ترجمة
لاتينية
الغرض
من الترجمات: حيث أن المسيحية تحمل رسالة الخلاص إلى كل الجنس البشري، اصبح من
الضروري أن تعرف كل الشعوب كلمة الله. وعندما حمل المبشرون المسيحيون الإنسان
البشارة إلى ما وراء الأقطار التي تتكلم اليونانية، كان أول ما أدركوه الحاجة إلى
نقل إعلان الله لنفسه إلى لغات هذه الشعوب. لقد عرف العالم اليوناني أسطورة العهد
القديم عن طريق ترجمته إلى اليونانية، الترجمة المعروفة بالسبعينية، ومن المتفق
عليه انه عندما انتشرت المسيحية، كانت اللغتان السريانية واللاتينية أول لغتين
تترجم إليهما كلمة الله، ويكاد الإجماع ينعقد على أمين ترجمة الأناجيل وسائر
أسطورة العهدين القديم والجديد إلى هاتين اللغتين، تمت قبل نهاية القرن الثاني.
كثرة
الترجمات اللاتينية في القرن الرابع: لا نعرف شيئا عن أوائل من ترجموا الكتاب
المقدس إلى اللاتينية، فرغم كل أبحاث العلماء فهي العصر الحديث، ما زالت هناك
تساؤلات كثيرة عن اصل الكتاب المقدس في اللاتينية لا تجد الإجابات الجازمة الشافية،
لذلك من الأفضل أن نبدأ دراسة تاريخها ابتداء من " جيروم " في أو القرن
الرابع، فقد قام بناء على تكليف من الباب " داماسيوس " بعمل الترجمة
اللاتينية الأساسية التي تعرف " بالفولجاتا " وكانت الحاجة إليه ملحة.
كانت توجد قبل ذلك عدة ترجمات يختلف بعضها عن بعض، ولم تكن هناك ترجمة يمكن
الاعتماد عليها أهم الرجوع لها عند الحاجة، فكان ذلك هو ما دفع البابا "
داماسيوس " إلى تكليف جيروم بالقيام بهذا العمل. ونعرف بعض التفاصيل من الخطاب
الذي أرسله جيروم في 383م إلى البابا مع أول جزء تمت مراجعته، وكان هذا الجزء يحوي
الأناجيل الأرامية. ويقول جيروم في خطابه: " لقد أمرتني بالقيام باستخلاص
ترجمة جديدة من القديمة، وبعد أن انتشر العديد من نسخ الكتاب المقدس في كل العالم،
فكأني أشغل مركزا الحكم. وحيث أنها تختلف فيما بينها، فعليّ أن اقرر أيهما تتفق مع
الاصل اليوناني ". وإذ كان يتوقع هجمات النقاد، أردف ذلك بالقول: "إذا
رأوا انه يمكن الثقة في النسخ اللاتينية، فليقولوا أيها، حيث انه توجد ترجمات
مختلفة بعدد المخطوطات. ولكن إذا كانت الأغلبية تريد الحق، فلماذا لا يعودون إلى
الاصل اليوناني ويصوبون الأخطاء التي وقعت من مترجمين غير أكفاء. وزاد الطين بله
ما جرؤ على القيام به مصححون تنقصهم المهارة، ثم زاد عليها أو غير فيها كتبة
مهملون "؟ وبناء عليه سلم البابا الأناجيل الأربعة كبداية بعد مقارنتها بكل دقة
مع المخطوطات اليونانية.
ونحصل
على صورة مشابهة من اوغسطينوس الذي كان معاصرا لجيروم حيث يقول: " أن
المترجمين من العبرية إلى اليونانية يمكن حصرهم، أم المترجمون إلي اللاتينية فلا
يمكن حصرهم، لأنه في بداية عصور الإيمان، وصل مخطوط يوناني إلي يد شخص قليل
المعرفة باللغتين، ولكنه جرؤ على ترجمتها ". وفي نفس الفصل يقول: " عدد
لا يعد من المترجمين اللاتينين " و " حشد من المترجمين ". وينصح
قراءه بالرجوع إلى " الإيطالي "، فهي اكثر أمانة في ترجمتها واقرب إلى
الفهم في معانيها ". ولكن ماذا كان يقصده بالإيطالي "؟ لقد ثار جدل كثير
حولها. كان الظن من قبل أنها كانت خلاصة من كل الترجمات التي تمت قبل جيروم، لكن
بروفسور " بركت " (في كتابه: النصوص ودراستها: 4) يؤكد مشددا بان ما
يقصده اوغسطينوس بهذه الكلمة إنما هو ترجمة جيروم (الفولجاتا)، التي يرجح انه
عرفها جيدا وفضلها على أي ترجمة سابقة. ويحتمل أن يكون هذا صحيحا، فقبل جيروم كان
هناك العديد من الترجمات التي شكا منها كلاهما (جيروم واوغسطينوس)، أما بعد جيروم
فقد أصبحت هناك ترجمته وهي الترجمة البارزة المعتمدة، والتي طردت بمرور الزمن الترجمات
الأخرى من الميدان، وبقيت هي، " الفولجاتا العظيمة "، الترجمة اللاتينية
الكاملة المعتمدة للكتاب المقدس.
(3)
الكتاب في اللاتينية قبل جيروم: أن المخطوطات التي وصلتنا من عصر ما قبل جيروم،
تعرف بوجه عام " باللاتينية القديمة ". وإذا سألنا أين ظهرت في الوجود،
فإننا نكتشف حقيقة مذهلة، فهي لم تظهر في روما، كما يمكن أن نتوقع، كانت لغة روما
المسيحية هي اليونانية أساساً حتى القرن الثالث، وقد كتب الرسول بولس رسالته إلى
كنيسة روما باليونانية، وعندما كتب اكليمندس الروماني، في العقد الأخير من القرن
الأول باسم كنيسة رومية رسالته الأولى إلى الكورنثين، كتبها باليونانية. كما كتب
يوستينوس الشهيد وماركيون الهرطوقي، من رومية باليونانية. وبين خمسة عشر أسقفا
تولوا كرسي رومية حتى ختام القرن الثاني، لا توجد إلاأربعة أسماء لاتينية، حتى
الامبراطورالوثني ماركس اورليوس كتب " تاملاته " باليونانية. وإذا كان
قد وجد هناك مسيحيون في رومية في تلك الفترة، لم يكونوا يتكلمون إلا اللاتينية،
فلابد انهم كانوا من القلة بحيث لم تكن هناك حاجة إلى ترجمة لاتينية. على أي حال
لم يصلنا شيء من ذلك.
استخدمت
أولا في شمالي أفريقي: لقد جاءتنا أول مخطوطات كنسية لاتينية من شمالي أفريقية.
لقد تعرضت الكنيسة في شمالي أفريقية لمعمودية الدم منذ العصور الباكرة، وهناك
قوائم مذهلة بشهدائها. كما كان بها العديد من الكتاب اللاتين البارزين، ولو أن
لاتينيتهم كانت تختلط أحياناً ببعض المصطلحات الأجنبية، ولكن كتاباتهم تتقد بنيران
الحق الذي تعرضه.
إجماع
الرجال البارزين بين الكتاب الأفريقيين، هو كبريان أسقف قرطجنة، الذي نال إكليل
الشهادة في 257م، وتتكون كتاباته من عدد من الأبحاث القصيرة أو النبذ ورسائل عديدة
مملوءة جميعها باقتباسات من الكتاب المقدس. ولا شك في انه استخدم ترجمة كانت مستخدمة
في أيامه في شمالي أفريقية، ومن المتفق عليه أن اقتباساته دقيقة، ولذلك فهي تقدم
لنا صورا جديرة بالثقة من الترجمة اللاتينية الأفريقية القديمة في مرحلة قديمة وان
لم تكن اقدم المراحل.
الكتاب
المقدس الذي استخدمه كبريان: لقد بين البحث النقدي أن الترجمة التي استخدمها
كبريان، مازالت توجد منها الآن أجزاء من أنجيل مرقس وإنجيل متي في تورين في شمالي
إيطاليا وتسمى "مخطوطة بوبينزيس " (Codex Bobbiensis)كما توجد
أجزاء من سفر الرؤيا وسفر الأعمال في مخطوطة ممسوحة أعيدت الكتابة عليها، في باريس
تسمى " مخطوطة فلويسنسس " ((Codex Floriacensis) . كما وجدت
مخطوطة أخرى هي "
مخطوطة بالونتينوس " (Codex Palantinus) ) في فينا تحتوي على نصوص شديدة الشبه بتلك التي
استخدمها كبريان، وان كان يوجد بها أثار من امتزاج اكثر من ترجمة. والنصوص في هذه
المخطوطات مع الاقتباسات من عصر اوغسطينوس، تعرف عند العلماء " باللاتينية
الأفريقية القديمة ". كما توجد مخطوطة أخرى لها تاريخ مثير هي " مخطوطة
كولبرتينوس
" (Codex Colbertinus) تحتوي على عنصر أفريقي له أهميته. ويتضح لنا من كل هذا أن كبريان الذي
لم يكن يعرف اليونانية كانت لديه ترجمة مكتوبة استخدمها في كتاباته، وبذلك يقدم
لنا هذا الأسقف والشهيد العظيم، الدليل على وجود الكتاب المقدس في اللاتينية قبل
عصر جيروم بنحو قرن ونصف القرن.
الكتاب
المقدس في عصر ترتليان: إذا رجعنا نصف قرن إلى الوراء، نجد ترتليان الذي برز في
أول القرن الثاني، وكان يختلف عن كبريان في انه كان عالما ضليعا في اليونانية،
فكان قادرا على أن يترجم لنفسه ما يقتبسه من السبعينية أو من العهد الجديد في
اليونانية وبذلك لا نقدر أن نستشهد بكتاباته على وجود ترجمة لاتينية في عصره.
ويعتقد بروفسور " زاهن " انه من المرجح أن الكتاب المقدس لم يترجم إلى
اللاتينية قبل 210 240م، وأن ترتليان بمعرفته باليونانية، كان يترجم من اليونانية
ما وضعنا، ولكن غالبية العلماء لا يقرون رأي ذاهن ويعتقدون أن كتابات ترتليان تدل
على وجود ترجمة كانت مستخدمة في عصره. ولم يصل الليل مطلقا من هو هذا "
الويكلف الأفريقي " أو " التندال الأفريقي " الذي قام بتلك الترجمة،
ولعلها كانت من عمل أياد كثيرة كما يقول الأسقف وستكوت نتيجة للجهود المشتركة
للمسيحيين الافريقيين.
احتمال
أن مصدر اللاتينية القديمة شرقي: ومع أن الدلائل حتى الآن تشير إلى أن الترجمة
اللاتينية القديمة الأولى جاءت من أفريقية، فإن نتائج الأبحاث الحديثة فيما يسمى
النص الغربي للعهد الجديد، تشير إلى اتجاه آخر. إذ يتضح من المقارنة أن النص
الغربي قريب جدا من المراجع السريانية التي ظهرت أصلا في الولايات الشرقية من
الإمبراطورية. وقد أدى هذا التشابه الشديد بين النصوص اللاتينية والنصوص السريانية،
ببعض العلماء إلى الاعتقاد بالإضافة يحتمل أن تكون اقدم الترجمات اللاتينية قد تمت
في الشرق وبخاصة في إنطاكية، ولكن الأمر مازال لغزاً ينتظر اكتشاف عناصر جديدة
وأبحاثا أشمل لحله.
(8) تصنيف المخطوطات اللاتينية: سبق أن تكلمنا عن الترجمات الأفريقية
بالارتباط بالآباء الافريقيين ترتليان وكبريان والمخطوطات التي تتصل بعصرهما.
وعندما
نصل إلى القرن الرابع، نجد في غرب أوربا وبخاصة في شمالي إيطالية، صورة ثانية للنص،
يسمى النص الأوربي، لم تثبت علاقته الوثيقة بالنص الأفريقي. فهل هو نص مستقل نبت
في تربة إيطالية، أم انه نص مشتق من النص الأفريقي بعد تعرضه للتنقيح في رحلته إلى
الشمال وإلى الغرب؟ وتتكون هذه المجموعة من " المخطوطة الفرسليانية " (Codex Vercellensis)، " والخطوطة الفيرونية " (CODEX Veronesis) من القرن
الرابع أهم القرن الخامس واللتين وجدتا في فرسيلى وفيرونا على الترتيب، كما يمكن
أن تضاف إليهما " مخطوطة فندوبونيسس " Vindobonesis) من القرن السابع في فينا. وهذه المخطوطات تعطينا
نص الأناجيل، وتضم هذه المجموعة " مخطوطة بيزا " اللاتينية والمترجم
اللاتيني لايريناوس.
ويجب
أن نعلم انه في القرون الأولى، لم يعرفوا الكتاب المقدس كاملاً في كتاب واحد،
فكانت الأناجيل، والأعمال والرسائل الجامعة، ورسائل بولس، والرؤيا (من العهد
الجديد)، والتوراة، والأسفار التاريخية، والمزامير والأرجح (من العهد القديم) كل
مجموعة منها في مخطوطة على حدة.
(9) أهمية المخطوطات اللاتينية القديمة لتحقيق النص: هذه الترجمات
اللاتينية القديمة والتي ترجع إلى منتصف القرن الثاني، تقدم لنا صورة مبكرة للنص
اليوناني الذي ترجمت عنه، وتزداد أهميتها متى عرفنا أنها من الواضح كانت ترجمة حرفية.
أن أهم مخطوطاتنا ترجع إلى القرن الرابع، بينما هذه المخطوطات اللاتينية ترجع على
الأرجح إلى القرن الثاني. وهي مخطوطات غير محددة التاريخ أوالمكان، ولكنها إذ تجيء
من منطقة محددة من الكنيسة، وقد استخدمها آباء نعلم تاريخهم تماماً، فإن ذلك
يجعلنا قادرين على تحقيق النص اليوناني الذي كان مستخدما هناك في ذلك الوقت.