ربَّي
– تربية

 

اولاً-
تعريف التربية:

 التربية هي مجموع العمليات التي ينقل المجتمع من خلالها- من جيل إلى
جيل- التراث والخبرات الأجتماعية والفكرية والدينية. وتمم هذه العمليات – جزئياً –
بصورة عرضية غير رسمية، بالمشاركة في بعض صور الحياة والأنشطة الأجتماعية السارية،
وليس بهدف فرض مؤثرات تربوية على الجيل الناشئ.

وتخطط
العمليات التربوية بهدف:

(1) اعطاء الأفراد غير الناضجين في المجتمع، معرفة كاملة برموز الحضارة
وأدواتها، بما في ذلك، اللغة (القراءة والكتابة)، والفنون، والعلوم، والدين.

(2) تكبير رصيد المعرفة عند الفرد والجماعة بما يتجاوز المستوى المتحصل من
الأنشطة المباشرة للبيئة المحيطة.

وتوضح
التربية الدينية بين الشعوب-قديماً وحديثاً على السواء – هذا المظهر المزدوج لكل
مجالات التربية، فهي تتكون في جانبها غير الرسمي، من نقل الأفكار والخبرة الدينية
عن طريق العمليات المتبادلة من التقليد والقدوة. فكل جيل عن طريق المشاركة الفعلية
في الأنشطة الدينية والاحتفالات الجماعية- يتشرب روح ومُثل الجيل السابق التي
طورتها الظروف الاقتصادية والصناعية الخاصة التي تحدث في ظلها هذه العملية بكاملها.

وتبدأ
التربية الدينية الرسمية بالجهد الواعي المنظم من جانب الأعضاء الناضجين في
الجماعة (قبيلة أو شركة دينية) حتى يمكن للأعضاء غير الناضجين في الجماعة – عن
طريق الطقوس والممارسات الدينية الجادة، أو عن طريق التدريب المتأني أو بكلهما- أن
يدخلوا إلى ممارسات جماعتهم الدينية وامتيازاتهم الرفيعة. ويتحدد مضمون هذا
التعليم وشكله- في كل حالة- بنوعية ومرحلة الحضارة المنعكسة على الحياة، وأعمال
الشعب وعاداته وتقاليده . والأسلوب التربوي عند الأجناس البدائية أبسط، كما أن
مضمون التربية أقل تنوعاً عنه عند المستويات الثقافية المتقدمة. وكل تربية تبدأ
بالجوانب الدينية، أي أن البواعث والأفكار الدينية هي التي توجه الجهود التربوية
عند كل الشعوب البدائية. ويتوقف مدى استمرار الدين بارزاً في النظام التربوي لدى
أمه ناميه على مدى حيوية الدين الذي تعتنقه، وعلى مدة فاعلية ونجاح هذا الدين في
الوصول إلى الجيل التالي. وهنا يكمن تفسير الطابع الديني التربوي للحياة القومية
العبرية، كما يكمن أيضاً سر التأثير منقطع النظير الذي لإسرائيل على التنمية
الدينية والتربوية في العالم. فقد كانت ديانة إسرائيل ديانة حيوية، كما كانت ديانة
تعليمية.

ثانياً-
التربية في إسرائيل قديماً:

(من أيام الآباء حتى السبي): مرَّ العبرانيون
في تطورهم الاجتماعي والقومي في مراحل ثقافية متعددة واضحة المعالم، جديرة
بالاعتبار لارتباطها بالتاريخ التربوي لإسرائيل، فمنذ أقدم العصور، التي يقدم لنا
العهد القديم معلومات عنها، كانوا- كما كان أسلافهم – من البدو والرعاة، فكان محور
اهتمامهم الرئيسي هو القطعان والماشية التي كانت تمدهم بمقومات الحياة، والفنون
البسيطة النافعة التي يبدو أنها أصبحت متوارثة في بعض الأسر.

وباستقرار
أسباط بني إسرائيل في فلسطين، ومن خلال أتصالهم الوثيق بالحضارة الكنعانية، بدأت
الحياة الزراعية الأكثر استقراراً – وما صحبها من تغييرات في المؤسسات الاجتماعية
والدينية – تخلف المرحلة البدوية من الحضارة، وأصبح من الممكن توافر مكان للاقامة
الدائمة، كما استلزمت الحروب المستمرة قيام اتحاد أوثق بين الأسباط، الأمر الذي
ترتب عليه في النهاية رسوخ دعائم النظام الملكي في عهد داود.

(1) مراحل الرعي والزراعة: في المراحل المبكرة من الرعي والزراعة، لم يكن
ثمة فصل واضح بين الدين والحياة العادية، وكان الناس يفهمون العلاقة بينهم وبين
" يهوه " على أنها علاقة بسيطة، عليهم فيها الالتزام نحوه بطاعة البنوة
والولاء، ويقوم فيها " يهوه " بالعناية الأبوية باعتبارهم شعبه. وكانت
" الأسرة " هي الوحدة الاجتماعية، ورأسها هو الشخص الذي تركزت فيه
السلطة والقيادة الدينيتان، كما كان يجمع رئيس السبط –أو أب الجماعة- في شخصه
الوظائف والاختصاصات التي انقسمت فيما بعد إلى وظائف: الكاهن، النبي، والملك.
وكانت التربية موضوعاً عائلياً محلياً، فكان البيت المدرسة الوحيدة، والآباء
المعلمين الوحيدين. ولكن كان هناك تعليم حقيقي . بالاضافة إلى أن التعليم كان بروح
حماسة دينية وجد ووقار واحترام للمراسم الدينية العامة والمعتقدات الدينية، سواء
كان موضوع التعليم هو مبادئ المعارف الزراعية، أو بعض الحرف المفيدة، أو التاريخ
المقدس وتعاليم السبط أو الأداء العملي للطقوس الدينية. ويقول يوسيفوس إن موسى
نفسه أمر بأن: " لا بد لجميع الصبية أن يتعلموا أهم أجزاء الناموس، لأن هذه
المعرفة نافعة لهم جداً ومصدر لسعادتهم " كما أمر أيضاً بتعليمهم مبادئ
المعرفة

(القراءة والكتابة) بالإضافة إلى قوانين الأسلاف وأعمالهم، حتي لا
يخالفوها، أو يُظهروا جهلهم بشرائع أجدادهم، بل بالحري يحذون حذوهم.

ومما
لا ريب فيه أن أقدم تشريع- بما في ذلك الوصايا العشر- أكد السلطة الأبويه وأوصى
باحترام الأبناء لوالديهم: " أكرم أباك وأمك لكي تطول ايامك عل الأرض التي
يعطيك الرب إلهك "(خر 20: 12)، " ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً "،
و" من شتم أباه أو أمه يقتل قتلاً "(خر 21: 15و17). بينما يوصي كل أب أن
يوضح لابنه منشأ ومغزى مراسم الفصح وعيد الفطير: " وتخبر ابنك في ذلك اليوم
قائلاً: من أجل ما صنع إلىَّ الرب حين أخرجني من مصر "(خر 13: 8
).

(2) فترة الملكية: ابرزت فترة الغزو والاستقرار قادة
لم يتولوا قيادة الأسباط المتحالفة في المعارك فحسب، ولكنهم عملوا قضاة بينهم، كما
عملوا على الحفاظ على ديانة الأسلاف. وبمرور الزمن حدث تعاون كافٍ بين الأسباط
لتنظيم أحلاف قوية انتهت بقيام الملكية. وكما يقول " آمز
" (Ames): " كانت
هذه الوحدة السياسية المتزايدة مصحوبة بالوعي الديني الذي أصبح في النهاية أروع
نتاج للتقدم القومي
".

وقد
صاحب قيام الملكية وبداية حياة المدن والحياة التجارية، تغيرات ثقافية جذرية تضمنت
الفصل بين المؤسسات الدينية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، تنظيم الكهنوت وظهور
النبوة وتطورها. وكان إيليا التشبي، وعاموس الراعي من تقوع، وإشعياء بن آموص،
أبطالاً في إيمانهم البسيط ومثاليتهم الدينية التي بزت الحكمة العالمية والوثنية
المادية عند الأمم المجاورة. كما ظهر – في ظل الملكية- رمز ديني جديد، فكان ينظر
إلى يهوه كملك يمسك في يديه القيادة العليا للدولة. ولذلك تضمن تنظيم الدولة ادراج
ما يلزم لاستطلاع مشيئتة" يهوه " والحصول على توجيهاته في جميع الأمور
الهامة. وفي ظل تعاليم الأنبياء أصبح لمثالية البر الشخصي الأولوية في الفكر
الديني العبري، بينما كان المثال النبوي للمستقبل، يتطلع إلى وقت فيه " الأرض
تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر " (إش 11: 9)، و: لأنهم كلهم
سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم "(إرميا 31: 34
)

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كتاب الحياة عهد جديد إنجيل متى 11

وفيما
يتعلق بما يسمى " مدارس النبياء " التي كانت قائمة في أيام إيليا في بيت
إيل وأريحا والجلجال (2مل 2: 3و5، 4: 38) وربما في أماكن أخرى، فإنه يجدر بنا
ملاحظة أن هذه المدارس كانت جمعيات أو روابط أخوية، نشأت لغرض البنيان المتبادل،
وليس للتعليم. ولم يطلق الكتاب المقدس كلمة مدارس على هذه التجمعات الأخوية، ومع
ذلك لا نستطيع الزعم بأن عنصر التربية الدينية لم يكن موجوداً فيها.

(2) شرائع سفر التثنية: يؤكد سفر التثنية- بقوة-
مسئولية الوالدين في تهذيب أبنائهم دينياً ٍوأخلاقياً: " لتكن هذه الكلمات
التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على اولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك
وحين تمشى في الطريق وحين تنام وحين تقوم " (تث 6: 7)، و" علموها
أولادكم متكلمين بها حين تجلسون في بيوتكم وحين تمشون في الطريق وحين تنامون وحين
تقومون واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك "(تث 11: 9). كما أمرهم بكل
وضوح أن يقيموا حجارة كبيرة، ويشيدوها بالشيد وأن يكتبوا عليها: " جميع كلمات
هذا الناموس.. حين تعبرون الأردن تقيمون هذه الحجارة .. في جبل عيبال وتكلسها
بالكلس.. وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشاً جيداً " (تث 27: 1 –
8
).

إن
كلمة " التوراة " التي تعني في الأصل " الشريعة " (خر 24: 12،
لا 7: 1، 26: 46)، تعني أيضاً " التهذيب أو التعليم الديني " وقد
استخدمت بهذا المفهوم في القول: "وهذه هي الشريعة التي وضعها موسى أمام بني
إسرائيل… اسمع يا إسرائيل الفرائض والأحكام التي أتكلم بها في مسامعكم اليوم
وتعلموها واحترزوا لتعملوها " (تث 4: 44، 5: 1)، وأيضاً " لأن الوصية
مصباح والشريعة نور وتوبيخات الأدب طريق الحياة " (أم 6: 23، انظر أيضاً مز
19: 8، أم 3: 1، 4: 2
).

(3) القراءة والكتابة: كان الكهنة واللاويين-باعتبارهم حرَّاس الشريعة-المعلمين
الأساسين للشعب، بينما ظل الوالدون مسئولين عن تعليم الأبناء في البيت. وفي بعض
العائلات الأرستقراطية، كان يقوم بدور الآباء معلمون متخصصون. ولا سبيل أمامنا
لتحديد مدى إلمام الشعب عموماً بالقراءة والكتابة. والقول بأن مبادئ التعليم
الرسمي والتربية الرسمية- بمفهومنا الحديث- لم تكن قاصرة على الطبقات العليا، مبني
على الكتاب المقدس (انظر إش 29: 11و12)، حيث يفرِّق ما بين الشخص الذي يعرف
القراءة، والشخص الذي لا يعرف الكتابة. كما أن هناك إشارة إلى مقدرة طفل " أن
يكتب "(إش
10: 19). فكل هذه مجتمعة مع حقائق بروز
أنبياء مثل عاموس وميخا-المتعلمين- من بين عامة الشعب، وأن " العمال "
الذين حفروا نفقاً بين نبع العذراء وبركة سلوام قد نقشوا على الصخور أسلوبهم في
العمل، تبين انتشار معرفة القراءة والكتابة بين عامة الشعب.

ثالثاً-
التربية في إسرائيل في عهودها الأخيرة:

(من السبي إلى ميلاد المسيح): لم تكن المأساة القومية التي حاقت
بالشعب العبري بسقوط أورشليم والسبي إلى بابل، بلا تأثير صالح مُطهِّر ومحفِّز
بالنسبة للتنمية الدينية والتربوية للأمة، فتحت ظروف الضغوط الخارجية المضادة، كان
المصدر الوحيد لتعزية الشعب، هو شريعة " يهوه " وعهده، بينما عمل تبدد
كل أمل في استعادة المجد القومي لإسرائيل على تحويل فكر القادة الدينين وانتباههم،
بعيداً عن الحاضر وتوجيهه نحو المستقبل. وقد تميزت فترة السبي بنوعين من التوقعات
المتعلقة بالمسيا: الأولى خاصة بالأمل في العودة وتجديد الكهنوت وهو ما تعكسه
نبوات حزقيال، إذ تعود الأسباط المسبية إلى أورشليم ويُرمم الهيكل وتُطهَّر طقوسه
والعبادة فيه، وتنشط الطقوس والخدمات الكهنوتية. أما الثانية فكانت التوقع
الروحاني المبني على القسم الثاني من إشعياء، " فيهوه " هو الإله الوحيد،
وهو إله إسرائيل وكل الأمم، كما أن إسرائيل هو عبد يهوه وأداته لإعلان ذاته للأمم
الأخرى، التي عندما تشهد خلاص يهوه لعبده المتألم، تسجد " ليهوه "
وتعترف بسيادته، وهكذا تؤدي معاناة إسرائيل إلى عالمية شاملة تحظى فيها أمة
إسرائيل المتألمة بمكانة سامية رفيعة. وقد أسهمت نبوات إشعياء، ورجاء مجيء المسيا
الذي أشعلته هذه النبوات في قلوب المؤمنين، في تمهيد الطريق لتعاليم الرب يسوع عن
ملكوت سماوي روحي مؤسس على الشخصية الأخلاقية للفرد، والشركة الروحية المتبادلة
بين المؤمنين.

(1) الأهمية التربوية للنبوات: إن الأهمية التربوية للكتابات النبوية في
هذه الحقبة

كما كان الحال في المراحل السابقة-هي أن الأنبياء أنفسهم كانوا هم
القادة الحقيقيين الذين يمثلون الأمة، وكانوا سابقين لزمانهم في المناداة بالحق
الإلهي، والحراس على قمم الجبال، الذين كان نفاذ بصيرتهم للمستقبل، يكشف العناصر
الهامة في الأحوال والتوجهات الاجتماعية والدينية المحيطة بهم، كما كان لهم من حدة
الذكاء وسمو الإيمان ما جعلهم يستوعبون المبادئ الأبدية التي هي أساس كل استقامة
وقيمة فردية وقومية، وقد طبعوا هذه الحقائق و المبادئ في وعي جيلهم والأجيال
اللاحقة، وبهذا أعطوا معلمي المستقبل جوهر رسالتهم، ممهدين السبيل لتفسير أكمل
وأشمل للدين والحياة كما جاء في تعاليم الرب يسوع.

(2) كتاب الشريعة: كان كتاب الشريعة- الذي حمله المسبيون معهم إلى بابل- هو
رابطة العقد لوحدة إسرائيل، كما كان مرجعهم في كل الأمور، ومنهج التربية الدينية
لهم خلال فترة السبي. وعند عودتهم من السبي في زمن عزرا إلى فلسطين، قاموا ومعهم
اخوتهم من الفقراء- الذين لم يسبوا إلى بابل- بإعادة تشكيل المجتمع اليهودي في
أورشليم، وأسسوا – تحت السيادة الفارسية- قومية جديدة مؤسسة- بأكثر مما كان الحال
في عهد الملكية السابقة – على المفهوم الثيوقراطي لعلاقة إسرائيل " بيهوه
" .

وفي
تلك الفترة تم جمع أسفار الشريعة والأنبياء والحكماء في مجموعة مقدسة واحدة حتى
التي تعرف بأسفار العهد القديم، وكانت " التوراة "(الشريعة) أبرزها من
الناحية التربوية. وكان المعلمون المعترف بهم في تلك الفترة يشملون الحكماء
والكتبة بالإضافة إلى الكهنة واللاويين.

(3) الحكماء: ليس من المقطوع به أن الحكماء والكتبة في فترة ما بعد السبي
كانوا طبقة واحدة أم طبقتين، إذ يعتقد عدد متزايد من العلماء أنهم كانوا طبقتين
متميزتين، وأن الحكماء يسبقون ليس الكتبة فحسب، بل- وعلى الأرجح جداً – جميع أنواع
العارفين بالكتب أيضاً، فقد كثرت التلميحات إلى وجودهم وعملهم منذ أقدم العصور في
كل من إسرائيل وسائر أمم الشرق. وقد سجل الكتاب المقدس أسماء الكثيرين من الحكماء
في تاريخ إسرائيل فيما قبل السبي(2صم 14: 1-20، 1مل 4: 31و32، إش 29: 10) مثل
الملك سليمان الذي كان يعتبره معاصروه والأجيال اللاحقة، أعظم شخصية تمثل الجماعة
الأولى من المعلمين والحكماء الذين سجلوا حكمتهم في صورة أمثال محكمة الصياغة،
بليغة العبارة، عميقة المعنى. إلا أن أكثر أسفار الحكمة تنتمي إلى فترة ما بعد
السبي. وهناك وصف رائع للحكماء ورد في سفر حكمة يشوع بن سيراخ:

هل تبحث عن  الكتاب المقدس تشكيل فاندايك وسميث عهد قديم سفر القضاة 10

" يبحث عن خفايا الأقوال السائرة، ويتبحر في ألغاز
الأحاجي، يخدم بين أيدي العظماء،ويقف أمام الرئيس، يجول في أرض الأمم الغربية،
فيختبر في الناس الخير والشر.

يبين
تأديب إرشاده، ويفتخر بشريعة عهد الرب، تحدث الأمم بحكمته، وتشيد الجماعة بحمده.
"

(حكمة يشوع بن سيراخ 39: 1-15،انظر أيضاً 1: 1-11)

(4) سفر الأمثال: يشكل سفر الأمثال مستودعاً للخبرة التربوية والحكمة وهو
بذلك – بعد التوراة-أقدم كتاب في التربية. فالحياة ذاتها-في رأي الحكماء-تهذيب، والوالدان
هما المعلمان والمربيان الطبيعيان للأبناء: " اسمع يا ابني تأديب أبيك ولا
ترفض شريعة أمك"(أم 1: 8، 4: 1-4، 6: 20، 13: 1) ويدور هذا التعليم الأبوي
حول " مخافة الرب " التي هي " رأس الحكمة ". والإخلاص في أداء
هذا الالتزام الأبوي له الوعد بالنجاح: ربِّ الولد في طريقه فمتى شاخ أيضاً لا
يحيد عنه"(أم 22: 6) وينبغي على الآباء في تأديبهم لأولادهم أن يتمسكوا
بالصرامة،ولا يترددوا في استخدام عصا التأديب عند الضرورة(أم 23: 13و14)، ولكن
عليهم أن يفعلوا ذلك بفطنة" لأن الانتهار يؤثر في الحكيم أكثر من مئة جلدة في
الجاهل" (17: 10). ويلي تأديب الابن في البيت، تقديم المزيد من التهذيب
والتعليم له على يد معلمين محترفين، لكل من يبغي تحصيل " الحكمة " والذي
بمقدوره توفير الوقت والنفقة لمثل هذا التعليم الخاص . ولم يكن المعلمون إلا
الحكماء الذين تُسمع كلماتهم في " الهدوء "(جا 9: 17) لأن " كلام
الحكماء كالمناسيس وكأوتاد منغرزة "(جا 12: 11)، وأقوال الحكماء تعلم
الاجتهاد(أم 6: 6-11)، والعفة(7: 5) والرحمة(14: 21)، والصدق (17: 7) وضبط النفس
في شرب الخمر(21: 17، 23: 20و21و29-35)، أن الهدف من كل تعاليم الحكمة،هو أن: "
تعطى الجهال ذكاءً والشاب معرفة وتدبراً يسمعها الحكيم فيزداد علماً والفهيم يكتسب
تدبيراً "(أم 1: 4و5
)

(5) الكتبة واللاويون: كان " السوفريم " أو " رجال العلم
" أو " الكتبة " مراجعين للكتب ومفسرين، بجانب قيامهم بنسخ
الكتابات القديمة والمعاصرة، ولكنهم لم يبرزوا كطبقة متميزة إلا بعد أن أفل نجم
الحكماء، وبعد أن استلزمت ضرورات الموقف وجود المزيد من المعلمين والتعليم، أكثر
مما كان في مقدور الكهنة واللاويين- المثقلين بواجبات طقسية متزايدة- أن يقدموه.
وقد جمع عزرا بين عمل الكاهن والكاتب(عز 7: 11، نح 8: 1و9). فنقرأ عنه أنه "
هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء "(عز 7: 10).
وكثيراً ما يظهر اللاويون كمعلمين للشريعة. وينبغي أن ندرك أن عمل الكتبة-كوظيفة
متميزة- ظهر بالتدريج، هو ما ينطبق أيضاً على المؤسسة التعليمية الدينية اليهودية
المتميزة. وهي " المجمع " الذي كانت نشأته وتطوره متزامنين مع هذه
الفترة. وكان تلاميذ الكهنة هم الفريسيون (أي الانفصاليون) الذين أصبحوا خلال
الفترة المكابية مميزين عن الجماعة الكهنوتية أي الصدوقيين.

(6) التأثيرات اليونانية والرومانية: كان غزو الاسكندر الأكبر لبلاد فارس
(332 ق.م.) بداية لظهور التأثير اليوناني في فلسطين . وقد زار الاسكندر نفسه
فلسطين، وربما أورشليم نفسها، وصادق اليهود ومنحهم امتياز الحكم الذاتي، والحفاظ
على تقاليدهم الاجتماعية والدينية، سواء في موطنهم أو في الإسكندرية التي أصبحت
المركز الجديد للثقافة اليونانية، الذي أسهم في تأسيسه كثيرون من اليهود. وفي أيام
البطالسة تغلغلت الأفكار والثقافة اليونانية إلى أعماق اليهودية في أورشليم، وهددت
بالقضاء على المؤسسات الاجتماعية والدينية لليهود. وكانت ثورة المكابيين في أيام (أنطيوكس
إبيفانوس "(174-164 ق.م.)، واستعادة ممارسة العبادة الصحيحة في الهيكل خلال
الجزء الأول من فترة المكابيين(161-63 ق.م.). كانت هذه الثورة رد الفعل الطبيعي ضد
محاولة السلوقيين الاستعاضة بالألعاب الأولمبية والمسرح اليوناني، عن المجمع
والهيكل اليهوديين(1مك 1، 3، 9، 13، 2مك 4-10). وقد شهدت نهاية الفترة المكابية
تصاعد الفريسية واليهودية الأرثوذكسية مع ظهور الاتجاهات اليونانية التي وجدت لها
مكاناً راسخاً في اليهودية، كما ظهر في " اللاأدرية " عند الصدوقيين
الارستقراطيين. وقد استحدث قيام السلطة الرومانية في فلسطين(63 ق.م.) عنصراً
حاسماً جديداً في الأحوال السائدة التي كان على اليهودية أن تبلغ في ظلها صورتها
المميزة. وقد نبغ الرومان في النواحي العملية، والتشريعية والتعليمية، كما برزوا
في التنظيم والإدارة، أما عقائدهم الدينية، فلم تكن توحي بأي نظرة متسامية إلى
الحياة العملية،بل كانت التربية بالنسبة لهم،مجرد إعداد لأداء واجبات الحياة
العملية، ومن ثم كان تأثير النفوذ الروماني على العبادة اليهودية، ملائماً لنمو
الفريسية الفردية الضيقة، بدلاً من تشجيع المثالية اليونانية. وبتدمير أورشليم على
يد الرومان، بعد أكثر من مائة عام(في 70م)، وتوقف العبادة في الهيكل، اختفى الصدوقيون
كطبقة مميزة، وأصبحت اليهودية –منذ ذلك الحين- ممثلة في الفريسيين المكرسين لدراسة
الشريعة. وفي هذه الأثناء – وخارجاً عن أورشليم وفلسطين- كانت المجتمعات اليهودية
في الإسكندرية وغيرها، أكثر ترحيباً بالثقافة اليونانية والتعليم اليوناني، كما
كان لها في الوقت ذاته تأثيرها الملطف للفكر اليوناني. وعلى كل حال، فمن خلال
تأثيرها على علم اللاهوت المسيحي والتربية المسيحية في العصور الأولى، تركت
الفلسفة اليونانية-بمدرسة الاسكندرية-أقوى بصماتها على مادة وأسلوب التربية
المسيحية في العصور اللاحقة.

رابعاً-
التربية في أزمنة العهد الجديد:

(من ميلاد المسيح حتى نهاية القرن الأول):

المدارس
الأولية: كانت التربية اليهودية في زمن المسيح من النوع التقليدي الأرثوذكسي، في
أيدي الكتبة والفريسيين والمعلمين المثقفين. واستمر البيت المؤسسة الرئيسية
للتعليم الأوَّلي، مع أن " المجامع " وما كان يلحق به من مدارس للصغار،
كانت موجودة في كل مجتمع يهودي هام. أما المدارس الأوَّلية العامة- بخلاف تلك
الملحقة بالمجامع- فكانت بطيئة النمو، ويبدو أنها لم تنتشر بكثرة إلا بعد أن أمر
" يشوع بن جمالا "رئيس الكهنة _63-65) بأن يُعيَّن المدرسون في كل ولاية
ومدينة لتعليم الأطفال الذين بلغوا من العمر 6 – 7 سنوات، وكان " الخازن
"أو المشرف في مدارس المجامع، كثيراً ما يعمل أيضاً ناظراً للمدرسة.

هل تبحث عن  هوت دستورى الإجهاض ض

(1) موضوع التعليم: كما حدث في الأزمنة الأولى، كانت " التوراة
"- التي أصبحت تطلق على كل أسفار العهد القديم المقدسة- هي مادة التعليم
والتهذيب، مع استمرار التركيز على الشريعة . أما في المدارس العليا (الكليات) فكان
يضاف إلى التوراة دراسة تفسير الشريعة(هاجاده) مع تطبيقها على الحياة اليومية في
صورة قانون أو قاعدة للسلوك(الهالاكاه). وتكوِّن " الهاجادة" و"
الهالاكاه" التلمود اليهودي، وهو مجموعة ضخمة من التعاليم اليهودية التقليدية
من العصور المتأخرة.

(2) الأسلوب والأهداف: وبالنسبة لأسلوب التعليم، فإن الكتبة والمعلمين في
زمن العهد الجديد، لم يدخلوا تحسيناً يذكر على ممارسات كتبة وحكماء القرون السابقة،
فكان الهدف الأساسي هو ترديد أقوال المعلم- عن ظهر قلب-أكثر منه علماً وثقافة.
ولما كان صوت النبوة قد توقف، وقد اكتملت أسفار الحق المعلن (الكتاب المقدس)، فإن
المعرفة الكاملة لهذا الإعلان المقدس وتفسيره، أصبحا هما الهدف من التربية في
جانبها الفكري، أما في جانبها العملي، فقد سعت –كسابق عهدها-إلى غرس عادات
المراعاة المتزمتة للطقوس، والطاعة الحرفية للناموس، كشرط للانضمام إلى جماعة
الإسرائيليين الحقيقيين المختارة، التي يعتبر الكتبة والفريسيون أنفسهم منها. ويدل
النجاح الذي حققته الأساليب التعليمية التي مكان يتبعها الكتبة والمعلمون، على
تفانيهم في عملهم، وعمق بصيرتهم السيكولوجية في استخدام كل وسيلة ماهرة وأسلوب لبق
لجذب انتباه تلاميذهم وتطويع ذاكرتهم للمنهج التربوي . وكانت عيوب عملهم-إلى حد
كبير-هي عيوب ذلك النهج، فكانت نظريتهم أو فلسفتهم في التربية ضيقة، وكانت عيونهم
أكثر التفاتاً إلى الماضي منها إلى الحاضر والمستقبل، وقد فشلوا في التمييز الصحيح
بين الذهب والخَبث في تعاليمهم الموروثة، أوفي التوفيق بينها وبين الاحتياجات
الحيوية الملحة لعامة الشعب. وفي صراع اليهودية ضد الأفكار والعادات الغريبة
والثقافات الأجنبية، لجأت إلى التقوقع داخل قوالب جامدة، أدت محاولة تطويرها
لتلائم الظروف الجديدة والنظام الاجتماعي دائم التغير، إلى فتاوى خادعة وسطحية،
والتي لم يبق من ذكر لها سوى مجموعة متراكمة من أقوال الحكمة المسجلة في التلمود
من القرنين الرابع والسادس بعد الميلاد.

(3) نتائج هامة للتربية اليهودية: رغم أن التربية اليهودية قد شابتها أخطاء
في كل من المادة والأسلوب، ومالت إلى تقييد الفكر بدلاً من تحريره،إلا أنها حققت
أربع نتائج هامة: (1) طورت التذوق للدراسة الدقيقة الناقدة. (2) شحذت العقول حتى
إلى درجة الانحراف. (3) شجعت توقير الشريعة وأثمرت سلوكاً اجتماعياً مطلوباً. (4)
شكلت رابطة وحدة قوية بين الشعب اليهودي.

ويمكن
أن يضاف إلى هذه النقاط الأربع التي حددها " دافدسون " نقطة خامسة هي: (5)
أن التربية اليهودية بتعليمها الملتزم عن وحدانية الله وتأكيدها – بصورة عارضة
أحيانا وبصورة بارزة أحيانا أخرى- على حياة البر والتقوى كشرط للشركة في ملكوت
المسيا الآتي، قد مهدت الطريق إلى النظرة المسيحية نحو العالم ونحو الله، النظرة
القائمة على الوضوح الأصيل في إطار تعاليم يسوع وبساطة إعجازه.

(4) يسوع أعظم معلم: كان يسوع أكثر من معلم، وكان يبدو في نظر معاصريه
معلماً ذا تأثير وشعبية خارقة للعادة. وقد استخدم أساليب التعليم التي كانت متبعة
في عصره، فجمع حوله مجموعة من التلاميذ المختارين . قام بتدريبهم وتعليمهم بصورة
خاصة ليستمر تعليمه وتأثيره من خلالهم. وكان أتباعه ينادونه " يا معلم"
و" يا سيد". وقد اعترف الكتبة والفريسيون بشعبيته وقوته. وكلن
يعلِّم-كما كان يفعل معلمو اليهود في زمانه-في أفنية الهيكل وفي المجامع وفي
الجلسات الخاصة، وفي الطرق العامة كيفما دعت الأحوال. وكان يستشهد-مثلهم- بالأسفار
المقدسة. وكان يستخدم في أحاديثه الأمثال وما يرتبط بها، لكنه كان يتكلم بقوة
وبسلطان، مما أثار الانتباه وأوحى بالثقة. وشجب التقاليد البالية من التمسك الحرفي
بالشريعة دون لبها، مستبدلاً ذلك بالاهتمام بالناس والإشفاق البالغ عليهم لشقائهم،
والإيمان الكبير بقيمة الإنسان والمصير الرفيع الذي ينتظره، والاهتمام البالغ
بتجديد الناس . ولئن قلنا إن يسوع كان أعظم وأسمى نموذج كمعلم، فما هذا إلا ما
يثبته كل بحث واختبار ومقارنة يمكن لعلم التربية الحديث أن يخرج به من دراسة
تعليمه العظيم وعبقريته الخلاَّقة. وما كان يراه معاصروه، بل وتلاميذه، كما في
مرآة، كان يراه هو بكل وضوح. ونظرته إلى الله والعلم والحياة البشرية والمصير
البشري، قد انتقلت عبر الأجيال باعتبارها إعلاناً إلهياً أعطاه الله للعالم في شخص
المسيح. وإذا نظرنا إليها من الجانب العقلي، نجد أن فلسفة حياة يسوع هي التي جعلت
تعاليمه خالدة. ومن الناحية الأدبية، كان العطف النابع عن المحبة الفائقة في خدمته،
هو ما جذب الجموع نحوه. وإذا قسنا الأمر من وجهة نظر الإرادة، فإن المثال الذي
عاشه، وهدف حياته ونقاوتها، واستعداده الدائم للمساعدة، كل هذه جعلت الجماهير
تتبعه. وإذ قسناه من جهة تأثيراته الاجتماعية المباشرة والدائمة، لوجدنا أن
التعليم والمثل الأعلى والنموذج الرفيع للأخوة البشرية والبنوة الإلهية، هي التي
جعلت من حياة يسوع نموذجاً للمعلمين العظماء للبشرية في كل زمان وجيل، فقد سما فوق
أفكار الناس المتصارعة والتيارات الاجتماعية والثقافية المتضاربة التي كانت سائدة
في زمانه، وأعادها إلى الحقائق الأساسية الراسخة التي نطق بها الأنبياء من قبل،
ووجَّه الإنسان نحو الهدف الأسمى للجنس البشري. ثم من خلال أحاديث مستقيمة واضحة،
خاطب ضمائر الناس وإرادتهم، واضعاً أمامهم نموذج الحياة العليا، وبصبر لا ينفد
أراد أن يرتفع بهم إلى مستوى الشركة معه في الفكر والعمل.

العمل
التربوي للتلاميذ الأوائل: بقيت لتلاميذ يسوع مهمة مواصلة خدمته التعليمية وتنظيم
القوى الجديدة لتحسين الأحوال البشرية. وفي هذا العمل الذي كان ذا طبيعة دينية
تربوية متميزة، وجد البعض مجالاً للعمل بين أخوتهم من اليهود، ووجد آخرون –مثل
بولس-مجالاً بين الأمم المحتجين(غل 1: 16، 2: 7، 1تي 2: 7). وبالنسبة لتقسيم العمل
في كنيسة عصر الرسل، نقرأ عن رسل وأنبياء ومبشرين ورعاة ومعلمين(1كو 12: 28، أف 4:
11). وكان الرسل القادة المتجولين المرسلين للكنيسة كلها، وكان عملهم تعليمياً إلى
حد كبير، فيقول بولس عن نفسه إنه معلم ورسول(2تي 1: 11، 1كو 4: 17). وكان الأنبياء
يحملون رسالة خاصة مثل أغابوس (أع 21: 10و11). وكان المبشرون كارزين متجولين كما
كان فيلبس (أع 8: 40)، بينما كان الرعاة- ويسمون أيضاً أساقفة- عليهم مسئولية
رعاية كنائس معينة. وكان المعلمون المتخصصون يضمون علمانيين وآخرين وضعت عليهم
الأيدي . وكان ينظر إلى عملهم باحترام كبير في الكنيسة والمجتمع. وعلى العكس من
العاملين المتجولين من رسل ومبشرين، كان المعلمون- مثل الرعاة- يقيمون بصورة ثابتة
في مجتمعات محلية. وكان كاتب رسالة يعقوب من هذا النوع، ويبدو أن الرسالة التي
كتبها تعكس مضمون تعليم المعلمين المسيحيين الأوائل. وكانت خدمة الرسل الكرازية
ذات صبغة تربوية. وعلى مدى هذه الفترة المبكرة من تاريخ الكنيسة، كان عمل الرسل
والمبشرين والمعلمين المتخصصين يتضمن قدراً معيناً من التعليم الديني والنظامي.

 

 

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي