خدمة
– خادم

 

أولاً
معنى الكلمة: الكلمة اليونانية المستخدمة في العهد الجديد للدلالة على الخدمة
هي"دياكونية
"(diakonia) ، و" دياكونوس" (diakonos)، و"دياكونون"(diakonon) أي "خادم"،
والفعل"دياكونين
"
(diakonein)
أي "يخدم". وتستخدم جميع هذه الكلمات استخداماً واسعاً في
العهد الجديد، فلا يقتصر معناها على الخدمة داخل الكنيسة المسيحية، بل وحتى عندما
تقتصر على ذلك، فإنها تستخدم بمعان كثيرة، منها:

(1) التلمذة بوجه عام (يو12: 26)،

(2)خدمة الكنيسة "بالمواهب" الممنوحة من
الروح القدس (رو12: 7، 1كو12: 5)، ومن ثم فهي تشمل جميع أنواع الخدمة(أع6: 2، مت20:
26
).

(3)"خدمة الكلمة" على نحو خاص(أف 4:
12)، وخدمة الرسول على نحو أعم (أع1: 17، 20: 24، 21: 19، رو11: 13 … الخ
).

(4)الخدمات المتعلقة مثلاً بإطعام الفقراء (أع6: 1،
11: 29، 12: 25)، أو تنظيم تزويد القديسين الفقراء في أورشليم بالعطايا (رو15: 25،
2كو8: 4و19 … الخ
).

(5)الخدمات من نوع خدمة "بيت استفاناس"
(1كو16: 15)، و"أرخبس" (كو4: 17)، و"تيخيس" (أف6: 21، كو4: 7…
الخ
).

ويرتبط
استخدام كلمة "الخدمة" في هذا البحث، بإدارة وقيادة جماعة متحدة من
الإخوة والأخوات تجمعهم رابطة داخلية هي شركتهم مع ربهم يسوع المقام من الأموات.
ففي جميع عصور المسيحية، تأتي الدعوة لاتباع الرب يسوع مع أنها من أعمق شؤون
الإنسان الشخصية، وتأتي لكل فرد بذاته إلا أنها لا تأتي في عزلة، إذ أن النفس
التقية يلزمها أن تشارك في خبرتها الآخرين ممن لهم نفس الفكر، ومن ثم ينبغي أن
تتخذ هذه الشركة شكلاً ظاهراً لابد له بالضرورة من نوع من القيادة والإدارة

إن
فكرة الكنيسة ذاتها بما فيها من تعبير واضح عن الإيمان المشترك وممارسة الفرائض
المقدسة، والاجتماعات وإدارتها،والمساعدات الروحية والجسدية للاخوة، فإنها تتضمن
خدمة أو إدارة من نوع ما، وسنحاول في هذا البحث أن نوضح ما كانت عليه الخدمة في
الكنيسة المسيحية في القرون الأولى من قيامها.

ثانيا:
نوعان مختلفان من الخدمة: نجد أول حقيقة عن تنظيم شؤون الكنيسة، في الأصحاح السادس
من سفر أعمال الرسل، حيث تم اختيار سبعة رجال "لخدمة الموائد" (دياكونين
ترابيزايس

diakonein trapezais )
تمييزاً لها عن "خدمة
الكلمة" (دياكونيا تولوجو
(diakonia tou’ logou ،وهو تمييز بين نوعين مختلفين من الخدمة، ظهرا
منذ بدء الكنيسة في عصر الرسل، ويمكن تتبع ذلك في رسائل الرسول بولس وفي سائر
أسفار العهد الجديد، كما يظهر في "الديداك" (تعليم الرسل
didache)، وفي "راعي هرماس" وفي "رسائل برنابا" وفي
كتاب "الدفاع" للشهيد "يوستينوس"، وفي كتابات إيريناوس وغيرها.

وتختلف
الخدمتان أحدهما عن الأخرى في الاختصاص، ويقوم التمييز بينهما على أساس المواهب،
كما سيأتي. وفي كتابات عصر الرسل اشتهر "خدام الكلمة" بأنهم "من
يتكلمون بكلمة الله". ويطلق الكتَّاب المتأخرون على خدمة الكلمة: "مواهب
النعمة"، ولكن لعل من الأفضل تسميتها بخدمة"النبوة"، بينما تضم
الخدمة الأخرى كافة الخدمات الأخرى في الكنائس المحلية. وقد تلازمت الخدمتان
دائماً، وكان التمييز لعملي الكبير بينهما هو أن القائمين بخدمة الكلمة لم يكونوا
بأي حال من أصحاب الوظائف الرسمية في أي مجتمع مسيحي، ولم يكونوا منتخبين أو
معينين لأي منصب كما لم يكونوا مفرزين بطقوس كنسية – للقيام بواجبات معينة، فقد
أتتهم "الكلمة" وأحسوا بدوافع داخلية عميقة تدفعهم إلى تبليغ الرسالة
التي تسلموها. وكان البعض منهم يتجولون من مكان إلى مكان، بينما استقر البعض الآخر
في مجتمعهم الخاص، ولم يكونوا مسئولين أمام أي سلطة كنسية، وكان على الكنائس أن
تمتحنهم وتمتحن رسالتهم، فقد كانت موهبة " تمييز الأرواح" أي تمييز ما
إذا كان أحد المدعوين أنبياء قد تكلم برسالة سماوية حقيقية من بين المواهب المعطاة
للكنيسة المحلية، ومتى قبلتهم الكنيسة فإنهم كانوا يحظون بمكانة أرفع من مكانة
أصحاب الوظائف الأخرى في الكنيسة، فيقومون بخدمة " مائدة عشاء الرب"،
وكان حكمهم في حالات التأديب يرجح الأحكام الكنسية العادية . وكان الحوار بين
"كبريانوس" و"المعترفين" في قرطاجنة هو آخر مرحلة في الصراع
الطويل الذي ثار في القرن الثاني بين الخدمتين. وشيئاً فشيئاً، نشأت عن خدمة
الموائد، كل أنواع التنظيمات الكنسية المختلفة القائمة الآن. وأصبح القائمون بهذه
الخدمات أصحاب رتب كنسية بكل معاني الكلمة، وأصبحوا ينتخبون للقيام بالخدمة
الكنسية في مجتمع معين، ويفرزون بذلك بطقوس خاصة، وأصبحوا مسئولين أمام الكنيسة عن
أداء هذا العمل.

ومن
المهم أن نذكر أنه بينما تتميز الخدمتان تماماً، الواحدة عن الأخرى، فإنه قد ينتمي
بعض الأشخاص لكلتا الخدمتين، فقد يكون لدى شخص "موهبة النبوة" سواء كان
عضواً عادياً في الكنيسة أو من ذوي الرتب الكنسية، فلم يمنع شغل منصب، وجود
"موهبة"
عند صاحب المنصب، فقد كان "لبوليكاربوس" أسقف سميرنا "موهبة
النبوة" وكذلك "لإغناطيوس" أسقف أنطاكية، وغيرهما، وكانت موهبة
"التكلم بكلمة الرب" موهبة شخصية ولم تكن مصدراً رسمياً للاستنارة.

(أ) خدمة النبوة: تشمل خدمة النبوة ثلاثة أقسام: "الرسل" و
"الأنبياء" و "المعلمين" وقد يضيف البعض قسماً رابعاً هو خدمة
"المبشرين" الذين يشبهون الرسل من كافة الوجوه فيما عدا رؤية الرب في
الجسد، وقد اختفى هذا الفارق بانتهاء عصر الرسل الذين رأوا الرب في الجسد. ويمكن
تتبع هذه الأقسام الثلاثة في كتابات المسيحيين الأوائل بدءاً من رسالة كورنثوس
الأولى حتى عظات كليمندس
(التي يرجح أنها ترجع إلى ما بعد 200 م). ومن
الصعب تحديد كل فئة، ولكن بصفة عامة، كان عمل الأنبياء والمعلمين هو النصح
والتعليم داخل المجتمعات المسيحية.

(1) الرسل: تستخدم كلمة "رسول" في العهد
الجديد وكتابات الآباء الأوائل في الكنيسة، بمفهوم ضيق وآخر واسع، فبمفهومها
الواسع تدل على القسم الأول من الخدمة النبوية. وقد اختار الرب الاثني عشر
"الذين دعاهم أيضاً رسلاً" (مر3: 14) حتى يتدربوا من خلال رفقتهم
الشخصية له على الكرازة بين قرى الجليل بالإنجيل الذي سيصبح كل حياتهم فيما بعد.
وهناك أمران شخصيان يفصلان فصلاً تاماً بين التلاميذ "الأحد عشر" وبين
سائر الناس، مما يستبعد تماماً فكرة الخلافة الرسولية، فالمسيح وهو في الجسد قد
اختارهم بنفسه، وعاشوا معه بضع سنوات في شركة وثيقة داخل دائرة ضيقة من أتباعه،
وكانوا هم الرسل بالمعنى الضيق للكلمة. ولكن قد اطلقت كلمة "رسول" على
آخرين غيرهم، فمتياس الذي كان له امتياز الشركة الشخصية مع يسوع سواء قبل أو بعد
القيامة، وقد استدعاه التلاميذ بعد القيامة حيث وقعت القرعة عليه"ليأخذ هذه
الخدمة فحسب مع الأحد عشر رسولاً" (أع1: 25و26). كما أن بولس دعاه الرب
المقام في رؤيا خاصة واختبار داخلي عميق، فدعي رسولاً كباقي الرسل المذكورين (رو1:
1،غل2: 7 9). ويذكر العهد الجديد أسماء أناس آخرين دعاهم رسلاً، ولم يكن برنابا
رسلاً فحسب، بل كان على نفس مستوى "الأحد عشر" (أع14: 14، غل 2: 7 9).
وتدل الآية: "سلموا على أندرونكوس ويونياس نسيبي المأسورين معي اللذين هما
مشهوران بين الرسل وقد كانا في المسيح قبلي" (رو16: 7)، على أن أندرونكوس
ويونياس كانا رسولين من قبل تجديد بولس، بل إن ذهبي الفم الذي ظن أن يونياس أو
يونيا كانت إمرأة يعتقد أن ذلك لم يكن عائقاً من أن تعتبر رسولاً. ثم إن سيلا أو
سلوانس وتيموثاوس يضعهما الرسول بولس على مستوى واحد معه (1تس 1: 1 – 6). كما ليس
من السهل إنكار هذا اللقب بالنسبة "لأبولس" (1كو4: 6 9). ويمتدح الرسول
بولس رجلين يقول عنهما أنهما"رسولا الكنائس ومجد المسيح" (2كو8: 23)،
كما يقول عن "أبفرودتس"لكنيسة فيلبي"رسولكم" (في 2: 25).و
لابد أنه كان هناك "رسل" كثيرون غيرهم، يميز الرسول بولس بينهم
وبين"الاثني عشر" في الموجز السريع الذي يستعرض فيه ظهورات يسوع بعد
قيامته (اكو15: 5 7).وعلاوة على هؤلاء الرسل الحقيقيين، يذكر العهد الجديد آخرين
يدعوهم "رسلاً كذبة" (2كو11: 13). ويمتدح الرب الكنيسة في أفسس لاستخدام
ما لديها من "موهبة" التمييز في رفض الرجال "القائلين انهم رسل
وليسوا رسلاً" (رؤ2: 2). وقد انتقل هذا الاستخدام الأوسع للكلمة إلى عصرنا
هذا، فما زال التعبير "الرسل" أو "الرسل القديسيون" يطلق على
الإرساليات والمرسلين في بعض دوائر الكنيسة اليونانية . ويظهر في عصر ما بعد الرسل،
الاستخدام المزدوج لكلمة "الرسل" بالمعنى الضيق أي "الاثني
عشر" أو "الأحد عشر" في "الديداك" (تعليم الاثني عشر
رسولاً). كما يطلق لقب"رسل" بمعناها الأوسع على المرسلين المتجولين.

أولئك
"الرسل" أيًّا كانت انتماءاتهم يتميزون بخاصية واحدة، هي أنهم اختاروا
أن يكونوا روَّادًا للتبشير بإنجيل المسيح طوال أيام حياتهم، وارتبطوا بعمل محفوف
بالمخاطر، متميزين عن الآخرين، ليس بمكانتهم بل بأعمالهم. وكانوا رحَّالة، ليس لهم
مقر ثابت يقيمون فيه . وربما اضطرتهم متطلبات خدمتهم للإقامة لفترات طويلة في بلد
بذاته، (مثلما فعل بولس في كورنثوس وفي أفسس) وكما فعل البعض من " الأحد
عشر" في أورشليم، ولم يكن لهم حياة منزلية مستقرة. وبمرور عشرات السنين تزايد
عددهم بدلاً من أن ينقص، ويظهرون بصورة حية نابضة في كتابات
مثل"الديداك". وكانت الكنائس تحترمهم للغاية، ولكن بعد الامتحان الدقيق.
ولم يكن من
المتوقع بقاؤهم أكثر من ثلاثة أيام في وسط أي
جماعة مسيحية، ولا أن يتصرفوا بخفة، وكان مبرر دعوتهم هو ما يمكنهم القيام به من
خدمة، وهو ما نادى به الرسول بولس مراراً.

(2) الأنبياء: كان الأنبياء هم القادة الدينيون
لإسرائيل في القديم، ولم تختف روح النبوة تمامًا . وفي أيام المسيح كانت موهبة
النبوة موجودة لدى سمعان الشيخ (لو2: 25و26)، وحنة النبيه (لو 2: 36) ويوحنا
المعمدان (مت11: 9). وكان من الطبيعي أن تظن المرأة السامرية أن الغريب الذي تكلم
معها بجانب البئر – كان نبيًا (يو4: 19). وكانت عودة ظهور النبوة في قوتها القديمة
علامة على اقتراب مجيء المسيا. وقد وعد يسوع أن يرسل أنبياء وسط المؤمنين (مت10: 41،
23: 34، لو11: 49) وقد تحقق الوعد، وظهر أنبياء في الكنيسة منذ نشأتها، ولم يكونوا
قاصرين على مجتمعات المسيحيين من اليهود، بل كانت النبوة تظهر تلقائياً حيثما
انتشرت المسيحية، فنقرأ عن أنبياء في الكنيسة في أورشليم وفي قيصرية حيث كان كل
المؤمنين تقريباً من اليهود، وفي أنطاكية حيث امتزج اليهود والأمم ليؤلفوا جماعة
واحدة، وفي كل مكان في كافة كنائس الأمم: في روما وكورنثوس وتسالونيكي وغلاطية (أع
11: 27، 15: 32، 21: 9و10، رو 12: 6و7، 1كو14: 32و36و37، 1تس 5: 20، غل3: 3 5).
كما ذكر بعض الأنبياء بأسمائهم مثل: أغابوس (أع11: 28، 21: 10)، وسمعان وغيره في
أنطاكية(أع 13: 1) ويهوذا وسيلا في أورشليم (أع15: 32). بل لم تكن موهبة النبوة
قاصرة على الرجال، فقد تنبأت النساء، وكان منهن بنات فيلبس الأربعة(أع21: 9). ومنذ
بداية العصر المسيحي حتى نهاية القرن الثاني وما بعده ظهرت في الكنائس المسيحية
سلسلة غير منقطعة من الأنبياء والنبيات. ويبدو من أسفار العهد الجديد وبخاصة رسائل
الرسول بولس أنه كان هناك كثيرون من الأنبياء في الكنائسالأولى، بل يبدو أن الرسول
بولس كان يتوقع ظهور موهبة النبوة في كل مجتمع مسيحي (1كو14)، بل حثَّ كل عضو في
الكنيسة في كورنثوس إلى أن يجدَّ لهذه الموهبة وأن ينميها (1كو14: 1و5و39). كما
حثَّ الإخوة في تسالونيكي بقوله: "لا تطفئوا الروح. لا تحتقروا النبوات"
(اتس5: (20)،كما حث الاخوة فى الكنيسة فى روميه أن يفيدوا من النبوة (رو 12: 6) .
وإذا كان قد انتقد بنوع من الشدة "الانبياء" فى الكنيسة فى كورنثوس، فما
كان ذلك إلا لكى يعلمهم كيف يفيدون اكبر فائدة من موهبة النبوة لبنيان الاخوة
بنيانا صحيحا
.

وكان
أساس النبوة هو الاعلان، فقد كان الأنبياء ذوى "موهبة" خاصة، لهم فكر
روحي وقدرة على الحديث الجذَّاب، وكانت موهبتهم احياناً تظهر فى شكل
"نشوة" إلا أن ذلك لم يكن يحدث فى كل الاحوال، وقد شدد الرسول بولس على
أن للانبياء سيطرة حقيقية على أقوالهم ويمكنهم التحكم فيها لان "ارواح
الانبياء خاضعة للانبياء" (1كو 32: 14) .وأحيانا كانت تأتى النبوة فى رؤى،
كما فى سفر الرؤيا، إلا أن ذلك لم يكن أمراً ملزماً، فالانبياء كانوا يتكلمون
حسبما يقودهم الروح القدس بطرق متنوعه
.

ويبدوا
أن تأثير أولئك الانبياء قد تذايد خلال العقود المبكرة من القرن الثاني الميلادي،
بدلاً من أن يتناقص، فبينما كان عمل الرسول مواجهاً الى غير المؤمنين – يهوداً
كانوا أم أمماً – فان دائرة نشاط النبي كانت داخل الجماعات المسيحية، فكان عمله هو
بنيان الأخوة و تعليمهم وكان للانبياء مكانة معروفة في اجتماع العبادة، وإذا تصادف
وجود أحدهم عند ممارسة عشاء االرب كان هو غالباً الذي يقوم بالصلاة، صلاة مرتجلة
(أي غير محفوظة أو معدة من قبل)، وكانت له مكانة خاصة عند مناقشة أمور تتعلق
بالتأديب الكنسي، كما يتضح ذلك من القرائن العديدة ابتداء من "هرماس"
الي ترتليانوس.

ويبدو
من كتابات الرسول بولس أن العدد الأكبر من الأنبياء
الذين تكلم عنهم – كانوا أعضاء في الجماعة التي
كانوا يستخدمون موهبتهم (موهبة النبوة) بينهم. الا أن كثيرين من الانبياء البارزين
كانوا يتجولون بين الجماعات لبنيان كل جماعة منها. وعندما كان مثل هؤلاء الانبياء
المتجولين – ومعهم زوجاتهم وعائلتهم – يقيمون بعض الوقت في أي مجتمع مسيحي، واعظين
ومنذرين، كان من واجب تلك الجماعة أن تعولهم، وقد وضعت التعليمات اللازمة لهذه
الحالة، فقد جاء في "الديداك": "كل نبي حقيقي يقيم بينكم يستحق
إعالته .. تأخذون باكورة نتاج معصرتكم ودراسكم، ونتاج ثيرانكم وغنمكم، وتعطونه
للانبياء .. وكذلك عندما تفتح قارورة خمر أو زيت، تأخذ باكورتها وتقدمها للانبياء.
ومن الأموال والملابس وكل المقتنيات تأخذ الباكورة وتقدمها طبقاً للوصية"،
وذلك للانبياء "الحقيقين" فقط . وكان على كل جماعة استخدام
"موهبة" التمييز لتبين الصحيح من الزائف، فقد كان هناك أنبياء كذبة
يقاومون الانبياء الحقيقين في العصور الاولى للمسيحية كما كان في اليهودية قديماً
(أع 29: 20و 30، 2بط 1: 2
).

(3) المعلمون: بينما ترتبط خدمة المعلمين بخدمتي
الرسل و الانبياء في أسفار العهد الجديد وفيما بعد عصر الرسل، وبينما يذكر الرسول
بولس ما كان محدداً لخدماتهم فى اجتماعات البنيان (1كو 26: 14)، إلا أننا قلما
نسمع عنهم أو عن عملهم .ويبدو أنهم ظلوا فى الخدمة العاملة بالكنيسة الاولى مدة
أطول جداً من الرسول و الانبياء
.

(ب) الخدمة المحلية: نجد أول إشارة إلى تنظيم داخل كنيسة محلية، فى
الأصحاح السادس من سفر اعمال الرسل، حيث جرى إختيار سبعة رجال – بناء على اقتراح
الرسل – للإشراف على شؤون خدمة
.

إن
مفهوم أن "السبعة" كانوا رتبة خاصة من رتب الكنيسة، أى
"شمامسة" إنما هو مفهوم متأخر نسبياً، فلم يطلق على أولئك الرجال فى أى
موضع لقب "شمامسة"، ولكنهم يذكرون بإسم "السبعة" (أع 8: 21) .
ولعل تعين أولئك الرجال كان أمراً مؤقتاً، ولكن الارجح أن اولئك
"السبعة" المذكورين فى الاصحاح السادس من سفر الاعمال كانوا هم أنفسهم
"المشايخ" المذكورين فى الاصحاح الحادى عشر من نفس السفر، لاننا نجد هؤلاء
"المشايخ" يؤدون نفس الواجبات التى اقيم لأجلها "السبعة"
(اع29: 11 و30) . واذا كان الامر كذلك، فإننا نجد فى الاصحاح السادس من سفر
الاعمال قصة بدايات التنظيم المحلى بعامة . فاذا انتقلنا الى المجتمعات المسيحية
خارج أورشليم، فإننا لم نجد مثل هذه الصورة المميزة . ولكن لما كانت جميع الكنائس
فى فلسطين تنظر إلى الكنيسة فى أورشليم على أنها "الكنيسة الام"،فالارجح
أن يجرى تنظيمها على نفس النمط . ويخبرنا سفر اعمال الرسل أن بولس وبرنابا تركا
وراءهما فى دربة ولسترة وإيقونية جماعات من الأخوة بعد أن "انتخبا لهم قسوساً
" أى شيوخاً" . والكلمة " انتخبا" المستخدمة هنا تدل على حدوث
انتخاب عن طريق الاقتراع العام، والارجح أنه تم على نمط ما حدث فى إختيار
"السبعة" (أع 23: 14
) .

عندما
نتفحص ما سجله الكتاب عن الكنائس التى أسسها الرسول بولس على وجه التحديد، لا نجد
أدله مباشرة واضحة عن نشأة الخدمة بها، بل نرى الكثير عن وجود نوع من الاستقلالية
أو الحكم الذاتى، كما نجد الكثير عن امتلاك "المواهب" وهو ما يتضمن وجود
وقوة عمل الروح القدس داخل الجماعة نفسها .ونقرأعن ألقاب مثل "بويمنس
"(POIMENES) أى رعاية، "إبيسكوبو" (EBISKOPOI) أى أساقفة، و"دياكونوا" (DIAKONOI) أى شمامسة، وهى ألقاب – ان لم تكن تدل على مراكز
معينة – فهى تدل – على الاقل – على وجود قيادات ولكن فى جميع الاحوال يرد ذكرهم فى
صيغة الجمع مما يدل على أنها كانت قيادة جماعية. [ويمكن القول بصورة عامة إنه فى
نهاية القرن الاول، كان يقود كل مجتمع مسيحى مجموعة من الرجال يدعون أحيانا
"شيوخاً
"
(PRESBYTERS)
وأحياناً أخرى "أساقفة" (نظاراً) وهم الذين يميل مؤرخو
الكنيسة المحدثون إلى تسميتهم "الشيوخ الاساقفة" . ويرتبط بهم عدد من
المساعدين يسمون "شمامسة" .ولم يكن لجماعة الشيوخ رئيس او كبير دائم .
فكانت الخدمة فى الكنيسة تتكون من شقين، الشيوخ (أو الأساقفة)والشمامسة، ولكن فى
غضون القرن الثالث تحولت هذه الخدمة ذات الشقين إلى خدمة ثلاثية، بمعنى انه وجد
رجل واحد يرأس كل جماعة ويحمل لقب راع أو أسقف (وظل اللقبان مترادفين حتى القرن
الرابع على الاقل). وفى القرون الاولى كانت تلك الكنائس المحلية – رغم إدراكها
دائما بالانتماء إلى جسد واحد – جماعات مستقلة لها حكم ذاتى، ترتبط بعلاقات فيما
بينها، لا عن طريق أى تنظيم يضمها جميعها، بل عن طريق الشركة الأخوية من خلال
زيارات ممثلى الكنائس وتبادل الرسائل، وتقديم المساعدة أو طلبها عند اختيار الرعاة
.

أصل
الخدمة المحلية: وهنا يبرز التساؤل: كيف نشأ هذا التنظيم؟ ويمكننا
بداءة – استبعاد الفكرة التى
كانت مقبولة فى وقت ما عند الكنائس المصلحة، وهى أن المجتمع المسيحى استفاد من
أسلوب التنظيم فى المجتمع اليهودى وسار على نهجه. ولكن يظهر من النقاط المشتركة
بينهما أن التشابة سطحى لا أكثر ,إذ أن الاختلافات الجذرية عديدة . وإذا أضفنا إلى
ذلك القول الفصل "لأبيفانيوس" بأن المسيحين من اليهود قد نظموا
مجتمعاتهم "بأراخنة" ورئيس مجمع على نمط المجامع اليهودية فى
الشتات" وليس على نمط الكنائس المسيحية، إذا أضفنا ذلك،فإن الأدلة تجعل من
المحال الاعتقاد بأن التنظيم المسيحى المبكر كان – ببساطة – نقلا عن النظام
اليهودى . وفى الجانب الآخر ليس ثمة دليل على أن الرسل قد تلقوا وصية صريحة من الرب
يسوع المسيح بان يقيموا أو يعينوا أصحاب مناصب أو رتب فى الجماعات المسيحية الأولى،
وبصورة شاملة، بحيث لايمكن قيام تنظيم قانونى بدون هذا السلطان وتلك الخلفية، بل
إننا لنجد فى الكنيسة الأم فى أورشليم، الاجتماع الكنسى يمارس سلطته على الرسل
أنفسهم، إذ نجدهم يستدعون الرسل أنفسهم لفحص تصرفاتهم (أع 1: 11-4). والأمر كله فى
حاجة إلى إدراك عدة حقائق:

(1) تتوفر الأدلة على أن الكنائس المحلية فى العصر الرسولى وما بعده كانت
مجتمعات ذات حكم ذاتى، ولم تكن الخلفية الحقيقية للخدمة هى السلطان الرسولى بل
مجتمع الكنيسة . ونجد فى كتابات العصر الرسولى وما بعده، بدءاً من الرسول بولس إلى
كبريانوس، الصورة الممثلة للكنائس
.

(2) الربط المسيحى الفريد للمفاهيم الثلاثة عن القيادة والخدمة
و"المواهب". فالقيادة كانت تعتمد على الخدمة، وكانت الخدمه ممكنه
بامتلاك "مواهب" معينة والاعتراف بها .وكانت هذه "المواهب"
الدليل على وجود روح يسوع وسلطانه داخل الجماعة . وقد أعطت هذه المواهب للكنيسة
سلطانا إلهيا لممارسة الحكم والإشراف دون أى توجيه رسولة "خاص
" .

(3) ينبغى عدم نسيان الدليل العام القائم على انه كان هناك تطور تدريجى
لمبدأالترابط من صور التنظيم البسيطة إلى الصور الأكثر تعقيداً، ولكن يلزم أن نذكر
أن النمو فى المجتمعات الفتية كان أسرع
.

(4) كما ينبغى أن نذكر أن المسيحين الأوائل كانوا على دراية تامه بأساليب
التنظيم الاجتماعى المختلفة التى دخلت إلى حياتهم اليومية، والتى لا بد كان لها
أثرها فى توجيه أفكارهم إلى كيفية تنظيم مجتمعاتهم الجديدة
.

ويعتقد
بلينى أن الكنائس المسيحية فى بيثينية كانت نوعاً من الجماعات المحظورة (أى غير
الشرعية) وكان لها دستور ديمقراطى (مثل سائر الكنائس) . وكانوا يشتركون فى
"أكله مشتركة" فى اوقات محددة، ويجمعون عطايا كل شهر، وكان يدير شؤونهم
مجلس من ذوى المراكز، يمارسون على الاعضاء نوعاً من التأديب. ولا بد أن الألوف من
المسيحيين كانوا أصلاً اعضاء فى مثل هذه الجماعات، ولعلهم استمروا كذلك بعد
اعتناقهم المسيحية .ولكن بينما يحتمل أن الكنائس المسيحية قد تعلمت الكثير عن
المبادىء العامة للحياة المشتركة من كل تلك الأشكال المتنوعة للتنظيم الاجتماعى،
ولكن القول بأنها قد نقلت أيا منها، فقد نظمت المجتمعات المسيحية الأولى نفسها
بصورة مستقلة بفضل المثاليات الجديدة والحياة الاجتماعية التى غرست فيها،ورغم انها
وصلت إليها من خلال مسالك متباينة، إلا أنها وصلت جميعها فى النهاية إلى شكل واحد،
وهو مجتمع تقوده جماعة من ذوى المناصب الذين يمتلكون "مواهب" التدبير،
ومن معاونين، تضمهم جميعاً خدمة الشيخ والشماس
.

ثالثا:
الخدمة الثلاثية فى الاجتماعات: تعرضت الخدمة فى غضون القرن الثانى، للتغيير فقد
صار لمجموعة أصحاب المراكز فى الكنيسة، رئيس دائم يطلق عليه "الراعى" أو
"الاسقف
، وكان اللقب الأخير هو أكثرهما شيوعاً . حدث
هذا التغيير تدريجياً ولم يواجه معارضة قوية . ومع بداية القرن الثالث أصبح هذا
الوضع مقبولا فى كل مكان
.

وإذا
أردنا معرفة أسباب إقامة رئيس لجماعة الشيوخ، أصبح محور الحياة الكنيسة فى الكنيسة
المحلية، كما انفرد بالسلطة بين ذوى المراكز الكنيسية، فليس أمامنا سوى الحدس
والتخمين

.

ولكن
ما يمكن الجزم به هو أن التغير بدأ فى الشرق ثم امتد شيئاً فشيئاً إلى الغرب .وهناك
بعض الإشارات إلىتطور تدريجى .وقد قدم العلماء أسباباً عديدة للتغير:

(1) الحاجة إلى قيادة موحدة فى أوقات الخطر من إضطهاد خارجى، أو من دخول
الأفكار الغنوسية التى زعزعت إيمان البعض .(2)لسهولة تمثيل الكنيسة لدى الكنائس
المحلية الاخرى برجل واحد قادر على تحمل مسئولية إدارة الشئون الخارجية للجماعة .(3)
الحاجة إلى رجل واحد لرئاسة أهم خدمة من خدمات العبادة، أى ممارسة عشاء الرب .(4)
توافر معنى الوحدة فى وجود قائد واحد . قد يكون بعض هذه الاسباب أو كلها مجتمعه
وراء حدوث هذا التغيير فى أسلوب الخدمة
.

وتبدو
هذه الخدمة المثلثة واضحة تمام الوضوح فى رسائل إغناطيوس الأنطاكى، فهى تصور
مجتمعاً مسيحياً يرأسه أسقف وجماعة من الشيوخ ومجموعة من الشمامسة . وبشكل هؤلاء
جماعة الخدمة أو شاغلى المراكز الكنسية فى الجماعة، والذين يجب طاعتهم، ولا يمكن
عمل شىء دون موافقة الأسقف، فلا تقام ولائم المحبة، أو تمارس الفرائض المقدسة، ولا
يبت فى أى أمر من امور الكنيسة دون موافقته . والجهاز الحاكم هو بلاط يجلس الأسقف
على رأسه، يحيط به مجلسه أو جماعة الشيوخ، وكلاهما لا يستطيع شيئا بدون الآخر،لأنه
إن كان الاسقف يمثل القيثارة فالشيوخ هم الاوتار، وكلاهما لازم لاصدار اللحن
المطلوب . ويشبه إغناطيوس الأسقف يسوع والشيوخ بالتلاميذ الذين كانوا حوله . ولكن
ليس ثمة إشارة إلى سلطة كهنوتية، أو خلافه رسولية، أو حكم فردى أو سلطة أسقفية، فى
رسائل إغناطيوس هذه . وما تصوره يختلف تماما عن أى شكل من أشكال أسقفية الأبرشيات
.

(I) الإصرار على التنظيم تحت رئاسة: جدير بالملاحظة أنه على مدى القرن
الثالث وما بعده، كانت كل جماعة من المسيحين
حتى ولو كانت مكونه من أقل
من اثنتى عشرة عائلة

ؤمر بتنظيم نفسها ككنيسة تحت
إشراف جماعة من ذوى المراكز،مكونه من أسقف أو راع، واثنين على الأقل من الشيوخ
وثلاثة من الشمامسة على الأقل .وإذا كان الاسقف أمياً غير متعلم – لأن اختيارة كان
يتم على أساس شخصيته وليس على أساس علمه – كان يجب على الجماعة اختيار قارىء،كما
كانت هناك خدمة للنساء . وكان من المتيسر إطاعة مثل هذه التعليمات لأن خدام
الكنيسة فى العصور الأولى، لم يكونوا يحصلون على رواتب، وكان الخدام من ذوى
المراكز الذين كانت تجب لهم الطاعة بفضل دعوتهم وانتخابهم، ولأنهم كانوا مفروزين
لهذا العمل المقدس بالصلاة وربما بوضع الأيدى ايضا .و لكنهم في الوقت نفسة من
التجار او الصناع او المشتغلين باعمال دنيوية اخرى يعولون بها انفسهم
.

و
الى ختام القرن الثاني , لم تشيد مبان مخصصة للعبادة , ثم اقتصر ذلك – فيما بعد –
على بعض المراكز كثيفة السكان في المدن التي لم تكن تعاني من الاضطهاد الشديد .
وكانت الممتلكات الوحيدة التي تمتلكها الكنيسة – علاوة على نسخها من الكتاب
المقدس, وسجلاتها الكنيسة, وربما مكان لدفن الموتى والشهداء – هي التقدمات التي
يقدمها اعضاء الجماعة وكانت تقدم – في اغلب الأحيان – بعد ممارسة عشاء الرب لتوزع
على فقراء الجماعة, وإذا كان شاغلو المراكز ينالون حصة منها، فإن ذلك كان يحدث
للفقراء منهم
.

و
قد اطلق بعض العلماء على هذه الخدمة المثلثة "الاسقفية الملكية" وهو لقب
له رنين عالٍ، كما أنه مضلل، فكثيراً ما كانت "المملكة التي يرأسها هؤلاء
"الملوك"، المزعومون، تتكون من أقل من اثنتي عشرة عائلة، وكان مقيدًا
بالعديد من الحدود. ويمكننا أن نستجمع من رسائل إغناطيوس ماهية سلطات الأسقف
وحدودها (الرسالة إلى بوليكاربوس)، فقد كان يشرف على الأمور المالية بالكنسية،
وكان رئيساً لجماعة "الشيوخ"، وكان له الحق في دعوة – وعلى الأرجح –
رئاسة مجلس التأديب، كما كان يعطي التعليمات الخاصة بممارسة الفرائض المقدسة. ولكن
من المشكوك فيه كثيراً، ما إذا كان هو أو حتى بالاتفاق مع الشيوخ قادراً على اتخاذ
قراربالفرز من الجماعة، إذ يبدو أن هذا الأمر في سلطة اجتماع الجماعة كلها . وكان
في إمكان السقف أن يدعو الجماعة إلى الاجتماع لاختيار مبعوثين إلى الكنائس الأخرى،
ولكن يظل قرار اختيارهم بيد الجماعة لا بيد الأسقف بل كان للإجتماع سلطة تكليف
الأسقف نفسه بالقيام بمثل هذه المهمة
.

(1) المساعدة في اختيار أسقف: مما سبق يتضح أن
اختيار أسقف أصبح من أهم الأعمال التي تدعي الجماعة لممارستها، ومن ثم كان هناك
ترتيب للمعاونة المتبادلة في مثل هذه الأحوال.

وقد
جاء فيما يسمى بالقوانين الرسولية، أنه إذا كان بالجماعة أقل من اثني عشر رجلاً
لهم حق الاقتراع في انتخاب أسقف، فيجب الكتابة إلى الكنائس المجاورة المعترف بها لارسال
ثلاثة رجال لمعاونة الجماعة في اختيار راعيها. ومن الواضح أن هذا هو أصل ما أصبح
عادة متبعة، وأخيراً أصبح قانوناً بأن تكريس أسقف يقتضي وجود ثلاثة أساقفة من
الكنائس المجاورة
.

هذه
العادة أو القاعدة التي لم تكن في بدايتها إلا معاونة عملية بسيطة من كنائس قوية
لكنائس ضعيفة، أصبحت تحمل مفهوم أن الأسقف المعين بهذه الطريقة، يصبح أسقفاً
بالكنيسة العامة بالإضافة إلى مركزه كالراعي الخاص لكنيسته. كما أنه من المرجح
جداً أن هذا الإجراء بطلب المعاونة في حالة الضرورة، كان هو البذرة التي أثمرت ما
يعرف باسم "السنودس"، وكانت أول مجامع السنودس المسجلة، اجتماعات كنسية
مدعمة في الأوقات العصيبة بنصائح أشخاص ذوي خبرة من كنائس أخرى.

(2) الأساقفة والشيوخ: عندما كانت تنجح كرازة كنيسة بإحدى المدن في ربح
مجموعة صغيرة من القرويين، فإنهم كانوا عادة لا يريدون الإنفصال عنها، فكانوا
يأتون من قراهم إلى المدينة للشركة في العبادة. ويقول يوستينوس الشهيد: "في
اليوم المسمى بيوم الأحد، كان كل القاطنين بالمدينة وبالريف يجتمعون معاً في مكان
واحد". ويتضح من المجموعات الأولى للقوانين، أنه كان بمقدور الأسقف في حالة
الغياب أو المرض أن يوكل مهامه إلى الشيوخ، بل وإلى الشمامسة، وقد مكّنه هذا، عند
الحاجة، أن يكون من خلال أولئك الشيوخ والشمامسة راعياً لعدة كنائس. ويمكننا أن
نلحظ بوضوح أكبر، نفس هذا الشيء في المدن الكبرى عندما يكون عدد المسيحيين كبيراً
للغاية. وكان الأسقف يعتبر على الدوام رئيساً للمجتمع المسيحي في المكان الواحد
مهما اتسعت دائرته. كان هو الراعي الذي يقوم بعملية العماد، ويرأس العشاء المقدس،
ويمنح الشركة الكاملة للمتقدمين. وبحلول منتصف القرن الثالث أصبح العمل بمعظم
المدن الكبرى، أكبر من أن يقوم به رجل واحد. ولا يوجد سجل يبين عدد الأعضاء الذين
كانوا يتبعون الكنيسة في رومية مثلاً في ذلك الوقت، ولكن يمكن أخذ فكرة عامة عن
حجمها من واقع أنه كان بقائمة فقرائها أكثر من500 ,1شخص. وقبل ختام القرن الثالث،
كان المسيحيون في رومية يعبدون في أكثر من أربعين مكاناً منفصلاً. ومن الجلي أنه
لم يكن بمقدور رجل واحد أن يقوم بكافة الواجبات الرعوية لمثل هذا العدد الغفير،
ولابد أن معظم العمل الرعوي كان يوكل للشيوخ، ولكن كانت وحدة الرعوية تراعي بدقة ولزمن
طويل فكان الأسقف يقوم بتكريس عناصر الشركة في كنيسة واحدة، ثم تحمل وتوزع على
سائر الكنائس، وبذلك كان الأسقف هو الراعي لكل هذه الكنائس، كما كان الشيوخ
والشمامسة ينتمون للمجتمع المسيحي كله، فكانوا يخدمون كافة الكنائس دون أن يكونوا
مختصين بأي منها على وجه التحديد. وفي المقابل كان بالاسكندرية شيء شبيه بنظام
الابرشيات يلتف حول الأسقف، إذ كان أفراد من الشيوخ يعينون لرئاسة الكنائس
المختلفة في دائرة المدينة. ولكن على الدوام، وظل الوضع الرعوي للأسقف محفوظاً،
حيث كان في الواقع جزء هام من مهامه الرعوية متروكاً بلا إستثناء بين يديه، وهو
طقس التثبيت الذي على أساسه كان يمنح للمتقدمين حق الشركة الكاملة.

(II) تضخم النظم ونمو الهيكل الكهنوتي: شهد منتصف
القون الثالث تغييرين في نظام الخدمة في الكنيسة،كان أحدهما هو تزايد القوانين،
وكان ثانيهما هو نمو الهيكل الكهنوتي. ومع أن ثمة أسباباً عديدة لحدوث هذين
التغييرين، الإ أنه من الصعب الشك في أنها كانت جزئياً على الأقل تقليداً للنظام
الديني الوثني، وبينما نجد التمييز واضحاً في رسائل الرسول بولس، بين من تنبغي لهم
الطاعة، ومن يجب عليهم الطاعة، إلا أننا لا نجد حتى بداية القرن الثالث مصطلحاً
شاملاً ليستخدم بصورة عامة للدلالة على المجموعة الأولى، وكانت التسمية الغالبة في
الغرب هي "أوردو
"
(ordo
أي
ترتيب أو نظام)، وفي الشرق "كليروس
" (cleros أي نصيب). وكانت كلمة "أوردو" تستخدم
للدلالة على المجالس البلدية في المدن، أو على اللجنة التي ترأس "جمعية
خيرية"، أما"كليروس" فكانت تشير إلى رتبة أو طبقة.

وكان
إدخال نظام الرواتب إلى الخدمة، وما يترتب على ذلك من أن الخدمة مدفوعة الأجر يجب
أن تعطي كامل وقتها لخدمة الكنيسة، وهو ما جعل التمييز بين الإكليروس والعلمانية
أكثر وضوحاً. فإذا أردنا فحص الأمر،فإننا نجد أن دفع الرواتب للإكليروس زاد الأمر
تعقيداً، إذ أن القوائم الأولى كانت كما يبدو لمن يحق لهم المشاركة في دخل الكنائس،
وكان الأرامل والأيتام يظهرون كأعضاء في "الأوردو" او
"الإكليروس". فإذا نحينا هذا العنصر المقلق جانباً، فإننا نجد أن أقدم
تقسيم للخدمة في القرن الثالث، كان إلى: أساقفة، وشيوخ وشمامسة. وأقدم إضافة لهذه
العناصر الثلاثة كانت "القارىء"، وسرعان ما أعقب ذلك "مساعد
الشماس"، وبعد ذلك نجد طاردي الأرواح الشريرة، ومساعدي الكهنة، والمرتلين
وحراس الأبواب وحفاري القبور، وكان يطلق على هذه "الرتب الصغرى" وينضوون
جميعاً تحت "الإكليروس"، وجميعهم ينالون قسطاً متناسباً من دخل الكنيسة.
وقد يكون من الواضح نشوء الحاجة إلى أساقفة وشيوخ وشمامسة، أما الحاجة إلى
"القراء" – فكما رأينا سابقاً فقد نشأت في بادىء الأمر لمعاونة الأساقفة
أو الرعاة الأميين، وبرروا الإبقاء عليهم والحاق طاردي الأرواح الشريرة على أساس
أنهم كانوا يمثلون الخدمة النبوية القديمة. إلا أنه في إدخال "الرتب
الصغرى" الأخرى، فمن الواضح أن الكنيسة المسيحية قد نقلت ما كان سارياً في
المعابد الوثنية، حيث كان الأشخاص الذين يمارسون خدمات مماثلة يعتبرون من خدَّام
المعبد، وكان لهم نصيبهم في إيرادات المعبد، أما بخصوص تشكيل هيكل كهنوتي متدرج من
مطارنة وبطاركة، فلعل الكنائس تبعت في ذلك التنظيم الوثني العظيم الذي استدعت
وجوده العبادة الإمبراطورية وتعدد الآلهة و الآلهات، وكما يقول "مومسن
" (MOMMSEN): "أخذت
الكنيسة المسيحية المنتصرة أسلحتها الكهنيتية من ترسانة العدو
".

رابعاً:
المجامع السنودسية: كانت المجامع السنودسية – باديء ذي بدء – اجتماعات ديمقراطية،
وكانت في صورتها الأولى مجرد اجتماعات كنسية يعاونها – عند الضرورة – مندوبون (ليس
بالضرورة أساقفة) من "كنائس معترف بها"، ثم نمت لتصبح الأداة التي تجمعت
الكنائس بواسطتها حول مركز واحد لتصبح متحدة في تنظيم متماسك واحد، و بخاصة أن
العصر لم يكن عصر ديمقراطية. وأصبح الوجود العلماني – بل والشيوخ والشمامسة
وموافقتهم كجماعة على قرارات المجمع – أصبح شيئاً فشيئاً مسألة شكلية، ثم توقف
كلية بالتدريج، وتشكلت السنودسات بصورة خالصة من الأساقفة وحدهم، وأصبحت مجرد
مجالس لتسجيل قرارتهم، وبهذا أصبحت كل كنيسة محلية يمثلها تماماً راعيها أو أسقفها
الذي أصبح شخصاً أوتوقراطياً، ولم يعد مسئولاً أمام كنيسته ولا أمام سنودس ولكن
أمام الله وحده . وقبيل نهاية القرن الثالث و فيما بعده، أصبحت السنودسات أو المجامع
جزءاً دائماً من نظام الكنيسة كلها،وأصبحت عضويتها قاصرة على الاساقفة. وكان من
الطبيعي أن تجتمع مثل هذه المجامع في العواصم الإقليمية، إذ أن الطرق كانت تتجه
نحو المدن التي بها مقار الإدارة الإقليمية الرومانية. وكان السنودس في حاجة الى
رئيس، وفي البداية كان أكبر الأساقفة الحاضرين سناً، يشغل كرسي الرياسة، واستمر
الحال على ذلك الى أمد طويل ليصبح الاسلوب المرعي في أجزاء عديدة من الامبراطورية.
ثم أصبحت العادة – بالتدريج – أن يجلس على كرسي الرياسة أسقف المدينة التي يعقد
بها المجمع حتى أصبح ذلك حقاً مرعياً، ومن هذا بدأت تسمية أساقفة المدن التي كانت
مقاراً لاجتماعات سنودسية "بالمطارنة " أي "أسقف العاصمة، وظل
اللقب لقباً شرفياً زمناً طويلاً، ولم يكن يعني أي درجة كهنوتية متميزة أو سلطاناً
كنسياً، الا أنه في منتصف القرن الرابع كان "المطارنة" قد حصلوا على حق
دعوة السنودسات للاجتماع،بل وممارسة بعض السلطة فوق أساقفة الأقاليم، وبخاصة فيما
يتعلق بالانتخاب و التكريس. وعندما استقرت المسيحية كديانة للامبراطورية، حصل كبار
الاساقفة لأنفسهم على امتيازات مدنية كانت أصلاً من حق كبار كهنة الديانة
الامبراطورية الزائلة، و أصبح زوي المراتب العليا في الخدمة المسيحية أصحاب ألقاب
وسيادة تختلف تماماً عما كان لهم من قبل
.

 

 

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي