الروح
القدس

 

أولا
– روح الله في العهد القديم:

(أ) عمله بصورة عامة: يتكرر ذكر " روح
الله " أو " روح الرب " كثيرا في جميع أجزاء العهد القديم، ولكن لا
يذكر العهد القديم بوضوح أن الروح القدس أقنوم متميز عن الآب والابن، فلم يظهر هذا
المفهوم بجلاء إلا على أساس أحداث التجسد ويوم الخمسين، وفي العهد القديم، يوصف
" روح الله " بأنه " قدوس " (انظر مز 51: 11)، لأنه روح الله
القدوس، وهو القوة الحيوية الفعالة في الخليقة وفي الانسان تاج الخليقة
.

ففي
عالم الطبيعة، كان " روح الله " في البدء " يرف " – كما يرف
الطائر على عشه – على وجه الغمر، على الآرض الخربة الخالية، ومن هذا الخراب ظهر
هذا العالم المنظم، فالروح – كمصدر للقوة والحياة – أوجد من هذا العدم، أو هذا الخواء،
هذه الخليقة المنسقة، وهو الذي يحفظها ويجددها (أيوب 33: 4، مز 33: 6، 104: 30)،
فهو " الروح المحيي " (كما جاء في قانون الايمان النيقوي)
.

أما
من جهة الانسان، فالله جبله ترابا من الأرض، و " نفخ في أنفه نسمة حياة، فصار
آدم نفسا حية " (تك 2: 7)، فروح الله هو مصدر كل القوى الفريدة التي يملكها
الانسان، فروح الله أو نسمة القدير، هو مصدر عقل الانسان (أيوب 32: 8)، أو مصدر
بصيرته ومواهبه (تك 41: 38، خر 28: 3)، ومهاراته الفنية كما في حالة بصلئيل (خر 36)،
وحنكته الحربية كما في يشوع (تث 34: 9)، والبطولة كما بدت في القضاة (قض 13: 5)،
والحكمة كما في سليمان (1 مل 3: 28)، وبصيرته الدينية والأدبية كما تبدو في
الايحاء للشعراء والانبياء (عد 11: 17 و 25 و 29، 2 صم 23: 2، 1 مل 22: 24، حز 11:
5، دانيال 4: 8 و 9) وفي طهارته كما تبدو في قوة البار وتوبته (نح 9: 20، مز 51: 11،
إش 63: 10، حز 36: 26، زك 12: 10)
.

وفي
ضوء هذه الأقوال، لا يمكن اطلاقا أن نفترض أن " الروح الردئ " الذي
أرسله الله عقاباً لبعض الإشخاص الأشرار (قض 9: 23، 1 صم 16: 14، 18: 10) هو
" الروح القدس " لانجاز رسالة دينونة، حاشاه! ولكن حتى " الروح
الردئ " الذي يدفع الناس للكذب أو الحسد، هو تحت سيطرة الله لأنه خليقته،
وينفذ أغراضه، مما يذكرنا بقول لوثر: " إن الشيطان نفسه هو شيطان الله "،
أي خليقة الله وتحت سلطانه
.

ب
– عمله في الخلاص: نرى أنه منذ زمن مبكر، منذ عصر القضاة، كان روح الرب هو العامل
في خلاص شعبه، فبدون إعداد سابق، حرك روح الرب افرادا مغمورين، وأعانهم على القيام
بأعمال رائعة من أعمال البطولة الفذة، فخلصوا إسرائيل من أعدائهم (قض 3: 10، 11: 29،
14: 6، 1 صم 11: 6)
.

ولم
يكن روح الرب يحل على القضاة والملوك لخلاص شعبه فحسب، بل كان هو العامل في
الرائين والأنبياء، الذين كانوا ينقلون إرادة الله إلى الشعب، وعن طريقهم وصلت
لاسرائيل رسائل الله سواء للادانة أو للخلاص (2 صم 23: 2، حز 2: 2، 3: 12 , 14،
ميخا 3: 8، مع ملاحظة تلك العبارة التي تتكرر كثيرا في نبوة إشعياء، ونبوة إرميا: "
هكذا يقول الرب

") .

ولم
يكن الملوك – رغم أنهم كانوا ممسوحين من الله 0 أمناء دائماً أو قادرين على حفظ
السلام والعدالة في إسرائيل، وقد وجد الأنبياء الشعب صلب الرقاب غير مستعدين للسمع
(إرميا 17: 19 – 23)، وشكوا من أنه لا أحد يؤمن برسالتهم (إش 53: 1)، فكان لابد
لاتمام قصد الله في الخلاص، أن يوجد شخص يجمع في شخصه النبي والكاهن والملك،
وممسوح بالروح القدس بصورة فريدة، وهو المسيا، أو المسيح الفريد، الغصن النابت من
أصل يسى (إش 11: 1)، الذي ستكون له كل مواهب الروح القدي في كمال ملئها (إش 11: 2،
42: 1، 61: 1)، وهكذا كان المسيح النبي المثالي، والملك المثالي، لأنه مسح بالروح
القدس بلا حدود
.

ويتنبأ
العهد القديم بأنه عند مجئ المسيا، سينسكب الروح القدس على كل بشر مثل المطر الذي
يحي الرض (إش 32: 15) ونسمة الحياة التي تحي العظام اليابسة (حز 37) . وسيغير
انسكاب الروح القدس قلوب الناس، فيجعلهم يسمعون صوت الله ويطيعون كلمته على الفور (إش
59: 21، مز 143: 10)، وظلت هذه الرؤيا لعصر الروح القدس مجرد رجاء في تاريخ اسرائيل،
فقد تمرد الشعب وأحزنوا روح الله القدوس حتى تحول لهم عدوا (إش 63: 10)، ولكي
يتحقق هذا الرجاء، كان يلزم أن يفعل الله المستحيل، أن يأتي هو بذاته: " ليتك
تشق السموات وتنزل، من حضرتك تتزلزل الجبال " (إش 64: 1)
.

ثانيا:
الروح القدس في العهد الجديد:

أ
– مقدمة:

الكلمة
اليونانية المستخدمة للدلاله على " الروح " هي " نيوما
" (Pneuma ) المشتقة
من الفعل " نيو " بمعنى " يتنفس " أو " ينفخ "، فهي
تطابق كلمة " روح " في العبرية، ونجد في العهد الجديد عبارات: "
روح الله "، و " روح الرب "، و " روح الاب " و "
روح يسوع " و " روح المسيح " و " الروح القدس " أو
" الروح " فقط، وبعض هذه العبارات وردت في العهد القديم، ولكن مع هذا
الفارق الهام، فبينما لا ترد عبارة " روحك القدوس " أو " روح قدسه
" في العهد القديم إلا في المزمور الحادي والخمسين، وفي الاصحاح الثالث
والستين من نبوة إشعياء، نجدها ترد أكثر من ثمانين مرة في العهد الجديد، كما ترد
في العهد الجديد عبارات جديدة، مثل: " روح أبيكم " (مت 10: 20)، و
" روح ابنه " (غل 4: 6)، و " روح يسوع المسيح " أو " روح
المسيح " (رو 8: 9، في 1: 19، 1 بط 1: 11)، كما أنه " المعزي "
الآخر أو الباراقليط " (يو 14: 16 – 26)
.

ب
– يسوع والروح:

بدأ
عصر الانجيل بتحرك خاص من الروح القدس، فنقرأ عن يوحنا المعمدان – السابق للمسيا –
أنه " من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس " 0 لو 1: 15 و 80)، وبوحي من الروح
أدرك سمعان الشيخ ظهور المسيا في شخص الطفل يسوع (لو 2: 52)، كما أن الملاك أعلن
ليوسف أن الذي حُبل به في مريم " هو من الروح القدس " (مت 1: 20 9،
وبذلك تأيدت العبارة السابقة: " وجدت حبلى من الروح القدس مت(1: 18) وهكذا
قال الملاك للعذراء مريم " الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك فلذلك أيضاً
القدوس المولود منك يدعى ابن الله " (لو 1: 35)، فابن الله وحده هو الذي حبل
به بلا دنس
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ر ركاب ب

وعندما
كان يسوع في الثلاثين من عمره، جاء ليعتمد من يوحنا المعمدان، وكما حبل بيسوع
بالروح القدس فولد " قدوساً "، هكذا نزل عليه – عند المعمودية – الروح
القدس " بهيئة جسمية مثل حمامة " إعلانا بأنه المسيا القدوس (مت 3: 16،
لو 3: 22) . ولعل الرسول بطرس كان يشير إلى هذه الحادثة في حديثه الأول للأمم عن
" يسوع الذي من الناصرة " كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة " (أع
10: 38)، ويشير يوحنا إلى ذلك بالقول: " لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام
الله، لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح " (يو 3: 43)
.

وكانت
قوة الروح القدس واضحة في حياة يسوع وخدمته، فبعد صعوده من الماء مبإشرة، أخرجه
الروح إلى البرية حيث واجه المجرب (مت 3: 1 – 3، مرقس 1: 12 و 13، لو 4: 1 – 3)،
وغلبه بقوة الروح القدس، باعتباره " آدم الأخير " اي الانسان الكامل،
وقد نسب الرب قدرته على اخراج الأرواح النجسة، إلى الروح القدس (مت 12: 28)، وهكذا
كان الأمر بالنسبة لتعليمه فقد مسحه الروح القدس ليبشر المساكين ولينادي للمأسورين
بالاطلاق (لو 4: 18)
.

وطوال
خدمته هنا على الأرض، كان الناس ينبهرون من تلك القوة العجيبة التي له، حتى قالوا
" إنه مختل " (مرقس 3: 21)، كما " بهتوا من تعليمه، لأنه كان
يعلمهم كمن له سلطان " (مرقس 1: 21)، كما كان يبدو أحياناً متجاهلاً لحاجاته
الجسدية (يو 4: 31) حتى قال البعض عنه " إنه سامري وبه شيطان " (يو 8: 48)،
وعندما رجع السبعون من جولة كرازية ناجحة " تهلل يسوع بالروح " (لو 10: 21)
.

وقد
يسأل البعض هذا السؤال: إذا كان يسوع هو الله الابن، فلماذا كان في حاجة إلى قوة
الروح القدس لإتمام خدمته؟ ويرجع جانب من الجواب إلى ناسوته الكامل الذي أخذه في
تجسده، فلم يقلل من ناسوته كونه الله، فلم تحجب قدرته الالهية ناسوته، فهو كانسان
كامل عإش معتمداً على روح الله، فيسوع إذ صار انسانا، كان يعتمد على روح الله
الحال فيه، ولهذا فهو في تدبير الخلاص، أخذ دور المسيا، أي الذي مسحه روح الله،
وفي نفس الوقت كان مدركاً لسلطانه الالهي المطلق، فهو لم يكن كسائر الأنبياء، فلم
يقل: " هكذا يقول الرب "، بل " الحق الحق أقول لكم
" .

ج
– حلول الروح القدس على التلاميذ:

(1) مقدمة: ربط يوحنا المعمدان بين حلول الروح القدس
على يسوع بكل ملئه، وبين أن المسيح سيعمد الآخرين بهذا الروح، بقوله: " وأنا
لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً
مستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس " (يو 1: 33)، وثمة حادثتان
أعقبتا قيامة المسيح من الأموات، تدلان على امتداد هذا المسح بالروح إلى كل
التلاميذ، حدثت أولاهما عقب القيامة مبإشرة عندما نفخ يسوع في التلاميذ وقال لهم: "
اقبلوا الروح القدس " (يو 20: 22) . وحدثت الثانية بحلول الروح القدس عليهم
في يوم الخمسين (أع 2)، وللتوفيق بين هاتين الحادثتين، يبدو أن الحادثة الولى كانت
تشير إلى الثانية، وكأن الرب نفخ فيهم قائلاً: " ستقبلون الروح القدس في
المستقبل القريب "، وبذلك كان يعدهم ليوم الخمسين
.

(2) يوم الخمسين: إن ماحدث في يوم الخمسين أمر بالغ
الأهمية، لا يقل في أهميته في تاريخ الفداء عما حدث في التجسد . فكما صار الكلمة (أقنوم
الابن) " جسداً وحل بيننا " (يو 1: 14)، هكذا حل الروح القدس على
التلاميذ ليمكث معهم إلى الابد ويسكن فيهم (يو 14: 16 و 17) . فقد " ظهرت
ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم . وامتلأ الجميع من الروح
القدس " (أع 2: 3 و 4)، وكان في ذلك الدليل على أنه لن يحرم مؤمن من نصيبه في
هذا الامتياز، " فالروح الواحد " يقسم " لكل واحد بمفرده كما يشاء "
(1 كو 12: 11)، فيعطيه الروح القدس عطية جماعية وفردية في وقت واحد، فهي لكل
الكنيسة، كما أنها لكل فرد فيها
.

وإذ
نال الرسل القوة من الروح القدس، شرعوا في الكرازة بالإنجيل، وكان هناك يهود من كل
أمة تحت السماء ساكنين في أورشليم، من الفرقتين من الشرق إلى الرومانيين من الغرب،
" فبهت الجميع لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته، بعظائم الله " (أع
2: 6 – 12) . وإذ سمعوا عظة بطرس الممسوحة بقوة الروح القدس، " قبلوا كلامه
بفرح واعتمدوا، وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس " (أع 2: 41)، وهكذا
وُلدت الكنيسة المسيحية، وبدأ – ما يطلق كثيراً عليه – " عصر الروح القدس
"، وتحقق ما تنبأ به يوئيل النبي عن انسكاب الروح (يؤ 2: 28 و 29)، كما تحقق
قول الرب يسوع إن الروح القدس سيكون هو المتكلم فيهم (مرقس 13: 11، لو 12: 12)
.

ونجد
أوضح الأقوال عن الروح القدس، فيما علَّم به المسيح عن مجئ " الروح " في
إنجيل يوحنا (ص 14 – ص 17) حيث أوضح الرب أن العمل الأساسي " للروح " هو
أن ينير أذهان التلاميذ في الحق، ليتمجد المسيح، وهذا هو ما حدث تماماً في يوم
الخمسين، وفي كل سفر أعمال الرسل، فبكرازة الرسل بقوة الروح القدس، كانت قلوب
الناس تُنخس على خطية وعلى بر وعلى دينونة (يو 16: 8، أع 2: 37)
.

ونعرف
من سفر أعمال الرسل، أن الحركة التاريخية التي بدأت في يوم الخمسين وأدت إلى تأسيس
الكنيسة الجامعة، بدأت بمعمودية الروح القدس (أع 1: 5 و 8) وظلت تحت قيادته
وسلطانه، وأصبح حضور الروح القدس هو العلامة المميزة للمجتمع المسيحي . وقاد الروح
القدس فيلبس المبشر إلى الخصي الحبشي، ثم " خطف روح الرب فيلبس " (أع 8:
29 و 39)، وفي يافا كلَّم الروح القدس بطرس وقاده إلى كرنيليوس في قيصيرية (10: 19،
11: 12)، كما طلب الروح القدس من الكنيسة في أنطاكية أن تفرز بولس وبرنابا للعمل
الذي دعاهما إليه (13: 2)، وأرشد الكنيسة لحل أعوص المشاكل التي نتجت عن كرازتهما
للأمم (أع 15: 29)، ولم يدع الروح بولس الرسول يذهب إلى بيثينية (أع 16: 6)، كما
حذره على لسان أغابوس من مقاصد اليهود الشريرة في أورشليم (أع 20: 23، 21: 11) .
وقال بولس لشيوخ كنيسة أفسس إن الروح القدس هو الذي أقامهم فيها أساقفة ليرعوا
الكنيسة (أع 20: 28)، ولا شك في أنه قال ذلك لكل الكنائس، لكل ذلك نستطيع أن نطلق
على عصر الكلنيسة " عصر الروح القدس "، أما العصر السابق، فلم يكن الروح
القدس " قد أُعطى بعد . لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد " (يو 7: 39)،
والفارق كبير جداً بين عمل الروح القدس قبل يوم الخمسين، وعمله بعد يوم الخمسين
.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد جديد سفر أعمال الرسل 17

(د) الروح القدس في رسائل بولس:

تحتوي
رسائل الرسول بولس على أوضح معالجة للتعليم عن الروح القدس في العهد الجديد،
فبالتوافق مع تعليم سفر الأعمال، الذي يعطي مكانة بارزة للروح القدس، يجمع الرسول
بولس بين موهبة الروح القدس والقوة الروحية (1 تس 1: 5)، والفرح العميق (1 تس 1: 6)
والقداسة (1 تس 4: 4 – 8)، والتكريس (2 تس 2: 13)، أما من جهة موهبة النبوة، فقد
أوصى المؤمنين ألا يحتقروها، فيطفئوا الروح (1 تس 5: 19)، كما أوصاهم ألا يقبلوا
بسذاجة كل تعليم يدَّعي أنه موحى به من الروح القدس، بينما هو في حقيقته ليس كذلك (2
تس 2: 1 و 2)، ويكتب الرسول بولس بعض إشياء عن الروح، لا تذكر بمثل هذا الوضوح في
أي مكان آخر، حتى ليمكن اعتبارها إعلانا جديداً، فيقول إن الروح القدس يشهد لأرواح
المؤمنين أنهم أولاد الله (رو 8: 16)، وإنه هو الذي به يدعون " يا أبا الآب
" (رو 8: 26)
.

ومعظم
الإشارات إلى الروح القدس في رسائل الرسول بولس، تشير إلى عمله في روح الانسان،
فيظهر في حياته ثمر " المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح
والايمان والوداعة والتعفف " (غل 5: 22 و 23)، وكل هذه الفضائل التي تزين
حياة المؤمن وتجعل منه هيكلاً للروح (1 كو 3: 16)، وهناك أيضاً رجاء القيامة: "
أن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات
سيحي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم " (رو 8: 11
) .

وحين
يتحدث الرسول بولس عن عمل الروح القدس في روح الانسان، ليس من السهل معرفة ماذا
يقصد بكلمة " الروح "، وهل هو روح الله أم روح الانسان تحت تأثير روح
الله .. ويبرز هذا بصورة خاصة في المواضع التي يقابل فيها بين الجسد والروح، مثل: "
لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد " (غل 5: 17)، والجسد هنا هو
الجانب الضعيف الخاطئ من الطبيعة البشرية، بينما قد يُفسر " الروح " على
أنه الروح البشرية التي يدعمها روح الله في صراعها ضد الجسد . وبعبارة أخرى: إن
الذين تصارع أرواحهم ضد الجسد هم الذين يعيشون " حسب الروح القدس " (رو
8: 5)، كما توجد مقابلة أخرى في رسالته الأولى إلى الكنيسة في كورونثوس (3: 1 و 2)
حيث يفرِّق الرسول بولس بين الروحيين " و " الجسديين "، و "
الجسدي " هو الذي تتسلط عليه طبيعته الساقطة، أما " الروحي " فهو
الذي يحيا حسب الطبيعة الجديدة المنقادة بالروح القدس والخاضعة له . فالروح
الانسانية وروح الله يعملان معاً، فالانسان الممتلئ بالروح هو الانسان الذي يسيطر
عليه الروح القدس حتى إنه في كل جوانب حياته ينقاد للروح القدس ويعتمد عليه، فهو
مواطن في الملكوت الذي هو " بر وسلام وفرح في الروح القدس " (رو 14: 17)،
كما أنه انسان ممتلئ بالرجاء بقوة الروح القدس (رو 15: 13)
.

ويوصي
الرسول بولس المؤمنين: " لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة، بل امتلئوا
بالروح " (اف 5: 18)، ومن السهل على الناس معرفة الشخص المخمور، أفليس من
السهل عليهم أيضاً ان يدركوا الفرق الذي يحدثه الروح القدس في حياة المؤمن الذي
تسيطر عليه، لا قوة المسكر المدمرة، بل قوة الروح القدس؟ ومع أن " ناموس روح
الحياة في المسيح يسوع قد اعتقني (المؤمن) من ناموس الخطية والموت " (رو 8: 2)
 ، إلا أن هناك " ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني
ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي " (رو 7
21 – 23) . والخلاص من
قوة هذا الناموس الشرير الماكر، ناموس الخطية، ليس فوريا خاطفا كما يظن بعض
المعلمين الذين ينادون بالكمال
.

وهناك
مقابلة أخرى يعقدها الرسول بولس بين الروح والحرف: " أما الآن إذ متنا
للناموس " (المكتوب – غل 2: 19) صرنا " نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف
" (الناموس المكتوب – رومية 7: 6)، ويقول عن نفسه إنه خادم " عهد جديد،
لا الحرف (الناموس المكتوب)، بل الروح، لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحي " (2
كو 3: 6)، ليس لأن الناموس بلا قيمة ولكن الروح يحي " (2 كو 3: 6)، ليس لأن
الناموس بلا قيمة روحية (لأن " الناموس روحي " – رو 7: 14)، ولكن
باعتباره ناموسا للسلوك، به يستطيع الإنسان أن يتبرر أمام الله . فخدمته هي "
خدمة الموت "، فالإنسان – لأنه خاطئ – لا يستطيع الناموس أن يعطيه إلا "
معرفة الخطية "، ولكنه لا يخلصه من الخطية (رو 3: 20) . وهو ما لم يدركه
التهوديون، فالناموس ضد الروح، والروح ضد الناموس، والذي تجدد بالروح واتحد
بالمسيح بالإيمان، قد مات عن الناموس كوسيلة للخلاص . ويقول الرسول للغلاطيين: "
إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس " (غل 5: 18)
.

وقبل
ان نختم حديثنا عن تعليم الرسول بولس عن " الروح القدس "، لابد أن نقول
كلمة عن الروح والكنيسة، فالروح هو رباط الوحدة الجامعة، التي هي أحدى مميزات
الكنيسة الحقيقية (أف 4: 3) . ويجدر بنا هنا أن نتأمل فكر الرسول بولس في هذا
الصدد، بتشبيه الكنيسة بالجسد (1 كو 12: 12 – 27) . فالروح القدس هو مصدر حياة هذا
الجسد: " لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد .. وجميعنا
سُقينا روحاً واحداً " (1 كو 12: 13) . ومواهب الروح القدس هي لأجل بنيان
الكنيسة (1 كو 14: 12)، والمؤمنون يحب بعضهم بعضا في الروح (كو 1: 8)، ولهم شركة
في الروح (في 2: 1)، ويعبدون الله بالروح (في 3: 3) . وتتكون الكنيسة من مؤمنين
مبنيين " معاً مسكناً لله في الروح " (اف 2: 22)، وهكذا تصبح الكنيسة
" رسالة المسيح – مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي " (2 كو 3: 3)
.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد جديد رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس منيس عبد النور 00

(ه) التعليم عن الروح القدس في رسائل العهد
الجديد الأخري:

ومع
أن سائر الرسائل تتكلم كثيراً عن الروح القدس، إلا أنها لا تضيف إلا القليل إلى
علم به الرسول بولس . وقد أكد بشدة كاتب الرسالة إلى العبرانييين على دور الروح
القدس في الوحي بالكتاب المقدس، فعندما كان يقتبس قولا من الكتاب المقدس، كثيرا ما
كان يشير اليه بأنه من الروح القدس مبإشرة، فما يقوله الكتاب، هو ما يقوله الروح
القدس (عب 3: 7، 9: 8، 10: 15)، وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم القول المشهور ان
" كلمة الله حية وفعالة .. وخارقة إلى مفرق النفس والروح .. ومميزة أفكار
القلب ونياته " (عب 4: 12) . والكلمة هذه القوة لأن الروح القدس هو الذي أوحى
بها، وهو لذي يستخدمها لتبكيت من يطيعونها ويجددهم (لاحظ قول الرسول بولس عن كلمة
الله بأنها " سيف الروح " – افسس 6: 17)، وقد ردد الرسلول بطرس نفس
الفكر بقوله أن " روح المسيح " كان في الأنبياء شاهداً " بالآلام
التي للمسيح . والأمجاد التي بعدها " (1 بط 1: 11) . فبطرس – مثل كاتب
الرسالة إلى العبرانيين – يعطي الأولوية في كتابة الأسفار الالهية، لا للعامل
البشري، بل للروح القدس: " فلم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله
القديسون مسوقين من الروح القدس " (2 بط 1: 21)
.

وتقول
الرسالة إلى العبرانيين عن موت المسيح الكفاري، إنه " بروح أزلي قدم نفسه لله
بلا عيب " (عب 9: 14)، فقد قدم نفسه طوعاً – وليس كالذبائح الحيوانية – متمما
قصد الاب في الفداء (لاحظ قول الرسول بولس عن المسيح بأنه " روح محيي "
– 1 كو 15: 45)
.

ويتكلم
آخر أسفار العهد الجديد – وهو سفر الرؤيا 0- عن الروح من وجهة النظر إلى دور الروح
في نبوات العهد القديم، فالرائي – مثل أنبياء العهد القديم – كان في " الروح
" في يوم الرب (رؤ 1: 10) . ورسائله التي كتبها للكنائس هي " ما يقوله
الروح للكنائس " (رؤ 2: 7 و 11 و 16 و 29، 3: 6 و 13 و 22)، وشهادة يسوع هي
" روح النبوة " (رؤ 19: 10)، أي أن الروح الذي أوحي للأنبياء، هو نفسه
الروح الذي منح الملاك القدرة ليُرى يوحنا هذه الأمور، وهو أيضاً الذي أعطى يوحنا
القدرة على أن يراها ويكتبها، ولذلك كان الملاك " عبداً مع يوحنا " (رؤ
19: 10) . ويشير سفر الرؤيا مراراً إلى " سبعة أرواح الله " (1: 4، 3: 1،
4: 5، 5: 6) . والعدد " سبعة " يرمز إلى كمال الروح في ذاته وفي كفاية
عمله في الكنيسة . ولا يتكلم الروح القدس إلى الكنيسة فحسب، بل يضم صوته إلى صوت
الكنيسة في القول للمسيح: " تعال " (رؤ 22: 17)
.

(و) الروح القدس والثالوث:

يعلن
العهد القديم أن روح الله " قدوس " (مز 51: 11 إش 63: 10 و 11)، ولكنه
لا يذكر أنه أحد " الأقانيم الثلاثة "، وهو تعبير له دور هام في تاريخ
الكنيسة . ولا يسعنا إلا أن نتناول باختصار معنى هذه العبارة وبيان الأسس لكتابة
هذا المفهوم عن الله
.

وليس
معنى القول إن العهد القديم ليس به ما يشير إلى الروح القدس كأقنوم متميز، أن
الروح القدس – في العهد القديم – يبدو قوة روحية غامضة، فالروح هو " روح الله
" (تك 1: 2)، ولأن إله إسرائيل له كيان ذاتي، فإن روحه يوصف بأوصاف ذاتية،
ويقوم بأعمال ذاتية، وباعتباره واهب الحياة، فهو يهيمن ويرشد ويحي ويحرك . ويسأل
المرنم: " أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب؟ " (مز 139: 7)، ومعنى
هذا أنه حيث يوجد " روح الله " فهناك يوجد الله بشخصه، كما أن روح الله
القدوس قد حزن لتمرد اسرائيل (إش 63: 10)
.

وفي
ضوء هذه القوال عن شخصية الروح القدس، كان وعد الرب يسوع لتلاميذه بأنه متى انطلق
عنهم (يوحنا 16: 7) فإن الآب سيرسل لهم " معزّياً آخر " (الباراقليط)
الذي هو " الروح القدس " (يوحنا 14: 16 و 26)، وهو وعد يتفق مع تعليم
العهد القديم عن الروح القدس، وحيث أن الرب يسوع كانت له شركة مع تلاميذه، فمعني
ذلك أن " الروح القدس " – الذي سيحل محله – لا بد أن يكون أقنوما مثله وإلا
كان الوعد " الباراقليط " لا يجلب لهم العزاء الكافي عندما يرحل سيدهم
عنهم، ومع ذلك لم يكونوا يفهمون هذه الأمور تماماً قبل يوم الخمسين، ولكن لما جاء
يوم الخمسين، اختبروا عمليا وجود الروح القدس، حتى استطاع بطرس أن يتهم حنانيا
بأنه كذب على " الروح القدس " وأنه لم يكذب " على الناس بل على
الله " (أع 5: 3 و 4)، وأنه وأمرأته اتفقا على تجربة " روح الرب " (أع
5: 9)، كما يتكلم بطرس عنه متميزاً عن الرب الذي صعد إلى السماء، وعن الآب الذي
أرتفع يسوع وجلس عن يمينه، والذي أخذ منه موعد الروح القدس (أع 2: 33)، ويظهر الله
المثلث الأقانيم بوضوح في بركة الرسول بولس للكنيسة في كورونثوس: " نعمة الرب
يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم " (2 كو 13: 14)
.

أما
أوضح عبارة عن الثالوث فنجدها في أمر الرب يسوع لتلاميذه أن يعمدوا من يؤمنون
" باسم الآب والابن والروح القدس " (مت 28: 19)، وليس بأسماء "
الاب والابن والروح القدس " فهم ثلاثة أقانيم في الله الواحد
.

(ز) خاتمة:

يعلن
الكتاب المقدس بكل جلاء أن الروح القدس أقنوم في اللاهوت (وليس كائناً مخلوقاً
أسمى من الملائكة، ولكنه أقل من الابن، كما زعم آريوس)، وهو واحد مع الآب ومع
الأبن، وإن كان متميزاًُ عنهما . وكان للروح القدس دوره في الخليقة، وفي حفظها
وبخاصة في الخلائق التي فيها نسمة حياة، وله دوره في الفداء، فهو الذي أوحى
للأنبياء عن مجئ المخلص، وهو الذي في الوقت المعين مسح المخلص، واستقر عليه بكل ملئه،
وحل على التلاميذ في يوم الخمسين، وجعل من المؤمنون كنيسة واحدة جامعة، وهو الذي
يمنحهما القوة لتشهد للمسيح، وهو الذي يرشدها إلى كل الحق، وهو الذي يجدد قلب
الإنسان الذي يؤمن بالمسيح، ويسكن فيه جاعلاً منه هيكلا له، ومطهراً إياه، وهو
الذي يعينه في صراعه ضد الجسد والعالم والشيطان كما يصفه في العبادة وفي الصلاة،
وبقوته التي أقام بها يسوع من الأموات سيقيم القديسين الراقدين في الوقت المعين
عند مجئ المسيح (رو 8: 11)
.

 

 

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي