يسوع المسيح

 

مقدمة

أولاً: يسوع الناصري

1.
وجهة نظر يسوع الخاصة بالأزمنة الأخيرة
:

2.
القرار بشأن يسوع
:

3.
يسوع والمستقبل
:

ثانياً: يسوع رب، ومسيح، وابن الله

1.
اللمسات الأولى عن سر يسوع
:

أ) يسوع الصاعد إلى السماء هو رب ومسيح
:

ب) موت يسوع الخلاصي
:

جـ) يسوع من حيث هو إنسان
:

د) بكر كل خليقة
:

2.
تقديم الأناجيل لسر يسوع
:

أ) القديس مرقس
:

ب) القديس متى
:

جـ) القديس لوقا
:

د) القديس يوحنا
:

خاتمة
:

 

———————————–

 

مقدمة

يضمّ هذا الاسم المركّب، يسوع المسيح ، لفظين أحدهما اسم علم والآخر يدلّ على الوظيفة. والكنيسة الأولى ( ليس فقط بولس، ولكن أيض1 متى 1: 1 و18، 16: 21، مرقس 1: 1، يوحنا 1: 17، 17: 3، أعمال…) لا تكتفي بأن تطلق على يسوع لقب المسيح، مثلما تفعل بالنسبة لتسميات أخرى: حمل الله، ابن داود، ابن الله، ابن الإنسان، الوسيط، كلمة الله، النبيّ، المخلص، الرب، عبد الرب… وإنما عند قولها يسوع المسيح، تجمع الكنيسة قي صلة وثيقة اللقب الذي يعلنه المؤمنون والشخص التاريخي الذي عاش على الأرض، أي التأويل والواقع الأصيل
.

إن كل عرض يدمج إحدى اللفظتين في الأخرى ينتقض من مفهوم الإنجيل بدون وجه حق. ولا بدّ للنقد من أن يحلّل على مرحلتين الإنطلاقة التي تقود إلى معرفة يسوع. وعلى الصلاة التأملية أن تجمع بينهما مجدداً ، من “أجل اللقاء بالمسيح الحي
“.

وهذه النبذة ، دون أن تقدّم بالتفصيل ” الأمور الكثيرة التي أتى بها يسوع ” – الأمر الذي يجعل الدنيا نفسها لا تتسع لهذه الكتابة (يوحنا 21: 25- تركّز الانتباه على شخصية المعلم نفسه. فللوصول إلى يسوع الناصري بطريقة نقديّة سليمة، علينا أن نسمع السؤال الذي طرحه يسوع : “وأنتم ، من تقولون إني أنا ؟” (أولاً) وهو سؤال يجتهد أصحاب العهد الجديد في الإجابة عليه (ثاني1اً. وهذه الإجابة تحيل دائماً إلى الشخص التاريخي الذي طرح السؤال
.

 

أولاً: يسوع الناصري

ليست الأناجيل ترجمات لسيرة يسوع، مدوّنة بحسب مناهج علم التاريخ العصريّة. وإنما قد كتبها مؤمنون بهدف إيصال الإيمان وتقويته. وهي تنظّم ذكريات قد أنارها ورفعها حق1 الإيمان بقيامة المسيح ولكن، متى خضعت للنقد بفطنة، تسمح بالوصول بكل تأكيد إلى يسوع الناصري
.

 

1.
وجهة نظر يسوع الخاصة بالأزمنة الأخيرة
:

إن الخبر السار الذي يعلنه يسوع هو أن ملكوت الله يبدأ مع كلمته نفسها: “طوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع . الحق أقول لكم: إن كثيراً من الأنبياء والصديقين تمنّوا أن يروا ما تبصرون فلم يروا، وأن يسمعوا ما تسمعون فلم يسمعوا” (متى 13: 16- 17//). ماذا رأوا وسمعوا إذاً؟

رأوا، أولاً، حالات إخراج الشياطين يؤولها يسوع نفسه قائلاً: “إذا كنت بإصبع الله أطرد الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله” ( لوقا 11: 20//). وحقاً إنه قهر العدوّ: “كنت أرى الشيطان يهوي من السماء كالبرق” (10: 18). رأوا أيضاً معجزات تشهد، وفقاً لقول يسوع ، بأن العالم قد دخل في زمن جديد: “إن العمي يبصرون والكسحان يمشون والبرص يبرأون والصمّ يسمعون والموتى يقومون”. وأهمّ من ذلك كلّه سمعوا أخيراً يسوع يعلن موقفه الحاسم بجانب الفقراء: “والفقراء يبشّرون” (متى 11: 5//)، فبهذا القول، يعلن يسوع تحقيق نبوّة إشعيا (29: 18-19 ، 35: 5- 6، 61: 1
).

هذه البشارة في نظر يسوع، تتعلق بالأزمنة الأخيرة فإنها تحقق خطة الله وتعمل على إعادتها. وهكذا يحدّد يسوع نفسه إزاء العهد القديم . فهو ينظر بإعجاب إلى يوحنا بوصفه آخر الأنبياء وأعظمهم: ” الحق أقول لكم: لم يظهر في أولاد النساء أكبر من يوحنا المعمدان”. ولكن، بما أن ملكوت الله قد افتتح عصراً جديداً، يتابع يسوع قوله: “ولكن أصغر الذين في ملكوت السماوات أكبر منه” (متى 11: 11- 12
) .

إن الجديد الجذري في ملكوت الله لا يكمن فقط في مجرد حدوثه، ولكن في طبيعته: فملكوت السموات ما زال في جهاد، منذ أيام يوحنا إلى اليوم، والمجاهدون يأخذونه عنوة ( من الذين يريدون دخوله) (متى 11: 12). ولذا فلا بد ليسوع من أن يقاوم أنصار النظام السبتي والطقسي الذي أقامه علماء الشريعة، بفتاويهم وتحاليلهم المفرطة في الدقة (متى 15: 1- 20، 23: 1- 33). ولكن لا بدّ له أيض1 من تطهير توقّعات معاصريه، ممن يخلطون بين ملكوت الله والتحرّر القومي والأرضي (متى 16: 22، 20: 21، 21: 9// لوقا 19: 11، 22: 38، 24: 21، يوحنا 6: 15، أعمال 1: 6
).

يسوع يفترق نوععاً ما عن يوحنا المعمدان (متى 11: 3)، إنه يطالب مثله بالتوبة الكاملة، ولكن بدلاً من أن ينبىء بالإدانة الوشيكة الوقوع على يد إله منتقم (متى 3: 7- 12)، فهو يعلن سنة مرضيّة (لوقا 4: 19). هذا هو الوضع الذي ينتهجه يسوع لنفسه، إذ يعد بالفرح الذين يكتشفون الكنز (متى 13: 44- 45). وما أسعد الذين يعيشون بتلك الساعة
!

 

2.
القرار بشأن يسوع
:

من العبث أن نتساءل متى ستدق هذه الساعة. “إن مجيء ملكوت الله لا يستدلّ عليه بشيء. ولا يقال: ها هوذا هنا، أو ها هوذا هناك. فإن ملكوت الله هو فيكم” ( لوقا 17: 20- 21). إن ملكوت الله ليس عتيداً أن يأتي، إنما هو في متناول الجميع، يكفي أن نتعرف على الأزمنة المسيانية وأن نصوّب أنظارنا نحو يسوع، من هو ونتساءَل؟

ليس هو مجرد ربي عادي يفسّر الكتب المقدسة، وإنما يعلّم بسلطان (مرقس 1: 22). وبخلاف ما كان يفعل الأنبياء، فهو لا يكفي بعرض أقوال الله، بل يعلن: ” أمَّا أنا فأقول لكم… ” (متى 5: 22، 28، 34، 39، 44)، مسبق1 تصريحاته بشهادة علانية: ” الحق أقول لكم “، كما لو كان يجب على كلمة سمعها في الخفية. ولا يتردّد يسوع في مقارنة نفسه بأشخاص العهد القديم العظام: ” ههنا أعظم من يونان… ههنا أعظم من سليمان ” (متى 12: 41 – 42 ، لوقا 11: 31-32
).

ولذا فالإهتداء إلى الله يقوم في اتّباع يسوع، واتّخاذ القرار الحاسم إزاءه: “من لم يكن معي كان عليّ، ومن لم يجمع معي كان مبدّداً ” ( متى 12: 30). من يسمع ليسوع يسمع لله نفسه، لأنه من يصنع هذا “يبني بيته على الصخر” (7: 24). ولكن إزاء يسوع العجيب في تصرفاته، كيف نأخذ قراراً حاسماً مثل هذا ؟ إن ليسوع يعلم ذلك جيداً، ولذا قال: “طوبى لمن لا يشك فيّ” (11: 6
//).

لذلك كان على يسوع أن يبرّر ادّعاءه لا بالتنازل عن ذاتيته، ولكن بإظهار العلاقة الفريدة التي له مع أبيه، إنه يستطيع كلّ شيء لأنه يؤمن (مرقس 9: 23) إيماناً سيكون النموذج لكل إيمان (راجع عبرانيين 12: 2). وأكثر من ذلك، فهو يتحادث مع اللّه كمن يخاطب أباه: “يا أبتاه” (مرقس 14: 36). وإذ يواصل تقليد دانيال الرؤيوي، يجسر على القول بأن أسرار الله مكشوفة أمامه لأنه “الإبن” المتصل اتّصالاً فريداً “بالآب ” (متى 11: 25- 27//). ومع ذلك، فلا يدعي معرفة كل شيء (مرقس 13: 32)، ومع إرادته لإرادة أبيه (14: 36، راجع متى 20: 23) . إلا أنه، من بين سلسلة المرسلين من الله، يضع نفسه على حدة (مرقس 12: 6)، جاعلاً تطابقاً تاماً بين ملكوت الله وشخصه. هذا، على سبيل المثال، ما يوحي به مثل الزارع (متى 13: 3- 9//)، وما يوضح تصرّفه إزاء الفقراء والخطأة ، وهو تعبير عن الموقف ذاته الذي يتخذه الله إزاءهم ( لوقا 15
).

 

3.
يسوع والمستقبل
:

عاش يسوع حياة اليهود الأتقياء، لكنّه يسمو على التقاليد اليهودية، التي يقيس قيمتها بالرجوع إلى إرادة الله ، الذي يقيم معه العلاقة الفريدة التي سبق ذكرها. جاء يسوع ليكمّل الشريعة والأنبياء (متى 5: 17
).

فالمحبة المثالية المطلقة التي ينادي بها، تتحدّى متاهات الفتاوى الفريسية، ويتعذر ممارستها على من لا يتبع يسوع. ولا يمكن استهداف هذه المثالية والبلوغ إليها إلا بفضل تبعية وثيقة إزاءه : “تعالوا إليّ… لأن نيري لطيف وحملي خفيف ” (متى 11: 28- 29). ويسير يسوع أيض1 في اتجاه الأنبياء، عندما يعلن ، على الرغم من معاصريه ، أن باب الخلاص ، مفتوح أيض1 للوثنيين أنفسهم ( لوقا 13: 28- 29
//) .

ولكي يتحقّق هذا العمل هل فكّر يسوع في دور الكنيسة لإتمام رسالته ؟ إنه من السذاجة أن نظنّ أن يسوع قد أسس الكنيسة على نحو ما نعرفها عليه اليوم، ولكنه من الخطأ أن نقول إن يسوع قد رأى أنه لن يكون هناك فترة انتقالية بين موته ومجيئه الثاني ( راجع يوم الرب
).

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد جديد رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 02

إننا نرى يسوع، يجمع حوله حلقة التلاميذ ( لوقا 10: 1- 2//). وخصوص1 الإثني عشر (مرقس 3: 12) المزمعين أن يتبعوه ( لوقا 9: 57- 61) من أجل نشر عمله واستمرار حضوره، وهذا حادث تاريخي معترف به، ولو كان من الصعب تحديد تاريخه بدقة. وهكذا ظهرت رغبته في أن يؤسّس كنيسة تكون، لا منعزلة على غرار جماعة قمران، بل صورة مسبّقة لشعب الله المتجدّد (متى 19: 28
//) .

من جهة أخرى، فكر يسوع تفكيرر1 أكيد1، بعكس، يوحنا المعمدان، في أن تأسيس ملكوت الله سوف يتحقق تدريجي1 (مرقس 4: 29، متى 13: 24- 30)، وأن من واجب سمعان أن يثبت أخوته في الإيمان لوقا 22: 32)، كما وأنه تنبأ عن الآلام التي سوف يتعرّض لها تلاميذه بعد موته (متى 9: 15، مرقس 8: 34، لوقا 6: 22
).

لذلك ففمن الجائز جداَ أن يكون يسوع قد استخدم لفظ كنيسة
( ekklesia
باليونانية، صود أو عِده بالأرامية)، التي كانت تطلقها أسرة قمران على جماعة مختاري الله الاسكاتولوجية، رغم أن هذا اللفظ. لم يظهر في الأناجيل إلا مرتين (متى 16: 18، 18: 17). واستبعاد تطلع يسوع إلى زمن ما بعد موته، يعتبر تبسيطاً مفرطاً لمعطيات العهد الجديد
.

وتوجد هناك عبارات تفوّه بها يسوع تظهر توقّعه بأن ساعة موته وشيكة ( لوقا 13: 31- 33، راجع 17: 25، مرقس 9: 12). وهو رأى في موته هذا- على ضوء القصد الإلهي- خدمة وذبيحة فدائية (مرقس 10: 45)، وفي ساعة إشرافه على الموت، ترك لذويه وصيته الأخيرة بالخدمة المتبادلة ( لوقا 22: 25- 27
).

تمنعنا هذه البيانات من أن نعتبر يسوع إنساناً تحمّل، بالرغم منه، موتاً فرضه عليه أعداء أقوى منه. وأكثر من ذلك، يرى الكثيرون من المفسرين أن يسوع يوحّد بين مصيره ومصير عبد الرب. ويطلق على “ابن الإنسان” أي على ذاته، نفس العبارات التي نجدها في أناشيد العبد المذكور في إشعيا (52: 13 إلى 53: 12). فطاعته واجبة ( لوقا 17: 25)، وبذبيحة حياته، من أجل جماعة كثيرة (متى 20: 28، 26: 28//، لوقا 22: 16، 18، 30)، يقيم العهد ( لوقا 22: 20
).

ولئن كان يسوع قد فهم موته على هذا النحو، فهذا دليل على أنه لم يشكّ أيض1 في أمر قيامته الوشيكة
.

إن الإيضاحات التي أتت بها الإعلانات الثلاثة الصريحة عن آلام يسوع وقيامته (متى 16: 21، 17: 22- 23//، 20: 18- 19//، راجع لوقا 24: 25- 26، 45) تجعلنا نرى فيها صدى لإيمان الجماعة المسيحية الأولى، المبني على أقوال يسوع نفسه
.

يعرف يسوع، مثل كل يهودي مؤمن، أنه سيقوم في اليوم الآخر (راجع متى 22: 23- 32). فضلاً عن ذلك، إذ هو واثق بالعلاقة الفريدة التي تربطه بالله ، وبكل البشر. ما كان يمكنه أن يشكّ في نجاح رسالته النهائي، وفي تدخل خاص من قبل أبيه لصالحه . إن يقينه بقيامته لم يعفه، بلا شك، من الأوضاع الملازمة للطبيعة البشريّة. فقد استولى عليه القلق “، وانتابته الرعشة في جتسمانية (مرقس 14: 36) ، وظنّ أن الله نفسه قد خذله (15: 34) ، ورغم ذلك كله ، يعلم أنه “الابن
“.

ويبقى لنا سؤال أخير: هل اتّخذ يسوع، حتى يعلن هويته طريقاً مختصراً مستعملاً تعبيرات سائدة في اليهودية، مثل المسيّا، وابن الله، وابن الإنسان؟ إن هذه الألقاب ترد مترادفة في الأناجيل على شفاه يسوع. ولكن، فما عدا تسميات ” الابن ” و” ابن الإنسان “، التي لا يمكن لامرئ أن ينكر، بصفة قاطعة، انتسابها إلى يسوع نفسه، فبالنسبة إلى ألقاب ” ابن الله ” أو ” المسيّا ” التي وضعتها الكنيسة الأولى على لسانه، يرى النقاد أن الكنيسة، بفعلها هذا، لم تعمل على تحريف فكر يسوع بل على توضيحه
.

لم يبادر يسوع بإعلان أنه المسيّا، لما لهذه التسمية من التباس، كان الموت على الصليب وحده خليق1 بأن يرفع الالتباس عنها. ولكنه يمهّد لمعاصريه سبيل التعرّف عليه عندما يمنع تلاميذه من أن يكشفوا عن حقيقة ذاته (مرقس 8: 27- 30)، وعندما يدع الناس يسمونه ” ابن داود ” خلال دخوله إلى أورشليم (متى 21: 1- 9//) ، أو عندما يجيب على سؤال عظيم الأحبار، ” أأنت المسيح ابن الله ؟ ” بعبارته اللبقة ” نعم . أنت قلت ” (متى 26: 64
).

إن يسوع، من خلال تصرفاته التي تكشف عن شخصيته، لم يعطِ أهمية لهذه “الألقاب ” التي كان بلا شك من شأنها أن تشوّه العلاقة الأصيلة التي أراد إقامتها بينه وبين البشر. ففيما هو يقدّم نفسه باعتبار أنه الإنسان الذي له علاقة فريدة مع الله ، وفريدة أيضاً مع جميع الناس، قد طرح السؤال الحاسم: “ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ ” (متى 16: 15
//).

 

ثانياً: يسوع رب، ومسيح، وابن الله

لم يكن في إمكان التلاميذ أن يعطوا جواباً صحيحاً عن هذا السؤال المطروح، قبل أن يظهر لهم يسوع حياً، في عدة ظهورات ، بعد موته على الصليب. وإذ هم يجيبون بإيمانهم على مبادرة يسوع، يكتشفون معنى حياة وسر شخص يسوع الناصري. وتعبيراً منهم عن هذا المعنى، ينسبون إلى يسوع ألقاباً يأخذونها من الألفاظ التقليدية مع إثرائها بمعنى جديد
.

إن الصياغات مختلفة ومتردّدة. ويرجع ذلك إلى التنوّع في مواهب كل شخص وفي ظروف بيئات الحياة المختلفة. ولا شك أن هذا المفهوم عن المسيح مرّ بتاريخ طويل، لا يمكننا أن نسرده بدقّة كاملة، لأن المصادر تقدّم لنا، بصورة مختلطة، الأصول الفلسطينية والتأويلات ذات الأصل اليوناني. ومع ذلك، قي مقدورنا أن نميّز اللمسات الأولى الخاصة بسر المسيح، وبعدها نرى الاعتبارات الخاصة لأصحاب الأناجيل
.

 

1.
اللمسات الأولى عن سر يسوع
:

من الممكن أن نربط، في التعبير عن الاختبار الفصحي، بين أربع رؤيات قد تعكس لنا شيئ1 من التطور التاريخي. فمن زاوية المجيء الثاني يبرز التمجيد السماوي ليسوع المسيح . والصليب الفادي يركّز البحث حول عبد الرب. وأخير1 ينصبّ الانتباه حول إنسانية يسوع ، أول1 في سرّ شخصه، ثم في علاقته بالكون. وسوف يعتمد هذا العرض بصفة خاصة على قرارات الإيمان والأناشيد، وهي عناصر سابقة لتعليم القديس بولس اللاهوتي، وعلى ما قدّمته لنا الأناجيل . إلا أننا سوف نشير في المراجع إلى الأبعاد اللاهوتية المتضمنة في العهد الجديد
.

 

أ) يسوع الصاعد إلى السماء هو رب ومسيح
:

عندما صار التلاميذ على صلة بالمسيح الحي، أمكنهم أن يعلنوا أن ” الله أقامه من بين الأموات ” (1 تسالونيكي 1: 10، رومة 10: 9، راجع 8: 11، غلاطية 1: 1، 1 بطرس 1: 21، أعمال 4: 10). ولم يصلوا إلى هذا التأكيد انطلاق1 من نص من الكتاب المقدس ( راجع 1 كورنتس 15: 4)، وإنما يعبّرون عنه بطريقة مباشرة، بالاستعانة بالإصطلاحات اللاهوتيّة التي تداولها اليهود بشأن القيامة، فالاختبار الفصحي يتطلب ارتفاع يسوع وتنصيبه، مثلما يظهره اختبار اسطفانوس (أعمال 7: 56) واختبار بولس (17: 3، 22: 6، 26: 13
).

يتّفق هذا المضمون الأولي للإيمان المسيحي مع الهتاف الآرامي القديم جداً “ماران آتا ” (1 كورنتس 16: 22، رؤيا 22: 20، راجع صدى ذلك في 1 كورنتس 11: 26)، ومعناه، بحسب التفسير الأرجح: “ربنا تعال! “. ويوضّح هذا الهتاف أن المسيح الذي ارتفع إلى السماء وتمجّد، هو ” ديّان ” اليوم الأخير. فضلاً عن ذلك، يعبّر أيضاً عن المعنى الحقيقي لمجيء يسوع الممجّد (أعمال 1: 11)، ذلك المجيء الذي ليس مجرد “رجوع” في الأزمنة الأخيرة، ولكنه ظهور مستمر خلال تاريخ البشر: فالمسيح رب التاريخ (راجع متى 28: 20
).

وهناك عبارة أخرى قديمة، صاغتها في الغالب الكنائس اليونانية الأصل، وهي إعلان الإيمان بأن “يسوع رب” (1 كورنتس 12: 3 ، رومة 10: 9، فيلبي 2: 11). وهي ” تعلن ” أيض1 في الاحتفالات الطقسية . إذ ليست صيغة إيمان جافة، بل كل اعتراف وخضوع ليسوع الذي أصبح الرب
.

إن هذا الحدث العجيب، بعد ما تمّ الإعلان عنه، سوف تُحدَّد طبيعته بدقة على ضوء الكتب المقدسة. وهكذا، فإن النبوّات عن المسيّا (2 صموئيل 7: 14، مزمور 2: 7، 110: 1) تساعد على فهم أن الله قد أقام يسوع “ربّاً ومسيحاً” (أعمال 2: 36)، و جعله ” ابن الله ” (رومة 1: 4، أعمال 13: 33)، وأنه قائم “عن يمين الله” (أعمال 7: 56، : وربما أيضاً 2: 33- 35، 5: 31، مرقس 4 1: 62//، رومة 8: 34…). وأخيراَ أن المسيح يشارك الله في قدرته الإلهية اللامتناهية (راجع متى 28: 18
).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ أثاث ث

وبالنظر إلى ارتفاع يسوع إلى السماء، تحمل ألقاب المسيح، وابن الله، والرب، في الأصل معنى مماثلاً. فهي لا تتعلق مباشرة بموت المسيح أو بحياته على الأرض، وإنما تؤكد فقط أن يسوع الناصري يحقق آمال إسرائيل، ويصبح رب كل الأزمنة
.

وتتفرع عن هذه النظرة كل الشروح اللاهوتية المقدّمة من كتّاب العهد الجديد. فمثلاً لا يكتفي بولس الرسول بأن ينقل إلى يسوع تسمية كيريوس
( kyrios )
التي تشير إلى الله في الترجمة السبعينية (رومة 10: 2- 3 فيلبي 2: 11، 1 كورنتس 2: 8، راجع 15: 25، أفسس 1: 20)، بل يقابل يسوع “بالأرباب” عند الوثنيين (1 كورنتس 8: 5- 6، 10: 21). ولعل من هنا تأتي تسمية “ربنا يسوع المسيح”، منطلق مدوّني الأناجيل على يسوع ليس فقط تسمية “ربّي
” ( Rabbi )
أي يا معلم ، ولكن أيضاً تسمية “الرب” (راجع متى 8: 25 //، لوقا 7: 19 //)، ودروب الأَرباب ” (رؤيا 17: 14
) .

 

ب) موت يسوع الخلاصي
:

إزاء العثرة التي سبّبها موت يسوع الشائن، يبحث الإيمان الفصحي عن تبرير له في الكتب المقدسة. خلال حياته على الأرض، كان يسوع، بصورة مستترة، قد فسّر مصيره بواسطة النبوّة الخاصة بعبد الرب الذي تألم ثم تمجّد. وتطلق الكنيسة الأولى على ربها لقب العبد (أعمال 3: 26، 4: 25- 30)، وتعبّر عن معنى الأحداث الماضية باستخدام كلمات إشعيا النبي (52: 13 إلى 53: 12). ارتفع يسوع إلى السماء (أعمال 2: 33، 5: 31)، و ” مجّده ” الله (3: 13). وهكذا نجد إشارة إلى آلام المسيح ني نص سابق على رسالة بطرس (1 بطرس 2: 21 25). ونجد نفس الإشارة في شرح فيلبس للخصيّ الحبشي (أعمال 8: 30- 35
).

وأخيراً نجد صيغة إيمان، عريقة في القدم، تعلن أن يسوع “قد مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب” (1 كورنتس 15: 3). وحرف الجر
hyper
هنا، مثلما هو الحال في مواقع أخرى (غلاطية 1: 4، 2 كورنتس 5: 14- 15، 21، رومة 4: 25، 8: 32، 1 بطرس 3: 18، 1يوحنا 2: 2)، لا سيما في الاصطلاحات الخاصة بسر الشكر ( لوقا 22: 20، 1 كورنتس 11: 24)، يستعمل للتأكيد على القيمة الخلاصيّة لموت يسوع
:

ثمَّ إن تسميات أخرى، لها معنى مماثل للمعنى الذي اتخذه لقب عبد الرب، تعبّر بدورها عن نفس الحقيقة. يسوع هو” البار” (أعمال 3: 14)، ملك الحياة (3: 15، راجع 5: 31)، الحمل الذي لا عيب فيه (1 بطرس 1: 19- 20، راجع يوحنا 29: 36). هو الحبر الأعظم النقي وسيط العهد الجديد (عبرانيين 2: 14- 18، 4: 14
).

انطلاقاً من ذلك، وتحت تأثير الديانات اليونانية المتضافر، نقرأ تسمية “المخلّص” في رسائل بولس الأخيرة (تيطس 1: 4، 2: 13، 3: 6، 2 تيموتاوس 1: 10). ومن هنا أيضاً، تتعمّق نظرة بولس التصوفيّة في شأن العماد الذي هو اشتراك في موت يسوع وقيامته (غلاطية 2: 19، رومة 6: 3- 11)، ومنها تستمد عقيدة ” الكفارة ” ( رومة 3: 23- 24
).

 

جـ) يسوع من حيث هو إنسان
:

إن الكنيسة الأولى، لاهتمامها المتزايد بأصل ذلك الذي تؤمن بوجوده حيّ1 وسطها، لم تلبث أن وجّهت عنايتها نحو الفترة التي عاشها يسوع على الأرض
.

هكذا، يتبلور التقليد الإنجيلي للإستجابة إلى الحاجة المزدوجة، أولاً إلى تعريف المؤمنين بحياة من تؤمن أنه قام من بين الأموات ( أعمال 10: 37- 38)، وثانياً، إلى الإشادة بسيرته، كمثل يحذو المؤمنون حذوه في مسلكهم. وهكذا، رويداً رويداً، تتبيّن الذكريات وتتجمع، يستقطبها كلها الإيمان بالرب يسوع. فعلى هذا الضوء ، يظهر وجه يسوع الإنسان، ساطعاً ومتسامياً
.

ولا تسترعي حياة يسوع، على الأرض، اهتمام بولس الرسول، على قدر ما يهمّه تعليمه وموته الكفّاري. فالرسالة إلى العبرانيين، من ناحيتها، تشرح بجلاء معنى آلام المسيح. لقد تحمّل يسوع موته بملء رضاه (عبرانيين 10: 7)، وجعله الله ” كاملاً بالآلام ” (2: 10)، وتحمّل الصليب بدل1 من الفرح (12: 2)، وتعلّم الطاعة بما لقي من الألم (5: 7- 8)، و”هو رأس إيماننا ومتمّمه ” (12: 2
).

وتستمر حركة الرجوع إلى النبع، في سبيل الوصول إلى أصل يسوع الأول، وتستعين على الأرجح بالاعتماد على بعض النبوّات ، مثل نبوّة ناتان (2 صموئيل 7: 12- 14)، أو على المزمور 16: 10- 11. إن حياة يسوع تشتمل على وجهين للوجود: حياة أرضية في الجسد، وحياة سماوية بالروح ( رومة 1: 3- 4، 1 بطرس 3: 18، 1 تيموتاوس 3: 16). وإذ نال يسوع داخلي1 المسحة بفعل الروح القدس، اعتبرت هذه المسحة مرة ملوكية، عند تنصيبه (عبرانيين 1: 9) ومرة أخرى نبويّة خلال عماده ، في سبيل تولّيه الخدمة (أعمال 10: 38، راجع 4: 27، لوقا 4: 18
) .

ورأت الكنيسة الأولى في قيامته تحقيقاً للوعد الذي قطعه الله لداود (أعمال 2: 34- 35، 2 تيموتاوس 2: 8)، ممّا قادها إلى اعتبار يسوع ابناً لداود (رومة 1: 3- 4، 2 تيموتاوس 2: 8، أعمال 13: 22- 23، 15: 16، وربما أيض1 مرقس 12: 35- 37). من ثمَّ ، تمت صياغة سلسلة أنساب المسيح (متى 1: 1- 17، لوقا 3: 23- 37). وللغرض عينه (توضيح مفهوم المسيح، وتحقيق ما جاء في الكتب المقدسة) ترد المقدّمات في الأناجيل التي تروي لنا التقاليد الخاصة بطفولة يسوع (متى 1، 2، لوقا 1، 2
) .

فالتاريخ القصصي الذي تسرده هذه المقدّمات يعرض لنا فكر1 لاهوتي1 عميق1، هدفه الرئيسي الإجابة على السؤال التالي: ما هو أصل هذا الرب الذي نعبده ؟

إن التاريخ القصصي الذي تسرده هذه المقدّمات ليعرض فكر1 لاهوتي1 عميق1، هدفه الرئيسي الإجابة على السؤال التالي: ما هو أصل هذا الرب الذي نعبده؟

 

د) بكر كل خليقة
:

إذا رجعنا إلى أبعد من ذلك في بحثنا، نكتشف وجوداً سابقاً ليسوع، وذلك اعتماداً لا على الأسطورة الغنوصية الخاصة بالله- المخلص، ولكن على التقاليد الرؤيويّة اليهوديّة، التي من دأبها أن تظهر الوحدة القائمة بين بداية العالم ونهاية الأزمنة. هكذا يؤكد كتاب أخنوخ الوجود السابق لابن الإنسان (أخنوخ 39: 6- 7، 40: 5، 48: 2- 3، 49: 2، 62: 6- 7). ومن جهة أخرى، كانت هناك أوساط يهودية تتأمل في عمل الحكمة في بداية الخلق (أيوب 28: 20- 28، باروك 3: 32- 38، أمثال 8: 22- 31، سيراخ 24: 3- 22، حكمة 7: 25- 26
).

في نشيد قديم جدداً، في خلفيّة الرسالة إلى أهل فيلبي 2: 6- 11، توصف الحالات الثلاث المتعاقبة التي مرّ بها يسوع، كان أولاً “على شكل الله ” قبل أن يخلي ذاته خلال حياته على الأرض، ثم ارتفع إلى السماء. ولا يؤكد هذا النص أن أقنوماُ إلهياً قد ” اتّخذ ” طبيعة بشرية معيّنة، ولكنه يحاول أن يظهر أن حضور يسوع يمتد إلى كامل مدة الزمن
.

إن يسوع هو الذي “به كان كل شيء وبه (نصل إلى الله)” (1 كورنتس 8: 6). هو الصخرة التي كانت ترافق الشعب في الصحراء (10: 4). وأخير1 وقبل أن يستكمل بولس الرسول نظرته اللاهوتية، قيل عن يسوع إنه “صورة الله الذي لا يُرى، وبكر الخلائق كلها ” (كولسي 1: 15)، الذي ” فيه يحلّ جميع كمال، الألوهيّة ” (2: 9
).

والعهد الجديد ، بعدما أكد برّ يسوع التام وقداسته الكاملة (أعمال 3: 14)، يتّجه نحو إعلان ألوهيته. هو ” ابن الله ” بمعنى يوضّح التلميحات التي فاه بها يسوع الناصري، ويتجاوز فيها مفهوم المسيّا، لأنه يرتكز على الوجود السابق للابن الذي أوحى به الله إلى بولس الرسول (غلاطية 1: 16) والذي يعلن بولس بشارته السارة (رومة 1: 9
).

إن يسوع هو “ابن الله “: هذا هو إيمان المسيحي (1 يوحنا 4: 15، 5: 5)، الذي تعلنه الأناجيل بلا انقطاع (مرقس 1: 11، 9: 7، 14: 61، لوقا 1: 35، 22: 70، متى 2: 15، 14، 33، 16: 16، 27: 40، 43). بمثابة صدى لكلام يسوع عن “الابن ” (متى 11: 27//، 21: 37 – 39، 24: 36//) . أما حركة الوحي فتؤدّي إلى الإعلان ( لعله منذ الرسالة إلى أهل رومة 9: 5، وعلى الأرجح في عبرانيين 1: 8، تيطس 2: 13، وأكيد1 في يوحنا1: 1، 18، 20: 28) أنّ يسوع هو الله ، واحد مع الله في الجوهر
.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القس أنطونيوس فكرى عهد قديم سفر نشيد الأنشاد 01

وتبعاً للوجود السابق، يظهر أيضاً بُعد يسوع الكنسي والكوني. هو رأس الكنيسة التي هي جسده (كولسي 1: 18). وسيادته تمتد إلى العالم كله، الذي اجتاز أبعاده الثلاثة: الأرض والجحيم والسموات (فيلبي 2: 10) . أليس هو “رب المجيد” (1 كورنتس 2: 8)، من حيث إنه “بكر من قام من بين الأموات ” (كولسي 1: 18) ؟

ترتبط بهذه النظرة ألقاب متنوعة. يسوع هو آدم الجديد (1 كورنتس 15: 15، 45، رومة 5: 12- 21) الذي يجمع
( anakephalaio )
فيه الله كل شيء (أفسس 1: 10)، والذي أسّس السلام إذ خلق (في شخصه) إنسان1 جديد1 واحد1 (2: 13- 16)، هو وسيط العهد الجديد (1 تيموتاوس 2: 5، عبرانيين 9: 15، 12: 24
)…

 

2.
تقديم الأناجيل لسر يسوع
:

تجمعّت الصِيغَ الأولى التي بها حاولنا إدراك سر يسوع بطريقة مصطنعة. لكن الأناجيل هي وحدها، في الواقع، تحتوي على النظرة اللاهوتية الأصيلة عن المسيح. وقبل تدوين الأناجيل الأربعة، كان للتقليد إنجيل شفهي شائع يعمل على تفسير سر يسوع، وإننا نتعرّفه مما تبرزه عن المسيح رأس كل فقرة من فقرات الأناجيل، وكذلك من الترتيبات المختلفة التي سبقت تدوين الأناجيل الإزائية. فالاهتمام بحياة يسوع على الأرض له دلالته في حدّ ذاته، بغضّ النظر عن أيّة ترجمة لحياة يسوع
.

وبدقة أكثر، إن هذه العناية بحياته على الأرض تكشف عن اهتمام مزدوج. فمن جهة، تجنباً لأيّة محاولة غنوصية ترجع بتعاليم يسوع إلى إحدى الأساطير، يودّ الإنجيليون التأكيد أنّ شخصية يسوع متأصلة في التاريخ. ومن جهة أخرى، استبعاداً لأيّة محاولة تكتفي بإحياء آثار الماضي، يخرج تعبيرهم انطلاقاً من قناعة، بأن الذي عاش لا يزال حيّاً بعد، وهو يخاطب مسيحيي العصر الحاضر. فإنما الأناجيل كلها ” تبعث إلى الواقع الحالي ” حادث يسوع الناصري
.

وهذا المفهوم عن شخصية المسيح في العهد الجديد، هو الإنجيل الحقيقي أي البشرى السارة التي ستُدوِّنها الأناجيل فيما بعد. ولا يصاغ هذا المفهوم بموجب منهج معيّن، ولا بداعٍ من المراسلة، ولكن بهدف واحد، هو تقديم سر يسوع، الذي أصبح ربّاً، وتطبيقه على الواقع الحالي. أما الأناجيل، فتعرض مظاهر مختلفة لهذا القديم، وتحيل دائماً إلى الإنجيل الواحد الذي أعلنه الله في الروح القدس. ونورد هنا بعض ملاحظات وجيزة في هذا الصدد لاستكمال عرض هذه النظرة السريعة
.

 

أ) القديس مرقس
:

يدعو القديس مرقس قارئه أن يتعرّف ابنَ الله، في شخص يسوع الناصري، الذي خلّصنا بانتصاره على الشيطان. ويلحّ في حادث التلاقي الشخصي الدقيق مع الله في شخص يسوع، في آخر الأزمنة. ويمكننا أن نلاحظ تحفّظ مرقس، بالنسبة إلى متى ولوقا، في استعمال عبارة ” ابن الله”. فخارج الاعتراف الصادر عن الشياطين (مرقس 3: 11، 5: 7)، لا نجد هذا اللقب إلا في قمم الوحي الثلاث: على لسان الله في العماد (1: 11)، وأثناء التجلي (9: 7) وعلى لسان قائد المائة. ها هو حجاب الهيكل يتمزق وزمن اليهودية قد انتهى. عندئذ، يعلن قائد المائة باسم الوثنيين، أن موت يسوع لذو مفعول: “كان هذا الرجل ابن الله حقاً” (15: 39
).

 

ب) القديس متى
:

يتوّج القديس متى إنجيله بالبيان الذي فاه به السيد المسيح، بعد قيامته من بين الأموات: ” إني أُوليت كلّ سلطان… وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 18-20). ويتقدم يسوع كابن الإنسان الذي أعلن عنه دانيال النبي (دانيال 7: 13- 14)، والذي أوتي السيادة على العالم كله. ويجتهد متى في إظهار انتصار يسوع على أعدائه بعد أن رفض قبول هذه السيادة من الشيطان (متى 4: 8- 10)، لأن الآب قد أولاه كل شيء (11: 27). وإن ملكوت الله هو ملكوت المسيح، وإظهار1 لذلك يبرز متى البرهان الكتابي الذي طالما استعملته الكنيسة الأولى، لأن يسوع جاء ليحقّق النبوّات ويتوّج تاريخ إسرائيل. ومن بين الأناجيل الأربعة، يعتبر إنجيل متى أكثر أدوار الكنيسة بروز1، مطبّق1 الحوادث الماضية على أهل زمانه (راجع 14: 33
).

 

جـ) القديس لوقا
:

يبدي القديس لوقا في كتاب أعمال الرسل، اهتماماً خاصاً بالكنيسة، ومع ذلك، فهو يعطي ثبات1 وصلابة لزمن يسوع الّذي يقوم في فترة ما بين عهد النبوات وزمن ميلاد الكنيسة (راجع لوقا 16: 16، 22: 35- 38، أعمال 2: 1)، وتأخذ حياة يسوع قيمة خاصة في الزمن الكنسي. فهي المرحلة الأولى في تحقيق قصد الله في الكنيسة، ولها قيمة المثال الذي سترتكز عليه الكنيسة باستمرار في تاريخها اللاحق: فهي حادث ماضٍ يبقى حاضراً إلى الأبد. ومن جهة أخرى فصورة المسيح (عند لوقا) هي بصفة خاصة صورة المخلّص الرحيم ( لوقا 3: 6، 9: 38، 42، أعمال 10: 38)، الذي يبشّر الفقراء ( لوقا 4: 18)، ويهتمّ بالخطأة (15) و بالمحرومين على الأرض . أخير1، تأخذ تسمية ” ابن الله “، في إنجيل لوقا، معنى قوي1 يتميّز تمام1 عن لقب المسيح (1: 35، 22: 70
).

 

د) القديس يوحنا
:

يبدأ القديس يوحنا تقديمه لشخص يسوع بالتصريح المتداول عن أزليته، ويظهر في يسوع مجد الآب- وهو المجيد الذي صار له بالقيامة- مشعّاً خلال الآيات التي يصنعها في زمن عبوره على هذه الأرض. إن ابن الإنسان، الذي هو في السماء، حاضر هنا أيضاً وصاعد إلى السماء (يوحنا 3: 13، 31، 6: 62، راجع 13: 1، 14: 28، 16: 28، 17: 5
).

فيسوع هو كلمة الله الذي ظهر في جسد خاضع للموت (1: 14). وهو صاحب الإعلان المطلق والأخير، يهب الحياة لمن يؤمن به (3: 16- 17، 36، 11: 25- 26…). الذي نسمعه يصرّح بأزليته (8: 58، 10: 38) ، وباستقراره الباطني في الأب (10: 38 ، 14: 9- 10، 20، 17: 21
) .

وبصفة خاصة أيضاً، يبقى كتاب يوحنا، الإنجيل المثالي، بقدر ما يرجع دائماً المؤمن إلى شخص يسوع الناصري وعمله على الأرض، اللذين وحدهما يعطيان معنى للحياة الكنسيّة ولممارسة الأسرار المقدّسة: العماد (3: 22- 30) والأفخارستيا (6
).

 

خاتمة
:

قبل أن نختم كلامنا، نذكر كتاب الرؤيا. إنه في ملتقى تيّارات عديدة، ولاسيما تيّار الحياة الطقسيّة، يقدّم المسيح الحيّ، الرب الذي يقود الكنيسة ويدبّر أمورها (رؤيا 1- 3). وتبرز فيه خاصة صورة الحمل الذي يحمل أثر الآلام التي قاساها (5) . إنه يضمن انتصار الكنيسة على أعدائها (6: 15- 17، 17: 14) ويعيّن ميعاد1 لعرسه مع الكنيسة في نهاية الزمن (19: 7- 8، 21: 9). ولكونه رب تاريخ البشر، هو الأول والآخر (1: 17)، البدء والنهاية (22: 13)، الألف والياء (1: 8، 21: 6)، الأمين (3: 14)، مسيح الله، وأخير1 ملك الملوك ورب الأرباب، الذي يرفع الناس إليه كلّ إكرام وكلّ مجد (17: 14، 4: 9
).

ولا يمكننا أن ننسّق تحت مذهب واحد، الصور التي قدّمنا بها سر يسوع الناصري، الذي أصبح رباً ومسيحاً، ولكن تعرب هذه الصور عن بادرة واحدة، وهي الإرادة بأن يتحقق حالياً لبيئة معيّنة، حضور يسوع هذا الذي عاش ومات من أجلنا بحيث نقيس صحة معتقدنا.بمتانة الرباط الذي يجمع بين التأويل المسيحي والواقع الأصيل الذي هو شخص يسوع: ” إن كل روح يعترف بيسوع المسيح المتجسد يكون من الله ” (1 يوحنا 4: 2). وللتعبير عن الإيمان ونشره، استعانت الكنيسة الأولى بثقافات زمنها المختلفة: باليهوديّة الفلسطينّية و بيهوديّة الشتات، وبالحضارة اليونانية المحيطة
.

وهكذا تكيّفت الكنيسة مع الحضارات المختلفة ، فهي قد شرعت في حركة التأويل معطية صورة مسبّقة لما يجب أن يتمّ في المستقبل، بينما يواصل علم التفسير الكتابي سيره في خط العهد الجديد حتى يشمل مواضيع مثل إدراك المسيح والطبيعة والأقنوم وذلك دون ادّعاء بأنّه وضع لها تفسيراً نهائيّاً. وفي أيامنا أيضاً ينبغي أن تستخدم الكنيسة علم التفسير هذا، من خلال الثقافات المختلفة التي يعبّر فيها الناس عن إيمانهم بيسوع المسيح
.

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي