلى قسمين.

6- مصادر تاريخ المملكة:

وبهذا التمزق انتهت المملكة القوية التي أسسها داود. أما فيما يختص بهذه
الفترة الزاهرة من تاريخ إسرائيل فإننا نستقي معلوماتنا على وجه العموم من الكتاب
وبخاصة ما جاء في صموئيل الثاني من الأصحاح العشرين، والأصحاحين الثاني والثالث من
الملوك الأول حيث نرى أن الراوي لابد كان معاصراً للأحداث التي سجلها. ويقول
" كلوسترمان " إن هذا الراوي ربما كان " أخيمعص بن صادوق " (2
صم 15: 27)، بينما يعتقد " دوم " و " يودي " و " سيلين
" وغيرهم أن الراوي هو " أبياثار الكاهن ". أما سفرا الأخبار فلا
يرويان إلا القليل عن حياة داود الخاصة ولكنهما يذكران بالتفصيل قصة الاستعدادات
التي قام بها داود لتشييد الهيكل، وكذلك تنظيمه خدمة اللاويين. أما فيما يختص
بسليمان فإن سفري الملوك يقدمان عنه تاريخاً أكثر اكتمالاً. وفيما يختص بالملوك
الذين أتوا بعد ذلك فإنهما يقدمان لنا مقتطفات قليلة، وهي مقتطفات ثبت أنه يمكن
الاعتماد عليها. وكان هدف الراوي من قصته هدفاً دينياً، فاهتم بصورة خاصة بذكر
علاقة الملوك المختلفين بالعبادة. كما يسرد لنا سفر الملوك القصص التفصيلية عن
النبيين الكبيرين إيليا وأليشع، والتي ادمجت في تاريخ المملكتين. ومن الجانب الآخر
نرى أن سفري الأخبار لم يتضمنا أي إشارة لعمل هذين النبيين في المملكة الشمالية،
إذ إنهما يتجاهلان كلية تاريخ المملكة الأفرايمية، إذ أن محور الاهتمام فيهما هو
الهيكل الذي في أورشليم. وبالنسبة لتاريخ سبط يهوذا فإن سفري الملوك – وهما الأقدم
– يقدمان لنا صورة أكثر تفصيلاً. ومع ذلك فإننا مدينون لكاتب الأخبار بكثير من
العطاء لهذا التاريخ، والزعم بأن كل ما تضمنه سفرا الأخبار مما لم يأت في سفري
الملوك غير تاريخي، ثبت أنه لا أساس له، فمثلاً من المستحيل فهم النبوات الأولى
لإشعياء في أثناء حكم يوثام لو لم نعرف من سفر الأخبار مقدار التقدم والنجاح
والقوة التي استعادها شعب أورشليم في ذلك الوقت، لأن سفر الأخبار الثاني هو الذي
يعطينا صورة عن الازدهار الذي حدث في عهد سلفه " عزيا "، وهو الأمر الذي
رواه سفر الملوك باختصار.

 

7- التوقيت التاريخي للأحداث:

يعتمد ترتيب الأحداث في الفترات الأولى لعصر الملوك على تاريخ انقسام
المملكة. هذا التاريخ يمكن تحديده على أساس التوقيت التاريخي الدقيق لسفري الملوك
والذي يمكن مطابقته مع توقيت الأحداث في الكتابات الأشوريه. فإذا اتفقنا مع
كامبهوزن وأوتلى وكيتل على اعتبار أن سنة 937 ق.م هي سنة الانقسام، نجد أن سليمان
حكم من سنة 977 إلى سنة إلى سنة 937 وداود من سنة 1017 إلى 977 ق.م أما مدة حكم
شاول فغير معروفة إذ أن ما جاء في صموئيل الأول (13: 1) غير واضح ويمكن أن نعتبر
مدة حكمه حوالي 20 سنة.

كما يذكر يوسيفوس، أي من سنة 1037 – 1017 ق.م. وفي هذه الحالة يكون داود قد
نقل مقر حكومته إلى أورشليم في سنة 1010 ق.م تقريباً. ويكون اكتمال تشييد هيكل
سليمان قد حدث في سنة 966 ق. م ولكن هذا التاريخ الأساس (937 ق.م) لا يقبله كل
العلماء. فإن كلوسترمان يحدد تاريخ انقسام المملكة بسنة 978. أما كوهلر فيحددها
بسنة 973. وتعتبر المصادر الأشورية مصادر هامة بالنسبة لتوقيت الأحداث اللاحقة.
فقد اعتاد الأشوريون أن يسموا كل سنة باسم واحد من الحكام، ووصلتنا قوائم بأسماء
من هذا النوع تغطي مدة 228 سنة. وفي هذه نجد إشارة لكسوف الشمس، تحدد حدوثه فلكياً
في 15 يوليو سنة 763 ق.م وبذلك تغطى هذه القائمة الفترة من 893 إلى 666 ق.م، على
هذا الأساس يمكن تحديد التواريخ الدقيقة للحملات العسكرية المختلفة التي قام بها
الحكام الأشوريون وصراعهم مع ملوك يهوذا وإسرائيل على افتراض أن المخطوطات
الأشورية المستخدمة هنا تشير إلى هؤلاء الملوك حقيقة حتى ولو أهملت عدداً منهم.
ومما يساعدنا على تحديد توقيت أحداث تلك الفترة، سقوط السامرة في سنة 722 ق.م.
وحملة سنحاريب على أورشليم سنة 701، ثم سقوط أورشليم في سنة 587 ق.م – 586 ق.م
ولكننا نري أن توزيع السنوات من هذه التواريخ للملوك كل على حدة غير مؤكدة لاحتمال
وقوع أخطاء في نسخ الأرقام، وكذلك لاحتمال تزامن بعض الأحداث التي تذكر وكأنها
متعاقبة.

سابعاً – عصر المملكتين المنقسمتين:

1- التناقضات والتقلبات التي حدثت
في المملكتين:

كانت المملكتان المنقسمتان تختلفان اختلافاً أساسياً. فقد كانت مملكة
أفرايم أكثرهما قوة. فقد ضمت بالتقريب عشرة أسباط، وبصورة عامة ظلت البلاد التابعة
لها – كموآب مثلاً – خاضعة لها حتى حررت نفسها. ولكن من الناحية الأخرى لم تكن هذه
المملكة الشمالية ثابتة من الناحية الروحية كما أن مقر إقامة الملك تغير مراراً،
إلى أن أسس " عمري " مدينة السامرة التي أوفت بالغرض من إقامتها. كما أن
الأسرات التي ملكت كانت أيضاً قصيرة الأجل، ولم يحدث – إلا نادراً – أن تمكنت أسرة
مالكة من الاحتفاظ بسيادتها على العرش أجيالاً عديدة. فقد فشت في هذه المملكة
الحركات الثورية، وكانت هذه هي نقطة ضعفها المستمر. ومن الجانب الآخر فإن مملكة
يهوذا الصغيرة التي كثيراً ما غُلبت على أمرها، والتي احتفظت بولائها لنسل داود
الملكي، اجتازت هي أيضاً في أزمات خطيرة كما تولى أمرها عدد من الملوك غير
الجديرين بها. ولكن البيت الملكي الشرعي المختار من الرب شكّل رابطة روحية قوية
وحدت الشعب كما نرى مثالاً لذلك في أقوال إشعياء الذي كان مقتنعاً اقتناعاً كاملاً
بأهمية بيت داود بغض النظر عما يبدو له من عدم جدارة الملك الحاكم في ذلك الوقت.
ومن الناحية الدينية أيضاُ فإن الانفصال الشرير عن صهيون كان عاملاً حاسماً في
تقرير مصير المملكة الشمالية.

ت الملوك المتعاقبون:

1- يربعام:

كان الأنبياء الأمناء لله أمثال " أخيَّا الشيلوني " – الذي سبق
ذكره – " وشمعيا " – (1 مل 12: 22 إلى آخره)، قد أعلنوا أن إنقسام
المملكة كان قضاء إلهياً مقصوداً من الرب، ولكنهم سرعان ما اضطروا لإدراك أن
يربعام لم يعتبر نفسه عبداً لله بل ملكاً طاغية استطاع أن يحتفظ بالحكم بقوته
الشخصية واستمالته للشعب، ومن ثم استطاع باستبداده أن يقرر كل الأمور الخاصة
بالعبادة والأماكن المقدسة للشعب. وبإرادته الحرة ولأسباب سياسية أقام معبداً
جديداً للشعب في بيت إيل وآخر في دان، وفي كلا المكانين عبدوا الله في صورة عجل،
ليكون بديلاً وثنياً لتابوت العهد الذي في جبل صهيون، وبارتكاب هذا الأمر، سار
الملك وراء العادات الشعبية القديمة التي انحرفت عن نقاوة العقيدة الموسوية. ولا
شك في أن رحلته إلى مصر حيث عاش هناك كلاجيء، أنشأت فيه الدوافع لهذا الاتجاه، كما
ابتدع كهنوتاً خاضعاً لرغباته، وأغفل معارضة الأنبياء القلائل الذين احتجوا على سياسة
الملك. وسار الملوك الذين أتوا بعده أيضاً " في طريق يربعام ". أما
الأنبياء المستقلون، فلم ينقطع وجودهم، بل بالحري بلغت النبوة أوج نشاطها في هذه
المملكة الشمالية بالذات. واستمر الأنبياء – كقاعدة عامة – في معارضة الحكومة، وقد
نجحوا في بعض الأحيان في اعتراف الحكام بهم.

2- عمري:

تميزت العصور الأولى من انقسام المملكة – من وجهة النظر السياسية – بأن
ممالك الفرات والدجلة في أشور وبابل، كانت مازالت مشغولة بالعلاقات فيما بينها،
ومن ثم لم تقم بغزوات إلى بلاد البحر المتوسط، إلا أن الأراميين كانوا سبب كثير من
المتاعب للمملكة الشمالية فلم ينجح يربعام في تأسيس أسرة مالكة، فقد فتن بعشا
المغتصب على ناداب بن يربعام وقتله كما أغتيل " إيلة " بن بعشا بعد حكم
دام سنتين، ومع ذلك فلم ينجح قاتله " زمري " " ولاتبني " في
الاستيلاء على الملك، ولكن " عمري " هو الذي أصبح ملكاً (1 مل 16) وقد
امتدت شهرته إلى الخارج حتى إن المخطوطات المسمارية ظلت لوقت طويل تطلق على
إسرائيل " بلاد عمري "، وظهرت قدرته كحاكم في أنه هو الذي أسس مدينة
السامرة لتكون العاصمة. كما تسجل نقوش " حجر ميشع " (حجر موآب) أنه أرسى
أيضاً سيادة إسرائيل بقوة في شرقي الأردن.

3- أخآب:

أما أخآب ابنه فكان أيضاً حاكماً نشيطاً وشجاعاً نجح في إحراز عدة إنتصارات
على الأراميين الذين أخذوا على عاتقهم في ذلك الحين مهمة الهجوم والعدوان بإصرار
كذلك كان أخآب سياسياً بدرجة تكفي لاحتواء مملكة يهوذا لصالحه هو، في حين عاش
أسلافه في حالة حرب مستمرة معها. وكان سبب نجاحه في سياسته هذه أن الملك "
يهوشافاط " كان نبيلاً وصاحب قلب كبير، وكان أكثر تقبلاً لهذه العلاقات
الأخوية على حساب مصلحته هو. ففي حملة مشتركة قام بها هذان الملكان ضد أرام تعرض
يهوشافاط لخطر عظيم، وانتهت بموت أخآب.

وكانت مصيبة أخآب في زوجته " إيزابل " ابنة أثبعل ملك الفينيقيين
والذي كان كاهناً للآلهة عشتاروت. هذا التزاوج مع أسرة وثنية متعصبة، جلبت على
إسرائيل مصائب بالغة لم تنته. هذه المرأة الجريئة الداهية، كان هدفها الوحيد هو
الإطاحة بديانة " يهوه " واستبدالها بعبادة البعل وعشتاروت، وقد نجحت –
كخطوة أولى – في أن تجعل الملك يتسامح مع هذه الديانة وأصبح الهيكل الرئيسي في
مدينة السامرة مكرساً لعبادة البعل. وكان دخول هذه الديانة الوثنية الفاسقة خطراً
داهماً على ديانة الشعب وأخلاقياته.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ن نذر 1

واجتاحت البلاد أعداد ضخمة من كهنة البعل وكهنة السواري وسرعان ما بدأت
الملكة باضطهاد عبيد الرب الأمناء فقد اعتبرت احتجاج هؤلاء الأمناء ضد التسامح مع
هذه الديانة الأجنبية الباطلة، عصياناً ضد الملك، وكانت النتيجة أن قتل عدد كبير
من الأنبياء الأمناء. وفي هذه الفترة الحرجة عندما أصبحت عبادة يهوه في مأزق حرج،
ظهر النبي إيليا التشبي على مسرح الأحداث. وبعد صراع مرير أعاد عبادة يهوه. ولكن
البذرة المميتة التي زرعتها تلك المرأة لم تكن قد تحكمت بعد، بل أمتد أثرها إلى
يهوذا أيضاُ.

4- رحبعام:

أما في مملكة يهوذا، فبغض النظر عن ارتداد الأسباط، حتى لم يبق له سوى سبط يهوذا
القوى والبعض من بنيامين ودان وشمعون ولاوي، فقد تعرض رحبعام لنكبات أخرى وبخاصة
الغزو المدمر " لشيشق " ملك مصر وفرضه الجزية عليهم. (وهو شيشق مؤسس
الأسرة الثانية والعشرين – 1 مل 14: 25 و 26، 2 أخبار 12: 2 – 9). فبينما كانت
العلاقات في عهد سليمان بين إسرائيل وبلاط مصر في البداية ودية، إلا أن هذا قد
تغير عندما ارتقت العرش أسرة جديدة فبعد أن فشل يربعام في تمرده الأول على سليمان
وجد ملجأ له في بلاط شيشق (1 مل 11: 40)، ويحتمل أن يكون يربعام هو الذي أغرى ملك
مصر بكنوز أورشليم. وفي الحقيقة لم يتوقف المصريون عند تخوم أفرايم ولكنهم غزوا
أجزاء من أراضي يربعام، ولكن كانت أورشليم هي هدفهم الرئيسي وحملوا منها الكنوز
التي كان قد جمعها سليمان. وقد نقش هذا الفرعون على جدران معبد الكرنك قصة هذا
الانتصار وهذه الغنائم. ومن أسماء المدن الموجودة في هذه النقوش نعلم أن هذه الحملة
امتدت إلى " مجدو " " وتعنك ".

5- أبيا أو أبياهو:

وجاء بعد رحبعام ابنه أبيا كما جاء في أخبار الأيام " ويذكر اسمه
" أبيام " في سفر الملوك) وحكم ثلاث سنين، ورغم هذه الفترة القصيرة في
الملك، اضطر للدخول في صراع مرير مع يربعام (1 مل 15: 1 – 8، 2 أخ 13).

6- آسا:

كان حكم " آسا " – الرجل الخائف الله والذي عمل على تحطيم
الوثنية التي تغلغت في العبادة – حكماً موفقاً، كما أنه اختبر أيضاً معونة الله
العجيبة عندما قام زارح الكوشي بغزو بلاده (2 أخ 14: 9 – 15). ويحتمل أن يكون زارح
هو " أسركون الأول " الذي لم يكن ينتمي لأسرة كوشية. وربما أطلق عليه
اسم " الكوشي " لأنه جاء إلى البلاد على رأس قوة نوبية. أما سلوك آسا في
نزاعه مع بعشا فقد كان أقل نبلاً، فعندما تعرض لضغط شديد من بعشا، دفع ثمناً
باهظاً للحصول على معونة بنهدد الأول ملك أرام الذي كان في ذلك الحين حليفاً لبعشا.
وقد وبخ نبي جريء الملك التقي لأنه قام برشوة الأجانب لمحاربة شركائه في العهد،
الأمر الذي تكرر بعد ذلك مراراً. ولكن النبي تعرض للإهانة في السجن لشهادته
الصريحة (2 أخ 16: 7).

7- يهوشافاط:

 لقد كان يهوشافاط أكثر نبلاً في علاقته بالمملكة
الشمالية، وكانت غلطته أنه اندمج كلية فيما عرضه عليه أخآب بدوافعه الأنانية.
وكانت أسوأ خطوة أنه – لكي يؤكد عهده مع أخآب – أخذ عثليا ابنة إيزابل زوجة لابنه
يهورام. لقد كان يهوشافاط حليفاُ شهماُ إذ أنه اشترك أيضاً مع يهورام بن أخآب في
حرب خطيرة ضد الموآبيين الذين تحرروا من نير إسرائيل بقيادة ملكهم ميشع وناصبوهم
العداء. أما بالنسبة للشئون الداخلية للمملكة فقد كان ملكه أسعد حظاً. فقد كان
يخاف الله كما كان قائداً نشيطاً بذل الكثير للارتفاع بالشعب مادياً وروحياً، كما
عمل على اكتمال أنظمة البلاد السياسية، كما حقق نجاحاً واضحاً. وعلى كل حال فإن
التحذيرات التي وجهها إليه الأنبياء الذين وبخوه لتحالفه مع بيت عمري شبه الوثني،
لم تكن مبالغات من أنبياء متشائمين، إذ إنها تحققت بعد وفاته مباشرة.

 

8-يهورام:

فحالما ملك ابنه يهورام، قتل جميع إخوته بالسيف حسب العادة الجارية عند
الطغاة، وكان هذا بلا شك بإيعاز من عثليا. لقد حاولت تلك المرأة نقل سياسة إيزابل
إلى يهوذا، كما كانت تخطط لإسقاط بيت داود ومقدسه. ونتيجة لهذا أخذت قوة يهوذا في
أثناء حكم يهورام في التدهور السريع. فاستقلت أدوم، ونهب الفلسطينيون والعرب
أورشليم. وقتل كل الأمراء باستثناء أخزيا الابن الأصغر لعثليا، وعندما اعتلى أخزيا
العرش، قبضت عثليا على كل السلطة في يدها.

9-ياهو:

في أثناء ذلك كانت دينونة بيت عمري تقترب بسرعة. وكان المنفذ للانتقام هو
ياهو المتهور الذي مسحه واحد من تلاميذ أليشع ملكاً في مخيم راموت جلعاد، وطبقاً
لما جاء في الملوك الأول (19: 16) فإن هذا الأمر كان قد صدر لإيليا ليمسح هذا
الرجل ملكاً على إسرائيل، ولكن يبدو أن تنفيذ هذا الأمر كان قد أُرجيء. وحالما علم
ياهو بإسناد هذه المهمة إليه، أسرع إلى يزرعيل حيث كان أخزيا ملك يهوذا في زيارة
ليهورام وقتلهما كليهما. وبقساوة لا ترحم امتدت اغتيالاته ليس فقط لأفراد بيت عمري
بما فيهم إيزابل، ولكن أيضاً لأعداد كبيرة من بيت داود الملكي الذين وقعوا بين
يديه. كما حطم الموالين للبعل الذين دعاهم ليواجهوا الموت في بيت البعل بالسامرة.
ونرى في سفر الملوك الثاني (10: 30) أنه مع أن بيت يربعام كان يستحق القضاء الذي
نفذه ياهو حسب الأمر العالي، لكنه نفذ هذا بفكر شرير وبقسوة ليحقق طموحاته، إلا أن
الركابيين الأتقياء أقروا عمله هذا. ولكن عندما انكشفت حقيقة شخصية ياهو، خسر
تعاطف الأتقياء، وأعلن النبي هوشع النقمة على بيته لجرائمه الدموية في يزرعيل
(هوشع 1: 4).

10-الأشوريون:

حدث في ملك ياهو أن زحف الأشوريون في اتجاه الغرب، وكان هذا الشعب في عهد
أخآب بقيادة الملك شلمناصر الثاني قد شق طريقه حتى قرقر على نهر الأورنت حيث
التحموا في سنة 854 ق.م في معركة مع الأراميين وحلفائهم الذين ذكر بينهم أخآب،
واستخدموا في هذه المعركة 2000 مركبة وعشرة آلاف جندي. فإذا كان هذا هو حقاً أخآب
ملك إسرائيل – مع أن البعض ينكرون ذلك – فيكون حينئذ هو الذي حارب الأشوريين
متعاوناً مع الأراميين الذين سبق أن هاجمهم بعنف. ومع أن الأشوريين يباهون بهذا
الإنتصار، إلا أنه يبدو أنه قد كلفهم ثمناً باهظاً فلم يتوغلوا غرباً أبعد من ذلك.
وعندما عاود شلمناصر الهجوم مرة أخرى في سنة 842 ق.م، لم يكن ياهو بالتأكيد بين
حلفاء الأراميين. ويبدو أن الأشوريين في هذه المرة لم يعترضهم تحالف قوي فتمكنوا
من مهاجمة الأراميين وهزموهم في موقعة جبل سنير (حرمون مقابل لبنان) هزيمة منكرة،
كما حاصروا دمشق وخربوا البلاد المجاورة، وأصبحت حوران وباشان مقفرتين. وفي مسيرة
الانتصار اكتسحوا البلاد حتى البحر المتوسط، ودفع الفينيقيون وبلاد أخرى الجزية.
ومن بين هذه الشعوب يذكر شلمناصر بصورة خاصة " ياهو " ويسميه "
ياهو بن عمري " الذي أُجبر على تسليم سبائك من الذهب والفضة وأشياء أخرى
ثمينة، ولكن ياهو لم ينتفع كثيراً من تقديم فروض الطاعة لشلمناصر، فقد جاء عليه
شلمناصر مرة أخرى في سنة 839 ق.م. وبعد ذلك لم يظهر الأشوريون مرة أخرى لفترة بلغت
35 سنة، ولكن زادت الهجمات من الآراميين وجيرانهم على إسرائيل. ويقدم لنا الأصحاح
الأول من نبوة عاموس صورة للتخريب الرهيب الذي أحدثوه بإسرائيل.

11- يهوآحاز:

وفي أيام يهوآحاز بن ياهو ازداد ضعف إسرائيل، وفي حيرته أرسل له الرب
مخلصاً (2 مل 13: 3 – 5)، ولم يكن هذا المخلص سوى هدد نيرارى الثالث ملك أشور (812
– 783 ق.م) الذي استطاع في غزوة عسكرية أن يعيد تأمين سيطرته على منطقة أسيا
الغربية، وبمحاصرته لملك دمشق أجبره على دفع جزية ضخمة. وبهذا تخلصت إسرائيل –
التي خضعت له بمحض إرادتها – من معاناتها بعد أن عمل ملك أشور على إضعاف أرام.

12- يهوآش:

أما يهوآش بن يهوآحاز فقد كانت الظروف حوله مواتية. فقد هزم أمصيا ملك
يهوذا، كما نجح ابنه يربعام الثاني في استعادة الحدود القديمة للمملكة كما تنبأ
النبي يونان (2 مل 14: 24 – 29) وكان ملكه هو نهاية عصر الازدهار لمملكة أفرايم.

13- عثليا:

في ذلك الوقت اجتازت مملكة يهوذا أزمات قاسية، وكانت أشد هذه الأزمات
استيلاء عثليا على الملك، فبعد أن قتل ياهو ابنها أخزيا أحكمت قبضتها على أورشليم
واستغلت هذه السلطة في محاولة لاستئصال بيت داود من جذوره، ولم ينج بحياته إلا
يوآش ابن الملك. وإذ كان عمره سنة واحدة خبأته عمته في الهيكل، وتولي يهوياداع
رئيس الكهنة الذي كان من الجماعة المناهضة للملكة الوثنية، المحافظة عليه لمدة ست
سنوات، وعندما بلغ الصبي السابعة، وفي لحظة مناسبة، نادى به يهوياداع ملكاً.
وباعتلائه العرش الأمر الذي ارتبط به مقتل عثليا الشريرة – بدأ في نفس الوقت رد
فعل نشط ضد الوثنية التي كانت قد وجدت طريقها – بالتأكيد بتأثير الملكة الشريرة –
إلى يهوذا. وكان المنتتظر من يوآش أن يكون ملكاً يدعو لعبادة الله، وفي الحقيقة
سار في بداية ملكه – الذي امتد 40 سنة – ملازماً للكهنة وأنبياء الرب، ولكن بعد
موت يهوياداع سمح لرؤساء يهوذا بعبادة الأصنام (2 أخ 24: 17 – 23) وبهذا دخل في
صدام مع زكريا النبي الأمين – ابن ولي نعمته يهوياداع – الذي وبخه على خطيته، حتى
أمر الملك برجمه. وكان الجزاء العادل لهذا الذنب أن حلت المصائب بالملك وبالبلاد.
فعندما قام حزائيل ملك أرام بحملته ضد " جت " استولى أيضاً على أورشليم
وأجبرها على دفع الجزية، بعد أن أوقع هزيمة قاسية بشعب يهوذا، فسقط كثيرون من
الرؤساء كما جرح الملك يوآش جرحاً شديداً، وقرب نهاية ملكه حدث استياء شديد بين
رعاياه، وأخيراً قتله بعض رجال بلاطه (2 مل 12: 20 و 21).

14 – أمصيا:

وعلى كل حال قام ابنه أمصيا، بعد اعتلائه العرش، بمعاقبة القتلة، كما نجح
الملك في محاربة الأدوميين فزاده هذا جسارة فغامر بمقاتلة يوآش ملك إسرائيل، ولكنه
انهزم ووقع في الأسر وذل شعب يهوذا جداً، وهدم جزء كبير من سور أورشليم (2 مل 14: 11
– 14) ولم يأمن أمصيا على نفسه حتى في عاصمة ملكه لعدم رضاء رعاياه عنه، فهرب إلى
لخيش حيث قُتل هناك وكان سقوط يهوذا عظيماً، في حين نجح يربعام الثاني في النهوض
بمملكته إلى حد لم يكون يخطر بالبال.

15- عزيا:

ولكن تحسنت أمور يهوذا في عهد عزيا بن أمصيا (وهو يُدعى عزريا في سفر
الملوك) إذ تمتع بملك طويل مزدهر.

16 – الأنبياء كتبة الأسفار:

بقدر المظهر المزدهر الذي بدت عليه إسرائيل في أثناء حكم هذين الملكين
يربعام الثاني وعزريا، فإن الأمور الدينية والأخلاقية للشعب كانت غير مرضية. وكانت
هذه شهادة النبيين عاموس وهوشع، ثم إشعياء وميخا اللذين بدأ خدمتهما النشطة في
يهوذا بعد ذلك بقليل. وفي الحقيقة لم يكن هؤلاء هم أول الأنبياء الذين سجلوا بعضاً
من نبواتهم التي نطقوا بها. فنبوات عوبديا ويوئيل قد وضعها الكثيرون في تاريخ سابق.
فوضعوا عوبديا في عهد يهورام في إسرائيل، ويوئيل في عهد يوآش في يهوذا. على أي حال
فإن أقوال الأنبياء منذ ذلك الوقت فصاعداً تكَّون مصدراً تاريخياً هاماً معاصراً
للأحداث. فهي توضح بصفة خاصة الحالة الروحية للأمة. وفي هذه الكتابات نجد الشكاوى
ضد الخرافات والطقوس الوثنية التي انتشرت بين الشعب، وبخاصة الفساد في تنفيذ
القوانين وظلم الأثرياء والأقوياء للفقراء والمساكين، وكذلك حياة التعالي
والرفاهية بأنواعها. وقد رأى الأنبياء في هذه جميعها الارتداد الرهيب من جانب
إسرائيل. وكذلك السياسة الخارجية للملوك المختلفين الذين التمسوا معونة القوى
العالمية في ذلك الوقت، (مصر وأشور) تارة من هنا وتارة من هناك، محاولين شراء
تأييد هذه الأمم. كل هذه اعتبرها الأنبياء زنا مع الأمم الأجنبية وخيانة للرب.
وعقاباً لكل هذا – وحيث لم تفلح فيهم كل المصائب التي حلت بهم – أعلن هؤلاء
الأنبياء وقوع غزو من احد الفاتحين – وقد أشار عاموس وهوشع بأنه ملك أشور، وكذلك
سبي الشعب إلى بلاد وثنية ووضع نهاية للدولة اليهودية. ومع أن شعب السامرة الراضين
عن أنفسهم اعتبروا هذه التهديدات غير محتملة الحدوث، فإنها تحققت بسرعة.

17- خلفاء يربعام الثاني:

بعد موت يربعام انهارت قوة المملكة الشمالية ولم يتمكن ابنه زكريا من
الاحتفاظ بالعرش أكثر من ستة أشهر، وكذلك شلوم، الذي قتله، لم يبق إلا شهراً
واحداً فقط أما قائد الجيش منحيم الذي أطاح بشلوم، فقد استطاع أن يحتفظ لنفسه
بالملك لمدة عشر سنوات وكان ذلك بعد أن دفع جزية باهظة لفول ملك أشور، وهو تغلث
فلاسر الثالث الذي حكم من 745 – 727 ق.م (2 مل 15: 19 – 20).

18- فقح:

أما ابنه فقحيا فقد قتله فقح بن رمليا (2 مل 15: 25) الذي تحالف مع أرام ضد
يهوذا، فاستعان يهوذا بالأشوريين ليدخلوا البلاد. وبدخولهم في سنة 734 ق.م وضعوا
نهاية لحكم هذا المغتصب الذي قتل بالفعل في سنة 730 ق.م.

19- هوشع:

كان هوشع آخر ملوك المملكة الشمالية (730 – 722 ق.م) مديناً بعرشه
للأشوريين ولكنه لم يحافظ على تبعيته لهم طويلاً، فبمجرد موت تغلث فلاسر، حاول أن
يطرح عنه نير الأشوريين، ولكن شلمناصر الرابع (727 – 723 ق.م) الذي جاء بعده والذي
أخضع في السنة الأولى من حكمه إليولاوس ملك أرام المتمرد، أجبر هوشع على الخضوع
لنفوذه أيضاً. ولكن بعد سنتين اشترك هوشع في مؤامرة مع الفينيقيين ضد أشور اعتمدوا
فيها على معونة ملك مصر الذي جاء ذكره في الكتاب المقدس باسم " سوا " (2
مل 17: 4، لعله الاسم المصري " ساباكا"). وهنا نفذ صبر الأشوريين،
فجاءوا بجحافلهم، ويبدو أن هوشع استسلم فوراً للملك العظيم الذي اعتقله، ولكن
الشعب استمر في المقاومة وحوصرت العاصمة السامرة، ولكنها لم تسقط في يد الأعداء
إلا في السنة الثالثة (722 ق.م). وكان شلمناصر قد مات في تلك الأثناء وخلفه سرجون
الثاني. وفي الواقع لم تُدمر المدينة ولكن سُبي جزء كبير من السكان وبخاصة الرؤساء
ونقلوا إلى شمالي بلاد ما بين النهرين ومادي. ويذكر سرجون أن عدد المسبيين من
اليهود كان 27.290 نسمة. ولا شك في أنه كان من بين هؤلاء المسبيين أشخاص مرموقون
من مدن أخرى. ومن الجانب الآخر جاء ملك أشور بأسرى الحرب البابليين والأراميين
وأسكنهم في السامرة (721 ق. م) وجاء بالعرب أيضاً في سنة 715 ق. م. ولكن ظلت
البلاد في حالة خراب إلى أن جاء آسرحدون (680 – 668 ق. م) وكذلك أشور بانيبال (667
– 626 ق.م) فأرسلا إلى هناك مستوطنين جدداً، من بابل ومادي وفارس (2 مل 17: 24 –
26). وفي هذه الأعداد يتكرر ذكر " كوث " المدينة البابلية، حتى أطلق
اليهود فيما بعد على السامريين اسم " الكوثيين ". وكذلك نقرأ في هذا
الجزء عن الديانات التوفيقية (التوفيق بين خليط من الديانات) التي نشأت بالضرورة
عن اختلاط الشعوب.

ولكننا ينبغي أن لا نقلل من عد الإسرائيليين الذين بقوا في البلاد فإن
فريدريك ديلتز يبالغ جداً، إذ يذكر أن معظم سكان بلاد السامرة وكذلك الجليل كانوا
– منذ ذلك الوقت فصاعداً – بابليين.

 

 

20- عزيا ويوثام وآحاز:

وعلى كل حال استطاعت مملكة يهوذا أن تتفادى الخطر الأشوري. وعندما أصيب
الملك عزيا في أواخر حياته بالبرص، أشرك معه ابنه يوثام. وتبين من أقوال إشعياء
والتي ترجع إلى ذلك الوقت (إش 2 – 4: 5) أن الشعب في ذلك الوقت كان مازال يتمتع
بثمار و ازدهار فترة سلام طويلة. ولكن بعد موت يوثام مباشرة، وعندما بدأ آحاز
الشاب في الحكم، انقض عليهم تحالف الأراميين وإسرائيل بقيادة رصين وفقح، وكان
الهدف من هذا التحالف القضاء على بيت داود في أورشليم بغرض إدخال هذا الشعب أيضاً
في حلف ضد الأشوريين الخطرين. ويبدو أن جيش يهوذا مع ضخامته سقط فريسة أمام جيش
الحلفاء الذي كان يفوقهم قوة وذلك قبل أن يتحقق الموقف المذكور في الأصحاح السابع
من إشعياء، حيث يذكر أن حصار المدينة كان وشيك الحدوث، كما تقدم الأدوميون في ذلك
الوقت أيضاً نحو يهوذا وسقطت إيلات في أيديهم، وهي الميناء على البحر الأحمر الذي
أرسل منه عزيا – كما فعل سليمان من قبل – سفناً تجارية. والأرجح أن ما جاء في ملوك
الثاني (6: 6) يشير إلى أدوم وليس إلى أرام (2 أخ 28: 17). ورغم نصيحة إشعياء، لجأ
آحاز – في حيرته – إلى ملك أشور الذي جاء فعلاً في سنة 734 ق.م وانتصر على قوات
أرام وأفرايم كما رأينا آنفاً. ومع ذلك فإن تدخل هذه القوة الكبرى العالمية لم
ينفع يهوذا شيئاً، فبدون هذه الاستعانة المخزية كان لابد أن يحمي الله أورشليم
حسبما ذكر إشعياء لو أن آحاز قد آمن بذلك، فلم يمنع الأشوريون الفلسطينيين
والأدوميين من الهجوم على يهوذا، بل أن الأشوريين أنفسهم أصبحوا أكبر خطر يهدد
يهوذا. ولم يكن آحاز شخصية مستقرة في الأمور الدينية، فقد قلد المظاهر الوثنية في
العبادة، بل قدم ابنه ذبيحة لإله الشمس الغاضب ليكتسب رضاه. وكانت الجزية الثقيلة
التي كان على الشعب أن يدفعها للأشوريين عبئاً أثقل كاهل تلك المملكة الصغيرة.

21- حزقيا:

أما ابنه الرجل النبيل والخائف الله حزقيا (724 – 696 ق. م) فقد عانى من
نتائج هذه الحكومة الفاسدة كما تعرض لتجربة كبيرة للدخول في تحالف مع جيرانه ومع
المصريين – الذين كانوا يمتلكون سلاح فرسان قوياً – لتحرير يهوذا من نير الأشوريين
الثقيل.

وعبثاً حاول إشعياء التحذير من هذه المعونة الشريرة. وحدث نتيجة لنصائح
رجال حزقيا وكذلك للثقة التي وضعوها في مصر، أن رفضوا دفع الجزية للأشوريين، كما
حاول حزقيا إقامة علاقات أوثق مع " مرودخ بلادان ملك بابل وعدو الأشوريين،
الذي أرسل رسلاً إلى أورشليم لتهنئة الملك باستعادة صحته بعد مرض خطير أصابه. هذه
القصة الواردة في الأصحاح العشرين من ملوك الثاني ترجع حسب تاريخ الأخبار إلى ما
قبل أحداث الأصحاح الثامن عشر من ملوك الثاني (18: 13 – 37) وعلى وجه الدقة إلى
السنة الرابعة عشرة لحزقيا (18: 13). وعلى كل حال فإن حملة سنحاريب حدثت بعد ذلك
بعدة سنوات، فطبقاً للآثار الأشورية كان ذلك في سنة 701 ق.م.

22- سنحاريب:

في سنة 702 ق.م زحف سنحاريب على رأس جيش قوى إلى لبنان وأخضع الفينيقيين
المتمردين وسار بمحازاة البحر إلى فلسطين. وكان سكان عقرون قد أرسلوا ملكهم "
بادي " الذي تودد أولاً إلى الأشوريين، إلى حزقيا، فجاء سنحاريب لمعاقبة
عقرون وأشقلون، ولكنه كان يتوق جداً للسيطرة على بلاد يهوذا التي دمرتها جحافله
وأخلتها من سكانها. وعندما أدرك حزقيا الخطر المحدق به، عرض أن يخضع لسنحاريب،
الذي قبل هذا الخضوع بشرط دفع جزية باهظة قدمها حزقيا له (2 مل 18: 14 – 16). ولكن
لم يقنع سنحاريب بالجزية وحدها فأرسل قواته لتدمير أورشليم ولكن النبي إشعياء الذي
لم يقر التمرد على سيادة أشور وتنبأ عن العقاب الشديد الذي سيحل بسكان أورشليم،
بدأ من اللحظة التي نفض فيها سنحاريب الفاتح كلمته بخبث، يتحدث بكلمات التعزية،
ونصح بعدم تسليم المدينة مهما بدا الموقف ميئوساً منه (إش 37: 5 – 7) وفعلاً لم
تستسلم المدينة واضطر سنحاريب للتراجع نتيجة وقوع بعض الأحداث. وأخيراً بسبب حدوث
وباء في جيشه اضطر إلى الانسحاب نهائياً فلم يرجع إلى أورشليم بل لقى حتفه بعد ذلك
بأيدي ولديه.

وكان انقاذ أورشليم بعناية إلهية معجزية هو اكبر انتصار للنبي إشعياء. أما
في مجال مملكته فقد نجح حزقيا في حكمه. كما أنه طهر العبادة من النفوذ الوثني الذي
كان قد تغلغل فيها. وكان سلفاً ليوشيا الذي أبطل الذبائح التي كانت تقدم فوق
المرتفعات نتيجة لهذه التأثيرات الوثنية.

23- منسى:

وللأسف لم يكن منسى جديراً بخلافته. فقد أيد بكل الطرق عبادة الأصنام التي
كانت تنمو في الخفاء، كما أوقع اضطهاداً دموياً على أنبياء الله الأمناء. وطبقاً
لتقليد قديم (ينبغي أن نعترف بأنه لا تؤيده شهادة مؤكدة) فإن إشعياء أيضاً – وكان
قد أصبح شيخاً – وقع ضحية لهذه الاضطهادات. كما أقيمت علانية تماثيل ومذابح للبعل
ولعشتاروث، بل حتى في بيت الرب، الذي كان في جبل صهيون، أقيمت سارية لعشتاروث.
وكان من نتيجة تلك العبادة الوثنية أن انتشر الفساد والدعارة بين الشعب. وفي نفس
الوقت كانت عبادة مولك الرهيبة في وادي ابن هنوم تستلزم تقديم الأطفال كذبائح، حتى
إن آحاز قدم ابنه فعلاً ذبيحة لهذا الوثن , ويخبرنا سفر الأخبار عما حاق بمنسى من
المصائب، وذلك أن أحد القادة الأشوريين ساقه إلى بابل مقيداً بالأغلال لأنه نقض
عهوده معهم، ولكنه أخلى سبيله بعد ذلك. ويبدو أنه اشترك في تمرد قام به شقيق ملك
أشور الذي كان نائبأ للملك في بابل. ولعل هذا الاختبار المؤلم دفع منسى إلى نوع من
التوبة فكف – على الأقل – عن تدنيسه الرديء للمقدسات. ولكن ابنه آمون تمادى في طرق
أبيه القديمة فقُتل هو أيضاُ بعد أن ملك سنتين.

24 – يوشيا:

أما ابنه يوشيا الذي اعتلي العرش وهو في الثامنة من عمره فكان يبشر بخير
كثير. ويحتمل أن تكون أمه قد أثرت كثيراً في شخصيته. أما فيما يختص بيوشيا
فبالرجوع إلى الأصحاح الثاني والعشرين من ملوك الثاني (22: 1 – 20) نجد أنه شرع
بكل قوة ووضوح في العمل على الاصلاح الديني. وكان اكتشاف سفر قديم للشريعة في
الهيكل دافعاً قوياً إلى هذا العمل. وقد كشفت قراءة هذا السفر للمرة الأولى عن
الارتداد الرهيب الذي حدث في ذلك العصر. وكما جاء سفر الملوك الثاني (22: 3 – 20)
كان اكتشاف هذا السفر مرتبطاً بتجديد بيت الرب على نطاق واسع في ذلك الوقت. ويحتمل
أن يكون رأي " إدوارد نافيل " صحيحاً في أن هذه الوثيقة كانت مدفونة في
أساسات جدران البناء كما كان يفعل المصريون، ولكن لا يمكن الجزم بأن ذلك قد تم في
أيام سليمان. ونستنتج من أوامر يوشيا أن هذا السفر كان سفر التثنية الذي يركز بصفة
خاصة على أنه يجب أن يكون هناك مكان واحد مركزي للعبادة، كما أنه يتضمن التهديدات
التي أزعجت يوشيا. ولايمكن بأي حال، اعتبار أن سفر التثنية – سفر الشريعة – قد كتب
لأول مرة في ذلك الوقت أو أن يكون حلقيا الكاهن ومعاونوه قد قاموا بكتابته، ولكن
من المحتمل أن يكون سفر الشريعة القديم هذا الذي اكتشفوه، قد أعيدت كتابته عند
اكتشافه بلغة تناسب ذلك العصر. وكان على الشعب إطاعة السفر الجديد الذي اكتشفوه
وقاموا بدراسته.

25- إرميا:

أما النبي إرميا الذي كانت دعوته للنبوة قد سبقت ببضع سنوات، فقد اشترك في
نشر شريعة العهد هذه في أرجاء البلاد. ولكن هذا التغيير لما هو أحسن، لم يغير من
نبرة أقواله النبوية عما كانت عليه من البداية، فقد واصل اتهاماته وظل نبي
الدينونة الذي أعلن أن خراب المدينة والهيكل وشيك الحدوث. وقد رأى بعمق فساد شعبه
الداخلي فلم ينخدع بالمظهر الخارجي الذي جاء نتيجة أوامر الملك. وقد برهنت الأحداث
المتلاحقة السريعة صدق تنبؤاته. وعندما دفن يوشيا الملك الخائف الله دفنت معه
عبادة الشعب حسب الشريعة، وحلت اللعنة القديمة مرة أخرى في كل مكان.

26- الكلدانيون:

لابد أن إرميا كان قد تأثر أساساً بغزوات السكيثيين التي حدثت في صباه
والذين زحفوا في ذلك الوقت من سهل يزرعيل إلى مصر (هيرودوتس) تلك الحادثة التي
تركت أثرها القاتم أيضاً في معاصرة حزقيال كما يظهر من الرؤيا التي رأها عن جوج في
أرض ماجوج. على أي حال ينبغي أن لانفترض أن إرميا كان يقصد فقط عصابات قطاع الطرق
هؤلاء، عندما وصف العدو الآتي من الشمال الذي رآه منذ وقت دعوته للنبوة، إذ كانت
في ذهن النبي، قوة عالمية على مستوى الأشوريين الذين كانوا دائماً يدخلون كنعان من
الشمال وكانوا في الواقع يقومون بعمليات تخريبية، وقد سقطت نينوى تحت وطأة هجمات
الماديين والفرس في 607 – 606 ق. م ولم تكن مصر التي كانت تتطلع إلى السيطرة
الدولية هي وريث القوة الأشورية بل كانت بابل، أو باكثر تدقيق أسرة نبو بولاسار
الكلداني الذي قام ابنه نبوخذ نصر بهزيمة المصريين في موقعة كركميش في سنة 605 ق.م.
ومنذ ذلك الوقت كان إرميا يشير إلى الكلدانيين ونبوخذ نصر الذي سرعان ما أصبح
ملكهم، باعتبار أنهم هم الذين سيقومون بتنفيذ الدينونة على أورشليم.

وكان نجم يهوذا – قبل ذلك بسنوات قليلة – قد أفل فعندما جاء " نخو
الثاني " فرعون مصر إلى فلسطين عن طريق البحر لكي يسير نحو الشمال الشرقي عبر
وادي يزرعيل ليضرب ضربته النهائية القاتلة لمملكة أشور المتداعية، تعرض له الملك
يوشيا في سهل مجدو لأنه كان في الغالب موالياً لملك أشور. وفي معركة مجدو سنة 609
ق.م جرح يوشيا جرحه المميت. وكم كانت الفاجعة عظيمة ليهوذا بموت هذا الملك الذي
بكاه كل رؤساء البلاد، والذي كان آخر من كان جديراً بالانتساب إلى بيت داود.

27- خلفاء يوشيا:

وفي انتخاب شعبي وقع الاختيار على يهوآحاز بن يوشيا الأصغر والذي أسماه
إرميا شلوم (22: 11). ولكنه لم يحظ برضا الملك " نخو " الذي أسره في
" ربلة " ثم أخذه معه إلى مصر (2 مل 23: 30 – 37) واختار ملك مصر
يهوياقيم – وكان اسمه قبلاً ألياقيم – ابن يوشيا الأكبر الذي تجاهله الشعب، لأن
يكون ملكاً عليهم وعمل الشر في عيني الله وكان مغروراً بنفسه محباً للرفاهية قاسي
القلب، بالإضافة إلى أنه بخيانته جلب النكبات على بلاده. كما أنه دبر مؤامرة ضد
نبوخذ نصر الذي كان يقدم له الجزية منذ السنة الخامسة لملكه، وبذلك كان هو السبب
في قيام الأراميين والموآبيين والعمونيين الذين كانوا يناصرون الأشوريين بتخريب
بلاد يهوذا، وأخيراً جاء ملك بابل بنفسه للانتقام من أورشليم. أما نهاية هذا الملك
فليست واضحة فطبقاً لسفر الأخبار الثاني (36: 6) بالمقارنة مع سفر الملوك الثاني
(24: 6) يبدو أنه مات وهو مازال في أورشليم بعد وقوعه في أيدي أعدائه. ولم يكن
ابنه يهوياكين أحسن منه مصيراً فبعد ثلاثة شهور من حكمه أخذ إلى بابل حيث ظل هناك
سجيناً لمدة 37 سنة أفرج عنه بعدها (2 مل 24: 8 – 17، 25: 27 – 30). وسبي مع الملك
يهوياكين خيرة سكان أورشليم الذين بلغ عددهم نحو 10.000 رجل، وبخاصة من الحدادين
والبنائين.

 

28- صدقيا: آخر ملوك يهوذا:

ومرة أخرى أقام البابليون ملكا فى أورشليم، هو صدقيا عم عم يهوياكين والابن
الثالث ليوشيا، وكان يدعى متنيا ولكن ملك بابل غير اسمه إلى صدقيا، وقد حكم نحر
اثنتي عشرة سنة (597-586 ق.م) وكانت نتيجة فساده الخلقي والديني، أن ختم مصير بيت
ومملكه داود، كما نفى من البلاد.أفضل طبقة من قادة الشعب، لذلك حث رجال البلاط
الملك للقيام مرة أخرى بالتمرد على الحكام البابليين والتآمر مع مصر ضدهم. وبالرغم
من تحذيرات إرميا وحزقيال ضد هذه السياسة إلا أن صدقيا، كان دائما يخضع لمشيريه
الأشرار وللحزب الوطني العسكرى الذين كانوا مصممين على استراد استقلاق بلادهم
بالحرب. ففى البداية – ومن خلال سفارة له – أكد للملك العظيم (ملك بابل) ولاءه
(إرميا 29: 3) وفي السنى الرابعة لملكه قام بنفسه بزيارة إلى بابل كدليل على ولاءه
(إرميا 51: 59) ولكن فى السنة التاسعة لملكه تحالف مع المصريين ضد البابليين الذين
إبى تقديم الطاعة لهم فجاء نبوخذ نصر وحاصر المدينة لكن عندما علم باقتراب جيش مصر
رفع الحصار لفترة قصيرة ولكن رجاء صدقيا العقود على حليفة مصر قد خاب إذ بدأ
البابليون مرة أخرى بتوجيع المدينة. وبعد حصار دام 18 شهرا انهارت المقاومة وحاول
الملك سرا أن يخترق دائرة الحصار، ولكنه وقع فى الأسر، وقلع ملك بابل عينيه وأخذه
إلى بابل وأخذ أغلب الرجال البارزين والرؤساء إلى ربلة حيث قتلهم جميعا، وهدم
أسوار أورشليم وأبراجها وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت
العظماء. وبقية الشعب الذين بقوا فى المدينة – بعد هذه المذبحة – سباهم إلى بابل
ولم يبق فى البلاد إلا الطبقات الفقيرة لزراعة الأرض (2مل 25: 8-11). وعين جدليا –
وهو من النبلاء – حاكم على المدينة وجعل لإقامته فى المصفاة ويبدو أنه في هذا
المكان بدأت نواة جديدة من الشعب فى التجمع، وذهب إليهم إرميا، ولكن لم تدم هذه
البداية الطيبة أكثر من شهرين، فقد اغتاله إسماعيل بن نثنيا ووكان عدوا للكلدانيين،
وحفيدا متعصبا ومنتقما لبيت داود. وقد ارتكب القاتل هذا بالتعاون مع بعصض
العمونيين ثم هرب إلى ملك بني عمون. ولقد اغعتبر اليهود – فيما بعد – أن اغتيال
جدليا كان كارثة قومية وكانوا يصومون فى يوم ذكرى هذه الجريمة. وخوفا من انتقام
البابليين هاجر كثيرون من الشعب إلى مصر وأجبروا إرميا – وقد صار شيخا –على الذهاب
معهم أنه تنبأ بعد جدوى هذه الخطة. وأقاموا حول مدينة تخفينس بالقرب من بليزيوم ثم
انتشروا بعد ذلك فى صعيد مصر وكذلك فى مصر السفلى.

ثامنا – عصر السبى البابلى:

1- ثأثير السبي:

سكن شعب يهوذا الذين سباهم نبوخذ نصر فى أوقات مختلفة، فى بابل عند نهر
خابور (حزقيال 1: 1) بالقرب من مدينة " ينبور " ولقد عرف من اكتشافات
" هيلبرخت " فى هذه المدينة أن هذا النهر أو أحد فروع نهر الفرات كان
موجودا فى هذا المكان، ويجب أن لا نخلط بينه وبين نهر خابوراس. كما أن اللوحات
الكثيرة التى وجدت فى ينبور والتى عليها أسماء يهودية، تبين أنه كانت هناك مستعمرة
يهودية كبيرة فى ذلك الموقع أما مصير هؤلاء اليهود الذذين ظلوا فى المنفى لمدة 50
سنة فلا نعرف عنه شيئا. ولكن يمكن معرفة أحوالهم فى أثناء السبى من سفر حزقيال فقد
كان لهم حق شراء الأراضي هناك كما سمح لهم ببناء المساكن. (إرميا 29: 5-9)، كانوا
يتمتعون بحرية الانتقال حول هذه المنطقة دون قيود. فلم يكونوا أسرى بالمعنى الضيق
للكلمة. وباجتهادهم ومهارتهم فى التجارة حققوا ثروات لا بأس بها، حتى أن معظمهم –
بعد انقضاء نحو نصف قرن – شعروا بالاكتفاء التام ولم تكن لديهم الرغبة فى العودة
إلى الوطن. أما بالنسبة للتطور الروحي للشعب فقد أثبت السبى أنه كان على جانب كبير
من الأهمية. ففى المقام الأول قد انفصلوا عن تربة الوطن، وبذلك تعد عن التعرض
للوثنية وعبادة الأصنام وغيرها. وقد برهنت الدينونة الرهيبة التى حلت بأورشليم على
أن الأنبياء الذين نادوا لهم بالتوبة الصادقة لمدة طويلة، ولكن بلا جدوى، كانوا
على حق ولم يكن هذا بلا أي ثمر (زكريا 1: 6). فبينما كانوا يعيشون فى البلاد
الوثنية، فقد رأوا الوثنية على أبشع صورها. ولكن وإن كان كثيرون من اليهود قد تنجسوا
بها، إلا أن علاقة الإسرائيليين بصفة عامة بعبدة الأصنام من البابليين كانت علاقة
عدائية، بل زادهم هذا غيرة على طقوسهم الدينية التى كان يمكنهم أن يمارسوها فى
بلاد أجنبية والختان وغيرها. وبغيرة ملحوظة رجع الشعب إلى ما كان لديهم من مخزون
روحي فى كتبهم المقدسة. فجمعوا الشرائع والتاريخ والمزامير واختزنوها كما أنه كان
تقدما جديرا بالملاحظة أن الأنبياء أمثال حزقيال وإرميا ودانيال تلقوا رؤياهم
النبوية فى أرض وثنية. كما أدرك الشعب أيضا أن الوثنيين الذين كانوا بعيشون فى
وسطهم، أصبحوا يتقبلون الحقائق العظمى فى ديانة إسرائيل، وبدأوا يدركون الدعوة
المرسلية لإسرائيل في وسط أمم وشعوب العالم.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس تشكيل فاندايك وسميث عهد قديم سفر اللاويين 17

 

2- دانيال:

يبين سفر دانيال كيف أن يهوديا مثله يخاف الله ويحفظ الناموس استطاع الوصول
إلى مراكز مرموقة ذات نفوذ فى بلاط ملوك مختلفين. ويمكننا من سفر حزقيال أن نعلم
أن الأنبياء والشيوخ اهتموا بحاجات الشعب الروحية، فعقدوا لهم الاجتماعات التي –
وإن لم يكن مصرحا لهم فيها بتقديم الذبائح – كانت تعلن فيها كلمة الله وهنا نرى
بداية " نظام المجمع " الذى جاء بعد ذلك.

3- برديات معبد فيلة:

اكتشفت أخيرا برديات بمعبد فيلة بمصر العليا، تعطينا صورة قوية عن اليهود
في الشتات. ويظهر لنا من هذه البرديات أنه فى القرن السادس قبل الميلاد لم تكن
هناك في هذا المكان مستعمرة يهودية كبيرة ومزدهرة فحسب بل أنهم قد أقاموا فى هذا
المكان هيكلا جميلا ليهوه قدموا فيه ذبائحهم التى كانوا قد اعتادوا تقديمها وهم فى
بلادهم. وفى رسالة أرامية – مازالت محفوظة – يعود تاريخها إلى سنة 411 ق.م، وكانت
موجهة إلى الوالي " باجوهى " فى اليهودية يشتكي هؤلاء اليهود من أن
هيكلهم فى " يائيب " (فيلة بجوار أسوان) قد دمر فى تلك السنة نفسها، كما
تذكر هذه الرسالة أن هذا الهيكل كان قد استبقاه قمبيز عندما كان في مصر من سنة 525
سنة 521 ق.م. كما جاء فى رد " باجوهى " – مازال محفوظا أيضا – أنه يريد
أن يعاد بناء الهيكل، ويعاد تقديم التقدمات والبخور. ويحتمل أن تكون الإشارة إلى
الذبائح غير دموية فقط فى هذه الرسالة عن قصد حيث ذكرت الرسالة الأولى المحرقات أو
يغلب أن الذبائح الحيوانية التى كان يقدمها اليهود أثارت غضب المتعصبين للإله
" الكبشى " الذى كان يعبد فى ذلك الوقت فى منطقة أسوان. ولكنى حتى وقتنا
الحاضر لا نعرف إلا الهيكل الذى كان قد بنى بعد ذلك بكثير لرئيس الكهنة أويناس
الرابع فى ليونتوبوليس (160ق.م).

 

تاسعا – العودة من السبى والتجديد:

1- سيرة كورش الملك:

فى تلك الأثناء حدث تغيير آخر فى القوى الدولية السياسية. فقد حرر كورش ملك
فارس نفسه أولا من سيطرة " مادي " التي أصبحت جزءا من مملكته بعد
احتلاله لمدينة " إكبتانا " (فى 549 ق.م). فى ذلك الوقت كان "
نابونيدس " ملكا فى بابل (555-538 ق.م)، وهو لم يغضب لاندحار مملكة مادي،
ولكنه سرعان ما أدرك أن الوالي الجديد أصبح يشكل خطرا عظيما عليه هو، إذ أن كورش
أخضع الممالك الصغيرة التى فى الشمال واحدة بعد الأخرى ولكن نابونيدس لم يكن مولعا
بالحرب حتى ينازل كورش، فاكتفى بارسال ابنه على رأس جيش إلى الحدود الشمالية
لمملكته. ومن الناحية الأخرى فإن الملك كورسيوس ملك الليديين الذي صاهر الملك
استياجس الذى أخضعه كورش، دخل مع الأخير فى حرب بعد أن عقد حلفا مع مصر وأسبرطه.
وفى سنة 546 ق.م عبر نهر " الهالز " وتحرك كورش من نهر الدجلة وبذلك دخل
فعلا الأراضى البابلية،وسار إلى كروسيوس وهزمه واحتل عاصمته ساردس وقضى على مملكة
ليديا. أما الإسرائيليون الأتقياء الذين كانوا فى السبى – فى ضوء نبوات إشعياء
النيى – فقد تابعوا هذه الأحداث باهتمام بالغ، لأن النبي كان قد أخبرهم أن يروا في
ذلك الملك " المنقذ " الذى سيستخدمه الله أداة في يده لعودة
الإسرائيليين من السبى، كان الأنبياء قد تنبأوا عنه بذلك وقد تحقق هذا الذى توقعوه
بسرعة ملحوظة. وأصبح من غير الممكن الآن وقف ملك فارس المنتصر على طول الخط حتى عن
طريق البابليين، وباءت بالفشل كل محاولات نابونيدس بنقل تماثيل الآلهة من البلاد
الكثيرة إلى بابل ليجعل من العاصمة مدينة لا تقهر. وقد فتحت هذه المدينة أبوابها
" لأجبارو" (جوبرياس) قائد الفرس سنة 538ق.م. ثم دخلها كورش بعد ذلك
بشهور قليلة. ولقد كان هذا الملك معتدلا ومسالما فى معاملته لشعب المدينة فلم يهدم
المدينة ولكنه أمر بإزالة جزء من أسوارها ولكنها تحولت بمرور الزمن إلى أنقاض
وخرائب.

ولقد استطاع كورش أن يكسب ولاء ورضاء الأمم التى أخضعها وذلك باحترام
ديانتهم ومعتقداتهم، فأعاد إلى معابدهم الأصنام التى أخذها نابونيدس وكان عنده
اعتبار خاص لليهود، الذين – بلا شك – شكوا إليه ما أصابهم، كما أطلعوه على النبوات
المختصة به باعتباره المنقذ الآتى.

2- العودة الأولى على يد زربابل:

فى السنة الأولى لاستيلاء كورش على بابل، أصدر مرسوما (2 أخ 36: 22و23،
عزرا 1: 1 –4) يسمح فيه لليهود بالعودة إلى بلادهم، وإعادة بناء الهيكل، ولهذا
الغرض أمر بأن تعود إليهم آنية الهيكل التى كان قد أخذها نبوخذ نصر معه.

كما أمر الإسرائيليين الذين يرغبون فى البقاء فى بابل، أن يسهموا بأموالهم
فى إعادة بناء الهيكل. وكان على رأس العائدين شيشبصر الذي يحتمل أن يكون هو زربابل،
(ولكن بعض العلماء ينكرون ذلك) وكذلك رئيس الكهنة يشوع وكان حفيدا لرئيس الكهنة
سرايا الذى قتله نبوخذ نصر. وعاد فى رفقتهم عدد قليل من المسبيين يبلغ نحو360،42
من الرجال والنساء والأطفال، وعدد من الخدم الذكور والإناث وبخاصة من اسباط يهوذا
وبنيامين ولاوى، ومن السبط الأخير كان عدد الكهنة أكثر من عدد اللاويين وبعد عدة
شهور وصلوا سالمين إلى فلسطين فى سنة 537 ق.م تقريبا، وسكن بعضهم فى أورشليم
والباقون فى المدن والقرى المجاورة وأقاموا مذبحا للمحرقات وتمكنوا فى الشهر
السابع من تقديم الذبائح عليه مرة أخرى.

3- بناء الهيكل:

وفى السنة الثانية من العودة وضعوا حجر أساس الهيكل (عزرا 3: 8-13)، ولكن
بناء الهيكل قد توقف بعد فترة قصيرة ولم يستأنف العمل بحماس إلا فى السنة الثانية
لدرايوس (520 ق.م) بعد النداء القوى للنبيين حجي وزكريا، ولذلك ينكر الكثيرون من
العلماء أن يكون حجر الأساس قد وضع فى سنة 536ق.م.ولكن يجب أن نذكر أن محاولات
عديدة قد بذلت وفى هذا العمل حيث كان علىهذه المستعمرة الفتية أن تكافح ضد الكثير
من الصعوبات. وسفرا عزرا ونحميا يقدمان لنا شذرات فقط من هذا التاريخ، ولكن
البرديات الأرامية التى وجدت فى صعيد مصر تؤكد القيمة التاريخية لهذه المراجع
الكتابية.

4- عزرا ونحميا:

فى سنة 516 ق.م وبعد أربع سنوات من البناء تم بناء الهيكل وتدشينه ولكن ليس
لدينا أي معلومات عن الفترة التالية التى امتدت نحو 58 سنة. ولكننا نعلم أن عزرا
الكاتب فى السنة السابعة لأرتحشستا الأول (458ق.م) جاء من بابل إلى الأرض المقدسة
ومعه مجموعة من نحو 1500 من الرجال ومعهم النساء والأطفال. وكان قد حصل من الملك
على أمر بإقامة الشريعة فى بلاد اليهود، مرة أخرى، وكان خبيرا ماهرا فى الناموس،
وقد حاول أن يقوم بذلك بالحديث إلى الشعب وحثهم وتعليمهم بكل همة، وبلغ نشاط عزرا
ذروته فى لقائه مع الشعب، ذلك اللقاء المذكور فى نحميا (8-10) فى عيد المظال، حيث
تعهدت الأمة كلها تعهدا حازما بأن تلتزم بالشريعة. وطبقا لموقع هذه الأصحاحات فى
الوقت الحاضر، يكون هذا الأمر قد تم فى سنة 444 ق.م، ولكن يحتمل أن يكون قد حدث
قبل وصول نحميا، وبعد بضع سنوات جاء نحميا لمعاونة عزرا فى عمله، وهو يهودي تقي،
كان ساقيا للملك الذي لبى طلبه بإعطاءه أجازة يغيب فيها عن القصر ليذهب إلى مدينة
أورشليم التى كان قد سمع أنها في شر عظيم وعار،فأسوارها منهدمة بعد أن تمكنت الأمم
المجاورة من تعطيلهم عن البناء،بل حتى الأسوار التى أعيد بناؤها على عجل، هدمت مرة
أخرى. وجاء نحميا فى سنة 445-سنة 444 ق.م. من شوشن إلى أورشليم، شرع على الفور فى
العمل بنشاط فى إعادة بناء الأسوار، وبالرغم من معارضة جيرانهم الحاقدين
ومؤامراتهم فقد إكمل العمل بنجاح.

أما الحركات العدوانية فقد كان لها أساس دينى. فالذين عادوا من شعب الرب
عاشوا بمعزل عن الشعوب المحيطة بهم وبخاصة شعوب السامرة المختلطة فقد كانت السامرة
هي المكان الذى ترعرعت فيه هذه العداوة لأورشليم. وكان سنبلط حاكم السامرة على رأس
هذا التحالف العدوانى. وقد رفض اليهود السماح للسامريين بالاشتراك معهم في إقامة
الهيكل أو أن تكون لهم شركة دينية معهم. وبهذا اتخذ السامريون موقفا عدائياً معهم.
خطرا، وبذلوا أقصى ما يستطيعون لعرقلة بناء أسوار أورشليم التى ستعوقهم عن الوصول
إلى الهيكل ولكن باتكال نحميا على الله وبمثابرته فى العمل تغلب على هذه العقبة.
أما سياسة الإعتزال التى انتهجها عزرا ونحميا فى هذه المناسبة وفى غيرها فتدل على
أنهما كانا أكثر تزمتا من أنبياء ما قبل السبى. ففى موضوع رفض التزواج مع الشعوب
المحيطة بهم لعلهما قد ذهبا (عزرا ونحميا) إلى أبعد مما تفرضه الشريعة لأنهما أمرا
بفسخ الزيجات التى كان الإسرائيليون قد عقدوها بالفعل مع النساء الأجنبيات. ولكن
هذا الاعتزال كان حصيلة يقظة الضمير وكان ذلك لازما فى تلك الفترة للمحافظة على
شعب الرب.

5- ملاخى:

ويمكن أن نرى من نبوات ملاخى- وهو يكاد يكون معاصرا لعزرا ونحميا – أن
الزواج بالنساء الأجنبيات قد جلب معه تفككا فى أقدس الروابط العائلية (ملاخى 2: 14
و15) وبعد غياب دام 12 سنة عاد نحميا إلى شوشن إلى بلاط الملك، ثم عندما عاد إلى
أورشليم اضطر مرة أخرى أن يمارس سياسة متشددة ضد التسيب الذى وصل إلى تدنيس قدسية
الهيكل ووصية السبت كما طرد حفيدا لرئيس الكهنة يدعى منسى كان قد تزوج ابنة سنبلط.ومنسى
هذا (حسب ما يذكر يوسيفوس) هو الذى أقام المعبد على جبل جزريم كما أقام كهنوتا فى
هذا المكان، وهذا بلا شك خبر صحيح، ولو أن ما يرويه يوسيفوس كثيرا ما يجمع بينه
وبين عصر الإسكندر الأكبر- بلا سبب – مع أنه حدث قبل ذلك بنحو 110 من السنوات.

أما تاريخ اليهود فى العقود الأخيرة من الفرس فلا نعرف عنه الكثير. فقد
قاسى اليهود كثيرا فى عهد أرتحشستا الثالث (1كوس) عندما اشتركوا فى تمرد مع
الفينيقيين والقبارصة. وقد نفى الكثيرون من اليهود – فى ذلك الوقت –إلى هركانيا
على الساحل الجنوبي لبحر قزوين. وجاء باغوس القائد الفارسى إلى أورشليم واقتحم
طريقه إلى الهيكل (يوسيفوس) وعزل يوحنا (يوحانان) وقام بتنصيب أخيه يشوع رئيسا
للكهنة.إلا أن يوحنا قتل يشوع فى الهيكل ولأول مرة تظهر وظيفة رئيس الكهنة على
أنها وظيفة سياسية، الشئ الذى لم يحدث إطلاقا فى عصور ما قبل السبى، كما أنه لم
يكن ليحدث حسب الناموس.

 

عاشرا – اليهود تحت حكم الإسكندر وخلفائه:

1- انتشار الهيلينة:

حيث أن اليهود كانوا قد تعبوا من حكم الكهنة، فإنهم لم يضجروا من المسيرة
الظافرة للإسكندر الأكبر، ويبدو أنه قد اتخذ موقفا وديا منهم، حتى ولو كانت القصة
التى أوردها يوسيفوس تبدو غير تاريخية. كذلك كان خلفاؤه متسامحون فى الأمور
الدينية. ولكن لأسباب سياسية وجغرافية عانت فلسطين بشدة فى تلك الأوقات، إذ كانت
تقع بين سوريا ومصر وكانت هدفا للعدوان من كلتا الأسرتين الحاكميتين فى فى هذه الفترة
وهما البطالمة (البطالسة)في مصر والسلوقيون في سوريا. كذلك نفذت الهيلنية إلى بلاد
إسرائيل، بعد أن تقدمت بقوة فى عهد الإسكندر كعامل من عوامل الحضارة والثقافة
وهكذا انتشرت الثقافة اليونانية واللغة اليونانية بسرعة فى فلسطين، وكانت لها
الصدارة فى أماكن كثيرة. لقد أدرك المتمسكون باليهودية أن فى هذا خطرا على النظام
الموسوي للحياة والعقيدة، وزادهم هذا غيرة والتصاقا بالفرائض التقليدية وقد أطلق
على هؤلاء " الحسيديين " أى الأتقياء (1مك 2: 42،7: 13،2مك 14: 6). أما
الأفكار الهيلينية التى غيرت العالم فقد انتشرت وبخاصة بين الطبقات الأرستقراطية
والسياسية البارزة بل وجدت لها أنصار حتى بين الكهنة، بينما كان الحسيديون ينتمون
إلى طبقات الشعب الأقل بروزا.

2- الأسمونيون (أو الحسمونيون):

تسبب ملك سوريا أنطيوكس الرابع (أبيفانس) فى صراع الحياة والموت بين
الاتجاهين بعد أن وقعت السيادة على فلسطين بين يديه. إذ أخذ على عاتقه استئصال
الديانة اليهودية المقيتة. ففى سنة 168 ق.م أمر بتكريس هيكل الله الذي فى أورشليم
لإله الأولمب جوبتر، كما منع بكل صرامة حفظ السبت والختان. ولم يقاوم عدد كبير من
الشعب هذا الظلم بل خضعوا لهذه الوثنية الغاشمة، ولكن البعض الآخر قاوموا وماتوا
شهداء.

وأخيرا وفي سنة 167 ق.م أعطى متياس الكاهن إشارة التصميم على المقاومة،
التى وقف على رأسها أبناؤه الأسمونيون أو المكابيون. وتولى ابنه يهوذا أولا قيادة
أولئك الآمناء. ونجح فى تخليص أورشليم من السوريين، واسترداد الهيكل على جبل صهيون،
وجدد تكريس الهيكل للرب، وأعيدت العبادة كما فى القديم. وبعد عدة حملات ظافرة مات
يهوذا المكابي موت الأبطال فى سنة 161 ق.م وحاول أخوه يوناثان الذى حل محله على
رأس الحركة، المحافظة على استقلال البلاد بالتخطيط الحكيم والحنكة السياسية بدلاً
من القوة العسكرية وجمع في يديه رياسة الكهنوت بالإضافة إلى السلطة المدنية. وبعد
اغتياله فى حركة من حركات العنف فى سنة 143ق.م خلفه أخوه سمعان كحامل لهذا الشرف
المزدوج وتحول الأسمونيون بسرعة إلى الناحية الدنيوية ففقدوا تعاطف الحسيديين،
وجاء بعده ابنه يوحنا هيركانس (135- 106 ق.م) فانفصل تماما عن جماعة الأتقياء
وبموته انتهت أسرته بعد صراع دنئ من أجل السلطة. وبذلك سقطت البلاد تحت حكم هيرودس
وهو طاغية من أصل أدومي استطاع أن يحظى بتأييد الرومان. ومن سنة 37 ق.م أصبح هو
ملك اليهودية المعترف به.

الحادى عشر – الرومان:

1-تقسيم البلاد:

بعد موت هيرودس (سنة 4 ق.م) قسمت البلاد حسب وصيته الأخيرة بين أبنائه
الثلاثة. فكانت اليهودية من نصيب أرخيلاوس والجليل وبيريه من نصيب أنتيباس، أما
التخوم الشمالية من البلاد فكانت من نصيب فيلبس. ولكن الرومان سرعان ماخلعوا
أرخيلاوس (6م) وأصبحت اليهودية جزء من ولاية سورية ولكنها وضعت تحت أمر الوالى
الرومانى فى قيصرية. هؤلاء الولاة (وأشهرهم بيلاطس البنطى 26-36م) كان لا هم لهم
إلا نهب البلاد والشعب.

 

 

2- تدمير الرومان لأورشليم:

نتج عن ذلك شيئا فشيئا نزاع بين الشعب وظالميه انتهى بتدمير أورشليم على يد
الرومان فى سنة 70 م. فقد بدأ هذا الصراع أولا فى سنة 40م عندما قام والى سوريا
بترونيوس بأمر من كاليجولا بوضع تمثال للامبراطور فى هيكل أورشليم وفى ذلك الوقت
نجح الملك أغريباس الأول الذى كان يحكم كل بلاد هيرودس فى إيقاف هذا الصراع. أما
ابنه أغريباس الثاني (40-100م) فقد أعطى له مملكة أصغر بكثير. وقد حاول هو أيضا أن
يمنع الشعب من القيام بالكفاح ضد الرومان ولكنه لم يفلح ولكن الأمير جسيوس فلورس –
بمعاملته الدنيئة للشعب اليهودي – دفعهم إلى العصيان المسلح واستطاع حزب الغيورين
أن ينتصر فاضطر فلورس لمغادرة أورشليم (سنة 66م) ولم يستطع الجيش الضخم الذى قاده
سستيوس جالوس السيطرة على المدينة إذ تغلب عليه اليهود تماما عند انسحابه إلى بيت
حورون. هنا ثارت كل البلاد، فتحرك الرومان بقيادة فسباسيان ومعه قوة كبيرة واحتل
أولاالجليل الذى كان وقتئذ تحت حكم يوسيفوس (67م) وفى نفس الوقت كانت الأحزاب
اليهودية المختلفة فى أورشليم تحارب بعضها بعضا، ولكن لما كان على فسباسيان أن
يسرع إلى روما ليعتلى عرش الامبراطورية بعد أن كان قد هزم بلاد شرق الأردن وكذلك
الساحل الغربي ترك القيادة العامة لابنه تيطس. وفى سنة 70 م قبل عيد الفصح بأيام
قليلة أحاط تيطس بالمدينة تماما. ثم اقتحم الرومان الجانب الشمالي لسور المدينة
الأول الجديد، ثم السور الثاني، أما الثالث فقد قاوم طويلا واجتاحت المدينة فى نفس
الوقت مجاعة مدمرة أحدثت بها الفوضى. وأخيرا احتدمت المعركة حول الهيكل الذى كانت
تلتهمه النيران. طبقا للوصف الكامل ليوسيفوس، حاول تيطس أن يحول دون تدمير الهيكل،
وأما طبقا لما يقوله سولبيكيوس سفيروس فقد كان ذلك هو هدفه. وبعد سقوط أورشليم ظلت
بعض المواقع تقاوم مثل قلعة مكاروس فى شرقي الأردن ولكنها لم تستطع المقاومة طويلا.

3-عصيان باركوكبا المسلح:

مرة أخرى انفجر الطموح القومي للاستقلال فى ثورة عصيان قام بها باركوكبا
(132-135ق.م) وقد قام معلمو الناموس الأتقياء وبخاصة المعلم أكيبا بإشعال هذه
النار لتحرير البلاد من حكم الأمم. ولكن بالرغم من النجاح المؤقت، فشل هذا العصيان
أيضا وخرب الرومان الغاضبون المدينة والبلاد بصورة أشد وأنكى مما حدث فى سنة 70م.
ومنذ ذلك الحين فقد اليهود أورشليم وعاشوا فى الشتات فى وسط الأمم بلا مقدس لهم.

4-الحالة الروحية لذلك العصر:

لقد انطبعت الحياة الروحية والدينية لليهود وفى أثناء الفترة التى سبقت
نهاية دولتهم، بالطباع الناموسي وبمعارضتهم للهيلينية. فقد أصبحت ديانتهم بعد
عودتهم من السبى طقسية إلى حد بعيد. وكان التركيز الأكبر هو على إطاعة الفرائض
التقاليد والتى كانت بصفة رئيسية تفسيرات متعسفة.

5- ظهور يسوع المسيح:

لقد كان ظهور يسوع المسيح هو تاج تاريخ إسرائيل ويهوذا ففى النظرة السطحية،
يمكن أن يبدو كما لو كانت شخصيته وحياته لم تؤثر كثيرا فى تطور التاريخ القومي
لإسرائيل، ولكن بنظرة أكثر تعمقا، نرى أن هذا التاريخ كله كان كل هدفه هو المسيح،
ففيه يجد كماله. فبعد أن اكتملت الثمرة الكاملة لهذا الجذع، ذبل الجذع ومات وجاء
يسوع المسيح يقدم الخلاص لكل البشرية.

إسرائيل – المملكة:

أولا – الفترة الأولى:

1- المملكتان:

لقد سبق أن ذكرنا الظروف التى أدت قيام مملكة إسرائيل الشمالية، أو مملكة
الأسباط العشرة. وليست مملكة يهوذا ذات أهمية عظمى من الناحتين الدينية والثقافية
فحسب، ولكن حكومتها أيضا ظلت فى يد أسرة واحدة بينما نجد أن المملكة الشمالية قد
تقلبت عليها أكثر من ثماني أسرات خلال القرنين والنصف من وجودها كذلك فإن المملكة
الجنوبية استمرت زمنا يكاد يكون ضعف زمن الأخرى.

2- الأسرة الأولى:

لم يكد يربعام الأول يختار أول حاكم للدولة الجديدة حتى بدأ إدارة أمورها
بالمقدرة التى كانت معروفة عنه (1مل 11: 28)، وليكمل الانفصال أقام مقدسا لمناهضة
الهيكل فى أورشليم (هوشع 8: 11-14)، بنظامه الكهنوتى الخاص (2أخ 11: 14،13: 9).
كما أسس عاصمتين، شكيم فى الغرب وفنوئيل فى شرقي الأردن (1مل12: 25). ويبدو أن السلام
قد ساد بين الحكومتين المتنافستين خلال السبع عشرة سنة التى ملك فيها رحبعام ولكن
عندما تولىابنه أبيا العرش نشبت الحرب (1 مل 15: 6و7، 2أخ 13: 3-22). وبعد ذلك
بقليل مات يربعام وخلفه ابنه ناداب الذي اغتيل بعد سنة واحدة، وبذلك انتهت الأسرة
الأولى بعد حكم دام ثلاثا وعشرين سنة، وانحصر فى الحقيقة فى ملك واحد.

3-الأسرة الثانية:

جاء الدور هنا على سبط يساكر الذى لم يسبق له أن قدم حاكما لإسرائيل، ولم
يخرج منه أحد من القضاة ولكن بنى يساكر كانوا قد قاموا بدورهم عند اجتماع الأسباط
بقيادة " دبورة " وباراق النفتالى (قض 5: 15). بدأ بعشا حكمه الذى دام
24 سنة بإبادة بيت يربعام (1مل 15: 27-29) وكانت ترصة هى العاصمة فى ذلك الوقت
(1مل 14: 17، نشيد 6: 4) وهو مكان لم يحدد موقعه للآن، وكان آسا ملك يهوذا معاصرا
لبعشا، وكما فعل أبوه أبيا، طلب معونة الآراميين ضد المملكة الشمالية. ولما لم يكن
بعشا ندا لهذا التحدي المزدوج اضطر إلى الجلاء عن الأرض التى كان قد أخذها. كما
أغتيل ابنه " أيلة " بعد أن ملك سنة واحدة. وكان بعشا قد اغتال ابن مؤسس
الأسرة السابقة. وقد قتل زمري كل أفراد بيت بعشا مع أوليائه وأصحابه (1مل 16: 11و12).

3-الحرب الأهلية:

وكان زمرى القاتل ضابطا فى سلاح المركبات، وهو غير معروف الأصل أو السبط.
ولكن لأن الملك كان بالانتخاب اختار الجيش " عمرى " القائد العام الذى
حاصر " ترصه وأخذها، عندئذ أشعل زمري على نفسه القصر بالنار وهلك فى اللهيب.
ثم قام مدع آخر غير معروف الأصل يدعى " تبني " (وهو اسم وجد فى
الفينيقية والأشورية) ولكنه خلع سريعا وبذلك ثبتت دعائم الحكم مرة أخرى.

ثانيا: عصر الحروب الأرامية:

1-الأسرة الثالثة:

عمرى هو مؤسس الأسرة الجديدة، وفى ذلك الحين أصبحت المملكة الشمالية وحدة
متكامله ولم يعد هناك أي فاصل بين الأسباط وبعضها البعض. ونحن لا نعرف إلى أي سبط
كان ينتمى عمري وخلفاؤه. وفى عصره اتسع مجال العمل السياسي عما كان عليه من قبل،
كما استقرت أيضا الأمور الداخلية. وظل القانون المدني الذي وضعه عمري نافذا حتى
بعد القضاء على أسرته، وأقرته المملكة الجنوبية أيضا (ميخا 6: 16). أما المدينة
التى اختار موقعها لتكون العاصمة، فقد ظلت مكانا مأهولا حتى يومنا هذا. وقد اكتشفت
فى السنوات الأخيرة بقايا مبانيه التى تبين مدى التقدم العظيم فى هذا الفن، عن تلك
التى يعتقد أنها ترجع إلى أيام رحبعام وسليمان. ولكنه كان سئ الحظ فى علاقاته مع
أرام، إذ أنه فقد بعض المدن، كما أجبر على أن يمنح بعض التنازلات التجارية لجيرانه
الشماليين (1مل 20: 34). ولكنه كان ملكا عظيما لدرجة أنه بعد موته بزمن طويل ظلت
مملكة الأسباط العشرة معروفة عند الأشوريين باسم " بيت عمري ".

2-السياسية العالمية:

فى زمن هذه الأسرة، اشتد ساعد فنيقية فأصبح لها نفوذ قوي على ملوك وشعب
إسرائيل. كما بدأت أشور مرة أخرى فى التدخل فى سياسية أرام. وهنا بدأت المملكة
الشمالية تلعب دورا فى السياسة الدولية، وكانت فى ذلك الوقت فى سلام مع مملكة
يهوذا، كما أن تحالفها مع فينيقية قد تدعم بزواج أخآب من إيزابل ابنة أثبعل. ويبدو
أن هذا قد حدث بعد وفاة أبنة (1مل 16: 31). ونتج عن هذا أن أقيم في السامرة هيكل
لعبادة " بعل " إله صور جنبا إلى جنب مع عبادة الرب التى استمرت كما
كانت من قبل. وبذلك يبدو أن الشعب قد انحدر من عبادة التوحيد التى أرساها موسى
داود، إلى ما يعرف بعبادة آلهة أخرى إلى جانب عبادة الله (الهينوثيزم). وقد احتج
إيليا ضد هذا الارتداد،، وحاز نصرة حاسمة.. ولقد كان أخآب جنديا حكيما ماهرا، غير
مندفع،ولكنه لم يكن حازما. لقد هزم تحالفا أراميا فى حمليتن (1مل 20)، وفرض على
بنهدد نفس الشروط التى فرضها هذا الأخير على عمري. وبانتهاء ملك " آسا "
فى يهوذا، توقفت الحرب بين مملكتي بنى إسرائيل، وللمرة الأولى يصبح الملكان صديقان
يحاربان جنبا إلى جنب (1مل 22). ولكننا نرى فى حكم أخآب بداية الاضمحلال فى الدولة،
وذلك فيما يتعلق بالحرية الشخصية والعدالة والمساواة. أما مأساة كرم نابوت
اليزرعيلي فما كانت لتحدث لولا تأثير الأفكار الصيدونية. كما أنه حدث تقدم أكثر فى
فن البناء في أثناء حكمه. فقصر أخآب الذى اكتشف أخيرا – نتيجة لأعمال الحفر التى
قامت بها بعثات جامعة هارفارد بقيادة الدكتور ج.أ. ريزنر – يدل على تقدم ملحوظ فى
مراعاة الدقة فى العمل أكثر مما كان فى عهد عمرى.

3- معركة كركر:

يبدو أن هدف هجوم بنهدد على أخآب كان لإجباره على الدخول فى تحالف لمقاومة
انتهاك أشور للبلاد المتخامة للبحر المتوسط. ولكن هذا الحلف بقيادة بنهدد- والذى
كان أخآب واحد فيه – انهزم أمام شلمنأسر الثاني فى موقعه كركر ونعرف من النقوش
الأثرية أن هذا قد حدث فيما بين سنتى 854/853 ق.م. ويعتبر هذا أول تاريخ عبرى مؤكد
تماما. ومن هذا التاريخ يجب أن تحسب التواريخ السابقة بالرجوع إلى الوراء. ويبدو
أن أخآب قد اقتنص فرصة ضعف أرام لينفذ بالقوة الاتفاق الذى تم مع بنهدد (1مل 22).

4- ضياع الأرض:

ومن الناحية الأخرى يبدو أن الملك ميشع ملك موآب قد استغل نفس هذه الكارثة
فتخلى عن تحالفه مع إسرائيل الذى كان يرجع إلى عصر داود، ومن الواضح أن هذا
التحالف قد تدهور حتى جدده عمري بالقوة مرة أخرى (حجر موآب 11: 4وما بعده). ولكن
يهورام بن آخاب وخليفته (مع اسقاط أخزيا الذى اشتهر بعبادة بعل زبوب إله عقرون)
حاول – بمساعدة يهوشافاط وتابعه ملك أدوم – استعادة حقوقه، ولكن بدون جدوى (2مل 3).
ولعله نتيجة لفشل هذه الحملة، قام الأراميون بمحاصرة السامرة وضيقوا عليها الخناق
جدا (2مل 6: 24، 7: 3-20)، وإن كان ذلك التاريخ غير معروف على وجه الدقة. وقد رد
يهورام بهجوم مضاد على شرقي الأردن.

5- الاصلاح الديني:

مما لاشك فيه أنه بسبب علاقة يهورام بملك يهوذا، حاول تعديل نظام العبادة
والفرائض لإزالة البدع الرديئة التى استشرت فى المملكة الشمالية (2مل 3: 1-3) ولكن
هذه الحلول الجزئية لم تشبع متطلبات العصر، فقد اكتسحته- هو وأسرته – الثورة التى
جاءت بعد ذلك. لقد استمرت أسرته كما جاء بالكتاب المقدس أقل من نصف قرن.

6- الثورة:

لقد أخذ الإصلاح الدينى أو بالحرى الثورة التى اقتلعت كلتا الأسرتين
الملكيتين،أصولها من النبوات (1مل 19: 16) كما ساندها يهوناداب بن ركاب. وكان
الهدف الظاهري لهذه الحركة التى تزعمها ياهو بن نمشى هو الانتقام لأنبياء الرب
الذين قتلوا بأمر إيزابل، ولكنه كان فى الحقيقة أبعد من ذلك، فقد كان هدفها
الرئيسى هو استئصال عبادة البعل تماما والعودة إلى الإيمان الصحيح والعبادة الأولى.
فكما احتفظ الركابيون ببساطة الحياة البدوية الأولى المتقشفة، هكذا أعاد ياهو
الأمور لأوضاعها التى كانت عليها عندما أسس يربعام الأول المملكة الشمالية.

7- الأسرة الرابعة:

لقد نفذ ياهو إصلاحاته تماما على بيت عمري الذي كان مسئولا عن كل هذه البدع،
كما حدث لأسلافه. ولكن سرعان ما انطفأ الحماس الديني وانتهى ملك ياهو بكارثة. فقد
تحول حزائيل بعد أن قضت القوات الأشورية على جيوشه، إلى الحدود الشرقية إسرائيل،
وانتهز فرصة الاضطراب الذي ساد جلعاد موطن إيليا، والتى خاب أملها فى ياهو، فبسط
سلطانه عليها. (2مل 10: 32-36). أما ياهو فقد أدرك أهمية انتصارات الأشوريين
الباهرة، وكان من الحكمة بحيث أرسل الجزية إلىشلمناسر الثاني، وكان ذلك فى سنة 842
ق.م. أما فى أيام حكم ابنه وخليفته يهوآحاز فقد استمرت إسرائيل فى الانحدار حتى
فرض عليها حزائيل شروطا مذلة لها (عاموس 1: 3-5، 2مل 13: 1-9).

8- عودة الازدهار:

وكان قرب نهاية حكم يهوآحاز أن بدأت الأمور تتغير بقيادة شخصية عسكرية فذة
لم يذكر اسمها (2مل 13: 5). واستمر التحسن بعد وفاة حزائيل، وذلك بقيادة يهوأش
(يوأش بن يهوآحاز) الذى حاصر أورشليم ونهبها (2مل 14: 8-14). ولكن لم يحدث أن عادت
تخوم اسرائيل إلى حدودها المثالية منذ إنشاء المملكة، إلا فى عهد يربعام الثاني بن
يهوآش، الذى حكم طويلا، فقد استرجع دمشق وحماة (2مل 14: 28) لكن هذا الازدهار كان
ظاهريا.

لقد كان يربعام الثاني على رأس حكومة الأقلية العسكرية التى سحقت السواد
الأعظم من الشعب. وكان عاموس التقوعى هو المدافع عن عامة الشعب فى ذلك الوقت، وقد
تحققت أقواله الشديدة، إذ أن هذه الأسرة التى قامت على إراقة الدماء والتى استمرت
90عاما، حدث بعد اغتيال زكريا بن يربعام، أن أخلت الماكن لاثنى عشرة سنة من الفوضى.

9- حلول الفوضى والاضطراب:

وسرعان ما اغتال شلوم بن يابيش زكريا، ثم اغتال منحيم شلوم بعد شهر واحد
انتقاما لمقتل سيده. ومنحيم محارب من سبط جاد أقام فى ترصه. ويقدم لنا هوشع وصفا
للحالة الاجتماعية السيئة فى ذلك الوقت. ويذكر يوسيفوس فى تاريخه الفظائع التى
ارتكبها جنود منحيم.

ثالثا: الانحدار والسقوط:

1- ضياع الاستقلال:

فى ذلك الوقت كان " فول " قد أسس الامبراطورية الأشورية الثانية
باسم تغلث فلاسر الثالث. وقبل أن يهزم بابل، حطم قوة الحثيين فى الغرب وسيطر على
الطرق المؤدية إلى الموانى الفينيقية. فكما أتاح كسوف شمس القوة الأشورية الفرصة
للتوسع الإسرئيلى تحت حكم يربعام الثاني، هكذا أيضا سحقت نهضة أشور استقلال مملكة
إسرائيل نهائياً. فقد دفع منحيم رشوة ضخمة بلغت عشرة آلاف وزنة من الفضة أو ما
يساوى مليوني دولار – بإعتبار أن الوزنة تساوى ألفى دولار – ليشترى بها الاحتفاظ
بعرشه. وقد جمع المال بفرض أتاوة قدرها خمسون وزنة على كل واحد من الأثرياء
المعروفين. وقد ذكرت هذه الجزية على الآثار الأشورية، وكان ذلك فى عام 738ق.م.

2- النهاية:

حكم منحيم عشر سنوات، أما ابنه فقحيا فقد اغتاله أحد قواده، وهو فقح بن
رمليا فى السنة الثانية من ملكه، ونصب نفسه ملكا بمساعدة بعض الجلعاديين. وتحالف
مع " رصين" ملك دمشق ضد يهوذا، وهزم آحاز فى معركتين ضاريتين، حيث أسر
عدداً ضخما، كما وصل إلى أسوار أورشليم. لكن كانت النتيجة قاضية على كلا الحليفين
فقد استنجد آحاز بالأشوريين، وعندئذ قضى تغلث فلاسر على مملكة دمشق وأجلى سكان
شمالي وشرقى فلسطين. وتقلصت مملكة إسرائيل لتقتصر على إقليم السامرة. وقتل هوشع بن
أيلة فقح وأصبح ملكا على إسرائيل تحت السيادة الأشورية وامتلأت الأقاليم التي
أخليت من سكانها، بالمستوطين الذين جاءوا من بلاد المشرق التى فتحها تغلث فلاسر،
وكان ذلك فى عام 734 ق. م.

3- القضاء النهائي:

لم يكن هوشع أبدا ملكا مستقلا، بل كان مجرد عميل للأشوريين، وبغباوة أوقف
دفع الجزية السنوية ولجأ إلى مصر طلبا للمعونة. في ذلك الوقت خلف شلمنأسر الرابع
تغلث فلاسر الثالث وحاصر السامرة ولكنه مات في أثناء الحصار وخلفه سرجون الذي
استولى على المدينة في نهاية عام 722 ق.م.

4- الخلاصة:

استمرت المملكة الشمالية نحو 240 سنة، يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل، كل
منها ثمانون سنة. كانت المرحلة الوسطى هى عصر الحروب الأرامية. وحيث أنها تكونت
أساسا بانفصالها عن المملكة الجنوبية، فإن تاريخها لم يكن فيه أي تطورات أو
مفاجاءات، لقد كان تاريخها متأرجحا بين الازدهار والانحطاط، فقد كانت فى أحسن
أحوالها عند تأسيسها مباشرة، ثم بعد ذلك فى عصر يربعام الثاني، كما كانت قوية فى
ايام بعشا وعمري وأخآب. ولكنها كانت ضعيفة بصفة عامة فى أيام الملوك الآخرين. وكان
كل تغيير فى الأسرة الحاكمة يعنى الفوضى وذلك عندما كانت تقع البلاد تحت رحمة
الغزاة. كانت الأحوال فى إسرائيل تعتمد كلية على أحوال أشور، فعندما كانت تضعف
أشور، كان فى ذلك قوة لإسرائيل، وكان تقدم أشور يعنى بالتأكيد خراب إسرائيل. وكان
لابد من هذا، وقد رآه هوشع بوضوح (9: 3..إلخ) والعجيب هو أن هذه الدولة الصغيرة
التى كان يحيط بها هؤلاء الجيران الأقوياء، دامت كل ذلك الوقت.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي