بولس الرسول

 

و "
بولس " هو الاسم الروماني، ومعناه " صغير أو قليل". أما اسمه
العبراني فهو " شأول " ومعناه " المطلوب أو المسئول ". وكان
أحد القادة البارزين فى الكنيسة الأولى، وكانت خدمته – أساساً – للأمم.

كان شأول
يهودياً من سبط بنيامين (في 3: 5)، وقد أطلق عليه اسم "شأول الذي هو بولس
أيضاً " (أع 13: 9)، اسم أبرز شخصيات سبط بنيامين، ألا وهو " شأول
" أول ملك لإسرائيل.

أولاً –
تاريخه: ولد بولس في طرسوس فى مقاطعة كيلكية (أع 9: 11، 21: 39، 22: 3). ولا نعرف
الكثير عن عائلته، إلا أن جيروم يسجل لنا تقليداً يقول أن أبويه جاءا أصلاً من
مدينة في الجليل اسمها " جيسكالا "، وأنهما هربا إلى طرسوس عندما اجتاح
الرومان فلسطين في القرن السابق للميلاد، والأرجح أن العائلة كانت موسرة نوعاً ما،
فحيث أنه ولد مواطناً رومانياً (أع 16: 37و 38، 22: 25 – 9)، فلابد أن عائلته كانت
ذات ثروة مكانة ويبدو من قوله: " نتعب عاملين بأيدينا " (اكو 4: 12)،
وكلماته للفيلبيين (في 4: 14 – 19) عن العطية التي أرسلوها له، أنه كان يتكلم وكأن
مركزه الاجتماعى يتعارض مع هذه الأمور.

 

وكانت
الشريعة اليهودية تقتضى أن يبدأ الولد في دراسة الأسفار المقدسة وهو في سن
الخامسة، ودراسة التقاليد اليهودية وهو في سن العإشرة. ويقول يوسيفوس إن الأسفار
المقدسة والتقاليد اليهودية كانت تدَّرس في كل مدينة للأولاد اليهود " عند
بداية بلوغ سن الادراك ". كما يذكر فيلو نفس الأمر قائلاً " منذ الحداثة
الباكرة ". ولا شك في أن بولس قد انهمك منذ حداثته في هذه الدراسة سواء فى
البيت أو في المدرسة الملحقة بالمجمع. كما أن الوجدان اليهودي كان يحترم العمل
اليدوي، ويعتبر أن النبوغ العقلي والنشاط اليدوى صنوان لا يفترقان. ويشتهر
غمالائيل الثاني بقوله: " ما أسمي دراسة التوراة مع العمل الدنيوي، لان
التوراة بدون عمل دنيوي لا جدوى منها فى النهاية، بل قد تؤدى إلى الاثم ".
وهناك قول يهودى قديم ماثور: " من لا يعلم ابنه حرفة، فإنه يعلمه السرقة
"

وبناء على
هذا تعلم بولس صناعة الخيام، التي كانت تعتبر فى ذلك الوقت " حرفة نظيفة غير
شاقة " وإن كانت الآن فى نظر العالم مهنة وضيعة. لقد كانت التربية اليهودية
تهدف إلى إنتاج إنسان يفكر ويعمل فى نفس الوقت، إنسان غير مترفع أو مغرور أو كسول.
وقد برهنت حياة بولس على أنه قد أنتفع كثيراً من هذا المنهج فى التربية.

وفى الثالثة
عشرة من العمر، يصبح الصبي اليهودي، " ابن الوصية "، أي يصبح ملتزماً
تماماً بحفظ الناموس. وكان الأولاد النابهون يوجهون لمدارس الربيين (المعلمين
اليهود) لينالوا حظاً أكبر من التعليم. ويبدو أنه فى هذه السن – أو بعدها بقليل –
جاء بولس إلى أورشليم لمواصلة تعليمه. ولعله كان يعيش مع أخته المتزوجة (أع 23: 16)،
فهو يقول: " لكن ربيت فى هذه المدينة (أورشليم) مؤدباً عند رجلي غمالائيل على
تحقيق الناموس الأبوي " (أع 22: 3)، مما يرجح أن مجيئه لأورشليم كان بقصد
مواصلة الدراسة على أيدى كبار المعلمين اليهود. كما أن هذا يتفق مع ماذكره يوسيفوس
من أنه بدأ تعليمه الفريسى المكثف وهو في نحو الرابعة عشرة من عمره. وفي هذا دليل
على ذكاء بولس كشاب ومكانة والديه أيضاً، حتى إنه لم يتم اختياره لمواصلة الدراسة
عند كبار المعلمين فحسب، بل ذهب أيضاً إلى أورشليم ليدرس على يد أعظم معلمى القرن
الأول، " غمالائيل الأول " (أع 22: 3). وفي أثناء دراسته بز معظم
معاصريه، وأصبح " أوفر غيره فى تقليدات آبائه " (غل 1: 14).

أما من جهة
مظهره الخارجى، فليس عندنا سوى لمحات غير مبإشرة فى العهد الجديد. فما حدث في
لسترة، من أن أهل لسترة – فى حماستهم الخاطئه – اعتبروا برنابا زفس كبير آلهة الأولمب،
واعتبروا بولس هرمس رسول الآلهة المجنح (أع 14: 12)، نرجح أن برنابا كان أكثر
جلالة ومهابة، بينما كان بولس أقل منه مظهراً ولكن افصح لساناً. ولعل ما يؤيد
القول بأنه لم يكن ذا مظهر جذاب، ما كان يقوله معارضوه فى كورنثوس: " الرسائل
ثقيلة وقوية، اما حضور الجسد فضعيف " (2 كو 10: 10). ويذكر بولس نفسه امرين
كان لهما – ولابد – اثر في إضعاف مظهره إلى حد ما – فى شيخوخته على الاقل:

2- اعتلال صحته
الذي يشير إليه بعبارة: " شوكة في الجسد " (2كو 12: 7 -10)، "
وتجربتي التي فى جسدي " (غل 4: 13 – 15) والتي تضرع إلى الرب من أجلها
مراراً.

1-
"
سمات
الرب يسوع " فى جسده، والأرجح أنه يقصد بها آثار الجروح والضربات التي أصابته
كخادم للإِنجيل، والتي كان يعبترها سمات مقدسة تدل على صلته بالرب يسوع المسيح (غل
6: 17).

كما أن
رسالتيه إلى كنيسة كورنثوس تدلان على أنه كان يعتبر نفسه أقل بلاغة في الكلام من
الآخريين (اكو 2: 1 – 5،2 – كو 10: 10، 11: 6).

وفى نفس
الوقت تدل رسائله على أنه كان رجلاً حاد الذكاء، مرهف الحس، ملتهب الروح، شديد
الحيوية، قوي العزم، واسع الصدر، صادق الود. وقد وصفه أحد شيوخ أسيا الصغرى فى
القرن الثاني بأنه كان: " رجلاً قليل الحجم، أصلع الرأس، أعوج الساقين، قوي
البنية، له حاجبان مقرونان، وأنف معقوف بعض الشيء، ودوداً إلى أبعد الحدود، كان
يبدو عليه أحياناً أنه إنسان، وأحياناً آخرى أنه ملاك " (أعمال بولس وتلكه
3). ومع أن هذا الوصف قد يكون مأخوذاً مما جاء فى العهد الجديد، إلا أنه قد يكون
وصفاً صحيحاً يرجع إلي أيام الكنيسة الأولي.

ويبدو أن
مسألة هل تزوج بولس أم لم يتزوج، ستظل معلقة لا يمكن القطع فيها برأي، وإن كان
الأرجح انه ظل أعزب طيلة حياته. أما ما يقوله البعض من أنه كعضو فى السنهدريم
(انظر أع 26: 10) كان يجب أن يتزوج وأن يكون له أولاد فهو قول يعوزه الدليل، إذ
أنه تقليد يرجع إلى زمن الربي أكيبا فى أوآخر القرن الأول أو أوائل القرن الثاني
بعد الميلاد، ولم يكن أمراً محتماً قبل ذلك، كما أنه لا يمكن التعويل على ما ذكره
أكليمندس الاسكندري من أن بولس كان متزوجاً، ولكنه ترك زوجته في فيلبي حتى لا
تعوقه عن التجوال، وأنها هي المقصودة بالقول: " أنت أيضاً يا شريكي المخلص
" (في 4: 3)، فمن غير المعقول مطلقاً أن يحرض الرسول بولس غير المتزوجين
والأرامل فى كورنثوس على أن يظلوا بلا زواج " كما أنا " (ا كو 7: 8) لو
أنه كان متزوجاً. كما أن المتصوفين من الكورنثيين كانوا يدعمون آراءهم بالإِشارة
إلى أن بولس لم يكن أرمل بل أنه لم يتزوج أصلاً.

كان بولس
رجلاً حضرياً مثقفاً له مواقف وخبرات هيأته لرحابة الفكر واتساع الخدمة. لقد نشأ
في وسط المركز التجاري والثقافي فى مدينة طرسوس، وتربي فى مدينة أورشليم عاصمة
اليهود، وركز خدمته فى العواصم الرومانية الكبيرة، وتطلع إلى المناداة بالإِنجيل
فى روما نفسها عاصمة الامبراطورية. وتظهر الحصرية فى استعاراته المأخوذة عن حياة
المدنية مثل " ميدان " الألعاب (اكو 9: 24 – 27، فى 3: 14) والأحكام
الشرعية (رو 7: 1 – 4 غل 3: 15، 4: 21)، والمواكب (2كو 2: 14، كو 2: 15)،
والمعاملات فى الأسواق (2 كو 1: 22، 5: 5). لقد كان واسع الثقافة فى تقاليد
الآباء، كما أنه اتصل أتصالاً وثيقاً بالثقافة اليونانية، وحصل على الرعوية
الرومانية، لذلك كان قادراً على أن يتحدث بسهولة لجميع قطاعات العالم الروماني.

أ عبراني من
العبرانيين: لكى تفهم بولس جيداً يجب أن نرجع إلى حياته الأولى فى الديانة
اليهودية، إلى موضعه فيها وموقفه منها، ثم إلى نشاطه واختباره فى ديانة آبائه.

فبولس يصرح
بكل جلاء بأنه يهودي عبراني، وافر الغيرة فى تقاليد الآباء، فقد كان فريسياً
لايبزه أحد فى فريسته (أ ع 22: 3، 2 كو 11: 22، وفي 3: 5): وقد يشك البعض فى ذلك
على أساس ظروف نشأته فى طرسوس والمواقف التي عبر عنها فى رسائله والتي تدل على أن
بولس كان يقف فى الجانب المتسامح من اليهودية. وفى الحقيقة ليس هذا الأمر بذي
أهمية كبيرة فى ذاته، لأن الله قادر على أن يتمم أغراضه مهما كانت خلفية الإِنسان
الذى يختاره.

وبينما كان
البعض يرون فى بولس " يونانياً من اليونانيين "، إلا أن الكثيرين الآن
قد بدأ و فى النظر إلى عبرانيته بأكثر جدية. فالتمييز القديم بين اليهودي فى أرض
اليهودية، واليهودي فى الشتات، باعتبار الأول أصح فى عقيدته، لم يكن فى محله
دائماً، حيث أن سلامة العقيدة اليهودية لم تتوقف كثيراً على التوزيع الجغرافي،
مثلما على المناخ العقلي سواء فى الوطن أو فى الشتات. وإدراك بولس لوحدة الناموس،
ولعجز الإِنسان عن حفظ الناموس، يمكن أن نجد له مثيلاً فى بعض الكتابات اليهودية
فى عصره. وإلحاحه فى الحديث عن عجز الإِنسان كالخلفية التي يظهر امامها سمو رحمة
الله ونعمته، يظهر بشدة في تعليم بعض افاضل الربيين.

ولعل سلامة
عقيدة بولس لا تظهر أكثر مما فى موقفه من الأسفار المقدسة، حيث كان من عادته أن
يستند في أقواله إلى التعاليم القديمة الأصيلة، وليس إلى تفسيرات معاصريه، حتى فى
كرازته للأمم وتعليمه بالاتحاد الشخصى الكامل مع الله " في المسيح " –
رغم أختلافه إلى حد ما، في مداه ومحتواه عن اليهودية كان قريب الشبه بالتعبيرات
الرفيعة الموجودة فى التلمود. وكلما يتعمق الإِنسان فى فكر الرسول (مع الأخذ فى
الاعتبار ما أحدثته قيامة الرب من مفاهيم جديدة)، يجد ان اقوال بولس ومزاجه العقلي
وأساليب تعبيره، لها جذورها العميقة فى أنبل صور الفريسية اليهودية قبل خراب
أورشليم.

وليس معنى
هذا أن ننكر وجود أفكار وتعبيرات يونانية فى كتاباته. ومع عدم ظهور أي أثر عميق
للفلسفة اليونانية في تفكيره، إلا أنه استطاع أن:

1- يطوَّع لغتها الدينية ويستخدمها في شرح الحق المسيحي (كما في كو 1:
15 – 20).

2- يستشهد بأقوال بعض كتاَّبها (أ ع 17: 28، اكو 15: 33، تي 1: 12).

3- يناقش الأمور اللاهوتيه بنفس أسولبهم (رو 1: 19و 20، 2: 14، 15).

4- يستخدم أسلوبهم في النقد اللاذع (كما في رو 2: 1 – 3: 20، 9: 1 –
11: 36).

وهذه أشياء
كان يمكنه اكتسابها فى أثناء دراسته عند الربيين في أورشليم، حيث كان الربيون
واسعو الأفق، يتعلمون شيئاً عن أساليب تفكير الأمم. كما كان يمكنه اكتسابها فى
اتصالاته الشخصية فى طرسوس، أو فى رحلاته الكرازية بعد ذلك. ومهما كانت كيفية
اكتسابها، فإن بولس استخدمها لأنها كانت قادرة على نقل المعنى الذى يريده بدون
الإِشارة إلى مفهومها فى الفسلفة الدينية اليونانية. وهي تبدو فى رسائله شيئاً
ثانوياً يختص بالسطح أكثر مما بلب فكرة وتعليمه.

ب- مضطهد
الكنيسة: أول ما يظهر بولس على صفحات العهد الجديد، يظهر في دور مضطهد الكنيسة،
فقد شارك في رجم استفانوس، كما كان يجر المؤمنون في أرشليم إلى السجن، ويسترجع
المؤمنون الذين فروا إلى مناطق خارج أورشليم طلباً للنجاة (أ ع 7: 58 – 8: 3، 9: 1و
2، 1كو 15: 9، في 3: 6).

ويرى البعض
أن هذا العمل لم يكن يليق بتلميذ نابه من تلاميذ معلم واسع الفكر متسامح مثل
غمالائيل الأول، فكلمات غمالائيل في الاعمال (5: 34 – 39) مثال للاعتدال في وسط جو
من السعار المجنون. ولكن ما يجب ملاحظته هو انه في العيون الفريسية – على الأقل –
كان الموقف الذي واجه غمالائيل، يختلف تماما عن الموقف الذي واجه " الربي
الشاب شأول، فقبل تلك المشورة التي أبداها غمالائيل، يسجل سفر الأعمال شهادة
الكنيسة عن يسوع المسيا والسيد والمخلص، وعن موته بمشورة الله المحتومة وعلمه
السابق، وعن قيامته الظافرة، ومكانه السامي الآن كالفادي الممجد. كانت كرازة
المسيحيين الأوائل عملية في أساسها، بدون الدخول في التفصيلات الكاملة للتعليم
الذي تتضمنه عقيدتهم. ولم يسبب هذا التعليم انزعاج السنهدريم – وبخاصة الصدوقيين
والكهنة – فحسب، بل كان الأهم من ذلك أنه كان تحدياً لسلطاتهم. أما بالنسبة
للفريسيين – الأكثر نبلاً وتسامحاً – كان مسيحيو أورشليم مازالوا معتبرين داخل
دائرة اليهودية، ولم يكن هناك ما يدعو لمعاملتهم كهراطقة، وكان في الامكان تأويل
ما يقولونه عن الوهية يسوع المسيح، وبخاصة أن المسيحيين من اليهود لم يظهروا أي
تهاون في حفظ الناموس نتيجة لعقيدتهم الجديدة. ولكن في الفترة من مشورة غمالائيل
وتصرف بولس مع المسيحيين، ظهركرازة المسيحيين ما أعتبره أغلب اليهود نذيراً
بالارتداد. ونجد في الأصحاحين السادس والسابع من سفر الأعمال أن استفانوس أخذ في
تطبيق مسيانية يسوع على عهد الناموس. ولعل ما دفعه إلي ذلك هو موقف إليهود
العائدين من الشتات إلي موطنهم تحدوهم رغبة متقدة لحفظ الناموس بأكثر تدقيق،
وكانوا شديدي الاهتمام بموقف المسيحيين منه. ولا شك في أن استفانوس كان له اهتمام جاد
بالموضوع نفسه، ولكنه كان سبيلاً يكتنفه الخطر الشديد، ولم يكن الرسل أنفسهم قد
سلكوه حتى ذلك الوقت، مع أنه كان كامناً في صلب إيمانهم بيسوع كالمسيا. لقد كانت
أقوال استفانوس في نظر اليهود، ارتداداً في أشنع صوره. ولو كان غمالائيل قد واجه
مثل هذا الجانب من المسيحية، لكان موقفه قد تغير. فقد كان التعليم الجديد يهدد أسس
اليهودية، وأمام ذلك، كان يمكن لبولس أن يحظى بموافقة معلمه العظيم، على ما شرع
فيه من اجراءات ضد المسيحيين.

ولعل الأساس
المنطقى لهذا التصرف العنيف جاء نتيجة للفكر السائد، من أنه بينما لا يوجد شيء يمكن
أن يعجل بمجيء عصر المسيا أو يعوقه، فان شيوع الإِثم والارتداد في الأمة يمكن أن
يعطله. وهكذا وجه بولس جهوده ضد اليهود المؤمنين بيسوع الناصري، لأن زعيمهم – من
وجهة نظر بولس – قد برهن الصلب بُطل دعواه، وأن كرازتهم التي تسبب الانقسام، ستعمل
على تأخير مجيء عصر المسيا الموعود به لإسرائيل.

كما أن تصرف
بولس، كان يمكن تبريره كتابياً، اذ نجد في سفر العدد (25: 1 – 5) كيف أمر موسى
بقتل الذين تعلقوا ببعل فغور قبيل دخول الشعب إلى كنعان. ثم نقرأ بعد ذلك عن
ارتداد غضب الله بسبب ما قام به شخص وأحد، هو فينحاس، الذى نال استحسان الله من
أجل غيرته وحيلولته دون ارتداد إسرائيل، وذلك بقتله اثنين من رؤوس الفتنة والشر.
وكان الموقف في نظر بولس، يبدو شبيهاً بذلك، فإسرائيل على وشك الدخول إلى الأرض
لأن عصر ملك المسيا يقترب، وهذا الارتداد يمكن أن يؤخر بركات الله. ويحتمل أيضاً
أن ما قام به متنيا وبوه (من المكابين) منذ حوالي قرنين من الزمان، من استئصال
الارتداد من وسط الشعب (امك 2: 23 – 28و 42 – 48)، كان نصب عينيه، وربما كان يرن
في أذنيه ذلك القول: " فإنه إذا لم يُهمل الكفرة زمناً طويلاً، بل عُجِّل
عليهم بالعقاب، فذلك دليل على رحمة عظيمة " (2مك 6: 13).

كل هذا، مع
ارتفاع موجة توقع مجىء عصر المسيا، كان كافياً لتحريض بولس على أن يأخذ على عاتقه
استئصال شافة ماكان يعتقد انه ارتداد. لقد كان يظن انه يتمم مشيئة الله من جهة
أولئك الناس، كما ذكر فيما بعد – كان يقأوم الله " بجهل في عدم ايمان "
(1 تي 1: 13).

ج – ضعوط
اختباره اليهودي: كثيراً ما يقولون إن بولس كان يحس في فترة شبابه بضغوط الشرائع
الناموسية، ويتوق إلى شيء من المحبة والروحانية. يقولون ذلك تأسيساً على تفسيرهم
لما جاء في الأصحاح السابع من الرسالة إلى رومية (7: 7 – 25) على أنه ترجمة ذاتيه
لبولس وأنه كان يصف شبابه حين إدرك مطالب الناموس القاسية، مما جعله في صراع عنيف
– لا جدوى منه – مع ضمير لا يهدأ ويظنون أن هذه الضغوط كانت وراء اضطهاده
للمسيحيين، إذ كان يحاول أن يصرف هذه الضغوط في عمل خارجي يسكت به شكوكه.

ولكن علينا
أن نلاحظ أن حوار بولس عن علاقة العهد القديم بالعهد الجديد في رسالته الثانية إلى
كنيسة كورنثوس (3: 7 – 18)، ليس فيه مفارقة بين الناموسية الصارمة وبين التعليم
الجديد، بل بالحرى هى مقارنة بين ما كان له مجد قبلاً، وما له " المجد الفائق
" الآن (2كو 3: 10، 11). ومع انه يقول عن العهد القديم إنه كان " خدمة
موت " (2 كو 3: 7)، و"خدمة دينونة " (2 كو 3: 9)، فإنه يؤكد أيضاً
أن الزائل كان " في مجد " (2 كو 3: 11) رغم أنه زائل بالمقابلة مع المجد
الفائق للعهد الجديد.

ويقول في
رسالته إلى غلاطية أن العهد القديم كان عبودية (4: 1 – 7و 21 – 31)، وذلك فقط
بالمقارنة مع الحرية التي في المسيح يسوع. كما يذكر بولس – فى مواضع أخري – أنه
قبل تجديده، كان " أوفر غيرة في تقليدات " آبائه، ومن " جهة البر
الذي في الناموس بلا لوم "، وأنه تربى " على تحقيق الناموس الأبوي
"، وان الجميع يشهدون له بانه عإش فريسيا ححسب مذهب العبادة الاضيق (غل 1: 14
في 3: 4 – 6، أخ 22: 3، 26: 4،5).

من هنا يبدو
أن اخبتار بولس في الديانة اليهودية كان يتجاوب مع المطالب اليهودية في عصره، فكان
يفتخر بناموس الله، ويغبط نفسه لمعرفته بالله (رو 2: 17 – 20). وهو لا يذكر مطلقاً
أن حياته السابقة في الديانة اليهودية كانت غلطة فظيعة،بل بالحرى يقيسها بما وجده
من المجد الفائق والشركة الوثيقة فى المسيح يسوع، ولهذا – ولهذا وحده – كان
مستعداً أن يحسبها – مع كل الامتيازات البشرية – " نفاية " (في 3: 7 –
11)، فلم يكن عدم رضاه عن الناموس، هو الذي مهد الطريق أمامه إلى المسيحية، بل كان
المسيح هو الذي أعلن لبولس عدم كفاية الناموس، وبُطل كل سعي الإِنسان.

فماذاإذاً
كان الضغط الذى عاناه بولس في الديانة اليهودية، والذي وجده ينزاح عنه بتسليمه
نفسه للمسيح؟ لا شك في أنه كان يدرك – إلى حد ما – عجز الإِنسان عن ارضاء الله
بعيداً عن رحمة الله ومعونته، ولكن هذا لم يكن وحده كافياً في ذاته، لأحداث
التغيير فيه. لقد كانت ديانة إسرائيل ديانة وعد لن يتحقق على أكمل صورة إلا بمجيء
المسيا، ولقد كان هذا هو ما وجده بولس يتحقق فى يسوع الناصرى، المسيا الموعود به
من الله، المسيا المرفوض، المصلوب، والمقام ثانية والممجد.

ثانياً –
تجديده وخدمته المبكرة: كانت روما تعترف برؤساء الكهنة في أورشليم كحكام شرف
للشعب، وقد تتضمن تحالفهم مع المكابيين مادة عن تسليم الطرفين للمجرمين والهاربين
(امك 15: 21 – 24). ومع أن رؤساء الكهنة الصدوقيين لم يحتفظوا بحقهم في حكم الشعب،
إلا أنهم احتفظوا بحق استرداد الهاربين لأسباب دينية فقط. ولذلك عندما أراد بولس
أن يسترجع المسيحيين من اليهود (الهيلينين أساساً) " تقدم إلى رئيس الكهنة
وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أناساً من الطريق رجالاً أو
نساء يسوقهم موثقين إلى أوشليم " (أع 9: 1و 2، 22: 5، 26: 12).

أ- ظروف
تجديده: فى طريقه إلى دمشق للاتيان بالمسيحين الذين لجأوا إليها، تقابل مع المسيح
المقام والممجد، في صورة اعتبرها هو مماثلة لظهور الرب بعد القيامة لبطرس وغيره من
الرسل وليعقوب (اكو 15: 3 – 8). ونقرأ فيما سجله لوقا في الأصحاح التاسع من سفر
الأعمال، وفي أقوال الرسول نفسه في الأصحاحين الثاني والعشرين والسادس والعشرين من
نفس السفر، أنه نحو نصف النهار بغتة أبرق من السماء نور عظيم حوله وحول الذاهبين
معه، فسقطوا جمعياً على الأرض، كما أصيب بولس نفسه بالعمى، وسمع صوتاً من السماء
قائلاً: " شاول، شاول لماذا تضطهدنى؟ " فسأل بولس عمن يكلمه، فقال له: "
أنا يسوع الذي أنت تضطهده "، ثم أمره أن يقوم ويدخل المدينة فيقال له ماذا
ينبغى أن يفعل. ومكث بولس ثلاثة أيام لا يبصر، فى بيت رجل اسمه يهوذا فى "
الزقاق الذي يقال له المستقيم ". وأرسل له الرب تلميذاً اسمه حنانيا، وضع
يديه عليه، فاسترد بصره وقام واعتمد. كما ذكر له خطه الله بالنسبة لحياته.

وهنا تظهر
أمامنا بعض المعضلات فى قصة تجديد بولس فى الأصحاحات التاسع، والثانى والعشرين،
والسادس والعشرين، من سفر الأعمال، وهى معضلات شبيهة بما هو موجود فى قصص الأناجيل
الثلاثة الأولى، كما توجد فى الروايات المتعددة عن حادثة تاريخية واحدة

وأول هذه
المعضلات يتعلق بما ذكره لوفا (أ ع 9: 7) فى قوله: أما الرجال المسافرون معه
فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحدا ". بينما يقول بولس فى حديثه: "
والذين كانوا معى نظروا النور وارتعبوا ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمنى "
(22: 9). ويقول فى الأصحاح السادس والعشرين: " سمعت صوتا " (26: 4).

وقد يبدو
للوهلة الأولى _ أن في هذا تناقضاً واضحاً أفلت من كاتب سفر الأعمال، ولكن جميع
كتّاب القرن الأول، فهموا تماماً أن المقصود هو أن الذاهبين مع بولس سمعوا الصوت
من السماء، ولكن لم يفهم معنى الكلمات سوى بولس. والمعضلة الثانية تتعلق بنص
الكلمات التي سمعها بولس، فنقرأ فى المواضع الثلاثة هذة الكلمات: " شاول،
شاول لماذا تضطهدنى؟ " (أ ع 9: 4، 22: 7، 26: 14)، إلا في الأصحاح السادس
والعشرين (حسب أقدم المخطوطات فماذا كان نص كلمات الرب يسسوع؟

من المعلوم
الآن أن عبارة " ترفس مناخس " كانت تعبيرا يونانيا عن مقاومة الآلهة،
وربما كان معروفا فى الدوائر اليهودية أنها نوع من الأمثال التي تستخدمها الأمم،
ويحتمل جداً أن بولس في حديثه إلي أغريباس الثاني، أضاف هذه العبارة إلي كلمات
الرب يسوع، ليدرك الملك – الذى كان لسانه وفكره يونانيين أساساً – أن هذا الصوت من
السماء كان توبيخاً من الله له هو أيضاً، ولم يكن ذلك ضرورياً لبولس (أعمل 9)، ولا
لسامعيه من اليهود في أورشليم (أعمال 22)، لأن " صوتاً من السماء " كان
له مغزاه الواضح لأي يهودي ولكن بولس، لكى يوضح للأمم الرؤيا التي رأها، وجد أن
هذه العبارة اليونانية يمكن أن توضح معنى كلمات الرب يسوع كما فهمها هو.

ثم هناك
المعضلة المتعلقة بوقت تكليف بولس بالكرازة للأمم، وهى معضلة أصعب من سابقتها.
فإننا نفهم من الأصحاح التاسع من سفر الأعمال، أن حنانيا الذي أرسله الرب لبولس
ليفسر له معنى الرؤيا التي رأها في الطريق إلى دمشق، هو الذى أخبر بولس بإرساله
إلى الأمم. ولكن في الأصحاح الثاني والعشرين – مع إشارته إلى خدمة حنانيا – نجد أن
هذه الأرسالية جاءته في رؤيا آخرى وهو يصلي في الهيكل في أورشليم (أع 22: 17 –
21). كما أننا نفهم من الأصحاح السادس والعشرين أن الإِرسالية جاءته من الرب بينما
كان بولس في طريقه إلى دمشق.

وعلى أي
حال، فان لقاءه مع يسوع، وخدمة حنانيا، والرؤيا الثانية – التي جاءته في الهيكل
تأكيداً للرؤيا الأولي – كانت كلها بالنسبة لبولس فصولاً في حادثة واحدة. والواقع
أنه عندما يتكلم بالتفصيل عن خدمته للأمم، في رحلته الكرازية الأولى، فإنه كان
مازال يرى هذا التكليف الثاني امتداداً لإِرساليته الأولي. والأرجح أن الأصحاح
التاسع يروي لنا التتابع الواقعي للأحداث المتعلقة بتجديد بولس. وفي الأصحاح
الثاني والعشرين ,يضيف تلك الرؤيا التأكيدية التي رآها في أورشيلم بعد تجديده بنحو
ثلاث سنوات، أما الأصحاح السادس والعشرون فهو شهادة موجزة أمام الملك، حيث أن
رواية التفصيلات خطوة بخطوة أمام الملك ومن معه، تبدو شيئاً مملاً، علاوة على أن
الأحداث كلها كانت تبدو لبولس حدثاً واحداً متصلاً.

وقد أعقب
تجديده مباشرة قضاء ثلاث سنوات ما بين العربية (صحراء النبطيين؟) ودمشق (غل 1: 17و18).
ويبدو أن بولس في تلك الأثناء كان يعيد تقييم حياته وفهمه للأسفار الإِلهية، على
أساس أن المسيح هو مركزها. وكان يشهد لليهود أن يسوع " هو ابن الله " و
" محققاً ان هذا هو المسيح " (أ ع 9: 20 – 22).

ومع أن
الكتاب لا يذكر شيئا عن أهمية تلك الفترة لبولس شخصيا، إلا انها كانت – بلا شك –
فترة فيها أعلن له الروح القدس الكثير عن شخص المسيح ومضامين الرسالة التي كلفه
بحملها إلى الامم.

ب- الأحدث
السابقة الممهدة: ليس فى العهد الجديد ما يدل على أن بولس قد راى المسيح في أثناء
حياته على الأرض. أما ما جاء فى رسالته الثانية إلى الكنيسة كورنثوس عن معرفة
المسسيح حسب الجسد (5: 16)، فالتفسير الصحيح لذلك هو أن معرفة المسيح السابقة كانت
مبنية على أسس دنيوية، ومن ثم فلا أهمية لها بالنسبة للقضية المعروضة. وبكل تاكيد،
كان لشخصية المسيح ودعواه – مما وصله من التقارير اليهودية وشهادات المسيحيين
ونظرة الفريسيين إليه – أثر بالغ في بولس، فلا يمكن أن يقوم إنسان بمثل هذه الحملة
من الاضطهاد لو لم يكن قد وصله ما يعده كافياً لاشتعال الكراهية في نفسه. فيبدو أن
ماكان بولس يعلمه عن المسيح – قبل تجديده – قد أشعل عدأوته – مقتنعاً بأن يسوع كان
مجرد محتال، وإن تلاميذه يشكلون خطرا شديداً على مستقبل الأمة بكرازتهم بهذه
الأوهام.

يزعم البعض
أن تجديد بولس، كان قد مهد له اتصاله بالمسيحيين، وانه تأثر – دون أن يدري – بمنطق
حوارهم وما تتميز به حياتهم من نشاط، وثباتهم أمام الاضطهادات. ويربط لوقا – بكل
تأكيد – بين استشهاد استفانوس واضطهاد المؤمنين وتجديد بولس.

ولكن ليس
ثمة تأكيد على الارتباط المنطقي، فمن المستحيل إذاً أن نتحدث – بكل ثقة – عما كان
يعتمل في عقل بولس الباطن. وليس من المجدى أن نحاول تحليل الأمر نفسياً بعد مرور
ألفين من السنين، ومع ذلك فالأرجح ان بولس شرع في اضطهاده للمسيحيين وهو يعرف مدى
جدية من يضطهدهم، ومدى صلابة عزيمة الشهيد، والآلام المبرحة التي – لابد – أن
يعانيها. ولم يكن التعصب شيئاً غريباً عن فلسطين في أيامه. ومن المحتمل جداً أنه
كان مستعداً لتحمل الاجهاد العاطفي في اضطهاد من كان يعتقد أنهم أعداء مخدوعون
وخطرون. وليس لنا أن نفترض أن منطق المبشرين المسيحيين قد أثر فيه أثراً بالغاً،
فإشاراته – فيما بعد – إلى عار الصليب، تدل على أن الصليب كان أكبر حجر عثرة
أمامه، لا يمكن لأي منطق أو حجة مهما بلغت أن ترفعه (اكو 1: 23، غُل 11: 5)

ومع أنه
يعترف – فيما بعد – بما كان لحياته فى الديانة اليهودية واتصالاته بالمسيحيين، من
قيمة توكيدية، فإنها – كما يبدو – لم تكن هى العوامل التي أوصلته إلى النقطة
الفاصلة. أن مقابلته للمسيح في الطريق إلى دمشق، كانت هى وحدها الكفيلة بأن تجعل
الربي اليهودي الشاب، يعيد النظر في موت يسوع. أن مقابلته مع المسيح المقام، هي
وحدها التي اقنعته ان الله قد اثبت صحة كل دعاوي وعمل المسيح الذى كان هو يضطهده.
ومن وجهة النظر البشرية، كان بولس محصناً تماماً ضد الإِنجيل، ومع أنه كان رجلا
منطقيا، إلا أنه كان واثقاً من أنه لا يمكن أن يوجد دليل يمكن أن يغير نظرته
للصليب، حيث أنه كان يرى أن المسيح قد مات موت المجرمين. ولكن الله يقدم الدليل
للجادين المخلصين ليقنعهم ويقودهم إلى الحق، لهذا فان الله السرمدي " قد
سُرَّ " – كما يقول بولس نفسه وهو يستعيد ذكرياته – " أن يعلن ابنه فيَّ
" (غل 1: 16)، وهكذا أمسك الرب يسوع ببولس وجعله خادماً له (في 3: 12).

ج – القناعات
الناتجة: بعد أن تقابل بولس مع المسيح في الطريق إلى دمشق، أصبحت لديه ثلاث قناعات
واضحة تمام الوضوح لا يستطيع منها فكاكاً:

1-إن غيرته
الشديدة، وامتيازاته العظمى، ويقينه بأنه يفعل إرادة الله، وكل حياته في الديانة
اليهودية، كل هذه كانت موضوع توبيح من الله. لقد جاءة صوت من السماء لتصحيح
مفاهيمه، ولم يعد هناك مجال لقول آخر. لقد تشبث بناموس موسى باعتباره السلطة
العليا، ولكنه لم يدرك أنه سلطة وسيطة، أي أن الناموس قد أعطي كمودب ليقود الناس
إلى الإِيمان بالمسيح يسوع (غل 3: 19 – 24)، وحيث أن المسيح قد جاء، وأذيعت رسالة
الإِنجيل، فإن رفض من يتكلم عنه الناموس، وتوقير الحرف عن " الشخص " –
الذى هو موضوع الحرف – إنما هو نكسة أو رجوع إلى " الأركان الضعيفة الفقيرة
" (غل 3: 25 – 4: 11).

2- لم يكن فى
استطاعته الهروب من تلك النتيجة، وهي أن يسوع الذي كان يضطهده، حي وأنه واحد مع
الآب الذي كان إسرائيل يعبده. فعليه إذا أن يراجع كل أفكاره عن حياة الناصري
وتعليمه وموته، لأنه من الواضح الجلي ان الله قد اثبت صدقه بصورة تسمو فوق كل جدل
أو شك، فأصبح مضطراً إن يوافق المسيحيين على أن موت المسيح على الصليب، لم يكن
دليلاً على انه كان مضللاً، بل كان تدبير الله من اجل خطية الإِنسان، وكان اتماماً
للنبوات. كما وجد نفسه مضطراً للاعتراف بأن قيامة المسيح – إتماماً أيضاً للنبوات
– كانت برهاناً قاطعاً على كل هذه الحقائق، وأن فيها يقين الحياة لكل من يؤمن
بالمسيح (اكو 15: 3 – 20)، ووجد فى تسليمه للرب المقام، إتماماً لوعد العهد القديم
وكل انتظاراته، كما وجد فيه البر الحقيقي والشركة العميقة مع الله.

3- القناعة
الثالثة التي أصبحت واضحة أمام بولس، هى أن الرب يسوع المسيح قد اختاره ليكون
رسولاً للأمم يحمل إليهم رسالة الرب الذي صُلب وقام، ولكى يأتي بهم إلى وحدة الجسد
الواحد فى المسيح (رو 11: 13، 15: 16، غل 1: 11 – 16، أف 3: 8)، فلم يكن بولس يري
مطلقاً أنه يختلف في شيء عمن سبقوه من الرسل، فى مضمون الإِنجيل، ولكنه كان واثقاً
– كما ثبت كتاباته – أن الرب أعطاه فهماً جديدا لتدبير الفداء، وهذا هو ما يسميه
" إنجيلي " (رو 2: 16، 16: 25) مؤكداً دائماً أنه قد أعُطي له بإعلان
خاص من يسوع المسيح (غل 1: 1و11و12، أف 3: 2و 3). ومع أنه أدرك من رؤى واعلانات
آخرى أن الإِنجيل يعنى المساواة التامة بين اليهود والأمم أمام الله، وأنه لا خطا
اطلاقاً فى الأتصال المباشر بالأمم فيما يتعلق بالرسالة المسيحية، إلا أنه ظل يؤكد
دائماً أن إرساليته للأمم قد جاءته منذ تجديده.

د – خدمته
ليهود الشتات: لقد صرف بولس ثلاث سنوات بعد تجديده، فى المنطقة المحيطة بدمشق (أع
9: 19 – 22، غل 1: 17، 18). والأرجح أن " العربية " المذكورة هنا تشير
إلى المنطقة التي كانت تحت سيادة النبطيين، والتي كانت دمشق عاصمة لهم في الكثير
من العهود. وفى تلك الأثناء كرز بولس بأن يسوع هو المسيح وأنه ابن الله (أع 9: 20و
22). وفى نهاية مدة اقامته فى دمشق، اضطر أن يهرب متدليا من طاقة فى زنبيل (سل) من
السور (أ ع 9: 23 – 25، 2 كو 11: 32 و 33). وحديثه عن هذا الحادث فى رسالته
الثانية إلى كورنثوس، يدل على أنه حدث عندما كان الملك النبطي أرتياس (الحارث)
يحكم دمشق. وتدل النقود الدمشقية الأثرية على أن دمشق كانت تحت الحكم المبإشر
لروما فى 33 – 34 م، وهذا معناه أن مغادرة بولس للمدينة، التي حدثت فى أثناء حكم
الحارث، كانت _ على الأرجح _ فى السنوات الأخيرة من حكم طيباريوس قيصر، وإن كان من
المحتمل أنها حدثت بعد اعتلاء كاليجو لا العرش فى 37 م. وعلى هذا الأساس يكون
تجديد بولس قد حدث فيما بين 32 – 35 م، وواضح أن القطع في هذا الأمر مستحيل أمام
عدم وجود بيانات آخرى.

وعندما وصل
بولس إلى أورشليم، شرع في الكرازة لليهود اليونانيين، وهى الخدمة التي أهملت منذ
استشهاد استفانوس، ولكنه واجه نفس المقأومة، التي كان أحد قادتها فيما مضى، ويبدو
أنه تعرض لنفس الموقف الذي كلف استفانوس حياته (أ ع 9: 26 – 29). والأرجح أن تلك
كانت الزيارة التي مكث فيها خمسة عشر يوماً، والتي ذكرها في رسالته إلى غلاطية (غل
1: 18- 20). وواضح أن الكنيسة في أورشليم لم تشأ أن تتعرض لنفس السلسلة من الأحداث
التي أعقبت كرازة استفانوس، لأنه عندما أدرك الإخوة خطورة الموقف، أحضروه إلى
قيصرية وأرسلوه إلى طرسوس (أ ع 9: 30). ومع أن ذلك لم يكن أمراً مقبولاً من وجهة
نظر بولس، إلا أنه كان من ترتيب عناية الله، لأنه وهو يصلى في الهيكل رأى رؤية لم
تؤيد رسوليته للأمم فحسب، بل وجاءه الأمر بأن يسرع ويخرج عاجلا من أورشليم (أ ع 22:
17 -21)

هل تبحث عن  شبهات الكتاب المقدس عهد قديم سفر اللاويين خدام الرب الإله ه

ولا نقرأ
شيئاً عن بولس بعد هذه الأحداث في أورشليم، إلى أن نراه يخدم في أنطاكية (أ ع 11: 25
– 30)، ولو أننا نعلم من أقواله في رسالته إلى غلاطية (1: 21 – 24) أنه واصل
كرازته لليهود المشتتين في سورية وكيليكية حيث كان يوجد موطنه " طرسوس
". وقد يكون ترحيب المؤمنين في قيصرية به _ عند عودته من رحلته الكرازية
الثالثة – دليلاً على صلة سابقة بفيلبس والمؤمنين هناك. ولعل الكثير من الصعاب
والتجارب التي يعددها في رسالته الثانية إلى كورنثوس (11: 23 – 27) قد جاء من
مواقف واجهها في قيصيرية وطرسوس في تلك الاثناء، إذ لاموقع لها في سجل رحلاته
التاليه المذكورة فى سفر الأعمال. ولعل اختباره الرائع المذكورة في رسالته الثانية
إلى كورنثوس (12: 1 – 4) قد حدث فى تلك الفترة من حياته أيضاً.

ه – خدمته
للأمم الخائفين الله: عندما تشتت الكنيسة فى أورشليم من جراء الضيق، قام بعض المؤمنين
– الذين كانوا قد جاءوا أصلاً من قبرس والقيروان – بحمل الإِنجيل إلى انطاكية فى
سوريا وامتدت خدمتهم إلى اليونانيين (أ ع 11: 19 – 21). ولا نعلم على وجه اليقين
من هم المقصودون " بالعدد الكثير " الذين آمنوا ورجعوا إلى الرب، هل
كانوا يونانيين من الأمم، أم كانوا يونانيين من اليهود مثلما جاء فى الأصحاح
السادس من سفر الأعمال (6: 1)، وإن كان من الأرجح – فى ضوء ما جاء عن كرازتهم
لليهود فقط (أع 11: 19)، ثم: " لكن كان منهم قوم.. يخاطبون اليونانيين "
– أنهم كرزوا بالإِنجيل فى المجامع للدخلاء من الأمم. وعندما بلغت هذه الأخبار
الكنيسة في أورشليم، أرسلت برنابا، وهو لأوي قبرسي (أ ع 4: 36) إلى أنطاكية
ليستطلع الأحوال، " ولما أتي ورأي نعمة الله فرح ووعظ الجميع أن يثبتوا فى
الرب بعزم القلب، لأنه كان رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس والإِيمان "
(أع 11: 22 – 24).

ثم خرج
برنابا إلى طرسوس وجاء ببولس إلى انطاكية (أ ع 11: 25 و26). ولقد سبق لبرنابا أن
وقف إلى جانب بولس عندما ساورت الشكوك التلاميذ في أورشليم من نحوه عقب تجديده (أ
ع 9: 27). ولما كان برنابل يعلم بارسالية بولس للأمم، ويذكر قوة شهادته، ويعرف
قدراته، كما أنه كان فى حاجة إلى من يعاونه فى الخدمة بين المتجددين من الأمم،
أشرك بولس معه فى العمل فى أنطاكية. ولم يشترك بولس فى العمل مع برنابا فقط، بل
كان هناك أيضاً سمعان " الذي يدعي نيجر (أسود)، ولوكيوس القيواني، ومناين
الذى تربى مع هيرودس " (أع 13: 1). ويدل تركيب العبارات فى اليونانية علي أن
برنابا وسمعان ولوكيوس كانوا أنبياء، وقد يعنى هذا أنهم كانوا المنصرفين لخدمة
الكرازة بإنجيل الخلاص بالمسيح يسوع، بينما كان مناين وبولس هما المعلمان، مما
يبدو معه أنهما كانا المسئولين أساساً عن تعليم المتجددين المبادىء الكتابية ومايتعلق
بها وقد ظل بولس فى هذه الخدمة سنة كاملة (أ ع 11: 16).

ولا شك فى
أن بولس قام بالكرازة للأمم هناك، ولعله ظن أن هذا هو كل ماتضمنته إرساليته التي
كلفه بها الرب عند تجديده. ويحتمل جداً أن الخدمة التبشيرية فى أنطاكية فى ذلك
الوقت اقتصرت على المجمع، بغض النظر عما إذا كان من الصواب أن يتوجهوا إلى الأمم
مباشرة فى خدمتهم مع التوسع فيها. ويحتمل أن المؤمنين فى أورشليم وفى أنطاكية –
سواء كانوا من اليهود أو الأمم – كانوا يرتبطون بشكل ما بالمجمع، وهكذا بدا فى نظر
الكثيرين من المؤمنين من اليهود، أن تجديد الأمم الخائفين الله الذين أنضموا – إلى
حد ما – تحت لواء اليهودية، قبل إيمانهم بالمسيح، شبيه بحالة الدخلاء، أما سكان
المدينة الآخرون، من غير المؤمنين، فقد أطلقوا عليهم اسم " مسيحيين " أي
" أتباع المسيح " أو " أهل بيت المسيح
".

وفى أثناء
خدمة بولس فى أنطاكية " جاء نبي من أورشليم اسمه أغابوس وتنبأ عن المجاعة
المقبلة، فأرسلت الكنيسة فى أنطاكية معونة إلى الإِخوة فى أورشليم بيد برنابا
وبولس (أع 11: 27 – 30). ونعلم من سفر الأعمال أن المجاعة حدثت فى أيام كلوديوس
قيصر، ويمكن تحديد التاريخ فى 46 م. وذلك من كتابات المؤرخين تاسيتوس وسرتونيوس عن
انتشار مجاعة فى نحو ذلك الوقت، وكذلك من بردية عن ارتفاع ثمن الحنطة فى نحو ذلك
التاريخ عينه، كما يحكي يوسيفوس عن الملكة المصرية هيلينا، التي كانت قد اعتنقت
اليهودية، وجمعت الامدادات من مصر وقبرس لإِرسالها إلى أورشليم التي هددتها المجاعة،
عقب عودتها من رحلة إلى تلك المدينة فى نحو سنة 45 أو 46م.

وتتوقف
معرفتنا لتحركات بولس فى ذلك الوقت على حل اللغز القديم عن العلاقة بين زيارتيه
لأورشليم المذكورتين فى رسالته إلى غلاطية، وزياراته الثلاث لأورشليم المذكورة فى
سفر الأعمال. فبينما يقول الكثيرين أن الزيارة الأولي المذكورة فى الرسالة إلى
غلاطية (1: 18 – 20) هى الزيارة المذكورة فى سفر الأعمال (9: 26 – 29) كما سبق
القول، فإن الكثيرين أيضاً يرون أن الزيارة المذكورة فى غلاطية (2: 1 – 10) هى
ذهابه إلى مجمع أورشليم المذكور فى الأصحاح الخامس عشر من سفر الأعمال. فالقضية
غامضة ويتوقف عليها الكثير من النتائج. وأبسط حل واكثرها قبولاً هو أن زيارته
المذكورة فى رسالته إلى غلاطية (2: 1 – 10) هى المتعلقة بموضوع المجاعة والمذكورة
فى الأصحاح الحادى عشر من سفر الأعمال (11: 30). ويكون حرف العطف " ثم "
فى بداية الأصحاح الثاني من رسالته إلى غلاطية يعود إلى نفس النقطة التي بدا منها
حساب السنوات الثلاث فى الأصحاح الأول (غل 1: 18)، فكلتاهما تبدآن من وقت تجديده،
وبذلك يكون تجديده قد حدث فى نحو عام 33 م. ويكون هروبه من دمشق قد حدث فى نحو 36
م، وزيارته بمناسبة المجاعة، إلى أورشليم، بعد أربعة عشرة سنة من تجديده أي في نحو
عام 46 م. وبناء على هذا الرأي يمكن قوله إنه " صعد بموجب إعلان " (غل 2:
2) إشارة إلى نبوة أغابوس (أع 11: 28).

فإذا كان ما
جاء فى رسالته إلى غلاطية (2: 1 – 10) ينطبق على زيارته المذكورة فى سفر الأعمال
(11: 30)، يكون بولس وبرنابا قد انتهزا فرصة إرسال كنيسة انطاكية لهما – بالمعونه
للمؤمنين الذين أصابتهم المجاعة فى أورشليم – لعقد حوار خاص مع يعقوب وبطرس ويوحنا
حول طبيعة الإِنجيل، وسلامة الكرازة للأمم، وعلاقة المؤمنين من الأمم بالناموس.
وقد أخذا معهما تيطس، وهو مسيحي أممي غير مختون، ولعل وجوده كان مقصوداً كمحك
للقضية، وربما كان وجوده لمجرد المعأونة فى تلك المهمة، بدون النظر إلى ما يمكن أن
يثيره وجوده من ردود الفعل. ويذكر بولس موقف فريقين فى أورشليم فى حديثه عن هذا
الموضوع:

1-موقف
"الإخوة الكذبة المدخلين خفية، الذين دخلوا اختلاساً ليتجسسوا حريتنا التي
لنا فى المسيح كي يستعبدونا " (غل 2: 4و 5).

2- موقف الرسل
المعتبرين أهم أعمدة فى كنيسة أورشليم (غل 2: 6 – 10). ولا نستطيع الجزم بهل كان
الإخوة الكذبة جواسيس من اليهود دخلوا ليستكشفوا المؤمرات التي يخطط لها المسيحيون
من الأمم، أو أنهم كانوا مسيحيين من اليهود الساخطين الذين هددوا بإذاعه ما كان
يحدث فى أنطاكية، إن لم يختن تيطس. ولكن النقطة البالغة الأهمية التي يجب أن
نلاحظها هي أنه بالرغم من الضغوط المتزايدة، أتفق الرسل فى أورشليم مع بولس على
جوهر الإِنجيل وصواب الكرازة للأمم، رغم أنهم رأوا أن خدمتهم ترتبط بدائرة غير
دائرته، والأكثر من ذلك أنهم لم يطلبوا مطلقاً لزوم ختان المؤمنين من الأمم. ولكن
حتى ذلك الوقت، لم تكن الكرازة للأمم مبإشرة خارج المجمع قد برزت إلى المقدمة، إذ
لم يظهر هذا الموضوع إلا فى الرحلة التبشيرية الأولى، وكان هو الدافع إلى عقد
المجمع فى أورشليم.

ثالثاً –
الرحلة التبشيرية الأولى:

كثيراً ما
ينظر إلى رحلة بولس التبشيرية الأولى كمجرد حادثة عارضة، ذكرها لوقا لينتقل بها من
الأحوال فى أورشليم تحت حكم هيرودس أغربياس الأول (أع 12) إلى مجمع أورشليم (أع 15)،
ولكن النظر إلى هذه الفترة من حياة بولس على أنها فترة قليلة الأهمية، إنما يتجاهل
التقدم الهام الذي حدث فى الكرازة بالإِنجيل، ويهدم الأساس المنطقي للأحداث التي
أعقبت ذلك.

أ خط سير
الرحلة: بينما كان بولس وبرنابا يخدمان فى أنطاكية سورية، أمر الروح القدس أن
يتركا خدمتهما فى الكنيسة هناك، وأن ينطلقا إلى مجال أوسع (أ ع 13: 2، 3). ولا
يذكر الكتاب كيف أصدر الروح القدس هذا الأمر، ولو أن هناك بعض التلميحات التي تدل
على أن ذلك تم من خلال ثلاثة عوامل:

1- اقتناع عند
الرسل أنفسهم لأنهم كانوا صائمين فى ذلك الوقت الذي وصلهم فيه هذا الأمر الواضح.

2- إعلان نبوي على فم أحد أعضاء الكنيسة شبيه مثلاً بما قاله أغابوس
من قبل.

3-اقتناع
جماعة المؤمنين أن هذه مشيئة الله بعد أن صاموا وصلوا. وليس من السهل تحديد من
يعود عليهم ضمير الفاعل في " صاموا وصلوا " فى العدد الثالث، فقد بعود
على الأنبياء والمعلمين المذكورين فى العدد الأول، وفى هذه الحالة يكون القادة
الثلاثة الآخرون فى كنيسة أنطاكية، هم الذين – بعد أن صاموا وصلوا – " وضعوا
عليهما الأيادي ثم أطلقوهما". ولكن قياساً على ما جاء في سفر الأعمال حيث نجد
صيغة مشابهة لاستخدام ضمير الفاعل في " رتبوا " (15: 2) دون تحديد من
يعود عليهم الضمير، ولكن يتضح من العدد الثالث أنه يعود على الكنيسة. وعليه
فالأرجح أن كل جماعة المؤمنين إشتركت فى تنفيذ الأمر ووضع الأيادى عليهما
واطلاقهما. ويقطع العدد الرابع من الأصحاح الثالث عشر بأنهما " أرسلا من الروح
القدس ". وقد أخذ معهما الشاب يوحنا مرقس من أورشليم (أ ع 12: 12) وابن عم
برنابا (كو 4: 10 – انظر " ابن الأخت
"

فانحدر
الثلاثة من أنطاكية إلى مينائها في سلوكية، وسافروا فى البحر إلى قبرس، موطن
برنابا – ومن سلاميس شرقاً إلى بافوس غرباً، كرزوا بالإِنجيل في كل الجزيرة،
" في مجامع اليهود " فحسب (أع 13: 5)، ولكن في بافوس، دعاهما الوالي
سرجيوس بولس والتمس أن يسمع كلمة الله منهما، ولعله كان يهدف إلى معرفة طبيعة
كرازتهم لئلا يكون فيها ما يثير الاضطراب فى المجتمع اليهودي في الجزيرة وبالرغم
من مقأومة باريشوع الساحر، آمن سرجيوس بولس بعد أن رأي ما جرى لعليم الساحر بناء
على لعنة الرسول بولس لهذا الساحر " ابن إبليس " (أع 13: 6 – 12). وكان
هذا أمراً بعيد الاحتمال، إذ يبدو أن الوالي الروماني، لم تكن له علاقة بالديانة
اليهودية ومؤسساتها. وهنا نشا موقف لا يختلف في نظر الرسل، عن الموقف الذي حدث عقب
تجديد قائد المئة كرنيليوس(أع10: 1-11: 18),بل إنه ليتجاوز موضوع كرنيليوس في بعض
النواحي. ومع أن الكينسة في أورشليم-كما يبدو-لم تحمل تجديدكرنيليوس على أنه يعتبر
سابقة تحتذي فى خدمتها، لأن خدمتها كانت لإسرائيل، فإن بولس – الذى كانت خدمته
أساسا موجهة للأمم – رأي فيما حدث في بافوس شيئا أبعد فىإرساليته للأمم. ومن هذه
النقطة، نجد سفر الأعمال يستخدم اسمه الروماني " بولس " وليس اسمه
اليهودي " شأول " (أع 13: 9)، إذ أصبح مستعداً – من هذه النقطة – أن
يتقابل مع أي أممي في الأمبراطورية، دون التقيد بالخدمة في المجمع. ولايذكر إسم
شاول بعد ذلك إلا في مناسبتين لهما دواعيهما الخاصة (اع 14: 12، 15: 12). كما بدأ
اسم بولس يسبق اسم برنابا.

ثم أقلع
بولس ومن معه من قبرس إلى برجة بمفيلية فى أسيا الصغرى (أع 13: 13). ولايذكر
الكاتب شيئاً عن كرازتهم في برجة فى تلك المرة. وأن كان بولس وبرنابا – عند
عودتهما إليها – قد " تكلما بالكلمة " (أع 14: 25). ولعل السبب في
مرورهما الخاطف ببرجة فى ذلك الوقت، وانتقالهما إلى أنطاكية بيسيدية، هو مرض بولس
بالملاريا – كما هو المرجح – مما اضطره إلى الالتجاء إلى المنطقة المرتفعة في
الشمال.

وفى برجة
تركهما يوحنا مرقس ورجع إلى أورشليم، ربما خشية ردود الفعل عند الكنيسة أورشليم
إذا علمت بكرازتهم بالإِنجيل للأمم مباشرة، ولم يشأ أن يزج بنفسه في مثل هذا
المازق، بينما رأى بولس فيما حدث في بافوس تحقيقاً لإِرساليته. أما تفسير مفارقة
مرقس لهما على أساس حنينه إلى وطنه، أو لمتاعب الترحال، أو للتغيير الذي حدث فى
قيادة المجموعة، أو لمرض بولس الذي استدعى تغيير البرنامج، فهذه كلها ليست سوى
افتراضات لا تكفي لتبرير موقف بولس، هذا الموقف العنيد، من مرقس كما سجلة سفر
الأعمال (15: 37 – 39)، وهو ما يدل على أن مفارقة مرقس لهما كانت لسبب أهم من مجرد
هذه الأسباب الشخصية.

وفي أنطاكية
بيسيدية خاطب بولس اليهود ومن يتقون الله من المتهودين، الذين كانوا مجتمعين في
المجمع في يوم السبت مبيناً لهم أن يسوع هو المسيا والمخلص الموعود به في الكتب
المقدسة (أع 13: 14 – 43).

وفى السبت
التالي، اجتمع عدد كبير من الأمم لسماع كلمة الله على فم بولس، فامتلأ اليهود غيرة
وجعلوا يقأومون ما قاله بولس، فتحول بولس إلى الأمم مبإشرة مواصلاً المناداة
برسالته فى المدينة، ووجد ترحيباً واسعاً (أع 13: 44 – 49). ونتبين من هنا أسلوب
بولس في الكرازة، فقد كان يبدأ أولاً بالكرازة بالإِنجيل إلى اليهود والأمم
المتهودين، سواء كانوا قد أصبحوا دخلاء فعلا أو مجرد متشيعين لليهودية. ولما منع
من الحديث في المجامع،توجه إلى الأمم رأساً. وقد سار بولس على هذا النهج فى كل
مدينة وجد بها جالية يهودية، فيما عدا أثينا.

وفى أنطاكية
بيسيدية تجدد – أيضاً – منهج مقاومة اليهود لبولس (أع 13: 50) على أساس أن بولس
يكرز للأمم بما لايتفق مع إيمان الآباء. وقد رأي بولس أن عناد اليهود يجعل من
الضرورى الكرازة للأمم مبإشرة إذا كان لابد أن يسمعوا الإِنجيل ويأتوا إلى الله
الحقيقى. اما بالنسبة لليهود فإنهم كانوا يرون في ذلك نقضاً لدعوى أن في يسوع
الناصري، تتحقق جميع الوعود التي أعطاها الله للآباء. وأصبح الأمر واضحاً أمام
قادة اليهود، وهو أن المسيحية تختلف تماماً عن اليهودية وكتبها، طالما أن بولس
مستعد أن يعمل خارج مؤسساتها، وبذلك لا يدخل تحت مظلة حماية القانون الروماني
للديانة الواحدة للشعب الوأحد. وبينما أرادت المسيحية أن تجد الشرعية في أعين روما
باحتمائها تحت جناحي اليهودية، فإن أسلوب الكرازة بها، رأي فيه اليهود غزوة تستلزم
المقا ومة، وهكذا اهاج اليهود " النساءالمتعبدات الشريفات (الداخلات للديانة
اليهودية، من زوجات الحكام الرومان؟)، فحرضن أزواجهن على اعتبار بولس وجماعته سبب
تعكير لسلام روما. وبناء على ذلك ثار الاضطهاد عليهما في أنطاكية، وطردا منها. وقد
تكرر هذا الأمر وعلى هذا النمط كثيراً فى رحلات بولس التبشيرية.

وقد أسفرت
الكرازة فى إيقونية عن إيمان جمهور كثير من اليهود واليونانيين " بالمسيح
" (أع 14: 1). وثارت مرة أخرى قضية دعوى المسيحية بأنها امتداد لديانة
إسرائيل، لها حق الحماية كديانة شرعية. وعندما انحازت السلطات المحلية لوجهة النظر
اليهودية، وأصبح الاضطهاد لا يحتمل، هرب الرسولان إلى لسترة ودربه (أع 14: 2 – 6).
والإِشارة إلى دربة ولسترة بأنهما مدينتا ليكأونية، توحى بأن إيقونية كانت تنتمي
إلى مقاطعة أخرى. ولوقوع هذه المدن الثلاث في منطقة جغرافية وأحدة، ظن البعض –
فيما مضى – أن لوقا قد خانته الدقة في هذا الصدد، ولكن أبحاث سير وليم رمزي أثبتت
أنه في الفترة ما بين 37 – 72م – وفى تلك الفترة فقط – كانت دربة ولسترة تحت الحكم
المبإشر لروما، بينما كان يحكم إيقونية أنطيوكس، وبينما كانت المنطقة التي تقع
فيها دربة ولسترة، تسمى رسمياً ليكأونية الغلاطية، كانت إيقونية في منطقة تسمى
ليكأونية الانطيوكسية، وكانتا تشتهران باسم ليكأونية وفريجية، وكان خضوع مدينتي
لسترة ودربة لسلطة غير السلطة التي تخضع لها إيقونية، أمراً هاماً للرسولين بولس
وبرنابا، لأنهما بعبورهما الحدود تخلصا من سلطات فريجية.

وقد أثبتت
لسترة ودربة أنهما منطقتان خصبتان لغرس بذرا الإِنجيل (أع 14: 21)، وإن لم يخل
الحال من الصعاب والمتاعب. وكان تيموثأوس أحد المتجددين فى لسترة فى هذه المرحلة
الأولى (أع 16: 1، 20: 4) وقد ضمه بولس فيما بعد إلى فريقة الكرازي. ولكن حدث في
لسترة ما ضايقهما بعض الشيء، وذلك لتقلب مزاج الناس في تجأوبهم مع قوة الله وكرازة
بولس. فعندما شاهدوا المقعد يمشي عندما أمره بولس بذلك، أظهروا استعدادهم لتقديم
العبادة لهما باعتبارهما الإِلهين " زفس " (جيوبتر عند الرومان)، وهرمس
(عطارد عند الرومان) قد نزلا إليهما في صورة الناس، فاضطر الرسولان إلى إسكات
الجموع، وتكلما إليهم بشدة محأولين تحويل عبادتهم إلى الإِله الحي (أع 14: 8 –
18)، ومن الناحية الأخرى، عندما عرفوا أنهما ليسا آلهة، وأنهما قد يكونان مجرد
مضللين، وبتحريض من اليهود الذين جاءوا من أنطاكية وإيقونية، تحول احترامهم إلى
كراهية حتى انهم رجموا بولس (أ ع 14: 19).

ويمكن – إلى
حد ما – فهم استحابتهم الأولي المتهورة في ضوء أسطورة قديمة ذكرها أوفيد، والتي
يحتمل أنها كانت معروفة لكثيرين من سكان المنطقة فى جنوبي أسيا الصغرى. وتقول
الأسطورة إن زفس وهرمس جاءا مرة إلى تلك المنطقة فى صورة رجلين ملتمسين ملجأ لهم،
ورغم أنهما طرقا أبواب ألف منزل، لم يقبلهما أحد، وأخيراً وصلا إلى منزل صغير حقير
مشيد من الأعواد والقش، فقبلهما زوجان عجوزان هما فليمون وزوجته بوكيس، اللذان
أقاما لهما مأدبة أمتصت مواردهما المحدودة، ولكنهما قدماه بكل رضى. وتقديرا من
الإِلهين لذلك، حولا كوخهما إلى معبد سقف من الذهب وأعمدة من الرخام كما عينا
فليمون وزوجته كاهنين للمعبد. وعوضاً عن أن يموت فليمون وزوجته، تحولا إلى بلوطة
وزيزفونة، ودمر زفس وهرمس بيوت الناس الذين رفضوا استضافتهما انتقاماً منهم. ولكن
أوفيد لم يذكر متى حدث ذلك، واكتفى بالقول انه حدث فى منطقة تلال فريجية. ويبدو أن
أهل لسترة، تذكروا هذه الأسطورة وهم يرون شفاء الرجل المقعد من بطن أمه، فاعتقدوا
أن زفس وهرمس قد عادا مرة أخرى، فأرادو أن يقدموا لهما الإِكرام الواجب حتى لا
يتعرضوا للعواقب الوخيمة.

والأرجح أن
هذه الرحلة التبشيرية الأولى تمت فيما بين 46 – 48 م.، وإن كان هذا مجرد تخمين على
أساس الأحداث السابقة والتالية. وبعد أن صرف الرسولان حوالي سنتين فى الكرازة فى
قبرس وأسيا الصغرى، رجعا لزيارة الكنائس التي أسساها، " يشددان أنفس التلاميذ
ويعظانهم أن يثبتوا فى الإِيمان " رغم الضيقات الشديدة، وأقاما شيوخاً فى كل
كنيسة لمواصلة الخدمة (أع 13: 21 – 23). وبعد أن " تكلما بالكلمة فى برجة
" رجعا إلى أنطاكية فى سورية، وهناك جمعا كل الكنيسة " وأخبرا بكل ما
صنع الله معهما وأنه فتح للأمم باب الإِيمان " (أ ع 14: 27).

 

ب- أهمية
هذه الرحلة التبشيرية: لقد ورد مراراً فى العهد القديم أن الأمم سيكون لهم نصيبهم
فى بركات إسرائيل (مثل: تك 22: 18، 26: 4، 28: 14، إش 49: 6، 55: 5و6، صفنيا 3: 9
و 10، زك 8: 22). وكان هذا هو الدافع وراء كل جهود كسب دخلاء (مت 23: 15)، وكما
تضمنه عظات بطرس فى يوم الخمسين وفي بيت كرنيليوس (أع 2: 39، 10: 35). كما أنه من
الواضح أن الكنيسة قد قبلت المؤمنين من الأمم فى حالة كرنيليوس والمتقين الله من
الأمم فى أنطاكية سورية، ولكن القناعة اليهودية – ككل – كانت أن إسرائيل هو الشعب
الذى عينه الله وسيلة لهذه البركات فعن طريق إسرائيل كأمة، وخدمات مؤسساتها،سيكون
للأمم نصيب فى برنامج الله للفداء والاستمتاع ببركاته، ويبدو أن المسيحيين الأوائل
لم يكونوا يتوقعون تغييراً جدياً فى هذا المجال، مع أنه فى تلك " الأيام
الأخيرة " كان الله يعمل بالكنيسة كإسرائيل الحقيقي والبقية الأمينة فى
الأمة.

وقد حدث دائماً
فى بداية الكنيسة، أن المؤمينين من الأمم (باستثناء حالة وأحدة) اعترفوا أولاً
بيسوع كالمسيا من اتصالهم باليهودية، وإما كدخلاء (مثل: نيقولأوس فى أعمال 6: 5،
ويحتمل الخصي أيضاً فى أعمال 8: 26 – 39 أو اليونانيين فى أعمال 11: 20 – 26)، ولم
يشذ عن هذا النهج سوى كرنيليوس، وهذه حالة كانت تعتبر شاذة وليست دليلاً على تغيير
هذا النمط، وإن كان بطرس قد استند إليها بعد ذلك لتأييد منهج بولس (أع 15: 7 –
11). ومع أن بولس سبق أن ناقش – مع قادة كنيسة أورشليم – الإِرسالية التي كلف بها
– وهي الكرازة للأمم – إلا أنه يبدو أنه كان فى ذهنهم أن يتم ذلك عن طريق المجامع
بلا استثناء.

ولكن النهج
الذى سار عليه بولس فى رحلته التبشيرية الأولي قد تجأوز هذه المفاهيم. لقد رأى
بولس فى تحديد سرجيوس بولس – دون أن تكون له علاقة سابقة بالمجمع – ما لم تستطيع
كنيسة أورشليم أن تراه فى تجديد كرنيليوس. لأن بولس رأى الله – فى عنايته – يبين
له بكل وضوح معنى إرساليته إلى الأمم. علأوة على ذلك، لقد وضع الله خاتم رضاه –
بصورة عجيبة – على هذا النهج يتكاثر عدد الأمم الذين لمس الله قلوبهم. ومع أن
المجمع كان المكان المناسب ليبدأ منه خدمته فى كل مدينة، حيث يوجد مستمعون من
اليهود والأمم مستعدون لسماع كلمة الله، إلا أن المجمع لم يكن المكان الوحيد
لمواصلة خدمته. فاليهود والأمم أمام الله سواء (رو 2: 1 – 3: 20)، ولاختلاف
خلفياتهم وحساسياتهم، أصبح من الممكن مخاطبتهم بأساليب مختلفة.

هذا هو
" إنجيل بولس " الذي كتب عنه فى رسالته إلى غلاطية (1: 11 – 2: 10)، فهو
لم يكن يختلف فى محتواه، ولكنه كان متميزاً فى أساليب تبليغه. لقد أعلن له الله
طبيعة خدمته، وقاده بعنايته، وأوضح له مميزات دعوته. وإن اليهود والأمم أمام الله
سواء من جهة الدينونة والحاجة الروحية، ووضعهم الشرعى أمام الله عند تجديدهم فى
المسيح. وكما كتب بولس فيما بعد ذلك: " أنه بإعلان عرفني بالسر.. الذي فى
أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح،
أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده فى المسيح بالإِنجيل " (أف 3: 3
– 6).

ج- –
إستجابة اليهود لخدمته: واضح من الرسالة إلى الكنيسة فى غلاطية أنها كتبت قبل
انعقاد المجمع فى أورشليم المذكور فى الأصحاح الخامس عشر من سفر أعمال الرسل،
وبذلك تكون الرسالة إلى غلاطية هى أولى الرسائل التي كتبها الرسول بولس. والأرجح
أنه كتبها فى نحو عام 49 م. فى أنطاكية سورية، أو لعله كتبها وهو فى طريقه من
أنطاكية إلى أورشليم. وقد نرى فى الرسالة إلى غلاطية، ردود فعل اليهود من نحو بولس
وخدمته للأمم، ممثلة فى ثلاث فئات:

1- اليهود غير
المؤمنين فى أورشليم.

2- قادة
الكنيسة فى أورشليم.

3-التهوديين.

ان تفسير ما
جاء فى الأصحاح الثاني من الرسالة إلى غلاطية (2: 11 – 21) يتوقف إلى مدى بعيد على
معرفة المقصودين بعبارة " الذين هم من الختان " (عدد 12) الذين خاف منهم
بطرس، فالمألوف أن تفسر العبارة على أنها تشير إلى المؤمنين من اليهود المتزمتين
والمتمسكين بالناموس الذين جاءوا إلى انطاكية من " عند يعقوب "، وعلى
هذا الأساس يكون الفرقاء فى تلك المواجهة هم:

(1) –
يعقوب
ومبعوثوه الذين يمثلون جماعة التهوديين فى كنيسة أورشليم.

(2) –
بطرس
والمسيحيون من اليهود فى أنطاكية ومعهم برنابا، والذين لم يكونوا شديدي التمسك
بالناموس مثل الفريق الأول، ولكنهم كانوا يفضلون الادعان لسلطة الكنيسة فى أورشليم
الممثلة فى يعقوب.

(3) –
بولس،
المدافع عن حرية الأمم ومسأواتهم.

(4) –
المؤمنون
من الأمم فى أنطاكية، الذين وقفوا موقف المتفرج.

ومع أن لوقا
يستخدم نفس العبارة " الذين من أهل الختان " فى سفر الأعمال (10: 45، 11:
2) عن المسيحيين من إليهود، إلا أن بولس لايستخدمها مطلقاً بهذا المعنى، فهو
يستخدم فى كتاباته، " الختان "، "والذين هم من الختان " في
معناهما المطلق دائماً، للإشارة إلى اليهود بوجه عام (رو 3: 30، 4: 9 و 12، 15: 8،
غل 2: 7 – 9، أف 22: 11، كو 3: 11، 4 11 – وان كان لا يمكن الجزم بالمقصود بعبارة
" الذين من الختان" في تيطس (1: 10). فبالإِتساق مع استخدامه لكلمة
" الختان " فى الأعداد السابقة (غل 2: 7 – 9) يجب أن نفهم كلمة "
الختان " فى نهاية العدد الثاني عشر من الأصحاح الثاني من غلاطية – كما
يترجمه ج.ب. فيلبس ترجمة " صائبة – أن بطرس: " انسحب وأكل منفصلاً عن
الأمم، خشية ما يمكن أن يظنه اليهود ". ومن هنا نستنتج أن يهود أورشليم غير
المؤمنين وقفوا موقف العداء من مساعي بولس، كما فعل السواد الأعظم من إخوتهم فى
الشتات.

وأمام ردود
الفعل عند اليهود فى أورشليم، أدرك الرسل فى أورشليم حتمية تخفيف الصراعات التي لا
داعي لها، التي يمكن أن تثور بين اليهود والكرازة المسيحية، لذلك يحتمل أن الذين
جاءوا من " عند يعقوب " لم يأتوا بإنذار من جماعة من المتطرفين، ولكنهم
جاءوا بتحذير بأن الإشاعات المتزايدة عن تآخي المؤمنين من اليهود مع الأمم غير
المختونين فى أنطاكية وجنوبي أسيا الصغرى، قد وضع كل كنائس اليهودية فى موضع
الخطر. ولعل بطرس رأي – أمام هذا الموقف – أنه من الأفضل أن يخفف من اختلاطه
بالأمم فترة من الزمن إلى أن تهدأ العاصفة، وأن المؤمنين من اليهود فى أنطاكية مع
" برنابا " (غل 2: 13) قد رأوا رأية أيضاً. ويجب ملاحظة أن بولس لم يتهم
بطرس بخطأ فى المباديء، بل بعدم التزامه بالمبادىء التي ينادي بها (غل 2: 14 –
16). ويكون معنى هذا، أن تصرف بطرس – فى نظر بولس – حدث من قبيل المواءمة، وليس
طوعاً لمبدأ، كما كان ينادي التهوديون. ولكن مع أن تصرف بطرس حدث من قبيل المواءمة
فقط، إلا أن بولس رأى أنه يمس جوهر المبدأ، لأن التمييز بين المؤمنين من اليهود
والمؤمنين من الأمم على هذا الأساس، – ولو وقتياً وتحت ضغط خارجى – معناه الشك فى
حقيقة ايمان هؤلاء المسيحيين من الأمم، ودق "اسفين " بين الكنائس
اليهودية والكنائس الأممية، لا يمكن إزالته..

وقد تبع بعض
المؤمنين من اليهود فى جنوبي غلاطية رأي بولس ونادوا بأن المتجددين من الأمم لا
يلزمهم أن يختتنوا وأن يحفظوا ناموس موسى، بينما جاء آخرون من أورشليم إلى أنطاكية
سورية مؤكدين " أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا "
(أ ع 15: 1). أما القول بأن يعقوب وبطرس قد وقفا وراء أولئك التهوديين، فهو محض
خيال لا سند له من الحقائق التاريخية، لأنه بينما كان الرسل فى أورشليم يهتمون
بشدة بتخفيف التوتر بين اليهود والمسيحيين من اليهود، بقدر ما يمكنهم، فإنهم لم
يكونوا مستعدين للتضحية بمباديء الإِنجيل بهدف المواءمة، إذ أدركوا ما يمكن أن
يتأتى عن ذلك. وما كتبه الرسول إلى كنيسة تسالونيكى (اتس 2: 14 – 16) يدل على أنه
اعتبر غير المؤمنين من اليهود، أشد الناس مقاومة للكرازة للأمم، وعندما يقول
للغلاطيين إن هؤلاء التهوديين " يريدون أن تختتنوا أنتم لكى يفتخروا فى جسدكم
" (غل 6: 13)، فالأرجح أنه قصد أنه يصبح باستطاعتهم أن يظهروا لغير المؤمنين
من اليهود أن الإِنجيل يجعل الأمم يمتون للعالم اليهودي بصلة. ولا شك فى أن أولئك
التهوديين كانوا يعتقدون أنهم بذلك يرضون ضمائرهم، ولكن بولس رأى أنهم كانوا
"يريدون أن يعملوا منظراً حسناً فى الجسد.. لئلا يضطهدوا لأجل صليب المسيح
فقط " (غل 6: 12).

رابعاً –
مجمع أورشليم:

إن الأسلوب
الذى بدأه بولس فى رحلته الكرازية الأولي، بتبشيرة للأمم مبإشرة، أثار اهتماماً
بالغاً فى أورشليم، كما أن الأمر كان يحتاج إلى توضيح فى كنائس الأمم وبخاصة فى
ضوء نشاط التهوديين ودعأواهم، ولم يُحسَم الأمر إلا فى مجمع أورشليم الذي يرجح أنه
انعقد فى عام 49 م، حيث صدرت قرارات كان لها أثرها الكبير سواء فى الكرازة لليهود
أو كرازة بولس للأمم.

(أ) –
القضايا إلى نظر فيها المجمع: كانت الكنيسة فى أورشليم – باعتبارها إسرائيل
الحقيقي والبقية الأمينة – تتوقع أن تسير الإِرسالية المسيحية على الخطوط التي
رسمها الله منذ القديم، وأن كل وجودها قائم على هذا الأفتراض، وأن تعاليمها تتضمن
تلك الحقيقة، أن الإِيمان بالمسيح لا يجعل اليهودي أقل يهودية – فيما عدا القليل –
بل بالحري يجعل الأمم المنتمين إلى المجامع، أقوى شبهاً بالمثل الأخلاقية
اليهودية. على أي حال، لقد أكدت المسيحية – على الدأوم – ارتباطها الجوهري بديانة
إسرائيل والامة الإِسرائلية، مهما تنوعت الارآء داخل الحركة ومهما اكتنفها من
غموض،لذلك اعتقد الكثيرون أن أسلوب بولس الجديد – رغم دعواه فى أن إرساليته للأمم
كما كلفه بها المسيح، وكما أقرها الرسل أنفسهم فى أورشليم – يضعف من الأسس التي
تقوم عليها خدمة الكنيسة فى أورشليم، فأسلوب بولس لا يتمشى مع ادعائه باستمرارية
إيمان إسرائيل، وموافقة المؤمنين من اليهود على شرعية هذا الأسلوب، يعَّرض جهودهم
التبشيرية لنفس الاتهام أمام عيون مواطنيهم من اليهود.

وبعد
مباحثات كثيرة بين بولس وبرنابا من جانب، وجماعة التهوديين الذين كانوا يدَّعون
أنهم مؤيدون من الرسل فى أورشليم، من جانب آخر (أع 15: 1و 2)، وإذ أدركت الكنيسة
فى أنطاكية أن هذه المباحثات قائمة أيضاً فى الكنائس التي تأسست فى جنوبي أسيا
الصغرى، أرسلت بعثة – على رأسها بولس وبرنابا – إلى أورشليم لاستجلاء الأمور مع
الرسل والمشايخ هناك. ووصل الفريق القادم من أنطاكية ومعه أخبار عن نجاح
الإِرسالية المسيحية، بعد أن اجتازوا فى فينيقية والسامرة وأخبروهم " برجوع
الأمم " (أع 15: 3)، أى رجوعهم على أساس الخدمة المبإشرة لهم، لأن وجود
الدخلاء والمتجددين من الأمم الذين يتقون الله، لم يكن أمراً جديداً يستحق
الإِخبار به فى عام 49 م. وكان هدف الوفد الأنطاكي هو استجلاء العلاقة بين سياسة
الرسل فى أورشليم، سياسة المواءمة، وبين المبادىء التي ينادي بها التهوديون، لأنه
قد حدث خارج أورشليم اضطراب كثير نتيجة لما كان يشيعه التهوديون بأنهم وكل الكنيسة
فى أورشليم على رأي وأحد. وكان المؤمنون فى أورشليم – من جانبهم – يريدون استجلاء
ملابسات الإِتصال المبإشر بالأمم، وأن يواجه بولس وبرنابا المأزق الذي وضعا فيه
كنيسة أورشليم بسياستهم الجديدة.

ويبدو ان
القضايا المختلفة قد تبلورت فى قضيتين:

1- شرعية الخدمة المبإشرة للأمم.

2- العلاقة بين السياسة المبنية على المواءمة، وتلك المبنية على
المبدأ في مواصلة حفظ ناموس موسى.

أما القضايا
الأشمل فيما يتعلق بصواب الكرازة للأمم مبإشرة بوجه عام، وضرورة التزام المؤمنين
من اليهود بالحفاظ على العوائد اليهودية وعلى علاقتهم بالمؤسسات اليهودية كطريق
للحياة، فيبدو أنهم اعتبروها أموراً قد سبق أن تقررت من قبل، ولو أن البعض رأوا
طرحها من جديد على بساط البحث.

(ب)-مسار
الحوار: نجد أن الحوار المسجل في سفر الأعمال قد أقتصر على أربعة فرقاء أو بالحري
أربعة أشخاص. فقال بعض المؤمنين من الفريسيين أصلاً – دفاعاً عن وجهة نظر
التهوديين – " إنه ينبغي أن يُختنوا (الأمم) ويوصوا بأن يحفظوا ناموس موسى
" (أع 15: 5).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ل لَيْشة ة

ويبدو من
رواية لوقا أن كلمة " ينبغي " كانت تعني أنه أمر لائق عملياً ومطلوب
لاهوتياً، فالقضيتان – عندهم – صنوان لا ينفصمان. وكان جواب بطرس على ذلك أن ذكر
تجديد كرنيليوس كدليل على موقف الله من قبول الأمم، وكسابقة قوية لسياسة بولس (أع
15: 6 – 11)، فكانت حجته هي أنه حيث أن سابقة الكرازة المبإشرة للأمم قد حدثت فى
داخل دائرة الخدمة المسيحية اليهودية – رغم أن كنيسة أورشليم لم تواصل السير على
ذلك النهج – فإن نهج بولس – من جهة المبدأ – لم يكن شططاً ثورياً.

ثم تحدث
برنابا وبولس عن شهادتهما للامم فى رحلتهما البتشيرية الأولى، وبخاصة كيف وضع الله
ختم رضاه بالأيات والعجائب التي صنعها الله " بواسطتهم " (أع 15: 12).
ولابد أنهما شرحا وجوه الشبه الواضحة بين حالتي كرنيليوس وسرجيوس بولس. وممايستلفت
النظر هنا هو أن برنابا يذكر قبل بولس، فلعله هو الذى تولى شرح ماقاما به في هذا
المجال، إذ يحتمل إنه كان أكثر قبولاً من بولس عند الكثيرين منهم.

ثم وقف
يعقوب وبِّين انه من ناحية القضية اللأهوتية المتعلقة بصلة المؤمنين من الأمم
بناموس موس: " أن لا يثقل على الراجعين إلى الله من الأمم " (أع 15: 19)،
حيث انه قد حدثت سابقة لذلك في دائرتهم هم أنفسهم، كما أن النبي عاموس (9: 11و12)
سبق وأنبأ بوضوح عن شمول البركة للأمم (أع 15: 13 – 19).

ومن جهة
الأثر العملي لكرازة بولس، على شهادة المسيحيين فى أورشليم، وخشية أن يستخدم
المؤمنون من الأمم حريتهم لزعزعة المؤمنون من اليهود، رأى أن يُطلب من المؤمنون من
الأمم أ ن يحفظوا أنفسهم من:

1-نجاسات
الأصنام وكل ما يتصل بها.

2-الزنا بجميع
صوره.

3-الأكل من
الحيوانات التي قتلت خنقاً.

4-أكل الدم (أ
ع 15: 20 – 29).

وقد وافقت
الكنيسة على رأي يعقوب، وأرسلت مع بولس وبرنابا يهوذا الملقب برسابا وسيلا لشرح
معنى القرار للمؤمنين في أنطاكية.

(ج) _ طبيعة القرار: كان هذا القرار متمشياً مع مبادىء يعقوب
والرسل فى أورشليم كما نراها في سائر أجزاء سفر أعمال الرسل وفى الرسالة إلى
غلاطية. فلم يكن ممكناً لهم أن يتجاهلوا سياق تعليم الأسفار المقدسة، ولا قبول
الله القبول الواضح للأمم كما ظهر في الآيات والعجائب. ومن الجانب الآخر لم
يستطيعوا تجاهل المقتضيات العملية في الكرازة لإسرائيل، دون الانحياز إلى أقول
التهودين الداعية إلى الأنقسام والفرقة، فكان القرار ذا أهمية بالغة لمواصلة
الكرازة للأمم.

وإذا تأملنا
موقف كنيسة أورشليم في 49م، فلا بد أن ندرك أن القرار الذي وصل إليه المسيحيون في
أورشليم، كان قراراً من أجرأ القرارات وأكثرها سماحة فى تاريخ الكنيسة. فبينما
كانوا يبذلون الجهد فى الكرازة للأمة، أبوا أن يعترضوا تقدم الجانب الآخر من
الكرازة المسيحية الذي كان نجاحة سيسبب لهم – ولابد – اضطهاداً أكثر، فكان كل ما
طلبوه هو أنه فى وجه مخاوف اليهود وحساسياتهم، يجب أن يمتنع المؤمنون من الأمم عن بعض
الممارسات التي كان التقليد اليهودي يعلم أنها من الرذائل الشنيعة فى العبادات
الوثنية. ولا شك فى أن بولس كان سعيداً بهذا القرار لأنه صدر عن اعتبارات عملية
للعلاقات اليهودية المسيحية دون أن يعتبر أساساً للبر.

وكان للقرار
الذى صدر عن مجمع أورشليم، أثاره البعيدة المدى، فأول كل شيء، لقد حرر الإِنجيل من
الوقوع فى حبائل اليهودية ومؤسساتها، بدون استنكار شرعية مواصلة الشهادة المسيحية
فى داخل تلك الحدود. وهكذا أصبح الطريق مفتوحاً أمام مواصلة الكرازة المسيحية بين
الأمم وبين اليهود جنباً إلى جنب في خلال العقد التالي بدون أي صراع جوهري.

ثم إن
الغيوم التي كانت بموقف بولس في نظر كنيسة أورشليم، قد انجلت، ولو أنه من المحتمل
أن عداوة البعض لبولس قد إشتدت، ولكن السواد الأعظم من الجماعة المسيحية في
أورشليم، أصبح موقفهم منه إيجابياً، كما يبدو من موقف يوحنا مرقس (وسيأتى الكلام
عنه فيما بعد). ولقد شعر البعض – فى الكرازة للأمم – بسعادة أكثر مما كانوا فى
أورشليم، للسماحة التي أبداها المجمع، كما فى حالة سيلا (أع 15: 27 و 32 و34و40).

ثم إن
القرار الذي صدر عن مجمع أورشليم أثار عداءاليهود الدائم، فمنذ ذلك الوقت، واجهت
الكرازة بالإِنجيل بين الأمة اليهودية – وبخاصة بين اليهود فى أورشليم وما حولها –
مقأومة عنيفة. ويقول الرسول بولس فى رسالته إلى الكنيسة فى رومية (وكانت فى
غالبيتها من الأمم) عن الأمة اليهودية، إنهم " من جهة الإِنجيل هم أعداء من
أجلكم " (رو 11: 28).

خامساً –
الرحلة التبشيرية الثانية:

لقد وصل
بولس في رحلته التبشيرية الثانية إلى مناطق أبعد، فمع أنه كان يتوقع عندما شرع
فيها، أن يواصل كرازته للأمم داخل حدود أسيا الصغرى، إلا أن الرب قاده إلى مكدونية
وأخائية في جنوبي شرقي أوروبا. ونجد تفصيلات هذه الرحلة في سفر الأعمال (15: 36 –
18: 22)، وقد استغرقت هذه الرحلة السنوات من 49 – 52م.

أ فريقان
للكرازة: بعد أن حُسِم موضوع النزاع فى أنطاكية، الذي أثاره التهوديون، أراد بولس
أن يعاود زيارة الكنائس التي تأسست فى رحلته التبشيرية الأولى، فوافق برنابا على
ذلك، وأراد أن يأخذا معهما أيضاً ابن عمه، يوحنا مرقس، اهتماماً منه بتقدمه
الروحي. ويبدو من اقتراح برنابا أنه رأي تحولاً في نظرة مرقس إلى بولس وكرازته
للأمم، وإلا لمَا فكر في ذلك. والأرجح أن مجمع أورشليم لعب دوراً هاماً في إعادة
تقديره للأمور، فأصبح أرجح عقلاً وأرحب قلباً، فأقر شرعية تصرف بولس. ولكن بولس لم
يقبل ذهابه معهما. ولعل التقرير الذي قدمه مرقس بعد عودته إلى كنيسة أورشليم، هو
الذى أثار مقأومة التهوديين لخدمة بولس. وإذا كان الأمر كذلك، فيحتمل أن برنابا
رأى أن وجود مرقس معهما والشهادة الناتجة عن تغير موقفه، سيكون له أثاره الاستراتيجية
عند العودة لزيارة جماعات المسيحين الذين عرفوا مرقس من قبل.أ ما بالنسبة لبولس،
فقد كان الجرح أعمق غوراً، ولم تندمل أثاره بعد، فلم يكن الجو مهيأ للارتباط
الوثيق بشخص يحتمل أنه كان – ولو عن غير قصد – عاملاً فى إثارة النزاع الأصلي.
وبينما يحتمل أن مرقس قد تغير قلباً وفكراً، وتخلى عن كل النزعات التهودية، وأصبح
مؤيداً لاتجاهاته، لكن بولس ظل على موقفه، لأن القضية كانت أكبر من ذلك كثيراً،
كما أن خير الكنائس كان فى الدرجة القصوى من الأهمية، فلم يكن الحال يسمح
بالمجازفة بوجوده معهما حتى لا يذكر الكنائس بتذبذبه السابق وانشقاقه عنهما. وعند
هذا وجد برنابا أنه على غير وفاق مع بولس، " فحصل بينهما مشاجرة حتى فارق
أحدهما الآخر " (أع 15: 39). فأخذ برنابا مرقس وذهبا إلى قبرس التي بدات منها
رحلتهما السابقة، وحيث يمكن لمرقس أن يكون أكثر نفعا. واختار بولس سيلاً رفيقاً
جديداً له وعاد إلى حقول العمل فى أسيا الصغرى (أع 15: 36 – 41).

ولايمكن أن
يكون النزاع بين المؤمنين أمراً مشكوراً أو مقبولاً، ومع أن لوقا يصف مأحدث من
مشاجرة بين بولس وبرنابا، إلا أنه لا يعلق عليه بشيء، بل اكتفى بسرد الأحداث كما
جرت، بدون محأولة التقليل من خطورة الموضوع. ويجب أن نلاحظ أن الخلاف قد دار – كما
يبدو – حول قضايا الساعة، ولم يهبط مطلقاً – كما نرى من إشارات بولس فيما بعد إلى
الآخرين – إلى مستوى القذف فى حق الآخرين أو الغض من شأنهم، ففى رحلته الثالثة،
إشار بولس إلى برنابا فى رسالته إلى الكورنثيين قارنا اياه بنفسه، ومعتبراً إياه
رسولاً من أعظم الرسل (اكو 9: 6). ثم فى رسالته إلى المؤمنين في وادي ليكوس في
جنوبي أسيا الصغرى، الذين يحتمل أنهم كانوا يكنون بعض العداء لمرقس لمِاَ سمعوه عن
تصرفه السابق، يكتب لهم بولس من جهة مرقس حاثاً إياهم على أن يقبلوه إن أتى إليهم
(كو 4: 10). وفى آخر رسالة كتبها قبيل استشهاده، يطلب من تيموثأوس أن يحضر مرقس
معه " لأنه نافع لي للخدمة " (2تي 4: 11). ومن الواضح أنه حتى رجال الله
الأتقياء – من أسمى نوع – يمكن أن يختلفوا وتفترق بهم الطرق، ورغم أن هذا الانفصال
لا يمكن أن يكون، موضع ثناء، فإن الكتاب المقدس لا يعتبره وصمة عار على أي جانب من
الجانبين طالما أن الانفصال لم ينشأ عن دوافع شخصية أو عن حقد أو لرغبة فى
الانتقام. وفي الحالة التي أمامنا استخدم الرب الخلاف لإِرسال فريقين للكرازة
بدلاً من فريق واحد. ومع أن لوقا لا يسجل لنا في سفر الأعمال شيئاً مفصلاً عن خدمة
برنابا، فلا يمكن أن يكون ذلك لعدم رضاه عنها. وإذ حكمنا بناء على إشارات بولس –
فيما بعد – إلى هذين الرجلين، برنابا ومرقس، فمن الواضح أنهما قاما بعمل ممتاز في
قبرس، ولكن بولس كان البطل الذى يؤرخ له لوقا، كما أنه عن طريق خدمة بولس حدث هذا
التقدم الكبير في تبشير الأمم.

وكان اختيار
بولس لسيلا ليكون رفيقاً له، اختيارا موفقاً، إذ كانت تتوفر فيه صفات تلائم الخدمة
بين الأمم كما حدثت فى الخمسينات من القرن الأول. ففى المقام الأول كان أحد قادة
المؤمنين فى أورشليم مؤهلا لتمثيل رأي كنيسة أورشليم (أع 15: 22و27و32). كما كان
نبياً قادراً على أن يتحدث للأمم حديثاً فعَّالاً (أع 15: 32). ومن إشارات بولس
المتكررة إليه باسمه الروماني " سلوانس " (1 تس 1: 1، 2 تس 1: 1) يمكننا
أن نستنتج إنه كان على استعداد لملاقاة الأمم على قدم المساواة، وبالإِضافة إلى
ذلك، كان مواطنا رومانيا له الحق فى الحصانة ضد الأضطهادات المحلية متى لزم الأمر
(أع 16: 37)، وبهذه الصورة كان أفضل رفيق لبولس فى رحلته. وهذا الوفاق الواضح بين
سيلا والرسل فى كنيسة أورشليم أولاً، ثم مع بولس فى رحلتيه الثانية والثالثة، ثم
مع بطرس (ابط 5: 12) لأكبر دليل على الوحدة الأساسية بين جناحي المسيحية في عصورها
الأولى، وبين قادتها أيضاً.

ب الخدمة فى
أسيا الصغرى: بعد أن غادر بولس وسيلا أنطاكية سورية، زارا أولاً كنائس سورية
وكليكية (أع 15: 41). والأرجح أن المؤمنين في تلك الجهات، قد تجددوا بواسطة
الشهادة المنبثقة من الكنيسة فى أنطاكية، ولو أنه يحتمل أن البعض منهم قد تجددوا
عن طريق خدمة بولس في أثناء وجوده فى طرسوس. وبعد أن أجتازا فى الممرات الجبلية
التي تسمى " البوابات الكيليكية "، وصلا إلى دربة ولسترة، ومن هناك ذهبا
إلى الكنائس الأخرى في أسيا الصغرى، التي تأسست فى خلال رحلته الأولى (أع 16: 1 و
4)، وأعلنا فى كل كنيسة القرار الذي توصل إليه مجمع أورشليم والقضايا التي حكم بها
الرسل والمشايخ الذين فى أورشليم لإِزالة التوتر الموجود بين المؤمنين من اليهود
والأمم، وبذلك كانا يشددان الكنائس فى الإِيمان المسيحي، كما وأصلاً الكرازة
بالإِنجيل، فتجدد كثيرون أيضاً وآمنوا بالرب يسوع المسيح (أع 16: 4 و 5).

وفى لسترة
وجد الرسول بولس الشاب تيموثأوس – الذي كان قد تجدد فى اثناء الرحلة الأولي – فطلب
منه بولس أن يرافقه وسيلا فى التجوال والخدمة. وكانت جدته لوئيس وأمه أفنيكى
يهوديتين متعبدتين، ثم أصبحتا مسيحيتين تشتعلان غيرة وحماسة (اع 16: 1و2 تي 1: 5،
3: 15).أما أبوه فقد كان يونانياً، ويبدو أنه لم يكن مؤمناً لا باله إسرائيل أو
بالرب يسوع المسيح. وحيث أن تيموثاوس كان قبل تجديده نصف يهودي، تربى فى أحضان أمه
وجدته اليهوديتين المتعبدتين، فكان في نظر الناس مسيحياً يهودياً، اخذه بولس وختنه
حتى لا يعثر اليهود بلا داع (أ ع 16: 3). ومع أن بولس كان يحتج بشدة ضد ختان
المتجددين من الأمم، لكنه لم يعترض مطلقاً – فى ضوء الظروف القائمة – على حق
المسيحين من اليهود فى ممارسة الختان.

ولقد رأى
الكثيرون من المفسرين أن ما جاء فى سفر الأعمال (16: 6) يدل على أنه بعد زيارتهم
للكنائس فى جنوبي أسيا الصغرى، ذهب بولس وسيلا إلى الجزء الشمالي من مقاطعة
غلاطية، وهناك أسساً الكنائس التي كتب لها بولس فيما بعد رسالته إلى غلاطية. وقد
ظهرت هذه النظرية منذ العصور الأولى عندما تعدلت الحدود السياسية لغلاطية لتضم
الأجناس الغالية التي كانت تقيم أساسا فى الشمال، وهكذا فصلوا عنها الأجزاء
الجنوبية التي كانت تضم أنطاكية وإيقونية ولسترة ودربة، ولذلك لم يخطر على بال
الأباء أن الرسالة إلى غلاطية كتبت إلى الكنائس فى الجنوب والكلمات في اليونانية
فى العدد السادس من الأصحاح السادس عشر من سفر الأعمال، ترجح أن الترجمة الصحيحة
هى: " وبعدما اجتازوا في كورة غلاطية الفريجية "، وبذلك يتحدد مكان
الخدمة فى غلاطية الجنوبية وليس في "غلاطية الشمالية " كما افترضت
النظرية المذكورة.

ويبدو أن
بولس قصد – فى بداية رحلته الثانية – أن يمد دائرة خدمته إلى المقاطعة الرومانية
المزدهرة فى غربي أسيا الصغرى، فبعد أن شدد الكنائس التي تأسست فى أثناء رحلته
الأولى، رأى أن يواصل السير غرباً، لكن بطريقة ما، " منعهم الروح القدس أن
يتكلموا بالكلمة فى أسيا " (أع 16: 6)، ففكر فى الذهاب إلى المدن الرومانية
الكبيرة على ساحل البحر الأسود فى مقاطعة بيثينية، " فلم يدعهم الروح "
أيضاً (أع 16: 7)، فلم يعرفوا إلى أين يذهبون، ولانهم كانوا يعلمون تماماً أن الله
قد دعاهم لمواصلة الكرازة للأمم، انحدروا إلى ترواس الواقعة على ساحل بحر ايجة.
وفى ترواس " ظهرت لبولس رؤيا في الليل رجل مكدوني يطلب إليه ويقول: اعبر إلى
مكدونية وأعنا " (أ ع 16: 8و 9)، وقد قبلا هذا توجيهاً من الله، ورأوا
الاحتمالات الكبيرة للكرازة بالإِنجيل فى المدن الواقعة إلى الغرب من بحر إيجه (16:
10). وعند هذه النقطة يتحول " ضمير الغائب " في القصة إلي " ضمير
المتكلم "، مما اعتبر دليلاً على انضمام لوقا للفريق الكرازي، والذي قد يتضمن
أيضاً أن الرب استخدم لوقا – بطريقة ما – فى "الرؤيا المكدونية " نفسها.

ج – التقدم
إلى أوروبا: بدأ الفريق خدمته في فيلبي أهم مدن المقاطعة، وكانت " كولونية
" أي " مستوطنة رومانية " (أ ع 16: 11و12). ويبدو أنها لم تكن بها
جالية يهودية كبيرة، إذ كان على بولس أن يبحث عن المتعبدين لله في يوم السبت، ولم
يجد سوى بضع نساء عند نهر. وكان القانون اليهودي ينص على أنه متى وجد عشرة رجال من
أرباب البيوتات، فيجب بناء مجمع هناك لدراسة الشريعة، وإذا لم يتيسر ذلك فيجب عقد
اجتماعات للعبادة فى الهواء الطلق وبخاصة بجانب النهر. وهنا فتح الله قلب ليديه
" بباعة الأرجوان " للإِنجيل. وبعد أن اعتمدت هي وأهل بيتها، دعتهم إلى
بيتها ليتخذوا منه مقراً لهم (أع 16: 13 – 15). ومن هذه البداية الصغيرة، ازدهرت
كنيسة فيلبي، التي وجد بولس في أعضائها ما أرضى قلبه فكانت أخف الكنائس عبئاً
عليه.

ولكن حدث ما
اعترض سير الخدمة في فيلبي، وذلك بعد شفاء جارية بها روح عرافة، فاتهم موإليها
الرسل بالتدخل فى شئونهم وحرمانهم من مكاسبهم، وبحجة أن أولئك الصعاليك من اليهود
الغرباء ينادون بديانة غير شرعية مما يؤدى إلى تعكير السلام وإضعاف سيادة روما،
استطاع مواليها إثارة الجماهير والسلطات المحلية ضد بولس وسيلا، وفى الشغب الذي
حدث تعرضاً للضرب ثم الُقي بهما فى السجن الداخلي وضبطت أرجهلما فى المقطرة.
" ونحو نصف الليل كان بولس وسيلا يصليان ويسبحان الله " (أع 16: 25)
فحدثت زلزلة زعزعت أساسات السجن وفتحت أبوابه وفكت قيود المسجونين. وعندما رأى
السجان تدخل الله بهذه الصورة، آمن وأحسن إلى الرسولين وغسل جراحهما. وفي الصباح
أرسل الولاة إلى رجال الشرطة لإِطلاق سراحهما، ولكن بولس وسيلا اصرا على حقوقهما
فى ان يطلق سراحهما علناً كما يليق بمواطنين رومانيين. وبعد أن وعظا الكنيسة
النإشئة، تركا المدينة كما طلب منهما الولاة (أع 16: 16 – 40).

ويبدو أن
لوقا بقي فى مدينة فيلبي، إذ يتحول " ضمير المتكلم " مرة آخرى إلى
" ضمير الغائب " بعد حادثة هذه الجارية التي كان بها روح عرافة.

وبعد أن
اجتاز بولس وسيلا في أمفيبوليس وأبولونية، أتيا إلى تسالونيكي واستطاعا الكرازة
بالإِنجيل فى المجمع ثلاثة سبوت، وأحرزا بعض النجاح، قبل أن يتمكن اليهود من إثارة
الجموع ضدهما وضد مضيفهما ياسون (أع 17: 1 – 9). وقد انصبت كرازتهما على موت
المسيح وقبامته حسب النبوات,وأن يسوع الناصري هو المسيح الموعود به (أع 17: 3 مع
اكو 15: 3 – 5). وكانت التهمة الموجهة إليهما هي تعكير السلام وخيانة الدولة (أع
17: 6و7). وعندما أدرك المؤمنون في تسالونيكى خطورة الموقف – قبل أن تصل الأزمة
إلى ذروتها – أرسلوا بولس وسيلا ليلاً إلى بيرية (أع 17: 10). وقد نزل بولس عند
رأيهم ورحب بمعونتهم. ولكنا نعرف من رسالته إلى كنيسة تسالونيكي – بعد ذلك ببضعة
شهور – أنه تركهم وهو يخشى على حياتهم وعلى ثباتهم فى الإِيمان (اتس 2: 17 – 3: 5).

وكان اليهود
في بيرية " أشرف من الذين في تسالونيكي " لأنهم اهتموا بفحص صحة دعوى
بولس بأن الإِنجيل هو إتمام لأسفار العهد القديم، أكثر من اهتمامهم بالجدل حول
أساليبه، أو تأكيد الآخرين على عدم شرعية الإيمان المسيحي. فاستمعوا إليه، وأخذوا في
فحص النبوات الكتابية في ضوء ما ينادي به. ونتيجة لذلك آمن بالمسيح الكثيرون من
اليهود والأمم (أ ع 17: 10 – 12). ولكن يهود تسالونيكي جاءوا إلى بيرية وأهاجوا
الجموع ضده، فاضطر بولس لمغادرة بيرية أنفسهم لم يكن لهم إلا دور صغير في
الاضطهاد، حتى إن سيلا وتيموثأوس استطاعا البقاء ومواصلة الخدمة في المدينة (أ ع
17: 13 – 15)

ويبدو أن
ذهاب بولس إلى أثينا في ولاية أخائية، كان القصد الأساسي منه هو الاحتماء من
الاضطهاد الذي واجهه في مكدونية. ولكنه بينما كان ينتظر مجىء سيلا وتيموثأوس من
الشمال، احتدت روحه فيه إذ رأى المدينة مملوءه أصناماً، ووجد نفسه مضطراً إلى
الكرازة بالرب يسوع في المجمع لليهود وللأمم الذين يتقون الله، ولكل من يصادفونه
في السوق (أ ع 17: 16 و 17). لقد كانت كلمة الله فى قلب بولس _ كما كانت في قلب
إرميا – ناراً -محرقة في عظامه فلم يستطع الإمساك عنها (إرميا 20: 9)

فقابله بعض
أتباع الفلسفتين الأبيكورية والرواقية، وأخذوه – البعض من قبيل المزاح، والبعض عن
سخرية -إلى " إريوس باغوس(أع17: 18 –21)أيإلى تل بلاد الإله
"أرس"إله الحرب عند اليونان (وهو "مارس"عند الرومان). وكان
"أريوس باغوس" فى أثينا – في العصر الرومانى – محكمة هامة، كان من بين
مسئولياتها العديدة الإشراف على التعليم ومراقبة المحاضرين المتجولين الذين يمرون
بأثينا. وقد طلبوا من بولس أن يتكلم أمام هذا المجلس،لفحص الأمر أكثر منه
للاستمتاع المحايد. وتحدث بولس للذين كانوا مجتمعين هناك، عن بُطل عبادة الأوثان،
وعن استغلان الله في الطبيعة، وعن الدينونة الشاملة، وعن إعلان الله لتدبيره
الفدائى شيئاً فشيئاً، وبلوغ ذلك التدبير ذروته في إقامة الله ليسوع المسيح من
الأموات (أ ع 17: 22 _ 31). وينسب البعض هذا الخطاب إلى براعة لوقا,ذاعمين أن كل
الخطابات في سفر الأعمال – وبخاصة هذا الخطاب – من إنشاء كاتب سفر الأعمال نفسه،
على أساس ما رآه مناسباً للمتكلم في ذلك المقام. ولكننا لا نجد في هذا الخطاب ما
يتعارض مطلقاً مع موقف شخص قال عن نفسه: "صرت للكل كل شىء لأخلص على كل حال
قوماً " (1 كو: 20 _ 22)، بل بالحري، يبدو أن لوقا إنما يسجل مناسبة فذة، بدأ
فيها بولس من موقف سامعيه محأولا أن يقودهم إلى شخص الرب يسوع المسيح.

ولم يحصل
بولس من حديثه في أثينا إلا على نتائج محدودة، فالسواد الأعظم من أعضاء مجلس
" أريوس باغوس "، إما استهزأوا به أو أهملوا حديثة، وإن كان واحد منهم،
هو ديونيسيوس قد آمن، وكذلك امرأة اسمها دامرس من النساء البارزات في المدينة
وآخرون معها. ولكن يبدو أنه لم تتاسس كنيسة فى اثينا فى ذلك الوقت. ويظن البعض أن
بولس قد أصابه بعض الإِحباط من هذه النتائج الضئيلة، فأعاد تقييم محاولته الحديث
بأسلوب فلسفي لقوم من المثقفين، فتخلى عن هذا الأسلوب مكتفياً بالإِعلان البسيط
للإِنجيل (اكو 1: 20 – 2: 5).

ويبدو – على
الأرجح – أن الرسول أصابته بعض خيبة الأمل لأن عدداً قليلاً جداً من الأثينويين قد
أمنوا بالمسيح نتيجة لخدمته، ولكن يجب الاننسى ان البعض قد استجاب للدعوة! كما يجب
أن نذكر أن بولس – فى ذلك الوقت – كان فكره منصرفاً إلى حالة المؤمنين في
تسالونيكي الذين اضطر لمغادرتهم وهم معرضون للخطر الشديد من الاضطهاد (اتس 2: 17 –
2: 5) كما حدث ذلك معه مرة أخرى وهو فى ترواس، إذ كان مشغولاً من جهة كنيسة
كورنثوس (2كو 2: 12و 13)، وكذلك لعدم استطاعة الكرازة فى برجة لما حدث من انشقاق
داخل فريق الكرازة نفسه (انظر ماجاء بعاليه عن الرحلة الأولى). يجب أن ندرك أن
مشغولية بولس من جهة المؤمنين في تسالونيكي، كان يمكن أن تعطله – إلى حد ما – عن
استخدام الفرصة التي أتيحت له، استخداماً كاملاً، فهو لم يكن – رغم كل شيء – سوى
بشر، وكبشر وجد أن لعواطفه تأثير على نشاطه الروحي. ويحتمل – علاوه على ذلك – أنه
كان مريضاً فى تلك الفترة لأنه يقول للتسالونيكيين، إنه أراد أن يذهب إليهم مراراً
" وإنما عاقنا الشيطان " (اتس 2: 18). وهي عبارة أشبه ما تكون بما ذكره
عن الشوكة في الجسد (انظر 2 كو 12: 7 – 10).

وبعد أن
غادر بولس أثينا، جاء إلى كورنثوس " فى ضعف وخوف ورعدة كثيرة " (اكو 2: 3).
وفي كورنثوس أقام مع أكيلا وبريسكلا، وهما زوجان يهوديان كان قد طردا حديثاً من
رومية بناء على مرسوم كالوديوس قيصر في 49 م، الذي قضى بطرد جميع اليهود من رومية
بسبب ما شجر بينهم من منازعات حول شخص اسمه " كريستوس " (المسيح؟). ولا
نجانب الصواب إذا قلنا أن أكيلا وبريسكلا كانا – على الأرجح – مسيحيين قبل مجيئهما
إلى كورنثوس، حيث لايذكر شيء مطلقا عن تجديدهما عن طريق كرازة بولس. ومنهما عرف
بولس الكثير عن الكنيسة في رومية التي كانا عضوين فيها. وحيث أنهما كانا من صانعي
الخيام، انضم إليهما في حرفتهما في خلال أيام الاسبوع لأنه كان يكرز في المجمع كل
سبت (أع 18: 1 – 4).

وبعد ذلك
بقليل، وصل إلى كورنثوس سيلا وتيموثأوس قادمين من مكدونية، ومعهما:

1- تقرير عن الأحوال في الكنيسة في تسالونيكي (اتس 3: 6).

2- عطية مالية من كنيسة فيلبي (2كو 11: 9، في 4: 14و15).

وكانت أخبار
مكدونية أفضل مما توقع بولس، وقد عزته كثيراً وشجعته تماما (اتس 3: 7 – 10). كما
أخبره سيلا وتيموثاوس عن حملة من الافتراءات ضد بولس صادرة من خارج الكنيسة (اتس 2:
3 – 6)، وكذلك عن الحيرة التي أنتابت البعض عن مجىء المسيح ثانية (اتس 4: 13 – 5: 11).
وقد مكنته العطية المالية التي وصلته من فيلبي، من تكريس كل وقته للكرازة
بالإِنجيل حيث إن المعنى الحرفي لما جاء في سفر الأعمال (18: 5) أن " بولس حصر
نفسه في الكلمة
".

وبناء على
الأخبار التي وصلته من تسالونيكي، كتب رسالته الأولى إلى تسالونيكي، وفيها يحرضهم
على النمو والغيرة والأمانة، ويشجعهم في وجه الاضطهادات المحلية، ويدافع عن نفسه
أمام الهجمات المعادية، ويعلمهم عن قداسة الحياة، وعن مجيء الرب، ويحثهم على
الثبات والصبر. وبعد ذلك ببضعة أسابيع، إذ علم باستمرار حيرتهم بخصوص مجيء الرب
وعلاقة المؤمن بالرجاء المبارك، كتب لهم رسالته الثانية إلى تسالونيكي. وفي هذه
الرسالة ذكر لهم مع أن الكنيسة تعيش في تطلع المشتاق إلى مجىء الرب، فإن "
قريباً " ليس معناها " فوراً " ولكنها دافع للثبات والإِصرار على
المثابرة. وقد كتبت الرسالتان إلى تسالونيكي فيما بين 50 – 51 م تقريباً

وقد سار
بولس في كرازته في كورنثوس على النهج المعتاد، فبدأ بالكرازة في المجمع، ثم توجه
إلى الأمم مبإشرة. فبعد أن رفضه اليهود، أقام في بيت رجل اسمه تيطس يوستس، كان
بيته ملاصقاً للمجمع (أع 18: 5 – 7). وكان من أوائل من أمنوا في كورنثوس كريسبس
رئيس المجمع، ثم تبعه عدد كبير من المدينة، فآمنوا واعتمدوا (أع 18: 8، اكو 1: 14)،
وإن كان بولس لم يعمد إلا القليلين منهم (اكو 1: 14 – 16). وعندما تعين غاليون والياً
على أخائية " قام اليهود بنفس واحدة على بولس وأتوا به إلى كرسي الولاية،
قائلين إن هذا يستميل الناس ان يعبدوا الله بخلاف الناموس". وكانوا يقصدون
بذلك إن إنجيل بولس يناقض القانون الروماني الذي سمح باعتناق ديانة واحدة من
الديانات المعترف بها من الشعب، وأن الإِنجيل أيضاً كان يناقض ناموس موسى كما
يفهمونه. ولم ير غاليون في ذلك سوى منازعات يهودية تافهة، فرفض أن ينظر في الأمر
(أع 18: 12 – 17). وهكذا أطلقت يد بولس ليواصل كرازته في كورنثوس، فمكث بالمدينة
أكثر من سنة وستة أشهر (أع 18: 11 و 18). وهناك نقش لاتيني وجد في دلفي، يثبت –
بلا أدنى شك – أن غاليون تعين والياً على أخائية في عام 52م، والأرجح أنه بدأ سنتي
ولايته في يوليو 51م، وهو ما يتفق مع خدمة بولس في كورنثوس كما يسجلها سفر
الأعمال.

وعند
مغادرته كورنثوس في طريقه إلى سورية، رافقه أكيلا وبريسكلا حتى أفسس، وفي أفسس
انفسح المجال أمام بولس ليتكم فى المجمع، ولكنه رأي تأجيل الكرازة في المدينة إلى
وقت لاحق، إذ يبدو أ نه كان ما هناك يعجِّل بذهابه إلى أورشليم (أع 18: 18 – 21).
وأخيراً وصل إلى قيصرية بعد رحلة بحرية طويلة، ثم ذهب إلى أورشليم ليسلم على
الكنيسة هناك، وبعدها ارتحل شمالاً إلى أنطاكية سورية (أع 18: 22).

 

سادساً –
الرحلة التبشيرية الثالثة:

اتجه بولس –
أساساً – فى رحلته التبشيرية الثالثة إلى الخدمة زمناً كافياً فى أفسس، تلك
المدينة التي توقع الرسول أن يصل إليها في مستهل رحلته التبشيرية الثانية، والتي
كانت تبشر بحصاد طيب للكرازة بالإِنجيل عند زيارته القصيرة لها منذ عام سابق.
ويقدم لنا سفر الأعمال (18: 23 – 21: 16) موجزاً مختصراً عنها، ولكن يمكننا الحصول
على تفصيلات آخري من رسائله. وقد استغرقت هذه الرحلة الثالثة من 53 – 58 م
تقريباً.

أ خدمة
ممتدة في أفسس: بعد أن زار بولس الكنائس في " كورة غلاطية وفريجية يشدد جميع
التلاميذ " (أع 18: 23)، جاء إلى أفسس، وكذلك المدينة تتميز بمصدرين للقوة
تعتمد عليهما في حياتها وازدهارها، كان أولهما هو موقعها الممتاز كمركز للتجارة
لأن أفسس كانت ميناء هاماً على بحر إيجه تربط البلاد الخارجية بالمدن الداخلية في
ولاية أسيا الرومانية، ولكن بسبب الرواسب الطينية التي كان يجلبها نهر مياندر
إليها، كانت أهمية المدينة كمركز تجارى، قد أخذت في الاضمحلال في أيام الرسول
بولس. وقد بذلت جهود كبيرة لتحسين حالة الميناء. وفي 65م. تمت محاولة على نطاق
واسع، ولكنها لم تسفر عن شيء ذي قيمة.

وكان العامل
الثاني في أهيتها هو عبادة أرطامسيس (ديانا) الهة الخصب، والتي كان لها عدد كبير
من الثدى، وكان هيكلها إحدى عجائب الدنيا السبع. والعلاقة بين أرطاميس أفسس،
وأرطاميس اليونانية، يكتنفها الغموض الشديد، فمع أنها فى صفاتهما المميزة كانتا جد
مختلفتين، فإن عامة الشعب كثيراً ما كانوا يخلطون بينهما. وباضمحلال أهمية أفسس
التجارية، اصبح ازدهار المدينة متوقفاً على أفواج السياح والحجاج القادمين لزيارة
هيكل أرطاميس. وفى زمن الوصول بولس، كان شعب مدينة أفسس – رغم ما يحيط بهم من
مظاهر الغنى الغابر، الذى كانوا مازالوا يستمتعون ببعض ثماره – يدركون الخطر
المحدق بمدينتهم كالمركز التجاري والسياسي لأسيا، وبدأ يتزايد اعتمادهم على هيكل أ
رطاميس كمورد اقصتادي لهم.

وعندما وصل
بولس إلى أفسس، وجد اثني عشر رجلاً سبق ان اعتمدوا "بمعمودية يوحنا "،
وليس ثمه دليل على انهم كانوا مسيحيين حقيقة. وعندما سمعوا إنجيل يسوع المسيح،
" اعتمدوا باسم الرب يسوع " (أع 19: 1 – 7). وهذه القصة – بهذا الإِيجاز
الشديد – تبدو صعبة التفسير، فالأرجح أن أولئك الاثني عشر (قبل لقائهم مع بولس)
كانوا أعضاء في طائفة ترى في يوحنا المعمدان ذروة إعلانات الله في تلك الحقبة من
تاريخ تدبير الفداء،بل لعله كان عندهم معادلاً للمسيا نفسه. وما جاء في إنجيل
يوحنا (1: 9 – 34، 2: 22 – 3: 36) إنما هو لدحض أي فكر عن أفضلية يوحنا عن يسوع،
ولذلك مع التوكيد على " رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة "فى الرسالة
إلى أفسس (4: 5)، مما قد يدل على أنه كان هناك حرب يتشبع ليوحنا المعمدان داخل
الدوائر المسيحية بين اليهود في أسيا في القرن الأول (مع افتراض العلاقات الافسسية
بين إنجيل يوحنا والرسالة إلى أفسس)، ولابد أنه في وسط مثل هذه الجماعة – وبخاصة
قبل أن تتبلور الأمور تماماً – كان يوجد البعض من يوقرون يوحنا المعمدان، مع
انتظارهم لمن هو أعظم،بينما كان البعض الآخر لا يذهبون في ولائهم إلى ما وراء
يوحنا المعمدان، بل لعله كان في نظرهم اعظم من يسوع.

ويبدو أن
ابولس كان من الفريق الأول، فالبرغم من أنه كان من جماعة يوحنا المعمدان، وقد تعلم
" بتدقيق "، كان فى حاجة إلى أن يشرح له أكيلا وبريسكلا " طريق
الرب بأكثر تدقيق " (أع 18: 24 – 28). إلا أنه – على ما يبدو – لم يكن ضيق
الأفق رغم أنه كان " عارفاً معمودية يوحنا فقط " لأن معمودية يوحنا كانت
تعتبر مقدمة لقبول مسيا الله، وعندما شرح له أكيلا وبريسكلا الأحداث التي تلت
معمودية يوحنا، وما تعنيه، بادر بالقبول. ومن العجيب ألا يذكر شيء عن اعتماده باسم
المسيح، ولكن من الخطأ الشديد أن نبني رأياً على مجرد الصمت.

واستغرقت
خدمة الرسول في أفسس نحو ثلاث سنوات، وهى مسجلة بكل إيجاز في الأصحاح التاسع عشر
من سفر الأعمال. وكم كنا نتمنى معرفة تفصيلات أوسع. لقد ظل بولس يجاهر في المجمع
ثلاثة أشهر " محاجاً ومقنعا في ما يختص بملكوت الله " (أع 19: 8)، كان
يتحدث إلى من سبق لهم أن رجبوا به (أع 18: 19 و 20). وكانت مدة خدمته هناك أطول من
أي مدة آخرى اتيحت له للكلام في مجمع يهودي. وعندما ثارت في وجهه المعارضة في
المجمع، انتقل إلى مدرسة تيرانس حيث واصل كرازته مدة سنتين، وفى تلك الأثناء
" سمع كلمة الرب يسوع جميع الساكنين فى اسيا من يهود ويونانيين " (أع 19:
9و 10)، " وهكذا كانت كلمة الرب تنمو وتقوى بشدة " مصحوبة باجراء معجزات
كثيرة من شفاء مرضى وإخراج أرواح شريرة، ونقض أعمال السحرة (اع 19: 11 – 20). ومن
افسس، والأرجح عن طريق من آمنوا على يد بولس، وصل الإِنجيل إلى جميع الساكنين في
مقاطعة أسيا وتأسست كنائس في أماكن آخرى (أع 19: 10 مع كو 1: 7، 2: 1، أنظر أيضاً
رسائل إغناطيوس). وبعد أن أرسل تيموثأوس وأرسطوس إلى مكدونية وأخائية، ليث هو
زمانا في أفسس (أع 19: 21 و 22).

وفى ختام
خدمته في أفسس، ثار شغب ضده وضد كرازته، لأن الإِنجيل قد جعل الكثيرين يتحولون عن
عبادة أرطاميس الوثنية، مما أثر في اقتصاد المدينة باعتبارها مركزاً للحجاج، وكان
ديمتريوس ورفقاؤه من صائغي الفضة يكسبون كثيرا من صنع تماثيل صغيرة لأرطاميس
لبيعها للحجيج. وعندما بدأت كرازة بولس تؤثر في مكاسبهم، سعوا إلى اثارة الشعب ضد
المرسلين المسيحيين، وإنعإش عبادة أرطاميس (أع 19: 23 – 28)، فخطفوا غايس وأرسترخس
المكدونيين رفيقي بولس، وأخذوهما إلى مسرح المدينة، وظلوا في صراخهم وهنافهم نحو
ساعتين قائلين: " عظيمة هى أرطاميس الأفسسيين " (أع 19: 29 – 34). وأراد
اليهود أن يفصلوا أنفسهم عن المسيحيين، فدفعوا بواحد منهم – هو اسكندر – إلى
المشهد لهذا الغرض،ولكن اليهود كانوا بغيضين عند الجماهير الهائجة، مثلهم مثل
المسيحيين تماماً، إذ كان اليهود والمسيحييون ينادون بإله غير منظور ويرفضون كل
الأوثان، وهكذا رفضت الجموع الاستماع لاسكندر (أع 19: 33و 34) وأراد بولس أن يدخل
في المشهد ليحتج أمام الجموع، ولكن الجموع كانت فى حالة من الهياج راي معه
المسيحيون وبعض رجال السلطة المحلية، منعه من ذلك (أع 19: 30 و 31). وأخيراً
استطاع كاتب المدينة أن يصرف الجمع على أساس أن كرامة المدينة التي يحرصون عليها،
لابد أن تتأثر – فى نظر روما – بهذا الشغب، وأن أي شكوى لديمتريوس والصناع، يجب أن
ترفع إلى السلطات الشرعية (أع 19: 35 – 41). وإذ عرف بولس أنه قد تمم خدمته في
أفسس، وأن بقاءه بها لابد أن يثير عداوات أشد، قرر أن يذهب هو ومن معه إلى مكدونية
(أع 20: 1).

هل تبحث عن  ئلة مسيحية لماذا استمرار العقوبات حتى بعد الفداء ء

ولا شك في
أن لوقا لم يسجل إلا القليل من الأضطهادات التي ثارت في الفترة الأخيرة من خدمة
بولس في أفسس. ومع أنه لا دليل على أن الرسول قد تعرض للسجن في خلال هذه المدة
بناء على حكم من محكمة شعبية – كما يزعم البعض – فإن إشاراته، فيما بعد، إلى أحداث
أسيا تدل على أنه واجه صعوبات كثيرة سببت له أوجاعاً وجراحاً. ولا شك في أن عبارته:
" قد حاربت وحوشاً في أفسس " (اكو 15: 32) – التي يحتمل أنها مجرد
إستعارة للدلالة على المقاومة العنيفة (لاحظ العبارة السابقة لها: " أموت كل
يوم " فى العدد 31) – إنما تدل على فظاعة ما تحمله هناك. والأرجح أيضاً أن
إشارته إلى مخاطرة أكيلا وبريسكلا بعنقيهما من أجل حياته (رومية 16: 3)، وقوله
" بأننا تثقلنا جداً فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة أيضاً " (2كو 1: 8
– 11)، إنما يشيران إلى وقائع حدثت في أثناء خدمته في أفسس.

ب اتصاله
المستمر بالكنائس: كان بولس على اتصال مستمر بالمسيحيين في كورنثوس في أثناء رحلته
التبشيرية الثالثة، فبينما كان في أفسس كتب لهم رسالة بخصوص الانفصال عن الخطاة
(اكو 5: 9 و 10)، ويرى البعض أن هذه الرسالة لم تصل إلينا أو أن جزءاً منها موجود
في الرسالة الثانية إلى كورنثوس (6: 14 – 7: 1). وقد وصله الرد على الرسالة من بعض
أعضاء الكنيسة (اكو 7: 1) طالبين رأيه في أمور تتعلق بالزواج ومشاكله في كورنثوس،
والأطعمة التي خصصت أصلاً للأوثان واحتشام المراة فى أثناء العبادة، وممارسة عشاء
الرب، والمواهب الروحية. ويحتمل أيضاً أنهم سألوه عن معنى القيامة وطبيعتها. وفى
نحو ذلك الوقت، جاءه البعض من كورنثوس – يسميهم هو " أهل خلوي " (اكو 1:
11) – وأخبروه بوجود انقسامات عميقة ومُرَّة داخل الكنيسة. كما أنه علم من
الإشاعات المتناثرة (اكو 5: 1) أنه يوجد بينهم زنى فاحش، كما يوجد بينهم دعاوى
منظورة أمام المحاكم العامة.

وللإِجابة
على كل هذه، كتب الرسول في لهجة شديدة رسالة ثانية، هي التي نسميها الآن الرسالة
الأولى إلى أهل كورنثوس. ويبدو أن المشاكل في كنيسة كورنثوس قد أسفرت عن معارضة
سلطان بولس ونقد تعليمه، مما اضطر معه إلى القيام بزيارة أليمة لمدينة كورنثوس
لمعالجة الأمور في الكنيسة (2كو 2: 1، 12: 14، 13: 1). ويحيط الغموض بهذه الزيارة
التي يتحدث عنها في رسالته الثانية إلى كورنثوس، إذ لم يذكر لوقا شيئاً عنها في
سفر الأعمال، ويحتمل – أو لا يحتمل – أنها الزيارة التي قام بها تيموثاوس وأرسطوس
(أع 19: 22)، أو تيطس (2 كو 12: 17 و 18، مع 2: 13، 7: 6 و 13 و 14، 8: 6 و 16 و
23). ولكن يبدو أنها لم تكن زيارة ناجحة تماماً، بل كانت زيارة محزنة، فقد ظل
الرسول يوجه إليهم التوبيخ، فقد اتهمه معارضوه بأنه " في الحضرة ذليل وأما في
الغيبة فمتجاسر " (2كو 10: 1)، كما قالوا إن " الرسائل ثقيلة وقوية وأما
حضور الجسد فضعيف والكلام حقير" (2كو 10: 10).

ثم غادر
بولس أفسس متوجهاً شمالاً إلى ترواس، ولكن لم تكن له راحة في نفسه من جهة الأحوال
في كورنثوس، ولأنه لم يجد تيطس في انتظاره هناك، حيث كان يرجو أن يعرف منه الأحوال
في كورنتوس، فخرج إلى مكدونية دون أن يواصل الشهادة في ترواس (2 كو 2: 12 و 13).
وفي مكدونية (وعلى الأرجح في مدينة فيلبي) تسلم تقرير تيطس، فأرسل إليهم – كرد
عاجل – الرسالة المعروفة لنا باسم الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس. ويزعم البعض
أن " الرسالة الصارمة " (2كو 10: 13) سبقت " رسالة المصالحة "
(2 كو 1 – 9، بما فيها 6: 14 – 7: 1 أو بدونها). ومع أن هذا افتراض ممكن، إلا أنه
ليس هناك ما يستلزمه.

ومن الأمور
التي شغلت بولس فى رحلته التبشيرية الثالثة، الجمع من أجل القديسين المحتاجين فى
أورشليم. وقد أوصى كنائس الأمم فى غلاطية وأسيا ومكدونية وأخائية بهذا الخصوص (رو
15: 25 – 32، 1 كو 16: 1 – 4، 2كو 8، 9). لقد كان هذا عملاً عظيماً من أعمال
المحبة، شبيه بما فعلته كنيسة أنطاكية من قبل. ولكن علاوة على ذلك لقد رأى بولس في
ذلك العمل رمزاً للوحدة يساعد المؤمنين من الأمم على إدراك أنهم مدينون للكنيسة
الأم فى أورشليم، وإعطاء المؤمنين من اليهود صورة عن صدق الإِيمان الموجود في
كنائس الامم.

وفى أثناء
الرحلة التبشيرية الثالثة، كرز بالإِنجيل فى المناطق الغربية حتى الليريكون (رومية
15: 19)، ولا يمكن الجزم بما إذا كان الرسول بولس نفسه قد ذهب إلى هذه المنطقة، أو
أن بعض المؤمنين من مكدونية ذهبوا وكرزوا هناك بالإِنجيل.

وبعد أن صرف
بولس بعض الوقت في كنائس مكدونية، ذهب إلى كورنثوس حيث صرف ثلاثة أشهر (أع 20: 2و
3). وكنا نتمنى لو عرفنا أكثر عن زيارة هذه الأشهر الثلاثة وعلاقة بولس بالكنيسة
هناك وبخاصة بعد رسائله إليها، ولكن سفر الاعمال لا يذكر شيئا من هذه التفصيلات.

وكتب الرسول
فى أثناء اقامته في كونثوس، وقبيل عودته إلى أورشليم، رسالته إلى الكنيسة فى رومية
(رو 15: 17 – 33). لقد تمت الكرازة بالإِنجيل للعالم اليوناني في القسم الشرقي من
الأمبراطورية (رو 15: 19و23). لقد أوقدت النار وأخذت اللهب فى الانتشار، فأراد
بولس أن ينقل خدمته إلى العالم اللاتيني فى الغرب حتى أسبانيا (رو 15: 24). وواضح
أنه كان يريد أن يتخذ من كنيسة رومية قاعدة لعملياته، كما كانت الكنيسة فى أنطاكية
سورية قاعدة له من قبل. لقد ود في وقت من الأوقات أن يذهب مباشرة من أخائية إلى
رومية، ولكن كان عليه أن يحمل هو بنفسه عطايا كنائس الأمم إلى أورشليم، ليكون لها
المعنى الكامل الذى أراده لها (رو 15: 22 – 32). لذلك رأى أن يرسل إلى المؤمنين فى
رومية – الذين لم يسبق له رؤيتهم، ليمهد لزيارته المنتظرة – رسالة يتحدث إليهم
فيها عن بر الله.

ورسالته إلى
رومية هى أطول رسائله وأكثرها تنسيقاً، بل هى تفسير شامل للإِنجيل أكثر منها مجرد
رسالة، حتى زعم البعض أن بولس قد كتبها في زمن مبكر من خدمته، ونشرها على كنائس
الأمم التي اسسها، كنوع من البحث،لإِعطاء صورة موجزة عن رسالته. وعندما أراد
توجيهها إلى الكنيسة فى رومية، أضاف إليها العناصر الشخصية في الأصحاحين الخامس
عشر والسادس عشر. ويرجع هذا الرأى إلى محاولة تفسير الشكوك التي ساورت الكنيسة
الأولى عن علاقة هذين الأصحاحين بباقي الرسالة، وإلى عدم وجود عبارة " في
رومية " (1: 7و15)، فى بعض المخطوطات الثانوية، ووجود تسبيحتين ختاميتين في
هذين الأصحاحين (15: 33، 16: 27).

وإذ اكتشفت
مكيدة اليهود التي دبروها لقتله وهو على سطح السفينة اليهودية فى طريقة إلى
أورشليم، رأى أن يرجع برًّا عن طريق مكدونية (أع 20: 3)، وقد رافقه ممثلون للكنائس:
سوباترس البيري، وأرسترخس وسكوندس من تسالونيكي، وغايوس من دربه، وتيموثأوس من
لسترة، وتيخيكس وتروفيموس من أهل أسيا (أع 20: 4) وهكذا كانت المراكز الرئيسية في
حقل الخدمة بين الأمم – فيما عدا فيلبي وكورنثوس – ممثلة في أولئك الرفاق. ويحتمل
أن لوقا كان يمثل الكنيسة في كورنثوس كممثل لها (انظر 1 كو 16: 4).

وقد قضى
بولس أيام الفطير في فيلبي، بينما ذهب رفقاؤه – من كنائس الأمم – إلى ترواس (أع 20:
5و6). وفى أول الأسبوع إذ كان التلاميذ في ترواس مجتمعين ليكسروا خبزا خاطبهم
بولس.. وأطال الكلام إلى نصف الليل " حتى تثقل شاب اسمه افتيخوس، بنوم عميق،
" فسقط من الطبقة الثالثة إلى أسفل وحمل ميتاً، فنزل بولس ووقع عليه
واعتنقه.. وأتوا بالفتى حيًّا وتعزوا تعزية ليست بقليلة " (أع 20: 6 – 12).

وكان بولس
يود أن يكون فى أورشليم في يوم الخمسين (أع 20: 16)، ولذلك أراد أن يسرع إلى
الإِبحار حول سواحل أسيا الصغرى بدون أن يتوني لزيارة الكنائس التي في طريقه. ومن
ميليتس ارسل واستدعى شيوخ أفسس وألقى عليهم خطابه الأخير لتحذيرهم (أع 20: 17 –
38). ومن ميليتس أبحر بولس إلى قبرس ومنها إلى صور ثم إلى بتولمايس ثم سافر براً
إلى قيصرية.

 

سابعاً –
سجنه واستشهاده:

تبدوا أهمية
فترة سجن بولس في فلسطين وفي رومية من أن لوقا اختصها بربع سفر الأعمال (الأصحاحات
من 21 – 28). وليس معنى هذا – بالطبع – أن احتجاجات بولس وسجنه واستشهادة أهم من
أي حدث آخر في تاريخ الكنيسة الأولى، فمعايير لوقا في الكتابة تتوقف على أهدافه من
الكتابة، ومع أنه يمزج في كتابته بين المواضيع المختلفه، فقد كان له غرضه الدفاعي
الذى يعتمد كثيراً على محاكمات بولس واحتجاجاته، كما ان القسم الكبير الذي يختص به
لوقا هذه الفترة من حياة بولس وخدمته، يجب أن يعتبر أكثر من مجرد خاتمه لهذه
الحياة الناجحة، وأن له أهمية كبيرة في ذاته. وهذه الفترة تغطى مدة طويلة من الزمن
قد تبلغ عقداً من السنين، بداية من إلقاء القبض على بولس في أورشليم في نحو 58 م
إلى سجنه سنتين في قيصريه من 58 – 60 م. ثم رحلة استغرقت بضعة شهور بالبحر إلى
رومية من أوآخر 60 م إلى ربيع 61م. ثم سجنه لمدة سنتين فى رومية من 61 – 63 م، ثم
على الأرجح – فترة أطلق فيها سراحة واستأنف خدمته من 63 – 66 م. ثم إلقاء القبض
عليه وسجنه مرة ثانية في رومية، ثم استشهاده بأمر نيرون في 67م.

أ- الأحوال
في فلسطين: عند وصوله إلى صور في سورية، ثم عند مجيئه إلى قيصرية في فلسطين، حذره
الإخوة، في المدينتين، من الصعود إلى أورشليم، لأن الروح القدس قد أنباهم أن
القيود والسجن في انتظاره هناك (أع 21: 4و 11و 12). ويبدو – للوهلة الأولى – أن
الروح القدس قد أمر الرسول إلا يخطو خطوة آخرى في خططه، وأن تصميمه على الذهاب كان
عصياناً لهذا التوجيه، ولكن حرف " الباء " في العبارة " بالروح
" (أع 21: 4) يمكن أن يفُهم أيضاً على محمل أن رسالة الروح عما ينتظر الرسول،
كانت هى الدافع للإخوة على تحذيره، وكان الروح نفسه هو الذي يحذره، بينما الروح
أنبأ فقط بما ينتظره، مثلما حدث في نبوة أغابوس عن حدوث المجاعة، وكيف قامت
الكنيسة بما رأته واجباً عليها (أع 11: 27 – 30). ويجب أن نفهم ان الحاح المؤمنين
في قيصرية قام – على الأرجح – على أساس الأحداث الأليمة المنتظرة،وليس بالضرورة
على النبوة نفسها، وأن تصميم بولس على الذهاب إلى أورشليم كان نتيجة انحصار روحى
داخلي لم يكن ممكناً له تجاهله (أع 19: 21، 20: 22).

لقد كان
يعلم تماماً أنه لن يجد ترحيباً من اليهود في أورشليم، وكان من الطبيعى، عندما
يعلم أصدقاؤه شيئاً عن المتاعب التي تنتظره، أن يحاولوا إثناءه عن ذلك. ولكن
" لما لم يقنع "، وبعد أن أوضح لهم – إلى حد ما – وجهة نظرة، قالوا له: "
لتكن مشيئة الرب " (أع 21: 14).

وقد مكث
بولس في قيصرية " أياماً كثيرة " (أع 21: 10). لقد كان توقيت تحركاته
قبل وصوله إلى قيصرية مقيداً بتحركات السفن، فقد مكث في صور – مثلاً – سبعة أيام
لأن السفينة كانت تضع وسقها (أع 21: 3و4). أما في قيصرية فيبدو أنه كان قادراً على
ترتيب تحركاته، لذلك يبدو عجيباً أن يتوانى في قيصرية بينما كان يستعجل الوصول إلى
أورشليم، ولكن لعله أراد أن يستريح قليلا بعد رحلته البرية الشاقة من كورنثوس إلى
فيلبي، ثم من فيلبى إلى بتولمايس عن طريق البحر، ثم من بتلومايس إلى قيصرية عن
طريق البر مرة آخرى. ولا شك في أنه لقي استقبالاً طيباً من المؤمنين في قيصرية،
كماأنه كان يريد أن يصل إلى أورشليم في يوم الخمسين (أع 20: 16) وليس أن يصل إليها
في اسرع وقت، بل أن يصل إليها فى اللحظة التي كان يرى انها اللحظة الحاسمة، لذلك
يبدو أن توانيه في قيصرية كان – إلى حد بعيد – انتظاراً للحظة المناسبة لدخوله إلى
أورشليم، عندما جاءت تلك اللحظة، رافقه إلى المدينة المقدسة بعض المؤمنين من
قيصرية، وهناك اقام فى منزل مناسون أحد المؤمنين الأوائل، وكان قبرسي الأصل (أع 21:
16
).

وفى اليوم
التالي لوصولهم إلى أورشليم، تقابل بولس ورفقاؤه ممثلو كنائس الأمم مع يعقوب
ومشايخ أورشليم، وقصوا عليهم كل ما فعله الله بين الأمم. ولابد أنهم سلموهم العطية
المالية التي جاءوا بها معهم (أع 21: 17 – 19). ولقد رحبوا بهم، ولكن يعقوب
والمشايخ كانوا قلقين من جهة رودود الأفعال عند الكثيرين من المؤمنين من اليهود في
أورشليم، لوجود بولس بينهم، حيث أنهم قد سمعوا أنه يعلم اليهود الذين في الشتات أن
يهملوا ناموس موسى. وواضح أن الحماس الديني والتمسك بالطقوس قد ازداد قوة داخل
كنيسة أورشليم منذ زيارة بولس بمناسبة " المجاعة " – ربما كما يظن البعض
– لانضمام كثيرين من الأسينيين الذين امنوا، والذين كانوا قد اعتادوا على مزج
التقوى الداخلية بالتدقيق في حفظ الناموس. ومع أن يعقوب والرسل فى أورشليم لم
يكونوا يشجعون ذلك التطور، إلا أنهم – على ما يبدو – لم يستطيعوا كبحه، ولهذا
اقترحوا على بولس أن يبين علناً احترامه للعوائد اليهودية والتقوى الناموسية، وذلك
بالإِتفاق على اجراءات تطهير أربعة رجال من المسيحيين اليهود، عليهم نذر والتطهير
معهم حسب طقوس الهيكل، لتسكين المخأوف التي تولدت عن الإشاعات الخبيثة التي ذاعت
عنه. وقد وافق بولس على القيام بذلك لأنه – بالرغم من تاكيده على حرية المؤمنين من
الامم من كل العوائد والطقوس اليهودية – لم يكن يعتبر أنه من الخطا لمؤمن يهودي أن
يعبر عن إيمانه بهذا الأسلوب (أع 21: 20 – 26)، بل لقد جاهر مرة في أثناء رحلاته
التبشيرية بأنه فريسي ابن قريسي،بينما كان يدافع عن حرية المؤمنين من الأمم.

على أي حال
لقد فشلت الخطة، إذ يبدو أنه لم يفلح شيء فى استرضاء الذين تشبعت أفكارهم بالعداء
من نحوه، فعندما رآه اليهود المعتصبون الذين من أسيا في الهيكل، أهاجوا كل الجمع
مدعَّين بأنه أدخل تروفميس – الممثل الأممي لكنسية أفسس _ إلى الهيكل، وكان بولس
معرضاً لأن يقتل في وسط الشغب، لولا تدخل القائد الروماني كلوديوس ليسياس وجنوده
من الكتيبة التي كانت تعسكر في قلعة أنطونيا في الجهة الشمالية بجوار مباني
الهيكل. ولما رأت الجموع الصاخبة أن الفريسية قد أفلتت من أيديهم، ظلوا يصرخون
" خذه " (أ ع 21 – 36)

. وقبل أن يدخلوا به إلى الحصن الروماني، طلب من الأمير أن
يأذن له في مخاطبة الجمع,وإذ أدرك الأمير أنه رجل قادر وشجاع ,أذن له(أ ع 21: 37 –
40)، فإشار بيده إلى الشعب، فصار سكوت عظيم، فخاطبهم باللغة الأرامية وهو واقف على
درج القلعة، فأصغوا إليه باهتمام وهو يروي وقائع حياته فى الديانة اليهودية، وكيف
تجدد وأصبح مسيحياً، ولكن حين ذكر إرساليته إلى الأمم هاج الشعب مرة آخرى (أ ع 22:
1 – 22)، وهنا أمر الأمير أن يؤخذ إلى المعسكر وأن يفحص بضربات لمعرفة سبب صراخهم
عليه هكذا. ولكن إذ استنجد بولس برعويته الرومانية، أعفي من الجلد وفكت عنه القيود
(أ ع 22: 23 – 29).

وفى الغد إذ
كان الأمير يريد أن يعرف لماذا يشتكى اليهود عليه، أحضره أمام مجمع رؤساء الكهنة
(السنهدريم اليهودي)، ولكن السندريم لم يستطع أن يصل إلى قرار بسبب براعة بولس في
أحداث انقسام في صفوف أعدائه، وهكذا أعيد بولس إلى قلعة إنطونيا (أ ع 22: 30 – 23:
10)

وبعد ذلك
اتفق أكثر من أربعين رجلاً يهودياً على أن ينذروا نذرا لقتل بولس غدراً في كمين،
واتفقوا مع قادة اليهود أن يلتمسوا من الأمير أن يأتي به مرة آخرى أمام السندريم
لفحص الأمر بأكثر تدقيق. ولكن ابن أخت بولس سمع بالكمين، واستطاع أن يحذر بولس
والأمير الروماني (أ ع 23: 12 – 22). وإذ أدرك الأمير صدق الشاب، أرسل بولس ليلاً
في حراسة قوية إلى قيصرية حيث سيكون هناك آمنا في رعاية الوالي الرومانى فيلكس
بعيداً عن متنأول أيدي أولئك العصاة المشاغبين،، وهناك إعادةفحصه (أ ع 23: 23 –
52). ومثل بولس للمحاكمة أمام فيلكس مرتين، كما استدعاه فيلكس مراراً لمقابلات
خاصة. ولم ينشأ فيلكس أن يثير عداء اليهود بإطلاق سراح بولس، وفي نفس الوقت لم يكن
مستعداً للحكم عليه ظلماً، فأخذ بماطل في التصرف في القضية. وهكذا ظل بولس في سجن
هيردوس في قيصرية سنتين كاملتين، ولكنه كان يستطيع التجول بحرية في مكان اعتقاله،
كما كان مسموحاً له باستقبال زائريه (أ ع 24: 27)

. وهناك أمور كثيرة كنا نتمنى معرفتها عن تلك المدة في السجن.
مثلاً كيف كان بولس يحصل على نفقاته؟ ثم أن فيلكس كان يظن أنه رجل صاحب ثروة
وأعوان (أ ع 24: 26)، فعلى أي أساس بنى هذا الظن؟ وكيف كانت علاقات بولس مع
المسيحيين في أورشليم وقادتهم بعد سجنه؟ وما مدى المودة التي كانت تربطه بالمؤمنين
في قيصرية وبمختلف جماعات المؤمنين فى الجهات المجأورة؟ وماذا حدث لسيلا؟ فالأرجح
أنه لم يسجن مع بولس، كما أنه يذكر مرة آخرى بعد ذلك في العهد الجديد فى رسالة
بطرس الرسول الأولى (1 بط 5: 12). ماذا كان يعمل تيموثأوس ولوقا في تلك الأثناء؟
وماذا حدث لسائر ممثلى كنائس الأمم الذين رافقوا بولس إلى أورشليم؟

وهناك
العديد من الأسئلة التي تجول بالخاطر، ولكن من الواضح أن لوقا لم يكن يعنى بهذه
الأمور عند كتابته تاريخه، كما لم يكن تعنى بولس عنا كتابته رسائله، فلم يذكر عنها
شيئاً. ويظن البعض أن الكثير من رسائل بولس التي بين أيدينا، قد كتبت في أثناء
سجنه في قيصرية، ولكن الأدلة الداخلية في الرسائل نفسها، ترجح كتابتها في أثناء
سجنه في رومية بعد ذلك

عندما حل
بوركيوس فستوس محل فيلكس الوالي، رفع إليه اليهود التماساً يطلبون منه أن يستحضر
بولس إلى أورشليم لمحاكمته أمام القضاء اليهودى، ولكن فستوس طلب منهم أن يوفدوا
ممثليهم إلى قيصرية لإثبات دعواهم (أ ع 25: 1 – 8
).

وإذ كان
فستوس يريد استرضاء اليهود، سأل بولس إن كان يريد أن يصعد إلى أورشليم ليحاكم
هناك. لقد ظل بولس سنتين مع مماطلة فيلكس، وها هو يرى أنه من المستبعد أيضاً أن
تتحقق العدالة أمام فستوس، فرأى – كشخص يتمتع بالرعوية الرومانية – أن يرفع دعواه
إلى محكمة القيصر في رومية (أع 25: 9 – 11). ولم يسبق لبولس أن قدم هذا الالتماس،
بل لم يكن ليفكر فيه اطلاقاً لأن تخلصه من المحاكمة أمام السنهدريم الهودي، كان
معناه الحرمان من امتيازاته كيهودي أيضاً، التي كانت تخول له الحق في الدخول إلى
المجامع، ولكن موقفه في فلسطين كان يزداد سوءا، وهو معلق بين عداء اليهود وذبذبه
الولاة الرومان، علاوة على أن مرافعته شخصياً عن قضيته أمام القيصر، ستتيح له فرصة
المناداة بالإِنجيل أمام أعظم مجموعة من المستمعين في العالم، وهكذا حدث كما أعلن
فستوس: " إلي قيصر رفعت دعواك، إلي قيصر تذهب "(أع 25: 12).

وقبل
استكمال إجراءات ترحيله إلي رومية، جاء هيرودس اغريباس الثاني وأخته برنيكي لزيارة
فستوس في قيصرية لتهنئه بمركزه الجديد. وكان اغريباس هو الملك الفخري لليهود، فلجا
إليه فستوس ليعرف ماذا يستطيع أن يكتب لقيصر عن قضية بولس (أع 25: 13 – 27)، وهكذا
سنحت الفرصة لبولس ليتكلم أمام اغريباس، فألقى خطابا من أهم خطاباته (أ ع 26: 1 –
23). ولقد ظن فستوس القادم حديثا من رومية، أن بولس يهذي بحديثه عن الرؤى وقيامه
يسوع من الأموات. ومع أن اغربياس كان اقدر على تقييم حديث بولس وبراهينه، إلا انه
سال في كبرياء، عما إذا كان بولس يحاول أن يجعله مسيحيا (أع 26: 24 – 29). وقد
اتفق الاثنان على أن العدالة كانت تقتضي إطلاق سراح بولس، ولكنه إذ رفع دعواه إلي
قيصر، كان لابد أن يذهب إلي قيصر (أع 26: 30 – 32).

ب- في رومية
أخيرا: يروي لوقا قصة الرحلة إلي روما بضمير المتكلمين، مما يدل على انه رافق بولس
في تلك الرحلة، والأرجح أن تيموثاوس أيضا أبحر معهما، ولعل آخرين أيضا رافقوهم (أع
27: 10). وقد اقلعوا من قيصرية في أوائل خريف سنة 60 م. وقد تعرضت السفينة لعاصفة
عاتية وتحطمت عند جزيرة مليطة أو مالطة (أع 27: 9 – 28: 10). وبعد ثلاثة اشهر،
اقلعوا في سفينة أخرى، حتى وصل بولس وسائر الأسرى إلي بوطيولي في خليج نابولي (أع
28: 11 – 13)، حيث مكثوا عند الاخوة في بوطيولي سبعة أيام، ثم ساروا إلي رومية برا،
فخرج وفد من الاخوة في رومية لاستقبال بولس ومن معه عند فورن ابيوس والثلاثة
الحوانيت (أع 28: 14، 15).

وأخيراً وصل
بولس إلي رومية، محققا رغبته العميقة في زيارة عاصمة الإمبراطورية، ولكنه لم يأتها
كمبشر زائر، بل كأسير لقيصر في انتظار المحاكمة. وقد إذن له أن يقيم وحده في بيت
استأجره لنفسه مع الجندي الذي كان يحرسه مقيدا إليه بسلسلة، ولكن كان مسموحا له
بان يستقبل زائريه. وفي غضون تلك الفترة من تحديد أقامته في رومية، قام بخدمة
واسعة ومثمرة عن طريق مبعوثيه (أع 28: 17 – 31).

وبعد قليل
من وصول بولس إلي رومية، تقابل مع ثلاثة أشخاص من آسيا ومكدونية، وهم الذين حملوا
اغلب رسائله التي بين أيدينا، والتي كتبها وهو في السجن.

كان "
ابفراس " أحد هؤلاء الثلاثة، وقد تقابل معه أما في زيارته له في السجن أو
لأنه كان سجينا معه (فليمون 23). ويبدو أن ابفراس هو الذي أسس الكنيسة في كولوسي
(كو 1: 7، 4: 12، 13). والارجح انه قد تجدد على يد بولس في أثناء خدمته في افسس.
وعندما قابل بولس في رومية، اخبره عن الأحوال في الكنيسة في كولوسي، وعن الإيمان
والمحبة عند المؤمنين هناك (كو 1: 4، 8). كما اخبره أيضا بظهور هرطقة تهدد
بالانحراف برسالة الإنجيل، فكتب بولس رسالته إلي الكنيسة في كولوسي وأرسلها بيد
تيخيكس وانسميس حوالي 61م أو في أوائل 62م.

 

 

ويبدو من
موقف بولس من تلك الهرطقة في كولوسي، أنها كانت نوعا من الفلسفات الدينية
التوفيقية والثنائية التي تقول بأنه حيث أن عالم المادة دنس ويتعارض في جوهره مع
الله، فعلى الإنسان أن يسعى إلي " المعرفة الحقيقية " إلي الاتحاد بالله
في دائرة أسمى، دائرة لا مادية. وكان معنى ذلك رفض تجسد ربنا يسوع المسيح وعمله
على الصليب، أو اعتبارهما خطوة أولى نحو المصالحة الكاملة مع الله.

ولا يحاول
بولس في رده على هذه الهرطقة، التقليل من شان ناسوت المسيح وذبيحته، رغم أن هاتين
النقطتين كانتا موضوع الهجوم. بل نجد الرسول يفتخر بالتجسد والصليب، إذ بهما اكمل
الله فداء الإنسان (كو 1: 20 – 22). وبينما تقول الغنوسية الثنائية انه كلما تعمق
الله في اختراق طبقات الكون المادي، اكتنف الغموض أفعاله، وجب على الإنسان أن يحلق
عاليا ليصل إلي المعرفة المخلصة. وعلى النقيض من ذلك ينادي بولس بالمسيح لكل
العالم، ففيه يحل كل ملء اللاهوت، وفيه يجد المؤمن الفداء والصلح الكاملين (كو 1: 15
– 22، 2: 9 و 10).

وكان انسيمس
ثاني من قابلهم بولس في رومية. وكان انسميس عبدا رقيقا لفليمون في كولوسي، وقد سرق
شيئا من سيده وهرب إلي رومية على أمل إلا يعرفه أحد في تلك المدينة الكبيرة. وربما
تعرف انسميس بالرسول بولس عن طريق ابفراس. على أي حال جاء انسيمس إلي المسيح على
يد بولس، واثبت انه نافع جدا للرسول وهو في السجن. وعندما اقنع بولس انسيمس
بالعودة إلي سيده، كتب رسالة لفليمون طالبا منه أن يقبل عبده الهارب " لا
كعبد.. بل افضل من عبد، أخا محبوبا.. في.. الرب " (فليمون 16). وتظهر روح
الدعابة في التورية التي استخدمها الرسول بين كلمة "نافع " واسم "
انسيمس " (ومعناه نافع) مما خفف من لهجة الرسالة وضاعف من قوتها.

ومما يستلفت
النظر أن الرسول يعالج هذه المسالة الاجتماعية الدقيقة في أيامه بالبدء من "
أحشاء المسيح " في الفرد إلي " الأحشاء المسيحية " في المجتمع،
وبهذه الكيفية غرس البذور التي أدت إلي استئصال نظام الرق.

ومن
الإشارات إلي تيخيكس وانسيمس في الرسالة إلي كنيسة كولوسي " 4: 7 – 9)
والتحيات المتشابهة في الرسالتين (كو 4: 10 – 17، فليمون 1، 2، 23، 24) يمكن أن
نستنتج أن الرسالتين (إلي كنيسة كولوسي وإلي فليمون) قد كتبنا وارسلنا في وقت واحد،
وقد حملها تيخيكس (أف 6: 21). ويرجح أيضا انه كتب في نفس الفترة الرسالة إلي كنيسة
افسس، التي يغلب أنها كانت رسالة دورية للكنائس في اسيا.

والشخص
الثالث القادم من الكنائس التي اسسها بولس في الشرق، والذى تقابل معه بولس في
رومية هو " ابفرودتس ". لقد سبق أن ارسلت الكنيسة في فيلبي معونة مادية
للرسول بولس مرتين على الاقل (في 4: 15 و 16). واذ سمعت الكنيسة في فيلبى بالقاء
القبض على الرسول وسجنه، ارسلت اليه ابفردوتس ومعه عطية من الكنيسة، وربما كان
عليه ايضا ان يقوم شخصيا على خدمة الرسول فى سجنه، بل لعله ارسل امام الرسول ليكون
في استقباله عند وصوله إلي رومية. ولكن ابفرودتس مرض مرضا خطيرا وهو مع بولس.
ووصلت اخبار مرضه إلي الكنيسة في فيلبي فكتب ليشكرهم على معونتهم المالية (في 4: 10
– 19)، وليدفع عن ابفرودتس – رسولهم اليه – اى نقد يمكن ان يوجه اليه، لانه لم
يتمم خدمته (في 2: 25: 30). كما كتب لهم عن ظروفه الراهنه لكى يحرضهم على الثبات
والوحدة والتواضع، وليحذرهم من التهوديين. وحيث انه يشير إلي اقتراب موعد الحكم في
قضيته (في 1: 20 – 26)، ويعبر عن امنيته في زيارة فيلبى عن قريب (2: 24)، فقد يعنى
ذلك انه كتب رسالته إلي الكنيسة في فيلبي، من رومية في اواخر ايام سجنة الاول في
رومية، أي في نحو 63م. فلقد تحددت اقامة بولس في رومية على مدى سنتين (أع 28: 30)،
وهي المدة القصوى التي يحددها القانون الروماني للتحفظ على أي سجين بعد ان يرفع
دعواه للقيصر، طالما لم يحكم في قضيته. وعند هذه النقطة تنتهى رواية لوقا في سفر
الاعمال، دون ان يذكر ما اذا كان المدعى عليه قد حوكم ووجد مذنبا، ومن ثم نفذ فيه
الحكم، او ان اليهود المدعين تركوا القضية تسقط لعدم تحريك الدعوى، وهكذا اطلق
سراحه. ولما لم يكن الرسول متيقنا من النتيجة، فقد توقع الامر الثاني (في 2: 24،
فليمون 22). وليس ثمة دليل قوى ينقض هذا الراي.

وقد يبدو ان
قضاء سنتين كاملتين مسجونا في رومية، كان مضيعة للوقت، لكن الرسول فى رسالته إلي
الكنيسة في فيلبى، قبيل اطلاق سراحه، قال: " اريد ان تعلموا ايها الاخوة ان
اموري قد الت اكثر إلي تقدم الانجيل، حتى ان وثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار
الولاية وفي باقى الاماكن اجمع، واكثر الاخوة وهم واثقون في الرب يجترئون اكثر على
التكلم بالكلمة بلا خوف " (فيلبي: 12 – 14).

 

ج- خدمته
التالية واستشهاده: لا يذكر لنا لوقا ماذا حدث للرسول بولس بعد مدة السنتين في
السجن في رومية، ولعله كان في نية لوقا ان يكتب تتمة لقصته عن حياة بولس وعمله
وتقدم الانجيل في الشرق، وان يكتب في هذه التتمة قصة تقدم الانجيل في القسم الغربي
من الامبراطورية، ولكن مهما كانت نية لوقا، فانه لم يصل الينا شيء من ذلك. واقرب
الكتابات التى وصلت الينا عن ذلك هي رسالة اكليمندس الروماني إلي الكورنثيين، التى
كتبها في عام 96م. تقريبا، حيث نجد فيها العبارة التالية: " بسبب الحسد
والنزاع، قدم بولس بمثاله صورة للاحتمال والصبر، فبعد ان عانى من القيود والاصفاد
سبع مرات، ونفي، ورجم، وبعد ان كرز في الشرق وفي الغرب، حاز شهرة رفيعة جزاء
ايمانه وتعليمه البر لكل العالم، ووصوله إلي اقصى حدود الغرب، وبعد ان ادى شهادته
امام الحكام، رحل عن العالم وذهب إلي المكان المقدس، بعد ان صار مثالا للجلد
والصبر (اكليمندس 5).

وحيث ان
الرسائل الرعوية بها اشارات إلي احداث في حياة بولس لايمكن وضعها في ثنايا الاحداث
المذكورة في سفر الاعمال، كما انه يذكر عددا من الافراد لا تظهر اسماؤهم في اخبار
الرحلات التبشيرية في سفر الاعمال، فلقد افترض كثيرا انه بعد اطلاق سراحه من السجن،
واصل الرسول خدمته التبشيرية في الجزء الشرقي من الامبراطورية (على الاقل في وجهات
المحيطة ببحر ايجة)، كما يحتمل انه حقق امنيته في زيارة اسبانيا.

وحيث اننا
نعلم من الرسالة الثانية إلي تيموثاوس انه كان في السجن عند كتابتها، فالارجح انه
قد اعيد القاء القبض عليه في نحو 67م، ويقول التقليد الكنسي انه قد قطعت راسه بامر
نيرون.

وعلى اساس
ان هذا الفرض اقرب ما يكون إلي الحقيقة، يكون بولس قد كتب رسالته الاولى لتيموثاوس
ورسالته إلي تيطس في اثناء الفترة التى كان فيها مطلق السراح من 63 – 66م. وانه
كتب رسالته الثانية إلي تيموثاوس قبيل استشهاده في 67م.

ويكتب في
رسالته الاولى إلي تيموثاوس لكى يشجع تلميذه الشاب على القيام بمسئولياته الرعوية
في افسس، ويحث تيموثاوس على ان يتعامل بحزم مع المعلمين الكذبة، ويعطية المواصفات
التى يجب توفرها في القادة، وكيفية معاملة مختلف اعضاء الكنيسة.

اما في
رسالته إلي تيطس الذي كان يخدم في كنيسة كريت، فيذكره ايضا بمسئولياته الرعوية، ثم
يتناول:

1- المواصفات التي يجب توفرها في القادة في الكنيسة.

2- الحاجة إلي مقاومة التعاليم الكاذبة.

3- معاملة مختلف الاعضاء في الكنيسة.

4- المواقف الصحيحة للمؤمنين في وسط مجتمع وثني.

اما رسالته
الثانية إلي تيموثاوس، فقد كتبت بعد الرسالتين الرعويتين السابقتين، وفى جو مختلف.
فبينما نراه فى رسالته الاولى إلي تيموثاوس ورسالته إلي تيطس، قادرا على ان يرسم
خططه ويتحرك كيفما شاء، نراه في رسالته الثانية إلي تيموثاوس سجينا في انتظار
نهاية وشيكة. ومن الواضح انه يكتبها من رومية في انتظار تنفيذ حكم الاعدام. وكان
مشتاقا إلي ان ياتى تيموثاوس اليه قبل الشتاء، ولكنه كان يتوق بالاكثر ان يكون
تيموثاوس قدوة حياته، وامينا في الخدمة التي دعي اليها. وهذه الرسالة الاخيرة من
الرسول العظيم رسالة ثمينة غنية بمضامينها، فنجد فيها التحريضات الرقيقة،
والاتهامات الصارخة، كما تتردد فيها نغمة الانتصار في وجة الموت الوشيك. ورسالة
بولس الرسول الثانية إلي تيموثاوس هى رسالة بولس الرسول الاخيرة ووصيته، التى
يختمها – بعد سنين كثيرة في خدمة المسيح – بنغمة الثقة والشكر لله: " اني انا
الان اسكب سكيبا ووقت انحلالي قد حضر. قد جاهدت الجهاد الحسن، اكملت السعي، حفظت
الايمان. واخيرا وضع لى اكليل البر الذى يهبه لى في ذلك اليوم الرب الديان العادل،
وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره ايضا.. له المجد إلي دهر الدهور. امين
" (2تي 4: 6 – 8 و 18).

 

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي