المسيح
– تعليمه

 

ليس
من السهل جمع تعليم المسيح في إطار واحد، بسبب تنوع الأساليب التي علَّم بها
المسيح، فالمسيح لم يترك لنا تعليماً في صورة لاهوتية نظامية، كما كانت أقواله
تهدف – في وجودها – إلى الناحية العملية، ومع ذلك فمن مختلف صور أقواله، من الممكن
الخروج بفكرة واضحة عن فكر المسيح في عدد من القضايا الهامة، التي يمكن أن نوجزها
في المواضيع الآتية:

(1) تعليمه عن الله: أي شخص يدرس تعليم المسيح بهذا
الخصوص، بعد قراءة العهد القديم، لابد أن يدرك على الفور أن معظم تعليمه عن الله
هو نفسه تعليم العهد القديم، فقد استخدم العهد القديم على أساس أنه الكتاب الموحى
به من الله، فلا عجب إن كان تعليمه عن الله يطابق تعليم العهد القديم، وبخاصة فيما
يتعلق بالله الخالق، وعناية الله بخليقته، كبيرها وصغيرها، فعصفور واحد لا يسقط
إلا بإذنه، وأن شعور رؤوسنا جميعها محصاة (مت 10: 30و31)، فليس في تعليم المسيح ما
يؤيد الزعم بأن الله لا يبالي بالعالم الذي خلقه.

ومن
أخص الألقاب التي استخدمها المسيح هو أن الله " أب ". ولم تكن هذه
الفكرة جديدة تماماً لأنها واردة في العهد القديم، حيث يذكر أن الله أب لشعبه
القديم (انظر مثلاً إش 9: 6، 63: 16، 64: 8، إرميا 31: 9، ملاخي 1: 6). ولكن هذا
النوع من الأبوة كان قومياً وليس شخصيا ًوفي عصر ما بين العهدين، أصبح اليهود
يعتبرون الله أعلى وأسمى من أن يهتم اهتماماً مباشراً بشئون البشر، ولابد من وجود
وسطاء بين الله والإنسان، ولم يكن لهذا الفكر أي علاقة بالله كأب . وفي ضوء هذه
الخلفية يجب أن ننظر إلى تعليم المسيح الفريد عن أبوة الله للإنسان كفرد . وهناك
بعض الأدلة على أن اليهود كانوا يعرفون شيئاً عن الصلاة لله بالقول: " أبانا
". ولكن ما يميز تعليم المسيح عن تعليم معاصريه، هو أن أبوة الله كانت تشغل
مركزاً محورياً في تعليمه.

وتشغل
بنوة المسيح الفريدة لله مركزاً بارزاً في إنجيل يوحنا، حيث نجد أن المسيح كابن
الله في علاقة وثيقة بالله الآب . ويظهر هذا بوضوح في صلاة المسيح في الأصحاح
السابع عشر من إنجيل يوحنا، وتأكيده مراراً على أن

" الآب " قد أرسل " الابن "، وأن
" الابن " كان يتمم مشيئة " الآب " . وعلى أساس هذه العلاقة
الوثيقة بين الله الآب وابنه الرب يسوع المسيح، علَّم المسيح تلاميذه أن يخاطبوا
الله بالقول: " أبانا الذي في السموات ". ومن المهم أن نلاحظ أن عبارة
" أبانا " تسبق عبارة " ليتقدس اسمك "، لأن فكرة العلاقة
الوثيقة تمهد الطريق لما هو بعد ذلك، فالمسيح لم يعلِّم الناس مطلقاً أن يقتربوا
إلى الله بارتعاب.

ومع
أن هناك علاقة بين مخاطبة الله " كالآب "، وتعليمه لتلاميذه أن يقولوا
لله " أبانا"، إلا أن هناك هذا الفارق الكبير جداً، فالمسيح قال: "
أبي وأبيكم " عندما ظهر لمريم المجدلية (يو 20: 17)، ولم يقل " أبانا
" فبنوته لله فريدة، فهو " والآب واحد
"

(يو 10: 30).

وفي
الموعظة على الجبل، أكد المسيح لأتباعه أن أباهم السماوي يعلم احتياجاتهم (مت 6: 32،
لو 12: 30)، وعلى أساس ذلك أوصاهم ألا يهتموا ولا يقلقوا . وهذا يعطينا فكرة عن أن
الطريقة التي علَّم بها المسيح عن الله كانت تنحو ناحية عملية.

(2) تعليمه عن نفسه: لا شك في أن ما قاله المسيح عن
نفسه له أهمية بالغة، لأن هذا الكلام هو أساس تعليم الكنيسة عنه.

لقد
استخدم المسيح بعض الألقاب عن نفسه، أو قَبِلها وصفاً له عندما خاطبه بها الآخرون.

وأكثر
الألقاب التي استخدمها المسيح عن نفسه، هو " ابن الإنسان ". ولكن لم
يستخدم أحد آخر هذا اللقب. وقد استخدمه المسيح في مناسبات عديدة، فأحياناً كان
يرتبط ارتباطاً مباشراً بخدمته العامة، كما في قوله: إن " ابن الإنسان "
هو " رب السبت

"

(مر 2: 28). أو أن " لابن الإنسان سلطاناً
… أن يغفر الخطايا " (مر 2: 10). وأحياناً يرتبط ارتباطاً مباشراً بآلامه،
كما في قوله " إن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويرفض " (مر 8: 31).
وفي أحيان أخرى في الإشارة إلى مجيئه في المستقبل، كما في قوله لرئيس الكهنة: "
سوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء " (مرقس
14: 62).فماذا كان يعني الرب يسوع بهذا اللقب، ولماذا استخدمه؟

لقد
سبق أن استخدم لقب " ابن الإنسان " أو " ابن آدم " من قبل،
ولكنه في مز 8: 4 يشير إلى الإنسان. وفي نبوة حزقيال يشير " ابن آدم "
إلى النبي حزقيال نفسه. ولكن نجد استخداماً مختلفاً في نبوة دانيال (7: 13) حيث
نقرأ:

"وإذا مع سحب السماء مثل ابن الإنسان أتى وجاء
إلى القديم الأيام فقربوه قدامه"، وهي عبارة قوية الشبه بما جاء في إنجيل
مرقس (14: 62). كما ورد هذا اللقب في بعض الكتابات الأبوكريفية (مثل تشبيهات سفر
أخنوخ) حيث يشير إلى كائن سابق الوجود، سيأتي ليدين أعداء الله ويقضي عليهم . من
كل هذا يتضح لنا أن استخدام المسيح للقب

" ابن الإنسان " استخدام فريد لا نظير له.

والأقوال
التي تتضمن لقب " ابن الإنسان " موزعة في الأناجيل الأربعة دون أي
اختلافات تذكر. ولكن ما يدعو للدهشة هو أنه بينما يرد ذكر هذا اللقب كثيراً في
الأناجيل على فم المسيح نفسه، فإن أحداً من كتاب أسفار العهد الجديد أو المسيحيين
الأوائل لم يستخدمه، ولا يظهر سوى مرة واحدة في سفر أعمال الرسل (7: 56)، حيث
يستخدمه استفانوس، ومن هنا يتضح أن هذا اللقب كان له معناه الخاص عند المسيح، لم
يكن عند الآخرين. مما لاشك فيه أنه كان يشير به إلى نفسه، وليس لأحد آخر كما يثبت
ذلك من الدراسة الدقيقة لكل الأقوال التي جاء بها لقب " ابن الإنسان ".
والأرجح أنه استخدم هذا اللقب لأنه أراد أن يتجنب استخدام كلمة " مسيا "
التي كانت تحمل مضموناً سياسياً. ولكن ماذا كان يقصد المسيح من لقب " ابن
الإنسان؟ "، إنه لقب غني بفكرة " الناسوت "، ويمكن أن تكون الإشارة
إلى ابن الإنسان في نبوة دانيال، كما لعل فيها إشارة إلى فكرة " العبد
المتألم " (إش 53). والأرجح أن الكنيسة الأولى فضلت استخدام اللقب، "
المسيح " (المسيا) لأنه اللقب الذي يشير إلى المخلص الملكي، فبعد موت المسيح
لم يعد هناك خوف من سوء الفهم السياسي
.

وكلمة
" المسيح " (مسيَّا) لم يستخدمها الرب يسوع أبداً في تعليمه. والمرة
الهامة التي قبل فيها وصفه " بالمسيح " كانت عندما قال له بطرس في
قيصرية فيلبس:

" أنت المسيح ابن الله الحي " (مت 16: 16)،
وقد سجلت هذا الاعتراف الأناجيل الثلاثة الأولى. ويسجل متى تعليق المسيح على هذا
الاعتراف بالقول " طوبى لك يا سمعان ابن يونا، إن لحماً ودماً لم يعلن لك،
لكن أبي الذي في السموات " (مت 16: 17). فواضح أن الرب قبل هذا الاعتراف
واعتبره إعلاناً من الله. وثمة مرة أخرى لم يرفض فيها هذا اللقب، وذلك في إجابته
على سؤال رئيس الكهنة: " أأنت المسيح ابن المبارك؟" (مر 14: 16). وفي
إنجيل يوحنا يقول أندراوس لأخيه بطرس: " قد وجدنا مسيا الذي تفسيره المسيح
" (يو 1: 41). كما أن المرأة السامرية قالت له: " أنا أعلم أن مسيا الذي
يقال له المسيح يأتي " …. فقال لها يسوع " أنا الذي أكلمك هو
"

(يو 4: 25و26).

لقد
كان هناك توقع كبير عند اليهود أن مخلصاً سيأتي للقضاء على أعدائهم من الرومان، ولكن
كانت تختلف آراؤهم حوله (فمن قائل إنه قائد عسكري، وقائل إنه محارب سماوي)، وكذلك
اختلفت الآراء حول طرقه (فكان الغيورون يعتقدون أن الخلاص لن يأتي إلا بثورة مسلحة).
ومن ذلك يمكن أن نفهم لماذا لم يتكلم الرب يسوع عن مسيانيته
.

وثمة
لقب آخر بالغ الأهمية، هو " ابن الله "، ويستخدمه يوحنا (20: 30و31)،
وكذلك مرقس، إذ يفتتح إنجيله بالقول: " بدء إنجيل المسيح ابن الله
"

(مر 1: 1) . وهناك مرات يُجمع فيها بين "
المسيح " و " ابن الله "، ولم يرفض المسيح أياً من اللقبين (مت16: 16).
ولكن في تعليم الرب يسوع، ثمة فصل يوضح بكل جلاء العلاقة الخاصة التي للمسيح مع
الله كابنه، في قوله: " كل شيء قد دفع إلىَّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلا
الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يُعلن له " (مت 11: 27،
لو 10: 22
).

وهناك
فصول في إنجيل يوحنا أكثر وضوحاً، " فالابن كائن منذ الأزل، وهو يعرف أنه من
عند الآب أتى وإلى الآب يعود. وكل الإشارات في إنجيل يوحنا، لا تدع مجالاً للشك في
أن المسيح هو ابن الله السماوي للآب . ومن الهام بشكل خاص، أن نلاحظ أنه في هذا
الإنجيل أيضاً نرى بأكثر وضوح يسوع في طبيعته البشرية بما فيها من ضعف . ولم يوضح
لنا يسوع في تعليمه كيف صار الله إنساناً، ولكنه افترض هذا كحقيقة ثابتة، فقد كان
يعلِّم بسلطان الله
.

(3) تعليمه عن ملكوت الله: لا أحد يقرأ الأناجيل
الثلاثة الأولى، إلا ويستلفت نظره كثرة ورود عبارة " ملكوت الله " (أو
" ملكوت السموات "). فمن الواضح أن ذلك كان موضوعاً هاماً في تعليم
المسيح، وهو أقل وروداً في إنجيل يوحنا. والكثير من أمثال الرب يسوع تسمى بالتحديد
" أمثال الملكوت "، فأقوال المسيح عن الملكوت كانت الفكرة الرئيسية
للإنجيل المسيحي
.

والفكرة
الأساسية هي مُلك الله على الناس، أكثر منه مملكة تخص الله . وبعبارة أخرى،
التأكيد فيها هو على ممارسة الملك لسلطاته، وهو أمر هام لأنه
يعني أن الملكوت لا مناص من
تأثره بالعلاقة بين الأعضاء والملك
.

وهناك
مشكلة بخصوص تعليم الملكوت لابد من مواجهتها، وهي توقيت

الملكوت
فبعض الأقوال تتضمن أن الملكوت حاضر فعلاً، بينما يرى آخرون أنه لن يأتي إلا في
المستقبل، ولذلك فهم يرفضون أحدهما ويركزون على الآخر. فالذين يقولون بأن الملكوت
حاضر، يستندون على فكرة إنجيل اجتماعي، حيث يرون أن المسيحية هي تأسيس ملكوت الله
على الأرض. وبناء على هذا الرأي، لا يكون ثمة مجال لظهور الملكوت في المستقبل.
وعلى الجانب الآخر، أنكر البعض فكرة الملكوت الحاضر، وركزوا على المستقبل
.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كتاب الحياة عهد قديم سفر يشوع 24

ومع
ذلك فإن آخرين يصرون على أنه ما دام الوجهان، الحاضر والمستقبل مذكورين في الإنجيل،
فإن إنكار أحدهما لحساب الآخر، ليس تفسيراً مقنعاً، والحل الوحيد الممكن هو اعتبار
أن الجانب الحاضر ينتمي إلى هذا الدهر، ولكنه لن يبلغ غايته إلا بإقامة الملكوت في
المستقبل . وثمة رأي آخر مشابه ولكن بتعبير آخر، وهو القول بأن الحقيقة هي الملكوت
المستقبلي، ولكنه يلقي ضوءه على الحاضر، وقد جمع الرب يسوع في أقواله بين الجانبين
الحاضر والمستقبل
.

ومن
الواضح أن الملكوت كان موضع الاهتمام العام كما نرى في لو 17: 20و21، حيث سأل
الفريسيون الرب يسوع عن متى يأتي، فكان جوابه: " ها ملكوت الله داخلكم "،
وهو يدل بلا شك على وجوده في الحاضر، كما يتضح ذلك أيضاً من قوله بخصوص إخراج
الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله" (مت 12: 28، لو 11: 20) . والأكثر من
ذلك هو أن الرب يسوع قال: " ملكوت الله يُغصب، والغاصبون يختطفونه " (مت
11: 12، لو 7: 28)، وهو لم يقصد بذلك الأساليب العسكرية، وإن كان من الواضح أنه
يشير إلى قوة ديناميكية، وفكرة وجود قوة فعَّالة هي إحدى المظاهر المميزة للملكوت،
فقد قال الرب نفسه: " حينما يحفظ القوي داره متسلحاً، تكون أمواله في أمان.
ولكن متى جاء من هو أقوى منه، فإنه يغلبه وينزع سلاحه " (لو 11: 21 و22)، مما
يشير إلى أنه في خدمته ستتجلى غلبته على قوات الظلمة.

ومن
الواضح أن الملكوت الذي نادى به الرب يسوع، كان ملكوتاً بحكمة الله ويرتبط
ارتباطاً وثيقاً بعمله الفدائي التي سيخلِّص به الله شعبه. كما أنه لا يمكن النظر
إلى تعليم المسيح عن الملكوت بمعزل عن سائر أقواله، التي يجب أن تؤخذ ككل، فلا
يمكن فصل جزء عن باقي الأجزاء دون أن يتشوه الكل.

ونجد
تعليماً أكثر وضوحاً عن الجانب المستقبلي من الملكوت. في بعض أمثال الرب يسوع (مت
13)، وفي حديثه على جبل الزيتون (مت 24، 25، مرقس 13، لو 21). ففي هذا الحديث، تكلم
الرب يسوع عن مجيء ابن الإنسان " في سحاب بقوة كثيرة ومجد " (مرقس 13: 26)
كما يذكر في إنجيل متى إرسال " ملائكته ببوق عظيم الصوت " (مت 24: 31
).

وتعطينا
أمثال الملكوت أوضح فكرة عن طبيعة الملكوت . فالعضوية في الملكوت ليست شاملة، لأنه
في مثل الزارع لم تُعط كل أنواع التربة ثمراً(مت 13: 18-23)، كما نرى نفس الصورة
في مثل الزوان، وفي مثل الشبكة المطروحة في البحر . ففي مثل الزوان، جُمع الزوان
في حزم ليُحرق، أما الحنطة فجمعت إلى أوعية، وأما الأردياء فطرحوها خارجاً " (مت
13: 30و 48). فأعضاء الملكوت هم الذين يسمعون الكلمة ويفهمونها (مت 13: 23)، فمن
الواضح أنه يجب أن تكون هناك استجابة من جانب المستمع حتى يمكنه الاستمتاع ببركات
الملكوت

.

وهناك
تأكيد على النمو في مثل حبة الخردل، حيث نمت وأصبحت شجرة كبيرة من بذرة صغيرة .
كما أن مثل الكنز، ومثل اللؤلؤة يصوران قيمة الملكوت وأهميته . أما أن الملكوت
يمتد إلى كل الشعوب فواضح من مثل الكرم، حيث يقول الرب لليهود: " إن ملكوت
اله يُنزع منكم، ويُعطى لأمة تعمل أثماره " (مت 21: 43)، وهو ما يتفق مع
الإرسالية العظمى للتلاميذ: " فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم " (مت 28: 19)،
فهو ملكوت يتسع لجميع الناس الذين يستجيبون لدعوة الإنجيل.

(1) تعليمه عن موته: يجب عدم الفصل بين الإعلان عن
الملكوت، وحديث الرب يسوع عن موته . فهل رأى الرب يسوع أن موته كان جزءاً لا يتجزأ
من خدمته؟ يزعم البعض أن حياته انتهت بخيبة الأمل، ولكن التأمل البسيط في ما ذكره
عن موته، كاف لدحض هذه المزاعم. أما عن السؤال: بأي معنى ربط المسيح موته الوشيك
بالملكوت؟ لقد أعطى سلسلة من الأدلة التي – متى أُخذت معاً – تزودنا بالأساس الذي
نبني عليه فكرتنا عن موقع موته من كل خدمته.

من
الهام جداً أن نلاحظ أن الرب يسوع ذكر أن كل تفاصيل حياته كانت إتماماً للكتب
المقدسة (انظر مثلاً مت 26: 24و56، مرقس 9: 12، لو 18: 31، 24: 25-27، 44و45). ففي
كل هذه المواضع من الواضح أن آلام المسيح كانت موضوع نبوات العهد القديم (1بط 1: 10و11)
وأنه لم يكن ممكناً إتمام هذه النبوات إلا بموته، فموته جزء لا يتجزأ من خدمته.

كما
أن هذا التأكيد على إتمام النبوات يبرز أيضاً في إنجيل يوحنا، كما في قول الرب
لنيقوديموس: " كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان
" (يو 3: 14) . وليس ثمة شك في أن إتمام النبوات كان دافعاً قوياً في حياة
الرب يسوع، وفي مفهوم المسيحيين الأوائل لموت المسيح. وفي هذا الصدد، هناك من
يزعمون أن يوحنا يضع أهمية أكبر على التجسد كوسيلة للخلاص،ولكن هذا ليس إلا جزء من
الحق، إذ توجد في إنجيل يوحنا إشارات إلى معنى موت المسيح وأهميته أكثر مما في
الأناجيل الأخرى.

والأناجيل
جميعها تؤكد الضرورة الإلهية لموت الرب يسوع، فعلاوة على موضوع إتمام النبوات، فإن
فكرة ضرورة موت المسيح واضحة جداً في أول نبوة ذكرها عن موته. فيتكلم في إنجيل
يوحنا كثيراً عن " ساعته " أو

" الساعة " . ففي أوائل خدمته يقول: "
لم تأت ساعتي بعد " (يو 2: 4)، ولكن في أواخر أيام خدمته يقول: " قد أتت
الساعة " (يو 17: 1)، ولا شك في أنه كان يعني بذلك ساعة موته، إذ كان يعلم
أنه لا سبيل لتمجيد الآب إلا بموته، حسب الخطة الإلهية التي بلغت ذروتها بموته
وقيامته.

وكان
الرب يسوع يعتبر موته ذبيحة كفارية، وذلك واضح فيما قاله عند وضع العشاء الرباني،
إذ كانت الكأس تشير إلى دم العهد الجديد " الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة
الخطايا " (مت 26: 26-28). وقد فهمت الكنيسة منذ البداية أهمية هذا القول،
فأيقنت أن " المسيح مات من أجل خطايانا" (انظر 1كو 15: 3). وفكرة "
العهد الجديد " تشير إلى ما جاء في سفر الخروج (ص 24) عن العهد الذي خُتم بدم
الذبيحة، وهو – بلا شك – ما كان في فكر المسيح عندما نطق بهذا القول عن العهد
الجديد، كما أنه يرتبط بما قاله إرميا عن العهد الجديد (إرميا 31: 31- 34) الذي
سيُكتب على القلوب وليس على الأحجار.

ويظهر
جانب آخر من جوانب موت المسيح في إنجيل يوحنا بخاصة، وهو جانب الإكمال أو الإتمام
الذي لازم موته، ففي صلاة الرب يسوع (يو 17) وهو يواجه الصليب، يقول: " العمل
الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته
"

(يو 17: 4). وتأيد ذلك بصرخته على الصليب: "
قد أكمل " (يو 19: 30)، وهي تحمل نغمة الانتصار الكامل
.

وفكرة
هامة أخرى تظهر بصورة خاصة في كتابات الرسول بولس وفي أجزاء أخرى من العهد الجديد،
هي أنه – بمعنى ما – كان يسوع بديلاً عن الإنسان الساقط، فهل نجد في تعليم الرب
يسوع ما يؤيد ذلك؟ في خضوع الرب يسوع لمعمودية يوحنا المعمدان للتوبة، كان يضع
نفسه مع الذين كانوا في حاجة إلى توبة، حيث أنه هو نفسه لم يكن في حاجة لذلك لأنه
كان بلا خطية . وقد اقتبس الرب يسوع نفسه ما جاء في نبوة إشعياء (53: 12)، و"
أحصي مع أثمة " (لو 22: 37) مطبقاً إياه على نفسه.

ونجد
تركيزاً واضحاً في نبوات إشعياء عن " عبد الرب "، على أنه سيكون بديلاً
عن شعبه، والرب يسوع كان هو العبد الكامل (في 2: 7) . وثمة قول آخر يبرز فكرة أن
موت المسيح كان بديلاً عن آخرين: " لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأت ليُخدَم بل
ليخدم وليبذل نفسه فدية عن ما كان كثيرين " (مرقس 10: 45، مت 20: 28).
والفدية هي ما كان يُدفع لتحرير عبد، وقد بذل الرب يسوع نفسه فدية عن كثيرين، وحرف
الجر " عن " هنا يعني " بدلاً من "، مما يؤكد فكرة "
البديل ". كما نجد ذلك أيضاً في قول الرب يسوع كالراعي الصالح: " أنا
أضع نفسي عن الخراف " (يو 10: 15
).

وكان
الدافع الذي دفع المسيح إلى بذل نفسه هو المحبة، إذ قال هو نفسه:

" ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل
أحبائه " (يو 15: 13)، ومن الجلي أن الرب يسوع كان يشير إلى نفسه بهذا القول،
وهو ما يتفق مع قوله عن محبة الله " هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه
الوحيد " (يو 3: 16) . وفي نفس الوقت رأى الرب يسوع في موته نصرة على الشيطان،
فبعد أن قال: " إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت، فهي تبقى وحدها، ولكن إن
ماتت تأتي بثمر كثير

"

(يو 12: 23و24)، قال: " الآن يُطرح رئيس
هذا العالم خارجاً " (يو 12: 13
).

و
لا يكتمل الكلام عن تعليم المسيح دون إبراز فاعليته في كل واحد من أتباعه، فإن ذلك
يتوقف على التوبة والإيمان الشخصي بالرب يسوع المسيح.

(2) تعليمه عن الروح القدس: في العديد من الأحداث
الكبرى في حياة الرب يسوع، لاحظ البشيرون فاعلية الروح القدس (كما في مولده
العذراوي، ومعموديته، وتجربته)، مما يدل على أن الرب يسوع قد علَّم تلاميذه عن
الروح القدس، ولكننا لا نجد سوى القليل من ذلك في الأناجيل الثلاثة الأولى، ولكننا
نجد العديد من الأقوال عن الروح القدس في إنجيل يوحنا.

عندما
بدأ الرب يسوع خدمته الكرازية في الناصرة – كما يذكر إنجيل لوقا – دخل المجمع وقرأ
من نبوة إشعياء (61: 1و2) عن روح الله مطبقاً تلك النبوة على نفسه، فقد كانت خدمته
بالروح القدس، وقد صرح بذلك عندما اتهمه الفريسيون بأنه يخرج الشياطين ببعلزبول
رئيس الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله " (مت 12: 28). كما قال لهم: "
كل خطية وتجديف يغفر للناس . وأما التجديف على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا
العالم ولا في الآتي " (مت 12: 31و32
).

هل تبحث عن  م المسيح المسيح ولد من عذراء فلماذا قائمة الأنساب ب

وعندما
أنذر تلاميذه بما سيلاقونه من مقاومات واضطهادات، أكد

لهم:
" أنهم سيسلمونكم إلى مجالس وفي مجامعهم يجلدونكم، وتساقون أمام ولاة وملوك
من أجلي شهادة لهم وللأمم، فمتى أسلموكم، فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم
تُعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي
يتكلم فيكم "(مت 10: 17-21، مرقس 13: 9-11). ويسجل لنا لوقا أن الرب يسوع قال:
" إن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري الآب
الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه " (لو 11: 13)، فالرب يعتبر
أن عطية الروح القدس للمؤمنين هي أعظم العطايا.

وفي
مناسبة أخرى يقول الرب يسوع، وهو يعلِّم في الهيكل: " إن داود نفسه قال
بالروح القدس " (مرقس 12: 36) مما يؤكد كتابة المزامير بالروح القدس، فالروح
القدس هو العامل في كتابة كل أسفار الكتاب المقدس، الذي كتبه " أناس الله
القديسون مسوقين من الروح القدس " (2بط 1: 21، انظر أيضاً 2تي 3: 16
).

وفي
إنجيل يوحنا نجد أقوالاً واضحة عن الروح القدس، فهو " المعزي " وهو
" روح الحق " (يو 14: 16و17). كما يقول الرب يسوع لنيقوديموس: " إن
ملكوت الله . المولود من الجسد جسد هو، المولود من الروح هو روح " (يو 3: 5
و6). وقبيل نهاية الأصحاح الثالث من إنجيل يوحنا، يقول: " لأنه ليس بكيل يعطي
الله الروح " (يو 3: 34
).

وهناك
فصلان يلقيان الضوء على موضوع الروح القدس، فلأن الله روح، قال الرب يسوع للمرأة
السامرية: " إنه بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا " (يو 4: 24). وفي تعليمه
في عيد المظال، وعد قائلاً: " إن من آمن بي، تجري من بطنه أنهار ماء حي . قال
هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 7: 37-39
).

أما
تعليمه الواضح للتلاميذ عن الروح القدس فنجده في إنجيل يوحنا

(14: 16و17و2: 26، 15: 26و27، 16: 7-11و13-15)،
فهذه الفصول تتضمن حقائق هامة عن الروح القدس، وهي أساس ما نقرأه في رسائل العهد
الجديد.فأول كل شيء يسمى الروح القدس " روح الحق " في ثلاثة مواضع من
الخمسة المذكورة آنفاً، مما يستلفت النظر بشدة إلى عمل الروح القدس في شهادته لكل
ما هو حق . و" روح الحق " نفسه هو الذي وعد به التلاميذ ليرشدهم "
إلى جميع الحق " (يو 16: 13)، وهو الذي يشهد للمسيح (يو 15: 26)، و"
يمجد المسيح " (يو 16: 14
).

كما
يسمى الروح القدس " المعزي " (الباراقليط- وهي مشتقة من أصل معناه
" المعين "، أو بعبارة أخرى، إنه متى احتاج المؤمن إلى معونة، فإنه يجد
الروح القدس بجانبه. والروح القدس " مرسل من الآب " (يو 14: 26)، فهو
" من عند الآب ينبثق " (يو 15: 26). وهو عطية من الآب (يو 14: 16
).

ونرى
في كل هذه الصلة الوثيقة بين الآب والابن والروح القدس . فيصلي الابن للآب، والآب
يعطي الروح. يرسل الآب لروح باسم الابن، والابن يرسل الروح من الآب (يو 14: 26، 16:
7). وعمل الروح هو أن يعلن لنا كل الحق، ويخبرنا بأمور آتية(يو 16: 13
).

وأحد
الأعمال الهامة للروح القدس، هو أنه يعلِّم التلاميذ ويذكِّرهم بكل ما قاله لهم
الرب (يو 14: 26). ومعنى هذا أن الرب يسوع لم يشأ أن يترك حفظ تعاليمه للصدفة، وما
أكثر النظريات التي تحاول تفسير كيف وصلتنا الأخبار تكتب الأناجيل . وليس من
المقبول إطلاقاً أن يطبَّق عليها ما يعرف " بقوانين النقل الشفاهي "،
فلا نعير اهتماماً لهذا العامل الفريد في حالة كتابة الأناجيل، وهو الروح القدس،
الذي من عمله أن يحفظ وأن يذكَّر التلاميذ بكل ما قاله لهم الرب، فما يقوله الرب
هنا أمر بالغ الأهمية، وعظيم الدلالة على أن كتابة الأناجيل تمت بعمل الروح القدس،
هكذا كل الكتاب فهو " موحى به من الله" (2تي 3: 16)، وقد كتبه "
أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس " (2بط 1: 21) كما سبقت الإشارة.

وهناك
عمل هام آخر للروح القدس، وهو عمله في العالم، فقد ذكر الرب يسوع بوضوح أن الروح
متى جاء " يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة " (يو 16: 8).
فبدون عمل الروح القدس، لن يكون للكرازة بالإنجيل أي تأثير في العالم . وقد حذر
الرب يسوع قائلاً: " روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه
و لا يعرفه " (يو 14: 17). والروح القدس يسكن في كل مؤمن،وهو أمر بالغ
الأهمية يذكره الرسول بولس كثيراً في رسائله.

ونقرأ
في إنجيل يوحنا (20: 22) أن الرب يسوع نفخ في التلاميذ

" وقال لهم: اقبلوا الروح القدس " . ولكن
الروح القدس لم يحل بملئه على التلاميذ إلا في يوم الخمسين (أع 2: 1-4
).

(6) تعليمه عن الإنسان: علَّم الرب يسوع عن عناية
الله بالإنسان، فشعور رؤوسنا محصاة عنده (مت 10: 30)، وهو تعبير قوي عن اهتمام
الله بأدق شئون الحياة، كما يدل على مدى تقدير الله للإنسان، ولكن هذا القول لا
ينفي فكرة أن الله يولي عناية خاصة للذين صاروا بالإيمان أبناء له (انظر مت 6: 25-33
).

ومع
أهمية الحياة الجسدية والممتلكات، فإن الرب يسوع ذكر بوضوح أنه لا منفعة للإنسان
إن ربح العالم كله وخسر نفسه (مت 16: 26، مرقس 8: 37،لو9: 25)، فالأهمية كلها
تتركز فيمن هو الإنسان وليس في ماذا يمتلك . بل إنه خير للإنسان " أن يدخل
الحياة أقطع، من أن تكون له يدان ويمضي إلى جهنم، إلى النار التي لا تُطفأ
"

(مرقس 9: 13-47، مت 5: 29و30). وليس معنى هذا
أنه لم يكن يهتم بصحة الإنسان وسلامته الجسدية (كما تدل على ذلك معجزات الشفاء
التي أجراها) ولكن اهتمامه الأكبر كان بعلاقة الإنسان بالله . ومن الجدير
بالاعتبار – في الصدد- أن الرب يسوع المسيح لم يتقشف (انظر مت 11: 19). وقد علَّم
أن ما يدخل في الإنسان لا ينجس الإنسان، ولكن ما يخرج منه، هو الذي ينجسه (مرقس 7:
14-23). وهو ما يتناقض مع الممارسات اليهودية فيما يختص بالطعام.

ولم
ينظر الرب يسوع إلى الإنسان كمجرد فرد، ففي مجتمع الله، يُنتظر من الناس أن يكونوا
مسئولين من نحو بعضهم البعض . وتصور الموعظة على الجبل هذه المسئولية الاجتماعية،
فالرحماء يُرحمون (مت 5: 7)، وهناك

" طوبى " خاصة لصانعي السلام (مت 5: 9) .
يُنتظر من تلاميذ المسيح أن يكونوا نوراً للآخرين (مت 5: 16)، وأن يتقاسموا ثيابهم
مع المحتاجين (مت 5: 40). فمن الواضح أن الرب يسوع يريد أن يقول إن الناس عليهم
مسئولية، لا من نحو أنفسهم فقط، بل من نحو الآخرين أيضاً.

وعلاقة
الإنسان بالله هي علاقة الاعتماد الكامل، فقد علَّم المسيح أن يصلي الناس لله
طلباً للخبز اليومي (مت 6: 11)، مما يذكِّرهم بأنهم لا يمكن أن يكونوا مكتفين
بذواتهم . ولم يترك مجالاً في تعليمه لأن يفتخر الإنسان بمنجزاته، بل يجب أن يتذكر
الإنسان باستمرار أنه مجرد مخلوق لا يستطيع أن يحيا بالاستقلال عن الله.

وقد
تكلم الرب يسوع عن الحياة العائلية، فأيد قداسة الزواج(مت 5: 31و32، 19: 3-9)،
وأعلن اهتمامه العظيم بكرامة الزوجة وحقوقها . كما بين بتصرفاته وموافقة تقديره
لمكانة المرأة . فعندما كان يتحدث إلى الناس كان يتحدث إلى الجميع رجالاً ونساءً،
فليس ثمة ما يميز الرجل عن المرأة من جهة الإيمان ونوال الحياة الأبدية. بل إن
لوقا يذكر أن نساء " كثيرات كن يخدمنه من أموالهن " (لو 8: 2و3
).

والتأكيد
على ضرورة التوبة (مت 4: 17) يكشف عن طبيعة الإنسان الخاطئة التي تستلزم التوبة .
وتظهر هذه الحاجة بوضوح في المرات التي أعلن فيها المسيح غفرانه (كما في حالة
المفلوج – مت 9: 1-8، والمرأة التي دهنته بالطيب-لو 7: 47و48). وقد علَّم تلاميذه
أن يطلبوا في الصلاة غفران خطاياهم

(مت 6: 12، لو 11: 4)، فهو يعتبرها قضية مسلم
بها، أنهم في حاجة إلى الغفران، ويجب أن تكون لهم رغبة فيه.

ولا
يترك الرب يسوع أي مجال للظن بوجود بر ذاتي في الإنسان، بل كان هذا أساس نقدة
للقادة الدينيين في سائر أقواله، وبخاصة في الأصحاح الثالث والعشرين من إنجيل متى،
فقد انتقد المعلمين اليهود لأنهم وجَّهوا اهتماماً كبيراً إلى أعمال البر الذاتي
باعتبارها عاملاً في الخلاص، بينما كان الأمر عند الرب يسوع يتوقف تماماً على أن
يرمي الإنسان نفسه بالتمام على رحمة الله، وهو الأمر الواضح جداً في مثل الفريسي
والعشار الذي ألقى بنفسه بالتمام على رحمة الله، وبذلك نزل إلى بيته مبرراً دون
الفريسي (لو 18: 9-11
).

ولا
شك إطلاقاً في أن المسيح اعتبر أن الخطية قد شملت الجميع، فليس ثمة إنسان بلا خطية
. وأكبر مفهوم للخطية – في تعليمه – هو اغتراب الإنسان عن الله، ويظهر هذا بوضوح
في إنجيل يوحنا في المقارنة بين النور والظلمة، والموت والحياة (انظر يو 5: 24).
فالعالم – في إنجيل يوحنا – يمثل النظام الذي لا يضع الله في حسابه، أي الذي لا
يبالي بالله.

كما
أن الخطية هي الاستعباد للشيطان . وقد قال الرب يسوع لمقاوميه: " أنتم من أب
هو إبليس " (يو 8: 44)، أي أن هناك قوى معادية تحاول إخضاع الإنسان واستعباده.

وفي
مثل الابن الضال، تربط الخطية ضد الله بالخطية ضد الأب، وبعبارة أخرى تعتبر تمرداً
وعصياناً (لو 15: 21)، وهو تقدير لها يختلف عن نظرة الابن الأكبر الذي لم يرها إلا
في تبديد ثروة أبيه. فكرة أن الإنسان أساساً في حالة عصيان ضد الله، فكرة أساسية
في تعليم الرسول بولس، ومن الهام جداً أن نلاحظ أن لها جذورها في تعليم المسيح.

وقد
تكلم الرب يسوع كثيراً عن الدينونة، فالذين لا يؤمنون – ومن ثم يظلون خارج تدبير
الخلاص الذي صنعه الرب يسوع – قد دينوا فعلاً (يو 3: 18)، مما يثبت أن مصير
الإنسان الأبدي يرتبط بحالته هنا، فيجب أن ننظر إلى مجيء المسيح وموته الكفاري، في
ضوء حاجة الإنسان الروحية، فلو تُرك الإنسان لذاته، لظل عاجزاً تماماً عن الحصول
على الخلاص، ولكن المسيح جاء ليهب حياة أبدية لمن يؤمنون به

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ب بنيامين الأول ل

(يو 3: 16).

(3) تعليمه عن الكنيسة: يزعم البعض أن المسيح لم
يتنبأ بأنها ستكون هناك، ولكنه في مناسبتين مختلفتين استخدم نفس كلمة" كنيسة
" والتي تعني جماعة من الناس مدعوين من الله . ففي قيصرية فيلبس، قال الرب
يسوع لبطرس إنه سيبني كنيسته على صخرة الإيمان بأنه المسيح ابن الله الحي (مت 16: 16-19).
ويجب أن نلاحظ أن المسيح نفسه هو بنَّاء الكنيسة . كما أخبر تلاميذه بأنها ستكون
منيعة حتى إن " أبواب الجحيم لن تقوى عليها
".

 كما أن من وظائف الكنيسة المناداة بغفران الخطايا، وهو ما تضمنته كلمات
الرب يسوع لبطرس، فلم يكن المقصود منها أن تكون قاصرة على بطرس، وهذا واضح جداً من
توجيه نفس الكلمات – في مرة أخرى – للتلاميذ جميعهم (مت 18: 18) فالكنيسة "
مجتمع يستطيع أن يحكم في المنازعات بين الأخوة

(مت 18: 17،ارجع إلى 1كو 6: 1-5).

وبالإضافة
إلى هاتين الإشارتين الواضحتين إلى الكنيسة، فإنه ذكر أن أتباعه سيجتمعون معاً
باسمه(مت 18: 18و19) . وفي ختام إنجيل متى، أرسل تلاميذه إلى جميع الأمم
ليعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به، وأن

" يعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس " (مت
28: 19و20)، ووعدهم بأنه معهم " كل الأيام إلى انقضاء الدهر ". والأمر
الآخر الذي أوصى تلاميذه أن يحفظوه هو " عشاء الرب "، وهو أمر يفترض
وجود مجتمع من المؤمنين يمارسون هذا العشاء. وحيث أن عشاء الرب هو لذكر موت الرب
إلى أن يجيء، فمن الواضح أن الرب كان يتحدث عن كنيسة تحفظ ممارسة العشاء لذكره إلى
أن يجيء . والكنيسة هي جماعة من الناس عرفوا أنهم بإيمانهم بالرب يسوع المسيح قد
دخلا في علاقة جديدة مع الله.

ومع
أنه لا ذكر للكنيسة في إنجيل يوحنا، إلا أن هناك بعض الإشارات التي تؤيد فكرة
وجودها، فيقول الرب عن نفسه، إنه الراعي الصالح وإن شعبه هم

" الرعية " (يو 10: 16). كما تتكرر نفس
الفكرة في حديثه بعد القيامة مع بطرس لرد نفسه، إذ يوصيه بأن يرعى غنمه(يو 21: 15-17).
كما أن تشبيه الكرمة والأغصان يتضمن فكرة وجود أغصان كثرة تستمد حياتها من الاتصال
الحيوي بالكرمة، ومن ثم فإن كل غصن يرتبط بالآخر في حياة مشتركة في الكرمة.

وعلَّم
الرب أن المجتمع المستقبلي (أي الكنيسة) في حاجة إلى معونة وإرشاد الروح القدس،
وبذلك وضع الأساس لاعتماد الكنيسة الواضح على قيادة الروح القدس، كما يتجلى ذلك في
سفر أعمال الرسل
.

ويجب
أن نلاحظ أن هناك علاقة وثيقة بين الكنيسة والملكوت، ولكنهما ليسا مترادفين،
فالملكوت أوسع شمولاً من الكنيسة التي هي جزء داخل الملكوت.

(4) تعليمه عن المستقبل: تكلم المسيح عن الملكوت
كأمر حاضر وكرجاء في المستقبل . ويرتبط الجانب المستقبلي بنهاية الدهر . ولكنه لم
يترك تلاميذه يجهلون كل شيء عن كيفية انتهاء هذا الدهر بل أعطاهم تأكيداً قاطعاً
بأنه سيرجع إليهم ليأخذهم إليه في وقت ما في المستقبل.

فقد
أخبرهم أن " ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته " (مت 16: 27).
وفي حديثه رداً على سؤال تلاميذه عن نهاية العالم، يقول لهم مرة أخرى أنه سيأتي
" في سحاب بقوة كثيرة ومجد " (مرقس 13: 26)، وهي غير شبيهة بما جاء في
الأصحاح السابع من نبوة دانيال .كما وصف لهم الرب يسوع بعض العلامات التي تسبق هذا
المجيء، فذكر حدوث حروب وزلازل ومجاعات وتزعزع السموات، وأن الإنجيل سينادي به لكل
الأمم، وفي نفس الوقت سيظهر مسحاء كذبة كثيرون.

لقد
أعطى المسيح هذه التفاصيل عن مجيئه ثانية ليشجع تلاميذه على مواجهة الاضطهاد، مع
التحريض على السهر . فللرجاء المبارك أهدافه العملية. وسيكون المجيء ثانية مفاجئاً
للعالم كلص في الليل (مرقس 13: 32-36
).

ومن
الموضوعات الهامة عن المستقبل، تعليم المسيح عن القيامة، فقد كان الصدوقيون لا
يؤمنون بقيامة الأجساد، وحاولوا أن يصطادوا المسيح بقصة المرأة التي تزوجت سبع
مرات، وأرادوا أن يعرفوا لمن منهم ستكون زوجة في القيامة . لقد كانت فكرة
الصدوقيون عن القيامة خاطئة، فقال لهم الرب يسوع إنهم في القيامة يكونون كالملائكة
في السموات . فقيامة الأموات لا شك فيها . وقد ذكر الرب يسوع قصة الغني ولعازر
المسكين (لو 16: 19-31). فبعد موتهما، نرى الغني يصرخ من العذاب في اللهيب، بينما
لعازر المسكين يستمتع في حضن إبراهيم ويتضح من هذه القصة يقينية الحياة بعد الموت،
وحقيقة التمييز بين الرجلين،وإن كان لم يذكر في هذه القصة على أي أساس كان هذا
التمييز . ولكن من الواضح في تعليم الرب يسوع أن المطلب الأساسي للحياة الأبدية السعيدة
هو الإيمان به رباً ومخلصاً . وفي الحديث بين الرب يسوع واللص التائب على الصليب،
يتبين لنا أنه في الفردوس سيكون له كامل الوعي بحضور الرب يسوع (لو 23: 42و43
).

ونجد
موضوع الثواب والعقاب في الكثير من الفصول، فيقول الرب يسوع إن ابن الإنسان متى
جاء " في مجد أبيه، فسوف يجازي كل واحد حسب عمله " (مت 16: 27). وسيُطرح
غير المؤمنين إلى الظلمة الخارجية (مت 25: 30). كما تكلم الرب يسوع عن يوم
الدينونة الذي فيه يجب أن يعطي الناس حساباً عن كل كلمة بطالة (مت 12: 36و37). كما
أنه عند مجيئه سيميز بين الناس " كما يميز الراعي الخراف من الجداء " (مت
25: 31-46
).

ومن
أخطر أقوال الرب يسوع، أحاديثه عن جهنم، ولا سبيل إلى الدوران حول حديثه عن العقاب
الأبدي للخطاة (مت 25: 41و46)، وهو على النقيض من الحياة الأبدية للمؤمنين. وقد
وعد التلاميذ بأنه سيعد لهم مكاناً في السماء (يو 14: 2)، وأن أسماءهم مكتوبة في
سفر الحياة (لو 10: 20
).

(5) تعليمه عن القضايا الأخلاقية: نجد الكثير من
تعليم الرب يسوع عن الأخلاقيات في العديد من الأقوال والأمثال والأحاديث (مثل
الموعظة على الجبل) حتى زعم البعض أن هذا الجزء من تعليمه كان هو الهدف الرئيسي من
خدمته. ولكن التعليم عن الأخلاقيات لا يمكن فصله عن كل ما سبق من وجوه تعليمه
المتعددة . ولقد قيل إن هناك تطابقاً شديداً بين تعليم الرب يسوع والتعاليم
اليهودية عن الأخلاقيات . ولكن ما يميز تعليم الرب يسوع هو الدافع وراءه، فهو ليس
مقنناً في شرائع تجب طاعتها، لأن السلوك القويم هو نتيجة للعلاقة الصحيحة مع الله.

وقد
كان الرب يسوع نفسه هو المثال الكامل للسلوك، فقد صرح بجلاء أن هدفه هو أن يتمم
مشيئة الله، ولا يوجد شيء من الناموسية في معالجته لموضوع الأخلاق . وعندما قارن
في الموعظة على الجبل بين تعليمه وتعليم موسى، بيَّن أهمية إدراك المعنى الباطني (ارجع
إلى مت 5: 21و22و27و28و31و32). ففي الظاهر كانت مطالب الرب يسوع أشد من مطالب
ناموس موسى، لأنه اهتم بالنفاذ إلى الدوافع كما إلى التصرفات . ويرفض البعض
الموعظة على الجبل باعتبارها غير عملية، ولكن الرب يسوع لم يقصد أن يكون تعليمه
سهلاً وهيناً، بل وضع هدفاً عالياً: " كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في
السموات هو كامل " (مت 5: 48)، ومع ذلك قال: " نيري هيِّن وحملي خفيف
" (مت 11: 29)، مما يعني أنه لم يكن يضع مثالاً أخلاقياً مستحيلاً. ويجب أن
نذكر أنه بم يضع قانوناً للمجتمع، بل كان يريد أن يكون لدى كل فرد دوافع قوية
للسلوك القويم. وكلامه ضد الحفظ المتزمت للسبت على حساب صنع الخير للشخص المحتاج،
يصوِّر هذه النقطة، فالاهتمام بالآخرين أسمى من مراعاة الطقوس والشكليات.

(10) الخلاصة: لا يمكن أن تكتمل قصة حياة المسيح
وتعليمه دون معرفة المكانة التي احتلها الرب يسوع المسيح عند المؤمنين الأوائل .
وهذا يأتي بنا إلى دراسة سفر أعمال الرسل والرسائل، وبخاصة رسائل الرسول بولس،
ففيها نرى كيف تحققت نبوات الرب يسوع عن تأسيس الكنيسة، وكيف حاولت الكنيسة إطاعة
تعليم الرب يسوع، فكان الرب يسوع هو مركز إيمانها، وهدف حياتها، وغرض رجائها. لقد
كان لها " المسيح " (المسيا) هو " المخلص الروحي "، و "
الرب " باعتباره" الملك " على شعبه، و " الابن " في
علاقته مع " الآب " . ولم يتحقق التلاميذ تماماً من كل ما يتعلق بشخصه،
إلا بعد قيامته حيث استحضر الروح القدس إلى أذهانهم كل ما سبق أن قاله الرب لهم،
وعلَّمهم إياه . فقد أرسله الرب ليرشدهم إلى جميع الحق (يو 16: 13)، ويذكرهم بكل
ما قاله لهم (يو 14: 26
).

وقد
وجد البعض مشكلة في الجمع بين صورة الرب يسوع المرسومة في الأناجيل وتعليمه، وما في
الرسائل، وذلك لأن الرسول بولس لم يشر في رسائله إلى بعض أحداث معينة في حياة الرب
يسوع . فهل معنى هذا أن الرسول بولس لم يكن يعرف الكثير عن حياة الرب يسوع؟ إن من
يقولون بذلك، فاتتهم الإشارات الكثيرة في رسائل الرسول بولس إلى الرب يسوع وتعليمه.
فهو مثلاً يكتب عن " وداعة المسيح وحلمه " (2كو 10: 1)، مما يدل على
معرفته بقول المسيح: " تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب " (مت 11: 29).
كما أنه يذكر افتقار المسيح لأجلنا (2كو8: 9)، فلابد أنه قد عرف أن " ابن
الإنسان لم يكن له أين يسند رأسه" (مت 8: 20، لو 9: 58). وعرف كيف وضع الرب
والعشاء الرباني، كما كان يعلم ولادة المسيح من العذراء (غل 4: 4)، وأنه مات وأنه
دفن وانه قام في اليوم الثالث

(1كو 15: 3و4)، وأنه صعد فوق جميع السموات (أف4: 10)،
وهكذا نرى أنه كان عارفاً بتفاصيل حياة المسيح وتعليمه.

ومن
الجدير بنا هنا أن نعرف مدى ما كان لتعليم المسيح من أهمية في حياة المسيحيين
الأوائل . وهناك آية لها أهميتها في هذا الخصوص، حيث يقول الرسول بطرس في بيت
كرنيليوس قائد المئة: " يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحه الله بالروح القدس
والقوة، الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس " (أع 10: 38).
فمن الواضح أن الكرازة بالإنجيل كانت دائماً تشتمل على الكثير من حياة المسيح
وتعليمه.

ومما
لا شك فيه أن حياة المسيح كانت دافعاً قوياً للسلوك القويم , ويستند الرسول بطرس
إلى ذلك في تحريضه للمؤمنين على احتمال الآلام

(1بط 2: 21). كما يبرز الرسول بولس أهمية الاقتداء
بالمسيح (1كو 11: 1، 1 تس 1: 6)، فقد كانت حياة المسيح – التى بلا خطية – مثلاً
أعلى لحياة المؤمنين.

وهناك
بعض الإشارات في الرسائل إلى تعليم الرب يسوع، وبخاصة في رسالة يعقوب التي تنحو
ناحية عملية، وفيها يتردد بقوة صدى الموعظة على الجبل، وهكذا نرى كيف كان لتعليم
الرب يسوع أهميته العظمى عند المسيحيين الأوائل، فكل تعليم في الرسائل له أساس في
تعليم الرب يسوع، وما أحوج المؤمنين الآن إلى أن يعرفوا أن غرض إيمانهم – كما كان
غرض المؤمنين الأوائل – هو نفسه الرب يسوع الذي عاش وعلَّم في الجليل وفي اليهودية
.

 

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي