زمن

 

مقدمة

بداية الزمن

1. "في البدء":

2. زمن وأزليَة:

أ) الزمن:

ب) الأزليّة:

العهد القديم

أولاً: الزمن الكوني

1. مقاييس الزمن:

2. تقديس الزمن:

ثانياً: الزمن التاريخي

1. الدورات الكونيّة والزمن
التاريخي:

2. تقديس الزمن التاريخي:

ثالثاً: نهاية الزمن

1. البداية والنهاية:

2. تصوّر العهد القديم عن نهاية
الزمن:

3. توقيت النهاية:

العهد الجديد

أولاً: يسوع والزمن

1. يسوع يحيا في الزمن التاريخي:

2. زمن يسوع هو ملء الأزمنة:

ثانياً: زمن الكنيسة

1. امتداد الزمن الاسكاتولوجي:

2. معنى زمن الكنيسة:

3. تقديس زمن الكنيسة:

ثالثاً: منتهى الدهور

1. الاسكاتولوجية المسيحية:

2. توقيت زمن النهاية:

 

 

مقدمة

يبدأ و يُختم الكتاب المقدّس، وحي الله العلي، بإشارات زمنية: " في
البدء، خلق الله السماوات والأرض " (تكوين 1: 1). "نعم إني آتٍ على عجل
" (رؤيا 22: 20). وهكذا فهو لا يقدّم لنا الله بصورة مجردة، أي في جوهره
الأزلي، كما نرى ذلك لدى أفلاطون وأرسطو، وإنَما يقدمه لنا خلال تدخّلاته على هذه
الأرض، مما يجعل من تاريخ العالم تاريخاً مقدّساً. ولهذا السبب، يستطيع الوحي
الإلهي أن يجيب على الأسئلة الدينيّة التي يطرحها الوجدان البشري بخصوص هذا الزمان،
المطبوع بطابع الصيرورة، ما دام أنّ هذا الوحي نفسه يتسم بالطابع التاريخي.

 

بداية الزمن

1. "في البدء":

يبدأ كتاب التكوين بذكر عمل الله الخلاق. هذا العمل يشكل بداية مطلقة، حتى
إنه انطلاقاً منه يرجع كل قياس زمنيٍ إلى نظام الأشياء المخلوقة. ويعتبر هذا
التصوّر للأمور تبديلاً كلياً لمفهوم "البدء"، كما نجده في الديانات
الوثنية المجاورة. فعلى سبيل المثال، في قصيدة الخلق البابلية، نرى الإله "
مردوك " يضع إطارات الزمن الكوني والبشري: الكواكب والنجوم ودورات الطبيعة،
وإذ ذاك يبدأ الزمن الفلكي القابل للقياس. ولكن، قبل ذلك، في زمن أوّلي يعدّ
بمثابة المثال النموذجي للزمن الآخر، كان للآلهة تاريخ هو التاريخ المقدّس الوحيد
الذي يعرفه الفكر البابلي، والذي يرجع إلى عالم الأساطير. فمن إلهين متزاوجين،
" أبسو" و"تيامات "، خرجت سلالات متعاقبة، ودار صراع بين
الآلهة، أدّى نهائياً إلى ظهور العالم والبشر. هكذا يندمج الآلهة مع الكون كله، في
أصل واحد، وكأنهم لم يتحرروا من طابع الزمن إلا بصفة جزئية.

وبعكس ذلك، قي كتاب التكوين يتجلى سموّ الله بصفة مطلقة: "في البدء،
خلق الله… " (تكوين 1: 1)، "يوم صنع الرب الإله الأرض والسماوات
" (2: 4). ليس هناك زمن أولي قد يدور فيه تاريخ إلهي، لأنّ صور الصراع الكوني
الرهيبة، حيث يواجه الله قوى الخواء (مزمور 74: 13 14، 89: 11)، لا تشير إلى
تاريخه تعالى، بل إلى تاريخ الكون الذي يتولّى هو ترتيبه.

هو عمل الحلق الذي يحدد البداية المطلقة لزمننا نحن. وهذا الزمن حسن، مثل
سائر الخليقة، ولكن كان وجود الله سابقاً لهذا الزمن. وما سوف يدور في الزمن هو
تحقيق قصده الأزلي الذي ينظم أولاً كلّ الخلق من أجل الإنسان، ثمّ يوجّه مصير
الإنسان نحو غاية خفيّة.

2. زمن وأزليَة:

أ) الزمن:

هو الزمن، باعتباره من صنع الله، يعطي الإطار للتاريخ البشري. وهذا واضح
منذ رواية الكتاب المقدّس عن الخلق. حقاً يمكننا أن نجد في أيام الخليقة السبعة
هدفاً تربوياً: في تلقّننا تقديم يوم السبت "، ولكنها تكفل أيضاً رؤية دينية
للزمن الذي يكتمل العالم خلاله شيئاً فشيئاً. فيدخل الله خلائقه تدريجياً في الزمن.
ورويداً رويداً، يمتلئ الإطار الذي سيستقبل في آخر الأمر الإنسان الذي يسبغ ظهوره
معنى لكلّ ما سبقه في الوجود. نرى من ذلك أنّ الزمن ليس شكلاً خاوياً أو مجرد
تعاقب لحظات متتالية، بل أنه مقياس مدة الأرض كما تظهر في الواقع: أولاً مدَة
كونية، يستقطبها مجيء الإنسان، ثمّ مدة تاريخية ينظمها تعاقب الأجيال وتسير فيها
البشرية نحو غايتها.

ب) الأزليّة:

يبقى الله متسامياً بالنسبة إلى هذه المدة المزدوجة. يحيا الإنسان في الزمن،
ويحيا الله في الأزل. واللفظة العبريّة "عولم" المترجمة بطرق مختلفة
(دهر، أزل، عالم…) تشير إلى مدّة تفوق القياس البشري حيث يحيا الله "إلى
الأبد"، "في دهر الدهور".

ولكي يوضح لنا الكتاب المقدس طبيعة هذه المدّة التي لا خبرة لنا بها،
يقابلها بنقيضها أي بالطابع المؤقت للزمن الكوني: إنّ ألف سنة في عينيك كيوم أمس
العابر وكهجعة من الليل (مزمور 90: 4)، وبالزمن البشري: "أيامي كظلّ مائل…
وأنت يا ربّ ثابت إلى الأبد" (مزمور 102: 12- 13). وإن تأمّلا من هذا النوع
ليشحذ الاحساس بالتسامي الالهي الذي يعبّر عنه بوضوح النصوص المقدسة المتأخرة.

فيما كان كتاب "التكوين" ينظر إلى الله "في البدء" في
عمله الخلاّق، نرى كاتب "الأمثال" يتأمل فيه قبل وجود الزمن، "منذ
الأزل"، عندما لم يكن بالقرب منه إلا "الحكمة" (أمثال 8: 22- 24).
وينذهل أيوب أمام هذه الأزلية (راجع أيوب 38: 4)، ويعلن صاحب المزامير: "من
الأزل إلى الأبد أنت الله" (مزمور 90: 2). وهكذا يفلح الكتاب المقدّس في
التوفيق بين فكرة التسامي الإلهي وبين تأكيد تدخّل الله في التاريخ، ويتجنّب بذلك
مأزقاً مزدوجاً: من ناحية، تأليه الزمن (الإله خرونس من بين آلهة اليونانيين)، ومن
ناحية أخرى، إنكار كلّ معنى للزمن إزاء الله، على نحو ما يفعل الإسلام.

العهد القديم

للزمن وجهان متوازيان في الاختبار البشري: وجه الزمن الذي تنظّمه دورات
الطبيعة (الزمن الكوني)، والزمن الذي يجري مع سير الحوادث (الزمن التاريخي). ويحكم
الله كليهما على السواء، ويوجّههما معاً نحو غاية واحدة.

أولاً: الزمن الكوني

1. مقاييس الزمن:

عيّن الله الخالق بنفسه النظام الدوري الذي تخضع له الطبيعة: تناوب النهار
والليل (تكوين (1: 5)، وحركات النيّرات التي تفصل بين النهار والليل (1: 14)،
وعودة الفصول (8: 22). إنّ رجوع هذه الدورات على فترات منتظمة علامة للترتيب الذي
وضعه الله في خلقه (راجع سيراخ 43). وقد أخذت جميع الشعوب هذه الدورات قاعدةً
لمقياس الزمن.

ومن وجهة النظر هذه، لايتميّز التقويم اليهودي بأيّ ابتكار، إلّ فيما يخصّ
اتّباع نظام الاسبوع الذي يختتمه يوم السبت. أمّا عن سائر الأمور الأخرى، فيقوم
على مقتبسات عديدة، ويبدو أنّه قد تغيّر كثيراً على مرّ العصور. وفي العهد القديم،
يتردّد التوقيت بين الحساب الشمسي والحساب القمري. إن تقسيم السنة إلى اثنى عشر
شهراً يطابق الدورة الشمسيّة. ولكنّ الشهر، من حيث أسمه وتقسيمه، فإنَّه يتبع
الدورة القمريّة، لأَّنَّه يبدأ بظهور الهلال (سيراخ 43: 6- 8).

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كينج جيمس إنجليزى KJV عهد قديم سفر صموئيل الأول I Samuel 30

بدأت السنة الاسرائيليّة أوّلاً في الخريف بشهر تشرين (خروج 23: 6، 34: 22)،
ثمّ في الربيع (نيسان) (خروج 12: 2). أمّا السنوات، فكانت تحسب أوّلاً طبقاً
لأحداث هامّة: تولية الملك (إشعيا 6: 1)، أو حوادث طبيعيّة (عاموس 1: 1). ولم يلجأ
اليهود إلى اختيار التوقيت بالعصور إلاّ في زمن متطأخر: عصر اسلوقيين (1 مكابيّين
1: 10، 14، 1، 16: 14). وأخيراً في زمن الرابيين، يظهر التقويم اليهودي الذي يبدأ
من خلق العالم.

2. تقديس الزمن:

ليس الزمن الكوني الذي يقاس في التقويم أمراً دنيوياً محضاً. إنّ كلّ
الديانات القديمة تعطيه طابعاً قدسياً. فهي تقرّر لدورات الطبيعة معنى مقدّساً،
لأنها ترى أن قدرات الهيّة تحكمها وتتجلّى خلالها. يحكم هذا التقديس الأسطوري
قائمة الأعياد: فهي تتبع تواتر الفصول والأشهر.

وقد شكّل هذا التصوير للأزمنة المقدّسة، بالنسبة إلى اسرائيل، تجربة
مستمرّة يشجبها الأنبياء (هوشع 2: 13). ولكن عندما أقصى العهد القديم من تقويمه
الديني كلّ الاشارات إلى الأساطير الوثنيّة، لم يستبعد هو أيضاً صفقة القدسية
الطبيعية في الدورات الكونيّة.

وقد احتفظ العهد القديم بالاحتفال برأس الشهر (1 صموئيل 20: 5، إشعيا 1: 13)،
وبعيد الفصح في الربيع (خروج 12). واحترام العادات الزراعية التي يشير إلى التقويم
الكنعاني: أعياد الفطير في الربيع، في بداية حصاد الشعير (خروج 23: 15، راجع تثنية
16: 8)، وتقدّمه البواكير (تثنية 16: 13، والحزمة الولى (لاويين 23: 1- 11)، ثم
عيد الحصاد الذي يسمّى بالأسابيع أو العنصرة (خروج 23: 16، 34: 22، لاويين 23: 16)،
وعيد جمع الغلاّت في الخريف، بابتهاجاته عند نهاية الموسم (خروج 23: 16، تثنية 16:
13، لاويين 23: 34- 43).

ولكنّ الوحي أسبغ شيئاً فشيئاً على هذه الاحتفالات التقليديّة مضموناً
جديداً، محوّلاً طابعها القدسي، إذ يجعل منها ذكريات الأعمال الله العظيمة في
التاريخ: يحفظ الفصح والفطير ذكرى الخروج من أرض مصر (خروج 12: 17 و26- 27)، ودخول
أرض كنعان (يشوع 5: 10- 12)، وتحفظ العنصرة ذكرى العهد في سيناء، ويحفظ عيد
المظالّ ذكرى الاقامة في الصحراء (لاويين 23: 43). ثم جاءت أعياد جديدة لتذكّر بأحداث
أخرى من التاريخ المقدّس (مثلاً عيد التجديد: 1 مكابيّين 4: 36- 59).

وبعد الدورة السنويّة، نجد مكاناً لدورات أخرى أكثر امتداداً: تقديم
الأعشار كل ثلاث سنين (تثنية 14: 28- 29)، السنة السبتية وسنة اليوبيل (لاويين 25).
ومن عيد إلى آخر، تجري دورة الأسابيع المنتظمة. وأخيراً، تأخذ الدورة اليومية
نفسها طابعاً قدسياً حيث تفرض كتب الطقوس ساعات معيّنة لاقامة الذبائح والقرابين
والصلوات (2 ملوك 16: 15، حزقيال 46: 13- 14، عدد 28: 3- 8).

وهكذا تنحصر كل حياة الانسان بمجموعة طقوس تقدّسها. ويعطي اليهود التقويم
المقدّس أهمية كبرى لدرجة أنهم اعبروا أنطيوخوس أبيفانيوس مقاوماً لله نفسه، عندما
حاول النيل منه (دانيال 7: 25، 1 مكابيّين 1: 39 و43 و55)، عندما شاء أن يستيدل
بتقديس الزمن المقرّر في الوحي تقديساً ذا طابع وثني.

ثانياً: الزمن التاريخي

1. الدورات الكونيّة والزمن التاريخي:

يخضع الزمن الكوني للنظام الدوري. وقد تأثر الفكر الشرقي واليوناني بتداخل
الحياة البشريّة في دورات الكون هذه، إلى حدّ أنه جعل من العودة الأزلية للأشياء
قانوناً أساسيّا للزمن. ودون أن يذهب كتاب الجامعة إلى اعتماد هذه النتيجة على
المستوى الكياني، فقد تأثَّر تأثُّراً بالغاً بهذا الأمر عينه. إنّ الحياة البشرية
تسيطر عليها أزمنة حتميّة، إذ "للولادة زمنها وللموت زمنه" (جامعة 3: 1-
8)، وتكرار مستمرّ لنفس الأحداث "ما كان فهو الذي سيكون، وما صنع فهو الذي
سيصنع" (1: 9، 3: 15).

وهكذا ترتسم حدود الجهد البشري بل يصبح أيضاً من العسير ادراك عمل العناية
الإلهيّة، خلال عودة الأشياء الأزلية. ولكن تشكّل هذه النظرة التشاؤميّة الاستثناء،
لأن للكتاب المقدّس مفهوم آخر للزمن، يطابق تصوّره للتاريخ.

لايخضع التاريخ لقانون العودة الأزلية، بل يوجهه، أساساً، تدبير الهي ينتشر
تدريجياً، خلاله وفيه يتجلّى. فيتشكّل التاريخ بأحداث ذات طابع فريد لا تتكرّر بل
ترسب في ذاكرة الناس. وإذ الإنسانيّة رويداً رويداً باختباراتها المتعددة، تصبح
قادرة على الارتقاء. يختلف عندئذ الزمن التاريخي في نوعيّته عن الزمن الكوني الذي
يجاريه، مع تحويله على صورة الإنسان.

لهذا الزمن التاريخي مقاييسه الخاصّة المرتبطة بالحياة البشريّة. ففي البدء،
كتن مفهوم الزمن مرتبطاً في اسرائيل يتصوّره الأسرة: فيؤرَّخ بالأجيال (ولفظ
توليدوت العبري يشير بالفعل إلى التاريخ (تكوين 2: 4، 5: 1 الخ). وابتداء من زمن
الملوك، أخذ الحساب يجري بموجب سنة تولّيهم الملك. ولم يعرف الحساب بموجب العصور
إلاّ في عهد متأخرّ، وخلال هذه التقديرات التاريخيّة، أخذت تظهر أكثر من مرّة نزعة
إلى استعمال الأرقام. ولكن، لعدم وجود مقاييس موثوق بها، لاتنطبق الأعداد المذكورة
مع متطلبات التاريخ الحديث.

فبعض الأعداد تقريبيّة أو إجماليّة (مثلاً الأربعمائة سنة، الوارد ذكرها في
تكوين 15: 13). وهناك أخرى ليس لها إلاّ قيمة رمزيّة (كعدد 365 سنة في حياة أخنوخ،
تكوين 5: 23). ولنّها تبيّن مع ذلك مدى اهتمام الكتبة الملهمين بإظهار تدخّل الله
في الزمن.

2. تقديس الزمن التاريخي:

في الديانات الوثنيّة، ليس للزمن التاريخي طابع قدسيّ، إلاّ بقدر ما يجدّد
حادث خاصّ بتاريخ الآلهة السابق للخلق، مثلما تفعل دورات الطبيعة. فنحن هنا بصدد
قدسيّة أسطورية. وفي هذا الشأن، يأتي وحي الكتاب المقدّس بتجديد جذري. ففيه يتجلّى
الله بواسطة التاريخ المقدّس، وهو الذي يحيك احداثه. لذلك يتخذ الزمن الذي تجري
فيه الأحداث قيمة مقدّسة: لا لأنه يعيد الزمن الأوّلي الذي تمّ فيه خلق العالم
بطريقة نهائية، ولكن لأنّه يأتي بجديد، معتعاقب مراحل تدبير الله فيه، تحمل كل
منها معناها الخاصّ.

وما يعطي معنى لكلّ هذه اللحظات في الزمن، ليس على كلّ حاك تشابك العوامل
التاريخية التي تتلاقى فيها والتي لا يعيرها الكتاب المقدس اهتماماً كبيراً، وإنما
هو المقصد الالهي وحده الذي يوجّهها نحو غاية سريّة، حيث سوف يبلغ الزمن، في الوقت
نفسه، نهايته وملئه.

ثالثاً: نهاية الزمن

1. البداية والنهاية:

إن التاريخ المقدس الذيَ يشمل كل مصير شعب الله يمتدّ بين أجلين متلازمين: بداية
ونهاية. فالفكر القديم عدما تمثل الكمال البشري، وضعه بصنعة عامة في بدء العالم،
كما في عصر ذهبي " أعقبه تدهور تدريجي بمرور الزمن. وقد تطلع هذا الفكر
أحياناً إلى إحياء هذا العصر الذهبي مع رجوع السنة الكبرى التي يذكرها الشاعر
فرجيل. واقي لا تزل تنم عن مفهوم دوري للزمن.

ويجعل الكتاب المقدس بدوره في أصول الإنسانية كمالاً أولياً (تكوين 2).
ولكن بالنسبة إليه لا يرجع أبداً فقدان هذه الحالة الأولية إلى حركة طبيعية لتطور
كوني ولكنه يرجع كل الدرامة إلى خطيئة الإنسان. منذ ذاك الحين. تتخلل التاريخٍ
حركتان متضادتان: فمن جهة. نلاحظ فيه تصاعداً تدريجياً للشر وانحطاطاً روحياً. مما
يدعو حتماً إلى دينونة الله. هكذا كان الحال فيما قبل التاريخ. منذ البداية حنى
الطوفان الذي يعتبر مثالاً لكل دينونة آتية. مما يتيح للكتب الرؤيوية أن تمدَ إلى
الحاضر والمستقبل هذا التأويل التشاؤمي للزمن (دانيال 2: 7). ولكن، من جهة أخرى
نلاحظ أيضاً صيراً حثيثاً نحو الخير يمهد لا محالة لخلاص البشر، وهكذا كان الأمر
في الماضي، فيما قبل التاريخ، عندما اختار الله نوحاً ليخلّصه ويبت عهداً معه.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد قديم سفر طوبيا الأنبا مكاريوس أسقف عام 07

وهذا ما سيتمّ أخيراً عندما يعود ا الكمال الأصلي على الأرض في نهاية
التاريخ المقدس. وذلك بالتأكيد ليس مجرد رجوع تلقائي إلى الأصول، ولكن بعمل سام من
في الله الذي يتولّى في الوقت نفسه دينونة العالم الخاطئ وخلاص الأبرار فحتى يخلص
الأنبياء بني إسرائيل من إغراء الوثنية ونظرتها إلى التاريخ البشري، سوف يلحون على
نهاية الزمن وما يتطلّبه من استعدادات أدبيّة.

2. تصوّر العهد القديم عن نهاية
الزمن:

يشكّل يوم الربّ أول تعبير صريح خاص بآخر الأزمنة (عاموس 5: 18، إشعيا 2: 2ا)،
يظهر أولاً كتهديد وشيك مستمرّ، معلَق فوق العالم الخاطئ. ومع ذلك فتوقيته محدود،
إلا أنه يظل محفوظاً ضمن أسرار الله. ويكتفي الأنبياء لتعيينه بعبارة "آخر
الأيام! (إشعيا 2: 2)، أو يقابلون بين "الزمان الأول" أي الماضي،
و"الزمان الأخير" الذي سوف يكون نقيضاً له (إشعيا 1: 9).

سوف تنتهي الحقبة الحالية. فترة العالم الخاطئ، بحدوث دينونة نهائية. فيبدأ
حينذاك عهد جديد، تقدم لنا عنه النصوص أوصافاً خلابة: عهد عدل وسعادة يدخل ثانية
على الأرض كمال الفردوس- 8 (هوشع 2: 20- 22،إشعيا 11: 1- 9).لن يكون هناك سبيل إلى
قياس مشترك بين المستقبل والزمن الحاضر. على أن الأنبياء. في البداية، لم يقيموا
فصلاً جذرياً بين الاثنين-: فالأزمنة الجديدة، ذات المدة غير المحدودة (إشعيا 9: 6)
سوف تتوَج التاريخ، دون الارتفاع عن ذات مستواه.

وبعد السبي يتوضح الفرق تدريجياً بين الدهر أو (العالم) الحاضر وبين "
الدهر الآتي ": سوف يفتتح هذا الأخير بخلق سماوات جديدة ز" أرض جديدة
" (إشعيا 65: 17)، وبعبارة أخرى سوف يقوم الدهر الآتي على مستوى جديد تماماً،
مستوى الأسرار الإلهية التي تتميز الكتب الرؤيوية بمحاولة كشفها.

3. توقيت النهاية:

تتطلع الرؤى بلهفة نحو هذا الأجل (دانيال 1- 9: 2). " وقت الانقضاء
" (11: 40)، الذي يترجاه اليهود وينتظرونه بفارغ الصبر. وتتوقع الرؤى دائماً
هذا الآجل في مستقبل قريب، يعقب، بدون تمهيد، الواقع الذي يعيشونه. ولكن "
الأزمنة والآونة " التي حددها الله لا تزال سره الخاص (راجع أعمال 1: 7).

والأعداد التي يعرضها الأنبياء في هذا الصدد، تعتبر .بمثابة رموز، منها
السبعون سنة التي يذكرها إرميا (إرميا 29: 10)، والسبعون أسبوعاً من السنوات التي
يذكرها دانيال (دانيال 9)، وهى حقبات ترتبط معناها بمعنى السنة السبتية وسنة
اليوبيل (راجع إشعيا 61: 2، لاويين 25: 10). وهكذا يتميز إعلان الكتاب المقدس عن
الأزمنة الأخيرة تمييزاً تاماً عن الاجتهادات الفكرية الاسكاتولوجية التي تنشأ
دوماً على أثر الحقبات المضطربة.

لا يحدد العهد القديم بطريقة حسابية التاريخ الذي سوف يولد فيه يسوع المسيح
أو ميعاد نهاية العالم. ما يهمه بالأحرى هو إعطاء رؤية عميقة للزمن في جملته- من
حيث الماضي والحاضر والمستقبل- تكشف عن اتجاهه السري، وتبين معناه الخاص. فلن يحصل
منها الإنسان على معرفة ترضي فضوله القلق، بل على إدراك المتطلبات الروحية التي
يقتضيها عمره.

العهد الجديد

أولاً: يسوع والزمن

1. يسوع يحيا في الزمن التاريخي:

مع ظهور يسوع، حلّت النهاية التي كانت تتّجه نحوها الأزمنة التمهيدية.
يندرج هذا العمل الإلهي الأخير في مدة تاريخية معيّنة بكل دقة. ولد يسوع "
على عهد الملك هيرودس " (متى 2: ا). و بدأت كرازة يوحنا "في السنة
الخامسة عشر من ملك القيصر طيباريوس (لوقا 3: 1)، و" شهد (يسوع) أحسن شهادة
بمحضر من بيلاطس البنطي " (1 تيموتاوس 6: 13). وحيث إن هذا الاعتراف يشكل
أخطر حدث في التاريخ المقدس وقد تحقق " مرّة واحدة " (رومة 6: 10،
عبرانيين 9: 12)، فانّ كلّ إقرارات الإيمان المسيحية تذكر توقيته خلال الزمن
البشري.

وقد قبل يسوع أثناء حياته على الأرض، أن يمرّ بالفترات الطبيعية التي
يستدعيها كل نضج إنساني (لوقا 2: 40 و 52). فلقد شاركنا تماماً في اختبارنا للزمن
إلا أنّ وعيه النبوي يجعله يسود سير الأحداث، إلى حد أنه كان يحيا وعيناه شاخصتان
أو الموت الذي "لا بد" أن ينتهي إليه، ليقوم بعده من بين الأموات (مرقس
8: 31، 9: 31، 10: 33- 34//). هذه هي ساعته (يوحنا 17: ا) التي منعته الطاعة للآب
أن يَستَبِقَها (يوحنّا 2: 4).

2. زمن يسوع هو ملء الأزمنة:

إنه لأمر جوهري أن نفهم معنى زمن يسوع. فمنذ بدابة كرازته، قد أعلن هذا
المعنى بوضوح: " تم الزمان واقترب ملكوت الله "(مرقس 1: 15، راجع لوقا 4:
ا 2).. ولذلك، فطوال رسالته، يحثّ يسوع سامعيه على إدراك علامات الزمن الذي يجيئون
فيه (متّى 16: ا 3).. وأخيراً، سيبكي على أورشليم لأنها لم تعرف زمن افتقادها من
لدن الله (لوقا 19: 44).

لذا فإنّ يسوع يتوج انتظار اليهود، به قد "تم الزمان" (غلاطية 4:
4، أفسس 1: 10). وقد أدخل في تاريخ إسرائيل هذا العنصر النهائي الذي ستبرزه بكل
وضوح بشارة الإنجيل. "أمّا الآن، فقد ظهر برّ الله بمعزل عن الشريعة، تشهد له
الشريعة والأنبياء" (رومة 3: 21).

فخلال تحقيق تدبير الله، وقع حدث يقسم تاريخ البشر بلفظتي " قبل
" و" بعد ": و" اذكروا أنكم كنتم يومئذٍ من دون المسيح…
غرباء عن عهود الموعد" (أفسس 2: 12)، "فها هوذا اليوم قد صالحكم في جسده
البشري" (كولسي 1: 22). لا يتوسط إذاً زمن المسيح المدة الأرضية فحسب، ولكنه،
إذ يقود الزمن نحو تمامه، يسود عليه بكل أبعاده.

ثانياً: زمن الكنيسة

1. امتداد الزمن الاسكاتولوجي:

كان العهد القديم ينظر إلى نهاية الزمن في صورة إجمالية، بمعنى أن تدبير
الله سوف يبلغ إلى غايته، عندما يقيم على الأرض في الوقت نفسه الدينونة والخلاص.
وقد أدخل العهد الجديد عناصر متشعبة داخل هذه النهاية. مع المسيح، قد تحقق حدث
الزمن الحاسم "إلا أنه لم يأت بعد بكل ثماره. فبمجيئه، بدأت فقط الأزمنة
الأخيرة، ولكن انطلاقاً من القيامة، سوف تمتد بطريقة لم يعلن عنها الأنبياء والرؤى
بوضوح.

هل تبحث عن  ئلة مسيحية المجوس عبدة النار وملك اليهود د

وقد أتاح لنا السيّد المسيح أن نستشفّ خلال أمثاله سير الملكوت نحو اكتمال
آتٍ مستقبلاً، يقتضي لبلوغه مدة من الزمن (متى 13: 30، مرقس 4: 26– 29). و بعد
القيامة، يكلف يسوع رسله بمهمة تفترض هي أيضا ًامتداد الفترة الاسكاتولوجية (متى
28: 19- 20، أعمال ا: 6 – 8) .

أخيراً، يُميز حادث الصعود بوضوح بين الزمن الذي فيه يجلس يسوع عن
"يمين الله " وبين الزمن الذي فيه يعود في مجده، لإتمام تحقيق المواعيد
النبوية (أعمال ا: 11). ويحلّ، بين الاثنين، زمن أوسط، يختلف نوعيّاً سواء عن
" زمن الجاهلية! الذي كان الوثنيّون غارقين فيه (أعمال 17: 30)، أم عن زمن
التأديب الذي كان يعيش في ظله حتى ذلك الوقت الشعب الإسرائيلي (غلاطية 3: 23- 25،
4: ا- 3). وهذا الزمن هو زمن الكنيسة.

2. معنى زمن الكنيسة:

يتمتع زمن الكنيسة بأكبر الامتيازات. فهو زمن الروح (يوحنا 16: 5- 15، رومة
8: 15- 17)، الزمن الذي نبلغ فيه البشارة إلى جميع الناس، يهوداً كانوا أم وثنيين،
حتى يمكنهم أن ينعموا بالخلاص. وهذا الزمن يحمل طابعاً عجيباً حقاً. فمن جهة، فهو
ينتمي إلى نظام الأمر النهائي الذي أنبأت عنه الكتب المقدسة. فبالنسبة إلينا نحن
الذين دخلنا بالعماد في هذا الزمن، قد بلغنا "منتهى الأزمنة" (1 كورنتس
10: 11). ولكن من جهة أخرى، فهو يتواجد مع "هذا الدهر" (تيطس 2: 12)
الذي لابدّ له من الزوال، كما سوف تزول صورة هذا العالم (1 كورنتس 7: 29- 31).

وبالنسبة إلى كل انسان، يشكّل الاهتداء إلى انجيل يسوع المسيح تغييراً من
عصر إلى عصر، فهو عبور من "العالم الخاضر" إلى "العالم الآتي"،
من الزمن القديم الذي يسارع نحو انهياره إلى الزمن الجديد الذي يسير نحو تمام
ازدهاره. وتأتي أهميّة زمن الكنيسة من أنّه يمكننا من هذا االعبور. هو
"الوقتالمرتضى، "يوم الخلاص" الذي وضعه الله منذ الآن في متناول
الجميع (2 كورنتس 6: 1- 2). هو اليوم الذي يدعو الله فيه كل انسان إلى الاهتداء،
والذي يجدر بنا أن نصغي فيه إلى الصوت الإلهي (عبرانيين 3: 7 إلى 4: 11).

ومثلما كان في العهد القديم، يسيرتدبير الله طبقاً لمقاصد الله السريّة،
هكذا يخضع زمن الكنيسة هو أيضاً إلى مخطط ما نستشفّ تدبيره من خلال بعض النصوص
الكتابية. سوف يكون أولاً "عهد الوثنيّين" الذي يحتوي على اعتبارين: من
جهة، "تداس أورشليم (رمز اسرائيل القديم كلّه) تحت أقدام الوثنيّين"
(لوقا 21: 24)، ومن جهة أخرى، سوف يهتدي هؤلاء الوثنيّون أنفسهم تدريجياً إلى
الانجيل (رومة 11: 25).

ثم يأتي زمن اسرائيل: وحينذاك بدوره، "ينال الخلاص اسرائيل
بأجمعه" (رومة 11: 26). وعند ذلك سوف تكون النهاية. هكذا سيكون سرّ الزمن، في
تداوله،شاملاً تاريخ البشريّة بأسره. ويسود يسوع على التاريخ، ولذا هو الوحيد
القادر على أن يفتح الكتاب المختوم بسبعة خواتم، التوب فيه أقدار العالم (رؤيا 5).

3. تقديس زمن الكنيسة:

يحمل زمن الكنيسة في حدّ ذاته طابعاً قدسياً، وذلك لمجرّد انتمائه إلى
"العالم الآتي". ولكنّنا نعلم أيضاً أنه، لكي يقدس البشر الزمن فعليّاً،
ينبغي أن يظروا ذك بعلامات منظورة، مثل "الازمنة المقدسة"
و"الأعياد الدينية" التي يتّفق عودتها مع دورة الزمن الكوني المنتظمة.
وكان العهد القديم من قبل قد وجد متبعاً جديداً لقدسيّة هذه العلامات، في أحياء
ذكرى الأحداث الكبرى في التاريخ المقدّس.

ومنذ مجيء المسيح على الارض، لم يعد لهذه الأحداث إلاّقيمة الرمز، لأنّ
حادث الخلاص قد اندرج في الزمن التاريخي. فهذا هو الحادث الفريد الذي تجدده
الكنيسة في دورات تقويمها الطقسي من أجل تقديس الزمن البشري. فكل يوم أحد وهو يوم
الرب (رؤيا 1: 10، اعمال 20: 7، 1 كورنتس 16: 2) يصبح في اطار الاسبوع احتفالاً
بقيامة يسوع. ويأخذ الاحتفالطابعاً أكثر جدلاً عندما يحلّ سنوياً يوم الفصح وهو
العيد الأسمى (1كورنتس 5: 8) الذي يعيد ذكرى موت الربّ وقيامته (راجع 5: 7).

فهكذا نجد في العهد الجديد الخطوط العامّة الأوّلية للدورات الطقسيّة
المسيجيّة التي سوف تنمو وتتّسع في الكنيسة. وبهذه الطريقة، سو ترتبط كلّ الحياة
البشرية بسرّ الخلاص الذي تحقق في التاريخ، هذا هو الزمن الحقيقي المثالي الذي
يحلّ أخيراً محل " الزمن الأوّلي"، المذكور في الأساطير الوثنيّة.

ثالثاً: منتهى الدهور

1. الاسكاتولوجية المسيحية:

ولكّن زمن الكنيسة لا يكتفي بذاته. فإن كان داخلاً منذ الآن بالنسبة إلى
العهد القديم، في حقبة من حقبات "الازمنة الاخيرة"، إلاّ أنه مع ذلك،
ينزع نحو كمال يقبل، ويتطلّع نحو أجل، هو يوم الربّ. فالآن، وقد قبل البشر الروح،
تنتظر الخليقة بأسرها، بفارغ الصبر، تجلّي أبناء الله النهائي وافتداء اجسادهم
(رومة 8: 18- 24). حينذاك، يكتمل عمل المسيح الذي هو الألف والياء وهو
"الكائن والذي كان والذي سيأتي" (رؤيا 1: 8).

وفي ذلك اليوم، ينتهي معاً كلّ من الدهر الحاضر وزمن الكنيسة. الأوّل
بسقوطه في كارثة نهائيّة، عندما يريق الملاك السابع كوبه ويدوّي صوت يقول: "قضي
الأمر" (16: 17). والثاني ببلوغه إلى تجديده التامّ، عندما تظهر السماوات
الجديدة والأرض الجديدة (21: 1)).وهناك لن يكون شمس ولا قمر لتعيين الزمن، مثلما
كانت الحال في العالم القديم (21: 23)، لأنّ البشر يكونون قد دخلوا في عالم الله
الأزلي.

2. توقيت زمن النهاية:

لم يكشف يسوع عن اليوم الذي يتم فيه منتهى الدهور، أي نهاية العالم. فهذا
سرّ لا يعرفه إلاّ الآب (مرقس 13: 32//). وليس للبشر أن يعرفوا "الأزمنة
والآونة التي وقتّها الآب بذات سلطانه" (أعمال 1: 7). وقد عاشت الكنيسة
الأولى، وهي ترجو بحرارة مجيء الرب الثاني، متوقعة دوماً حدوثه الوشيك: " إن
الزمان يتقاصر" (1 كورنتس 7: 29)، و" إن الخلاص الآن أقرب إلينا منه يوم
آمنا. قد تناهى الليل واقترب النهار " (رومة 13: 11- 12).

وكان هذا الشعور قوياً إلى حدَ أن بولس، رغم استعماله مثل هذا الأسلوب، قد
اضطر أن يحذر أهل تسالونيكي من كل محاولة تحديد بدقة لليوم المقدّر (2 تسالونيكي 2:
ا- 3). فرويداً رويداً، بمرور الزمن، أدرك الناس من خلال خبرتهم امتداد
"الأزمنة الأخيرة". ولكن ظلّت فكرة مجيء الرب القريب عنصراً أن أساسيّاً
في مقومات الرجاء: سيأتي ابن الإنسان كاللص ليلاً (متى 24: 43، 1 تسالونيكي 5: 2،
رؤيا 3: 3).

إن زمن الكنيسة الذي نعيشه الآن يتميز هو ذاته بعلامات تنبئ بنهايته (2 تسا
لونيكي 2: 3- 12، رؤيا 6 إلى 19). فهكذا يكمل العهد الجديد النظرة النبويّة
للتاريخ البشري التي سبق أن رسم العهد القديم خطوطها الأوّلية.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي