أركيولوجي

 

علم
النقد

 

والأركيولوجي
هو علم دراسة الآثار القديمة، وسنقصر بحثنا هنا على ماله ارتباط بالكتاب المقدس،
وهو لا يتناول فقط الحقائق القديمة – التي لها صلة بالكتاب والتي كانت قد اختفت ثم
اكتشفت مرة أخرى – ولكنه يتناول أيضاُ ما وصلنا من الكتابات القديمة التي لها صلة
بالكتاب المقدس، ويتناول في الدرجة الأولي الكتاب المقدس نفسة
.

 

وعلم
النقد – أي فن انعام النظر والفحص الدقيق – الذي يقتصر على ماله صلة بالكتاب يسمي
" بالنقد العالي "، والمقصود من هذا البحث هو بيان تأثير الكشوف
الأركيولوجية المتعلقة ببلاد الكتاب المقدس، في علم النقد العالي . ومن هنا فالأمر
يتطلب مناقشة الموضوع من زاويتين وهما: وظيفة علم الأركيولوجي في النقد، وما فعله
علم الأركيولوجي ونتائج أدلته الأثرية، أي تأثيره في النقد الكتابي
.

 

أولا:
وظيفته: لقد بدأ مؤخراً جداً الاهتمام بعلاقة علم الأركيولوجي بالنقد الكتابي، وقد
تباينت الآراء حوله كثيراً
.

 

1- تجاهلته دوائر المعارف الكتابية، فلم توله اهتماماً كبيراً حتى وقت
قريب، فكانت تكتفي بذكر أسماء الكتب والمراجع أو ببعض المقالات العابرة، ولكننا لا
نجد فيها شيئاً على الاطلاق عن دور أو وظيفة الأركيولوجي في النقد
.

2- اختلاف تقييم النقاد له: لقد اختلف النقاد كثيراً في تقييم أثر
الأركيولوجي في النقد باختلاف أمزجتهم ونظرياتهم في النقد . ولم يكن لعلم
الأركيولوجي دور بارز في مجال النقد، ولكن يبدو أن فلهاوزن ينبر على أهمية علم
الأركيولوجي في النقد في بداية كتابه " تاريخ إسرائيل "، وان كان يتجاهل
ذلك في الصفحات التالية من الكتاب (تاريخ إسرائيل – 12)، ويرى " درايفز
" في كتابه " النصوص والأركيولوجي " (ص 143 – 150) " أن شهادة
الأركيولوجي تكون أحياناً هي الشهادة الحاسمة في الموضوع .. ولكن كثيراً ما يساء
فهمها وهذا أمر غريب " . ويعتقد " أور " أن علم الآثار لا بد أن
يهيمن على الدراسات النقدية والتاريخية، ويختلف " إردمانز " مع مدرسة
فلهاوزن في النقد، على أساس أن علم الآثار قد هدم وجهة نظرهم والجو التاريخي الذي
أحاطوا به العهد القديم . ويعتقد " وينر " – وهو أشهر النقاد اليهود في
العصر الحديث – أن الفهم الصحيح لطبيعة النظم القديمة والعادات والوثائق، أي علم
الأثار وبخاصة المرتبطة بالكتاب نفسه، هو عامل حاسم في الموضوعات التي أثارتها
مدرسة فلهاوزن في النقد
.

 

3- دفاع علماء الآثار: لقد أعطي علماء الآثار لاكتشافاتهم أهمية عظمي في
الدراسات النقدية وما يدور حولها من جدل
.

 

ودور
علم الأركيولوجي في الدراسات النقدية يتلخص في:

الوضع
التاريخي: فعلم الآثار يقدم لنا الخلفية التاريخية الحقيقية للكتاب . فمثلاً عند
نقد أي صورة، يلزم تعليق الصورة بطريقة صحيحة أولاً، قبل الشروع في نقدها . ولا
يختلف الأمر عن هذا كثيراً في الدراسات النقدية الأدبية، وبخاصة فيما يتعلق
بالكتاب المقدس . فالآباء والأنبياء وكتبة المزامير هم " الأساتذة القدامى
" للكتابات الروحية والأدبية والدينية، وقدجاء نتاجهم الروحي والأدبي نتيجة
ظروف اجتماعية وسياسية وأدبية ودينية معينة، فقد كانت تحيط بهم عوامل مؤثرة مختلفة،
من أعداء وظروف خاصة وخبرات متنوعة وامتيازات روحية، وعلم الآثار وحده هو القادر
على أن يعلق الصورة في وضعها الصحيح
 ، وعندما توضع الصورة في مكانها الصحيح، يمكن لعلماء النقد أن
يقوموا بعملهم . والنقد لا يعتبر نقداً صحيحاً إلا متى علق علم الآثار الصورة في
وضعها الصحيح
.

 

4-افتراضات – توجيه لطرق البحث: يقدم علم الآثار
للنقد توجيهاته في طرق البحث، فالافتراضات لازمة لتركيبنا الفكري، وضرورية لدراسة
أي موضوع حيث أنه لا يمكن دراسة كل المواضيع في وقت واحد، ولكن من الطبيعي – إلى
حد بعيد
أن
تأتي افتراضاتنا نتيجة لخبرتنا وبيئتنا إلى أن نحصل على معلومات أخرى . وعلم
الآثار هو القادر وحده على أن يقدم لنا معلومات جديدة عن الظروف الصحيحة لبعض
الأجزاء الكتابية . وواضح أن هذه الأجزاء الكتابية لا يمكن الجزم بصحة ما يفترضه
النقد إلا بما يقدمه علم الأثار من معلومات
.

 

5-القواعد: يوجهنا علم الآثار (الأركيولوجي) إلى
قواعد النقد، فمن أهم الأمور أن يحكم في الكتابات الأدبية بمقتضى القواعد المتبعة
عند أرباب هذه الثقافة . والكتابات العديدة الباقية من مصر وبابل تكشف عن أساليب
ومعايير تختلف في إحداهما عن الأخرى، وبالأولي عن المعايير المتبعة في الأدب
الغربي الحديث، ولكنها تبين لنا – إلى مدي بعيد – الخصائص المميزة للعهد القديم .
ففي الكتابات البابلية يبدو الاهتمام الكبير بالدورات التاريخية، بينما لا يحظى
ترتيب الأحداث باهتمام كبير في الكتابات المصرية، وقلما تهتم بالدورات التاريخية،
فهي إما متزامنة أو حولية . ويوجد مزيج من كل هذا في العهد القديم . وفي الكتابات
البابلية تبدو العناية والتزام الدقة إلى حد ما، أما في الكتابات المصرية فكثيراً
ما يبدو الاهمال وعدم الدقة . أما أسفار العهد القديم فتمتاز – في هذه الناحية –
بصورة رائعة عن كل الكتابات القديمة الأخرى، ومع ذلك لا توجد أبداً في الأدب
الشرقي القديم هذه الدقة الحسابية في التعبير التي يلتزمها الأدب الغربي اليوم .
وفي الجانب الآخر نجد الكثير من الإيجاز وعدم الترابط في الأسلوب الأدبي، مما
يجعلها تبدو أمام العقلية الغربية مجرد مقتطفات أو شظايا وليست وثائق كاملة . ومحاولة
دراسة الأدب الشرقي في الكتاب المقدس أو خارج الكتاب المقدس بتطبيق قواعد ومعايير
الأدب الغربي، لا تقل خطورة عن محاولة الحكم على الأدب الغربي بتلك الخصائص
المميزة للأدب الشرقي القديم
.

 

6-الشكل الأدبي: كما يبين لنا علم الأركيولوجي
الشكل الأدبي . ولعل ما يميز الأدب الحديث في وحدته ووضوحه، هو فنون الطباعة
والتجليد، بينما كل الأعمال الأدبية الأثرية من البلاد المذكورة في الكتاب المقدس،
تنقصها هذه الفنون الحديثة التي تؤثر كثيراً في الوحدة والشكل . وهذه المميزات
الخاصة بالشكل ومسبباتها، يعرفنا بها علم الأركيولوجي، بالكثير من الأمثلة . كما
أن هذا العلم يوضح لنا أن هذا التبعثر وعدم الوضوح والتحديد في الأدب الشرقي –
التي مصدرها الشكل الأدبي وليس ضياع أو تلف الوثائق نفسها – لا تعيب أو تنقص من
صدقها

.

 

 

7-التفسير: ويوجهنا علم الأركيولوجي أيضا فيما يختص
بالتفسير، فهو يذكرنا بهذه الحقيقة البديهية – التي كثيراً ما تنسى – وهي أن معنى
اللغة في أي أدب إنما هو المعنى الذي فهمه به الذين قالوه، ولهذا فطرق النقد
الحديثة من تحليل الكلمات وتركيب الجمل وأساليب التفكير، لكي تكون جديرة بالثقة،
لا بد لها من الرجوع إلى الأساليب التاريخية والاعتماد عليها . وفي غياب هذا السند
التاريخي – وبخاصة إذا كان التاريخ المعاصر كما يبين من الآثار يناقض ذلك – فإن
التفسير – مهما دعمته كل أساليب النقد الأخرى – يصبح مشكوكاً فيه . فمثلاً تفسير
أي أمر يتعلق بخدمة كهنوتية بأساليب تحليل الكلمات والجمل، يمكن أن تنفيه تماماً
صورة واحدة أو وصف لكاهن أمام المذبح . فإذا قارنا ما كتبه المفسرون عن المرتفعات
التي كانت تقام فيها العبادات الوثنية بما اكتشفه علماء الآثار من هذه المرتفعات
وصور العبادات التي كانت تجرى فيها، فإننا نجد اختلافاً واضحاً . فلا بد إذاً أن
يكون علم الآثار دليلنا إلى فهم الأدب القديم، سواء في المخطوطات والآثار التي
اكتشفت حديثاً أو في الكتابات التي لم تفقد أبداً كتلك الموجودة في الكتاب المقدس
.

 

8-اتفاق الحقائق مع النقد الصحيح: فالحقائق هي محك
النظريات . وعلم الآثار يقدم لنا حقائق بها نختبر النظريات، ولايمكن أن يكون هناك
تناقض حقيقي بين حقائق يقدمها علم الآثار وبين النقد الأدبي السليم لوثائق صحيحة .
والسؤال هو من أو ما الذي يقرر صحة النقد؟ إذا وجد اختلاف بين حقائق الآثار وبين
ما يصل إليه علم النقد، فمن الذي عليه أن يفسح المجال للآخر؟ والسؤال نفسه يحمل في
طياته الجواب عليه، فلا بد للنظريات أن تتنحَّى أمام الحقائق مفسحة لها المجال .
ويقول " درايفر " في كتابه (السلطان والأركيولوجي) " متى كانت
شهادة الآثار شهادة مباشرة واضحة، فلا بد أن يكون لها أعلى مكانة في الحكم على
الأمور حكماً حاسماً، وحتى لو كانت شهادة الآثار شهادة غير مباشرة ولكن فيها ما
يكفي من الحقائق الموجزة، فهذا يجعل من شهادة الآثار أيضاً شهادة لها قيمتها
" .

 

وهذا
الامتياز الواضح لحقائق علم الآثار في الحكم على نظريات النقد، يجب أن يكون له كل
التقدير والاحترام
.

 

9-نظريات تحتاج إلى برهان: لا يمكن قبول أي نظرية
قبولاً نهائياً وتطبيقها على الإيمان والحياة، إلا بعد فحص دقيق وإقامة البرهان
على صحتها . فلو كانت هناك نظرية تتعلق بالطبيعة، فلا بد من اختبارها بحقائق
الطبيعة، وإذا كانت نظرية تتعلق بالخبرة فيجب امتحانها بحقائق الخبرة، وإذا كانت
نظرية في مجال التاريخ فيجب اختبارها بحقائق التاريخ . والسيد المسيح نفسه يضع
أقواله على هذا المحك: " إن شاء أحد أن يعمل مشيئته، يعرف التعليم هل هو من
الله أم أتكلم أنا من نفسي " (يو 7: 17) . يمكن للنظريات أن تنكر أي شيء في
الكتاب المقدس، كما يمكنها أن ترفض أي شيء في السماء أو على الأرض
كما يحدث كثيراً للأسف – فما
أسهل أن يتنكب الإنسان الطريق المطروق مأخوذاً بالمظاهر البراقة، وهو ما يقع فيه
كل من يتبع نظريات لم تثبتها الحقائق، ولكن مهما كان المظهر جذاباً، فقد لا يكون
سوى سراب يضلل المسافر في الصحراء، فلا يعود قادراً على الاهتداء إلى الطريق
الصحيح . فلتثبت النظرية أولاً بالحقائق، وعندئذ يمكن قبولها في الحياة
.

 

10- النجاح ليس حجة: ورغم هذا، لانستطيع أن نقول إن النظرية التي تستوفي كل
هذه الشروط تعتبر نظرية صحيحة يمكن تطبيقها في حياتنا . إنه لمن الخطر الشديد أن
يخضع النقد لهذا الافتراض الخاطئ الذي يقول إن النظرية التي تستوفي كل الشروط هي
نظرية صحيحة، فليس هذا هو الحق دائماً، فمثل تلك النظرية لا بد لها أن تؤيد بحقائق
مستقلة بذاتها أو بكشف أسرارها، وحتى لو تكشفت تلك الأسرار، فليس هذا بالضرورة
ببرهان على صحة النظرية، فالمفتاح الذي يفتح القفل، لا بد أن يكون مماثلاً للمفتاح
الأصلي، إلا أنه مع هذا كله قد يثبت أنه مفتاح مزيف . فلا بد أن تكون الحقائق التي
ظهرت أو الأسرار التي كشفت، مستقلة بذاتها صحيحة الدلالة، بالإضافة إلى تمشي
النظرية مع كل متطلبات القضية المطروحة للبحث، ولا بد للنظرية أيضاً أن تستطيع
مواجهة كل الحقائق الإضافية التي قد تظهر في أي وقت وأن تندمج أيضاً مع هذه
الحقائق الجديدة بصورة طبيعية مثل اندماجها مع الحقائق التي قامت عليها النظرية
أصلاً
.

11- النظرية في الحياة: فالمشكلة إذا ليست في تحديد الطريقة أو الطرق
العديدة التي يمكن أن تكون قد جرت بها الحادثة، بل في تحديد الطريقة ذاتها التي
حدث بها هذا الأمر بالفعل . فالنظرية التي تنطبق عليها كل الشروط قد تكون واحدة من
الطرق العديدة التي يحتمل أن الحادثة قد حدثت بها . ولا يمكن قبول أي نظرية بخصوص
الكيفية التي حدثت بها الحادثة بالفعل إلا إذا تأيدت بالدليل القاطع الموثق
المستقل، وهذا ينطبق تماماً على ما يحدث في حياتنا اليومية، فالمدعي العام في
المحكمة يستطيع أن يقدم نظرية عن الكيفية التي ارتكبت بها جريمة ما، ويستطيع بها
أن يفسر جميع ظروف الجريمة كما تدل عليها الدلائل، وأن يقنع المحلفين الاثنى عشر،
ويستصدر حكماً بالإدانة، ومع ذلك يحدث في بعض الأحيان اكتشاف أن مرتكب الجريمة هو
شخص آخر، وأنه قد ارتكبها بطريقة مغايرة تماماً للصورة التي صورها بها المدعي
العام . وهكذا نرى أن اي نظرية لا يمكن أن تكون هي القول الفصل في موضوع الأدب .
ولقد أكد سير بيتر رينوف أنه من الممكن أن نعطي أهمية لمخطوطة ما، وأن نفسر
كلماتها ونشرح قواعدها ونترجمها باعتبارها مخطوطة تاريخية دون أن يكون لكل هذا أي
أساس من الصحة، وتعليقاً على هذا يقول: " ليس من الصعب أن يكتب الإنسان
الوصايا العشر أو مزامير داود أو قصائد هوميروس أو الأغاني الأيرلندية، على أي أثر
قديم أو حديث وبأي لغة يشاء
" .

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد جديد سفر رؤيا يوحنا اللاهوتى 06

 

12- النظرية في الأدب: ولا تنقصنا الأمثلة الفعلية لتأكيد ما قاله رينوف،
فالمحاولات العديدة لفك رموز اللغة الهيروغليفية المصرية قبل اكتشاف حجر رشيد، لا
يمكن أن تنسى . ويقول دكتور بادج في كتابه (المومياء ص 124): " لقد كان
أثناسيوس كيرشير أول من كتب في الأزمنة الحديثة عن الهيروغليفية وألف بعض الكتب
المعقدة، إدعى فيها أنه قد اكتشف مفتاح الكتابة الهيروغليفية و ان باستطاعته
ترجمتها، ورغم كونه عالماً كبيراً، إلا أنه يلزم القول إنه لا يعتبر في نظر علماء
اليوم، إلا دجالاً " وفي 1770 م قال جوزيف دي جونية، إن الصين قد استوطنها
مصريون، وان حروف الكتابة الصينية ليست سوى صورة مشوهة من الحروف الهيروغليفية
المصرية، وثمة محاولات مشابهة لاقت نفس الفشل في فك ألغاز الكتابة الحثية وترجمة
النقوش الحثية . ولا شك في أن ذكرى هذا الفشل تسبب آلاما لعلماء بارزين مازالوا
على قيد الحياة، والذين لم تقتصر جهودهم في بعض الحالات على قوائم الرموز بل امتدت
إلى المقاطع والمفردات والقواعد والترجمة، وهي الآن مرفوضة جزئياً، وفي بعض
الحالات كلياً، من جميع علماء العالم . ومهما أحرزت جهودهم الحالية أو المستقبلة
نجاحاً، فإنهم قد تنصلوا – جزئياً على الأقل – من عملهم السابق . فأعظم نظرية
معقولة – حسب الظاهر – في الأدب، رغم أنها – على ما يبدو – تضم جميع التفاصيل، قد
توجد بعد كل هذا خاطئة – كما ذكرنا في الأمثلة السابقة – وذلك إذا ما قيست بمعايير
فقة اللغات المقارن وحقائق التاريخ المعاصر
.

 

13- النظرية في التاريخ: ولئن كانت النظرية غير الثابتة البرهان، لها
أخطارها في " الحياة والأدب "، فإن أخطارها في التاريخ أعظم أثراً، ذلك
لأن التاريخ في شكله الحاضر، ما هو إلا الحياة مدونة، والخبرات الإنسانية مكرسة
لخدمة جميع الوقائع والقواعد الأدبية . ولا يمكن التغاضي هنا عن المحاذير المتعلقة
بالتاريخ المصري والأدب الكلاسيكي
. إن " مينا " وغيره من ملوك مصر
الغابرين، قد اعتبرهم النقاد مجرد شخصيات أسطورية، كما قيل إن " مينوز
الكريتي " وقصص طروادة وأبطالها إنما تنتمي إلى دنيا الأحلام، بيد أن معاول
التنقيب التي أعملها كل من " بترى " في معابد أبيدوس، " وايفانز
" في " كنوسس "، " وشكلمان " في " طروادة "،
قد أوضحت أن دنيا الخيال – التي زعموها – هي أرض صلبة، وأن الأبطال الأسطوريين
الأشباح هم رجال حقيقيون ذوو أجساد من لحم ودم . وإذا كان لنا أن نتعلم شيئاً عن
طريق التجريب، فإنه بالتأكيد لا يمكن قبول أي نظرية من نظريات التاريخ المقدس أو
الدنيوي قبولاً نهائياً حتى تمتحن وتؤيد بالحقائق
.

 

 

14- مصدر الحقائق المنشودة: وعلم الآثار وحده هو الذي يستخرج الحقائق الجديدة
إزاء القضايا التي يثيرها النقاد . فالنقد يقدم نظريات وحسب، يرص الحقائق ولا ينتج
شيئاً، فنادراً الآن ما يميط الشراح والمفسرون اللثام عن حقائق جديدة، وإذا فعلوا
فليس بأكثر مما يقدم فلاسفة اليوم أفكاراً جديدة إلى العالم . إن فيض الضوء الذي
يتدفق في الواقع عبر صفحات الشراح والمفسرين في هذه الأيام الأخيرة، يقدم مساعدة
لاتقدر بثمن للترجمة " التفسيرية " . بيد أن مصدر هذا الضوء ليس هو
النقد أو التفسير بل علم الآثار، إنه علم الأركيولوجي الذي يقدم الحقائق عن الحياة
المعاصرة لتاريخ الكتاب المقدس، وبالتالي يشرح الأدب الكتابي والأساليب الأدبية
الكتابية، بالأدب " المعاصر له " وأساليب الأدباء المعاصرين له . إن علم
الأركيولوجي هو الذي يجعل الصفاء والطهارة والقدسية تتجلى في مسائل الوحي وتبرز
بنورها الساطع، وذلك عن طريق مقارنتها بظلال الطقوس والأخلاقيات والخرافات
المعاصرة لها
.

 

15- المجال الوظيفي: من ثم لا يمكن قبول أى نظرية نقدية عن الكتاب المقدس
قبولا نهائيا وجعلها جزءا من عقيدتنا، الا بعد أن تختبر وتؤيد بالحقائق التى
يقدمها علم الآثار . بل ان فلهاوزن – رغم تخليه عن هذا المبدأ الى حد بعيد، فى
مجرى نقده – يبدو أنه يرسيه كأساس فى مستهل كتابه عن " تاريخ اسرائيل"
عندما يقول: " ان رجال الإطفاء يبتعدون عن المكان الذى اندلعت منه شرارة
الحريق، وأنا أعنى منطقة الآثار الدينية القديمه والآراء الدينية السائدة، تلك
المنطقة كلها، كما رسم حدودها " فاتكه " في كتابه " علم اللاهوت
الكتابي
"، لكن هنا فقط، حيث احتدم الصراع، يمكن الوصول
إلى نتيجة حاسمة " . ويقتبس دكتور ج. أ . سميث – مؤيداً – هذه الكلمات عن
نابليون (من كتاب غزو مصر وسوريا كما أملاه نابليون بنفسه – جزء 2) إذ يقول
نابليون: عندما عسكرنا بين أطلال المدن القديمة، كان أحدهم – في كل أمسية – يقرأ
الكتاب المقدس بصوت عال في خيمة الجنرال . إن الاحتمالات والحقائق التي تنطق بها
هذه الأطلال تأخذ بالألباب، فما زالت في موقعها من الأرض بعد كل هذه العصور
والتقلبات "، لكنه يردف بالقول: " هذا لا يتجاوز الحقيقة، لكنه لا يذهب
بنا بعيداً … فكل ما تقدر الجغرافيا أن تفعله هو أن ترينا ما إذا كانت المواقع –
في الوقت الذي تنسب إليه – ممكنة الوجود أم لا، وحتى هذا العمل غالباً ما يكون
بعيداً عن متناول أيدينا " . ومن هنا فإن النقاد بينما يعترفون – بطريقة أو
بأخرى – بالوظيفة المتميزة لعلم الآثار في النقد، فإنهم – حتى الآن
لم يسمحوا له بمجال أكبر في
ممارسة هذه الوظيفة
.

 

ثانياً
– تاريخه:

 

1- حدود البحث: وتاريخ علم الآثار الذي نتناوله هنا
يتعلق أساساً بالحكم على النظريات النقدية في ضوء الحقائق الأركيولوجية، وقد كان
عطاء علم الآثار في تزويدنا بالخلفية التاريخية للقصص الكتابية، عطاء واضحاً تذخر به
قواميس الكتاب المقدس . ولم يكتب بعد السجل الكامل لأثر علم الأركيولوجي في توجيه
أساليب النقد
.

2- حقل متسع: ولاتساع وتنوع مجالات الحكم على
النظريات النقدية في ضوء نتائج الأبحاث الأركيولوجية، يكفي أن نذكر هنا موجزاً
بسيطاً، وليس من ينكر وجود المبالغة على كلا الجانبين، سواء من بعض النقاد أو من
معارضيهم، كما نرى في قول د. درايفر (بعد أن استبعد النقاط التي ليس عليها دليل
أركيولوجي قاطع): " إن الحقائق التاريخية – كما هي معلومة لنا الآن
تتفق تماماً مع الموقف العام
الذي بناه علماء النقد " أو عندما يقول عالم الفلك العظيم " بيازي سميث
" من أن الهرم الأكبر أثبت أن " حكمة المصريين " قد شملت بعض
المسائل الرياضية العويصة، أو كما يقول " د. سيس " في كتابه (معجزة في
حجر) بأنه واثق من أن نفس هذا الأثر (الهرم الأكبر) إنما يصور بعض الأفكار
اللاهوتية المتعلقة بالألف السنة
.

 

وسنذكر
هنا بعض الحالات لاختبار النظريات النقدية المتعلقة بالكتاب المقدس، بالحقائق
الأركيولوجية التي يمكن اثباتها ببراهين تاريخية لا تقبل الجدل: لقد تأيد الكثير
من النظريات النقدية – وبخاصة تلك التي لا تمس تاريخية وصحة الأسفار المقدسة، أي
تلك التي توافق تماماً على ما جاء بالكتاب المقدس، كما أن بعض النظريات قد نقض
.

 

I- النظريات التي تأيدت:

 

3-الجغرافية والطبوغرافية: وقد أثبتت صحة الحقائق
الجغرافية والطبوغرافية الواردة في الكتاب المقدس، أي أن الشعوب والأماكن والأحداث
المذكورة في الكتاب المقدس، هي هي كما ذكرها . ولقد حاول الكثيرون أن يقللوا من
شأن هذه الأدلة الجغرافية ومن أهميتها في إثبات صحة الكتاب، ولكنها محاولات غير
مجدية . وأصبحت صحة الكتاب ودقته أمراً مقبولاً على المستوى العالمي . قد بذل
الأركيولوجيون الكثير في التنقيب في الأماكن المذكورة في الكتاب، ووصلوا إلى
اكتشافات عظيمة تثبت جميعها صحة كل ماجاء في الكتاب من معلومات جغرافية وطبوغرافية
في أدق التفاصيل
.

 

4-الدراسات الأنثروبولوجية: لقد أثبتت هذه
الدراسات صحة الكتاب المقدس ودقته، فأكدت أن العلاقات بين الشعوب كانت كما يصفها
الكتاب المقدس، وهو دليل له أهميته لكل الأغراض العامة، ولا يمكن إهماله إلا
لغايات خاصة ويقول كوتزش: " إن مايسمى جدول الأمم " (تك 10) يظل – طبقاً
لكل النتائج التي أسفرت عنها الكشوف الأثرية الكثيرة – وثيقة اثنوجرافية أصيلة من
الطراز الأول، لا يمكن أن يحل محلها شيء آخر . لقد أكد تقدم البحوث الأركيولوجية
هذه النظرية العامة الفعالة، وتضيف هذه البحوث الأركيولوجية كل عام تأكيداً جديداً
فيما يتعلق بأجزاء معينة زعموا – لغايات خاصة – إنها ضد النظرية . ومن حيث أن
النظرية العامة المتعلقة بصحة العلاقات بين القبائل في الكتاب المقدس قد وجدت وتجد
ما يؤكدها، فقد أصبح هذا أمراً لا يقبل الجدل
.

 

5-دقة الكتاب المقدس: وهذه النظرية تؤكد دقة
الكتاب المقدس سواء في الأصول أو في النسخ، فكل نظرية عن الوحي تتطلب هذه الدقة
بدرجات مختلفة . إن النظرية التحليلية الواسعة الانتشار التي أخرجها النقد مع
قوائم الكلمات التي تدل – كما يؤكدون – على أصل الكتاب، تتطلب – لكي تقف على
قدميها – درجة من الصحة والثبات في استخدام الكلمات سواء في كتابة الأصول أو في
نقلها بواسطة النساخ، أكبر بكثير مما تتطلبه أعظم النظريات دقة عن الوحي . وحيثما
أمكن اختبار أقوال الكتاب المقدس في بياناته وإشاراته التاريخية العديدة، فإن علم
الآثار قد أثبت أنها صحيحة إلى درجة رائعة، وذلك في صيغتها الحالية، بل وفي أدق
الأمور وأكثرها غرابة
.

 

6-اللغة المجازية للكتاب المقدس: نظرية صحة اللغة
المجازية للكتاب المقدس، هي نظرية أخرى من النظريات النقدية الأساسية ذات الأثر
الشامل، – رغم أنها قد تنسى أحيانا – ومهما يكن من أمر النظرية المتعلقة بالكاتب
والأصل المكتوب للأسفار المقدسة، فهناك – مع استثناءات قليلة خاصة – الافتراض
الأساسي من جهة النقاد بصحة اللغة المجازية أو التصويرية التي تعكس المظاهر
الطبوغرافية والحياة النباتية والحيوانية والمواسم والعادات . والحق أن النقد
يعتمد على صحة ودقة اللغة التصويرية بمقدار ما يعتمد على الدقة في استخدام الكلمات
. وهذا الافتراض الأساسي للنقد – من كل لون – قد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك، في
قسماته العامة، وتعزز عاماً بعد عام في أدق تفاصيله، بل حتى في تلك الحالات الخاصة
جداً التي كانت موضع الاعتراض الشديد . ويشهد لهذه النتيجة كل المستوطنين الشرقيين،
والرحالة الأذكياء وكل الباحثين العلميين
.

هل تبحث عن  م الكتاب المقدس برهان جديد يتطلب قرار 06

 

7-جنة عدن: وإلى جانب هذه النظريات ذات الطابع
العام، يجب أن نشير إلى بعض النظريات ذات الطابع الخاص . فنظرية موقع جنة عدن في
مكان ما في وادي الفرات، قد أومن بها تقريباً، على مستوى عالمي، ورغم أنه لم يقم
حتى الآن الدليل القاطع على صحتها، فإنها تلقي تأييداً وتعزيزاً متزايدين في دراسة
السلالات العرقية . وأينما يكون ممكناً اقتفاء أثر موجات الهجرة للأمم القديمة
المذكورة في الكتاب المقدس، فإننا نجد دائماً أن الاتجاه الأساسي يشير إلى منطقة
بعينها، صغيرة نسبياً، في غرب أسيا
.

 

8-الطوفان: إن النظرية الجيولوجية المتعلقة بطوفان
نوح كآخر تغيير عظيم حدث على سطح الأرض، قد تأكدت بدقة كاملة، ليس فقط بواسطة
الأبحاث التي أجريت عن العصر الجليدي، بل أيضاً عن طريق فحص أثار الطوفان المتخلفة
على الجبال والأودية في وسط وغربي أسيا
.

 

9-سدوم وعمورة: النظرية الجيولوجية الخاصة بخراب
مدن السهل، قد ثبتت تماماً عن طريق فحص الطبقات: منطقة مقفرة، طبقة هائلة من الملح
الصخري مغطاة بالطفل المحمل بالكبريت، كتل مختلطة متماسكة بالجمر، انفجار لغازات
مكبوتة من تجمعات في تكوينات جيولوجية تقذف بالكبريت المشتعل إلى أعلى في الفضاء،
مياه الأردن تنحدر لتذيب الملح عن طبقات الصخور الملحية الممزقة . كل هذا يتفق مع
وصف الكتاب تماماً ومع الأحوال السائدة هناك اليوم: أعمدة الدخان الصاعدة إلى عنان
السماء، المطر المكون من النار والكبريت والمتساقط على الأرض بعد اندفاعه من فوهة
البركان المتفجر، وما لحق بزوجة لوط على حافة منطقة الكارثة الرهيبة، وكيف اكتست
بقشرة من الملح
.

 

10- الهكسوس والآباء: لقد كان يعتقد لفترة طويلة، أنه كان ثمة نوع من
العلاقات بين ملوك مصر من الهكسوس الغامضين وبين الآباء، تعليلاً للاستقبال الحافل
بل التقدير الملكي الذي استقبلوا به الآباء . والنظرية التي تتعلق بهذه العلاقة قد
ثبتت تماماً في اكتشافات " بتري " في تل اليهودية . ومع أن " بتري
" لم يشر إلى الجنس الذي ينتمي إليه الهكسوس، لكنه أوضح طبيعتهم القبلية،
وأنهم كانوا – كما يدل عليه اسمهم، " أمراء البدو " – زعماء للقبائل
الرحل أو نصف البدوية في المناطق العليا والسفلي من سورية و فلسطين وشمالي وغربي
شبه الجزيرة العربية كما كان الآباء . وبناء عليه لقي هؤلاء الآباء تقديراً خاصاً
من الهكسوس باعتبارهم أمراء من البدو نظيرهم
.

 

II- النظريات التي ثبت بطلانها:

 

11- كنعان غير المتمدنة: لقد درجوا على رسم صورة مثيرة لإبراهيم تاركاً كل
أصدقائه وحضارته خلفه، لينزح كرائد إلى أرض همجية . هذه الصورة أخذ بريقها يخبو
تدريجياً حتى اختفي تماماً في النهاية، وذلك في اشراق النور المتزايد باستمرار من
التاريخ المعاصر الذي كشفت عنه النقاب الاكتشافات البابلية والفلسطينية
.

 

12- فيما يتعلق بملكي صادق: فيما يتعلق بملكي صادق الذي كان " بلا أب
وبلا أم " (عب 7: 3)، فإن خطابات تل العمارنة – مع أنها لم تقدم كل المعلومات
اللازمة – قد بددت الكثير من تخيلات قدامى المفسرين، وأشارت إلى موقع ملكي صادق من
سلسلة ملوك في أورشليم ذوي لقب فريد، ينكرون على أنفسهم فيه أي حقوق وراثية في
العرش: " إنه لم يكن أبي ولا أمي هما اللذان وضعاني في هذا المركز، لكنها الذراع
المقتدرة للملك نفسه الذي جعلني سيداً على أراضي وممتلكات أبي " . هذا اللقب
الذي دار حول ترجمته الصحيحة الكثير من الجدل لم يذكر في هذه الخطابات مرة واحدة
فقط، بل يبدو أن تكراره كان ضرورياً عند كل ذكر رسمي لسيادة الملك
.

 

13- الترتيب الزمني لتاريخ الشرق: إن نظرية الترتيب الزمني للأجزاء المبكرة
من العهد القديم التي تضبطه إلى حد كبير على مبدأ التسلسل التاريخي الشائع في
العالم الغربي اليوم، والتي تؤكد أنه لا يمكن أن يكون هناك نظام سواه للترتيب
الزمني، هذه النظرية التي أخذ بها جميع النقاد والمفسرين على مستوى العالم على
أساس أنها فرض صحيح حتى وقت قريب، قد عدلت إلى مدى بعيد، إن لم يكن قد انهارت
تماماً أمام أبحاث علمي الآثار والأثنولوجيا . ومهما يكن من أمر نظام وطريقة
الترتيب الزمني المستخدم في تاريخ الكتاب المقدس، فإنه بالتأكيد لم يكن مماثلاً
لنظامنا " الكرونولوجي " حسب الدورات الزمنية والمبني على أزمنة فلكية
دقيقة . إن الترتيب التاريخي المبكر في الشرق كان في العادة حولياً، بل وكثيراً ما
كان متزامنا، ويندر جداً أن يكون حسب الدورات الزمنية . إن الغرض الأول بل والأوحد
للترتيب الزمني في الوقت الحاضر هو التأريخ لمرور الزمن . أما النظم الشرقية
القديمة فغالباً ما كانت تشتمل على عنصر أدبي، يهتم بسرد الأحداث أكثر من اهتمامه
بالترتيب الزمني . والعصر الذي لا يحدث فيه شيء، والرجل الذي لا ينجز شيئاً،
يكونان جديرين بالإهمال فلا يذكران مطلقاً . وأحياناً نرى الأحداث التاريخية مرتبة
في تناسق، ومرة ثانية نجد أن المفهوم الرؤوي للوقت – الموجود في كل النبوات – هو
السمة الغالبة في كتابة التاريخ . إنه لأمر مؤكد أن الفكر الشرقي القديم كان ينظر
إلى علاقة الإنسان بالحياة على أنها أهم بكثير من علاقته بالزمن، وهو مفهوم أدبي
للترتيب الزمني أكثر عمقاً من مفهومنا نحن اليوم
.

 

ج_
نظريات تمس سلامة أو تاريخية الكتاب المقدس: كثير من النظريات النقدية التي تهاجم
سلامة أو تاريخية الكتاب المقدس – وهي النظريات التي تهدف إلى إعادة ترتيب أحداث
الكتاب – قد ثبت بطلانها تماماً بالدليل الأركيولوجي، وفي بعض الحالات قد تخلي
عنها أصحابها الذين وضعوها:

 

14- الجهل في عصر الآباء: إن الجهل في عصر الآباء، كان فيما مضى، حصناً
منيعاً حال دون كل الدعاوي الأدبية، من الذهاب فيما وراء ذلك الحد . هذا الجهل –
مع أنه لم يتمسك به جميع أنصار النقد الذي يهدف إلى إعادة ترتيب الأحداث – يتمسك
به البعض، فقد سخر " فون بوهلن " من فكرة معرفة الجماعة البدوية "
غير المنظمة " بالشرائع (تك 29 – 41)، ويقول دكتور درايفر: " لا ينكر
أحد أن الآباء كانوا يعرفون فن الكتابة " لكنه يظن أن معرفتهم بالأدب مجرد
افتراض وذلك لعدم وجود أساس يمكن الارتكان إليه . وغني عن البيان أن هذه النظرية
قد هجرت تماماً
.

 

إن
اكتشاف الدليل على وجود نظام بريدي في كنعان في أيام " نورام سن "،
والتطابق الكامل بين عادات وأحداث عصر الآباء وبين القانون المكتوب كما يتضح من
اكتشافات " دي مورجان " لقانون حمورابي، واكتشاف د. مرتش لخطابات تل
العمارنة التي أماطت اللثام عن الانتشار الواسع لفن الكتابة قبل أيام الخروج
بحوالي مائة وثلاثين عاماً، بالإضافة إلى البرهان التاريخي المستخلص من دراسة
النقوش، والذي دفع بالتاريخ الذي يرجع إليه النص العبري إلى عصور قديمة سابقة،
وأيضاً الدليل الساحق المستمد من الحفريات الأثرية الحديثة، على الثقافة العامة
والحضارة اللتين كانت عليهما فلسطين في زمن الآباء، وإن لم يعرف بعد بالتمام
الصورة الكاملة لحضارة عصر الآباء . كل هذا قد جعل أي نظرية تسم ذلك العصر بالجهل
نظرية مستحيلة
.

 

15- الأفكار الدينية في كنعان: ان نظرية الحالة البدوية، نصف الهمجية
لفلسطين واستحالة وجود أفكار دينية رفيعة بين الآباء قبل الخروج، رغم أنها تتصل
اتصالاً وثيقاً بالنظرية السابقة، إلا أنها تتطلب إلقاء نظرة خاصة، فهي الأساس
الذي بُني عليه الرأي التطوري الشائع عن التاريخ الإسرائيلي، والتي يعتنقها جميع
الذين يأخذون بهذا الرأي تقريياً
.

 

هذه
النظرية رغم أنها أقل أهمية لمدارس النقد الأخرى، إلا أن جميع المفسرين تقريباً
يتمسكون بها . بيد أن اكتشاف السور القديم وأحواض المياه في " تعنك "،
والأعمال الهندسية الفذة في إقامة الحصون وأشغال الري في جازر، وسور المدينة ذي
الأربعين قدماً المصور في الرسوم المصرية عن الحرب الكنعانية، وكذلك قائمة الغنائم
الثمينة التي أخذها تحتمس الثالث، والتي حرصت جميع متاحف العالم على اقتناء نسخ
مطابقة لها، كل هذه تشهد على الحضارة المترفة والثقافة المتقدمة التي كانت في تلك
الأزمنة . وهذا كله إلى جانب الحشد الهائل من الأدلة ضد " الجهل في عصر
الآباء " – كما أشرنا سابقاً – لَممَّا يؤيد إلى أبعد مدى رأي ماكس مولر من
ان " حضارة فلسطين في عصر الآباء كانت تعادل تماماً حضارة مصر
" .

 

16- التاريخ التطوري: هناك نظرية تقول بأن التاريخ
الإسرائيلي قد تطور أساساً عن أصل فلسطيني وبيئة فلسطينية، ولكن الاكتشافات
الأثرية الفلسطينية تظهر تناقضاً واضحاً بين ديانة العبرانيين الفريدة وديانات الشعوب
الكنعانية التي كانت تحيط بهم، والدليل الذي أمامنا لا يشير اطلاقاً إلى أن ديانة
أكثر نقاء قد نبتت من ثقافة فلسطين الفاسدة، بل يدل على أن ديانة أكثر نقاء قد
جاءت من فوق واكتسحت كل ديانات فلسطين الأخرى
.

د-
والآن لنتقدم نحو بعض ذلك الكم الهائل من الحالات الخاصة:

 

17- الأسطورة والكتاب المقدس: فهناك نظرية عن
الشخصية الخرافية للملوك الأربعة الوارد ذكرهم في الأصحاح الرابع عشر من سفر
التكوين، وكذلك الشخصية الخرافية للحثيين، وكذلك النظرية الخاصة بالطابع الأسطورى
العام للأجزاء الأولي من الكتاب المقدس
.

 

أما
عن الملوك الأربعة فقد أطلق عليهم " شيوخ الصحراء الصغار " واعتبرت
أسماؤهم ابتكارات لفظية منحوتة، وتعرضت الصفة التاريخيةلقصة هؤلاء الملوك للتكذيب
الشديد من الكثيرين . وقد وصل " نولدكه " إلى نتيجة مؤداها أن التاريخ
في الأصحاح الرابع عشر من التكوين هو كله " ابداع حر "، وأن ملكي صادق
شخصية شعرية . ويظن " فلهاوزن " أن نولدكه قد وجه ضربة قاضية لتاريخية
القصة . أما " ماير " فمن رأى نولدكه، إلا أنه يعبر عن رأيه بطريقة أشد
عداء . أما "هتزج " فيذهب إلى أقصى درجات الاسفاف عندما يرى في حملة
كدرلعومر مجرد ظلال لغزوة سنحاريب (2 مل 19: 13) ويعطي " دلتزج " عرضاً
شاملاً لأولئك النقاد الذين اعتبروا قصة الملوك الأربعة أسطورة تستند إلى قليل من
التاريخ، أو إنها على غير أساس تاريخي . يضاف إلى ذلك أن الطابع الأسطورى للأجزاء
الأولي من الكتاب المقدس قد وجد له مؤيدين متحمسين
.

 

18- كدرلعومر وحلفاؤه: بيد أن الملوك الأربعة قد
ظهروا في الاكتشاقات الأثرية، وبينما مازال هناك بعض الخلاف حول هوية البعض منهم،
فإننا نجد أن التحالف قد ظهر في بابل وكذلك السيادة البابلية على فلسطين في العصر
الذي تحدده القصة، بل وكل الإطار التاريخي الذي تنسجم معه القصة انسجاماً طبيعياً
كاملاً، لكن الأساطير لا يمكن أن تلقي تأييداً أركيولوجيا مثل الذي لقيته قصة
تحالف الملوك الأربعة، بل ومازالت تتلقي تأييداً متزايداً يكشف كل معالم التاريخ
المبكر للعهد القديم
.

هل تبحث عن  شخصيات الكتاب المقدس عهد قديم إيليا 1

 

19- الحثيون: ثم إن ثمة شكوكاً خطيرة كانت قد أثيرت
في الماضي حول الحثيين، فقد كان يقال بجسارة – بين الحين والآخر – " إن مثل
هؤلاء الناس لم يوجدوا على الاطلاق " . لكن بالإضافة إلى معاهدة رمسيس الثاني
مع "خيتا " والمعتقد بوجه عام – منذ وقت طويل – أن المقصود بها هم
الحثيون، والإشارات إلى " حاتي " في خطابات تل العمارنة، ويرجح أيضاُ
أنها إشارة إلى ذلك الشعب نفسه، فبالإضافة إلى كل ذلك، لدينا الآن الاكتشاف العظيم
" لونكلر " لعاصمة الحثيين في " بوغاز كوي "، والنسخة الحثية
من المعاهدة مع رمسيس الثاني، بالخط المسماري . وهكذا الحثيون كأمة عظيمة، هي
الثالثة مع الأمتين المصرية والبابلية
.

 

ه
– نظرية المفارقات التاريخية: وبغض النظر عن التطبيق العام " لنظرية
المفارقات التاريخية " على الوجهة التقليدية للكتاب المقدس على يد نقاد
كثيرين، وتأكيد التقديم النظامي للأحداث المبكرة في ضوء الأزمنة المتأخرة، فإن
أمثلة خاصة من المفارقات التاريخية قد اتخذت ذريعة للتشكيك، فقد زعموا أن أدوم
ذكرت في القصة مبكراً جداً، لكن ضابطاً من ضباط سيتي مرنبتاح الثاني، حوالي زمن
الخروج، يذكر في تقرير رسمي شعب " أدوم " ورغبتهم في أن ترعي قطعانهم في
جاسان، وبالتالي فإنهم قد وجدوا طريقهم في ذلك الزمن المبكر عبر شبه جزيرة سيناء .
ثم أن " موآب " التي ظلت طويلاً غير محددة الهوية، وقد أحاطت الشكوك
بوجودها في وقت مبكر كالذي ذكرت فيه لأول مرة في الكتاب المقدس . لكن هذه أيضاً
(موآب) قد ظهرت في نقش يرجع إلى عصر رمسيس الثاني القريب من زمن الخروج، وأنها تقع
في " روتن " وهو الاسم المصري القديم لسوريا وفلسطين وشمالي وغربي
الجزيرة العربية
.

 

و-
نظريات تواجه تحديات: إن نظريات نقدية عديدة تواجه تحديات من الاكتشافات
الأركيولوجية، وسواء أكانت هذه التحديات ستتدعم في النهاية أم لا فهذا أمر سيظل في
حاجة إلى الحسم . وفيما يلي عدد قليل من هذه التحديات، لكنها رغم قلتها ذات أهمية
خاصة بحيث إذا تدعمت في النهاية، تصبح ذات أثر بعيد على النقد
.

 

20- الأصول السامية: النظرية التي ظلت راسخة زمناً
طويلاً، وأخذ بها الجميع تقريباً، وهي المتعلقة بالأصل البابلي للحضارة السامية
المبكرة وانتقالها غرباً، وبخاصة فيما يتعلق بالتقاليد الدينية . هذه النظرية قد
واجهت بعض الشكوك في وقت من الأوقات، لكنها الآن تواجه تحدياً قوياً . إن تحولاً
تاماً إلى اليمين قد ظهر بسبب العديد من الاعتبارات الأركيولوجية، التي كما يقولون،
تجعل المنطقة المكونة من أمورو (بلاد الأموريين) وسوريا وفلسطين – موطن الساميين
الشماليين – مصدراً من مصادر الثقافة السامية أقدم من المصدر البابلي، إن لم تكن
المصدر الأصلي،كما تجعل انتقال الثقافة الدينية بين الساميين في ذلك العصر المبكر،
من الغرب إلى الشرق وليس العكس وذلك واضح في سفر التكوين (11: 2)
.

 

21- غزو كنعان: نظرية الغزو التدريجي لفلسطين بدلاً
من فتحها، نجد الآن وللمرة الأولي، تحدياً لهذه النظرية في دليل آخر غير ما ورد في
سفر " يشوع " . إن هذه البحوث الفلسطينية وتجميع هذه الأدلة، لم تبدأ
إلا منذسنوات قليلة . ولاتساع المشكلة – بهذه الصورة – لا مناص من أن يكون التقدم
بطيئاً، وبقدر ماكانت عمليات التنقيب تمضي قدماً، كانت تقدم الدليل على تغيير قاطع
في الحضارة، حتى في مدن مثل جازر، دون أن تخضع الحضارة الكنعانية تماماً للتأثير
الإسرائيلي . والحق إن هذا يطابق تماماً ما جاء بالكتاب المقدس
.

 

22- تاريخ الكتابات الهيروميطيقية (الغامضة) بعد
الميلاد: فهناك وجهة نظر تضع هذه الكتابات الهيروميطيقية في زمن بعد ظهور المسيحية
. فقد كان يعتقد أن هذه الوثائق المصرية باللغة الإغريقية تعكس الفكر المسيحي
المبكر في مصر، ويرجع هذا أساساً إلى وجود تشابه معين – غير مقدس – للغة الإنجيل .
ولكن فحصاً نقدياً حديثاً لهذه الكتابات – تدعم بالدليل الأركيولوجي المستخلص من
الكتابات نفسها – مؤداه أن التشابه غير المقدس لتعبيرات الإنجيل، لم ينتج عن
انعكاس التعليم المسيحي عليها، بل نتج عن استخدام البشيرين للعبارات التي كانت
جارية بين اليونانيين الإسكندريين في لغة علم اللاهوت قبل العصر المسيحي . إن وجهة
النظر هذه فيما يختص بالكتابات الهيروميطيقية، متي ثبتت نهائياً، لا بد أن يكون
لها أثر

بعيد في دراسة العهد الجديد .

 

23- ادعاءات بعض النقاد: لم تتأيد نظريات النقد التي
تهدف إلى إعادة ترتيب الأحداث، فلا توجد نظرية نقدية واحدة، سواء على مستوى النقد
العام، أو على المستوى الفردي، من النظريات التي تفترض أخذ الكتاب المقدس على غير
معناه الظاهر، نقول لا توجد نظرية واحدة منها قد أيدها علم الآثار، بل أن التأكيد
الأركيولوجي يسير في الاتجاه المضاد لهذه النظريات . بيد أنه لا يكفي أن يكون
الدليل الأركيولوجي غير معارض لنظرية من النظريات، بل يجب أن تبرهن النظرية وتعزز
بوضوح قبل أن تقبل ويسمح لها بأن تؤثر في إيمان الفرد
.

 

24- تأكيدات نولدكة: يقول نولدكة " إن الأصحاح
الرابع عشر من التكوين يبدأ بقائمة مهيبة من أسماء الملوك الذين يقال إنه في زمنهم
قد وقع الحادث المروى … مافائدة ذكر التاريخ لملوك لا نعرف شيئاً عن زمن حكمهم؟
…. وبناء عليه فإن ذكر التاريخ هنا غير ضروي ولا
يدلنا على شيء

" .

 

أما
"بارع " و " برشاع " فيقال عنهما: " إنهما بلا جدال غير
تاريخيين … فالجناس اللفظي المزدوج في اسميهما يدل على كونهما وهميين أكثر مما يدل
على أصلهما التاريخي . ومما يلفت النظر أن المدينة التاريخية الوحيدة " صوغر
" لا يذكر اسم ملكها … علاوة على ذلك فنحن غير مقيدين بزمن معين، لأن الحادث
المروي كان يمكن أن يقع في سنة 4000، تماماً كما كان يمكن أن يقع في سنة 2000 . إن
الترتيب الزمني المصطنع في سفر التكوين ليس قاعدة بالنسبة لنا … فلا نعلم من أين
حصل الراوي على أسماء الملوك المعادين . إنه لمن الممكن حقاً أن تكون هذه الأسماء
قد وصلت إليه بالتواتر أو بأي طريقة أخرى، ومهما يكن من أمر فإن أقصى ما نستطيع أن
نسلم به هو أن الراوي قد استخدم قلة من الأسماء الصحيحة ممزوجة بأسماء زائفة أو
مخترعة، ومظهر التاريخية – بالشكل الذي وردت به – يمكن أن يخدعنا ولكن لفترة قصيرة،
كما هو الحال في الأسماء والتواريخ الواردة في سفر أستير … سلم جدلاً بصحة أسماء
الملوك، ثم افحص القصة بعد ذلك
.

 

وهنا
في فقرة طويلة، يسير نولدكة على نهج " التدليل غير المباشر " مجادلاً أنه
من منطلق تاريخي يكون الافتراض الجدلي غير جدير بالثقة بل وغير ممكن، ثم ينتهي إلى
القول: " عندئذ تكون هذه الحملة برمتها مستحيلة تاريخياً بنفس المدى الذي
يتفق مع التأثير الأخاذ الناتج عنها، وهي العلامة المألوفة على أنها وهمية … ألا
تكمن هذه الاستحالة الظاهرة للقصة في التفاصيل التي تضفي عليها مظهر التاريخية؟
" .

 

وعن
ملكي صادق والحلفاءالأموريين لإبراهيم، يقول: " هكذا تتراكم الأدلة على أن
قصتنا ليست بذات قيمة تاريخية … وحتى لو كان سائر الأصحاح تاريخياً، فسنظل على
اعتقادنا بأن ملكي صادق شخصية شعرية "، ويجمل الاحتجاج في الكلمات الآتية: "
وبناء على ما ذكر، يكون من المستحيل الاعتقاد بأن المؤلف كان يستند في المسائل
الرئيسية على تقليد حقيقي للشعب، بل يجب أن نقبل – كحقيقة واقعة – أن الموضوع
برمته ابداع حر " – وفي نفس الموضوع , ورداً على بعض ناقديه يقول: " مرة
أخرى أجمل النقاط الآتية:

 

1- الكثير من الأسماء الواردة في تكوين 14غير
تاريخي (اسم سدوم وعمورة والأموريين الثلاثة، وملكي صادق في رأيي أيضاً، وكذلك
إبراهيم ولوط وربما المدن الأربعة المهزومة)
.

 

2- حملة الملوك لا يمكن أن تكون قد حدثت كما هو
مروي . بل إن الوضوح الكامل في القصة يجعلنا ندرك أننا هنا نتعامل مع حملة
رومانسية حدد سيرها عمداً بقصد إحداث تأثير قوي وهي ليس لها في ذاتها أي احتمال
تاريخي

.

 

 

3- العدد الصغير للجيش الذي في انتصاره الكامل على جيش
الملوك الأربعة، تصل القصة في النهاية إلى ذروتها – هذا العدد لا يتفق مع العقل،
رغم أنه يذكر أقصى عدد يمكن أن يحشده مواطن معين في الميدان من رجاله المحاربين
.

 

" من خلال كل هذا، على من يتمسك الآن بوجود نواة
تاريخية، أن يعترف بأنه في وقت غير معروف تماماً، وفي تاريخ قديم جداً، سيطر ملك
عيلام على أراضي الأردن في حملة حربية، لكن ذلك هو أقصى ما يمكن أن أسلم به . أما
كل ماهو أكثر تحديداً كالأعداد والأسماء … الخ، وأيضاً كل ما يعطي مظهراً لتقليد
دقيق أو جدير بالثقة، فهو إلى حد ما مزيف، وإلى حد ما غير جدير بالتصديق . وعلى
وجه الخصوص فإننا لا نستطيع معرفة شيء سوى الحرب وحدها . أما من جهتي أنا فما زال
هذا يبدو لي أكثر احتمالاً جداً، في ضوء الترابط، وهدف الراوي المنظم بمهارة فائقة،
ومع ذلك يظل مجرى القصة في الواقع مستحيلاً إذ لا يمكن أن نفصل عنها بعض الأشياء
الواضحة مثل المبالغة المكشوفة في التقليد، وبذلك يكون أمامنا خيال متعمد قد
تخللته بعض الأسماء التاريخية القليلة
" .

 

25- حقائق علم الآثار: والآن إذا استرجعنا في
ذاكرتنا الحقائق التي وصل إليها علم الآثار، ففي ضوء ما سبق يصبح واضحاً أنها أبعد
ما تكون عن " التوافق الكلي " مع الرأي الذي قدمه " نولدكة "
وحكاه " درايفر "، وينكشف أسلوب الدفاع عن مثل هذا التوافق بوضوح كامل .
زد على ذلك فإن ماهو صحيح بالنسبة لهذه النظرية العجيبة لكل من نولدكة ودرايفر،
صحيح أيضاً بالنسبة لسائر النظريات النقدية المتطرفة الموجودة في الوقت الحاضر .
أما النظريات النقدية الهادفة إلى إعادة ترتيب الأحداث، التي تزعم بأن الآباء
ليسوا أشخاصاً حقيقيين، بل مفاهيم تجريدية، مشخصة، والمتعلقة أيضاُ بحالة فلسطين
البدائية القبلية شبه الهمجية في عصر الآباء، والصحراء ومصر، وعدم الأهمية النسبية
لموسى كصاحب شريعة، والغزو التدريجي لفلسطين، وتطور ديانة إسرائيل عن أساطير وهمية،
والتأليف المتأخر للأسفار الخمسة، فلم تثبت منها ولا واحدة، ومع أنه – في الواقع –
كثيراً ما يوجد دليل أركيولوجي ذو طابع سلبي أو غير مناقض تماماً لهذه النظريات
النقدية، فإن أحداً لا يمكنه أن يذكر أي دليل أركيولوجي معين يمكن به تأكيد أو
تعزيز أي واحدة من هذه النظريات تأكيداً إيجابياً
.

 

ز-
الوضع الحالي للمساجلة: يمكن أن نعرض هنا باختصار الوضع الحالي للنظريات النقدية
بإزاء الدليل الأركيولوجي: إن علم الآثار يؤيد ويعزز الكتاب المقدس في معناه
الظاهر في كل ماله صلة مباشرة محددة به . ولتوضيح ذلك تماماً، يلزم سرد كل جزء من
أجزاء الدليل الأركيولوجي فيما يتعلق بالكتاب في مجال البحث العلمي خلال المائة
العام الأخيرة
.

 

لكن
وجهات النظر عن الكتاب لابد أن تنسجم أخيراً مع النتائج التي يقدمها علم الآثار
 ، أي مع التاريخ المعاصر لأحداث الكتاب، وبقدر ما يتيح البحث
الأركيولوجي للتاريخ المعاصر أن يظهر، بقدر ما تخبو بالضرورة النظريات المعارضة،
وبناء على ما وصلنا إليه حتى الوقت الحاضر، فإن علم الأركيولوجي يحمل النقد على
التوافق مع المعنى الظاهر للكتاب المقدس، وبكل تحديد ووضوح لا يشجع على إعادة
البناء الأدبي لأي جزء من أجزاء الكتاب المقدس
.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي