هيرودس أغريباس الأول

 

(5)
هيرودس أغريباس الأول (37 – 44م
).

 

وهو ابن أرستوبولس ( بن هيرودس الكبير ) من زوجته برنيكى ابنة عمته سالومى . وقد ولد فى 01 ق.م . وتوفي فى 44م . ويذكره يوسيفوس باسم ” أغريباس ” ، و ” أغريباس الكبير ” . ويذكر فى العهد الجديد باسم ” هيرودس ” أو ” هيرودس الملك ” ( أع 12:1و6و11و19و21) . وقد تربى ونشأ فى روما مثل غالبية أمراء أسرة هيرودس . ويبدو أنه كان ذا سجايا كريمة وروح رحيمة وبلاغة واضحة . وكان يهوديا غيوراً للدين أكثر منه متدينا حقيقيا . فكان ينطبق عليه القول : ” يعشر النعنع والشبث والكمون ” ويهمل أثقل الناموس : الحق والرحمة والإيمان ” (مت 23 : 23 ) . وكان محبا للظهور، ويمتلك جاذبية شخصية قوية ( كما يذكر يوسيفوس
) .

وكان أغريباس وكايوس كاليجولا ، الوارث المأمول للعرش الإمبراطورى ، أصدقاء فى شبابهما ، مما كان له فائدة كبيرة للأمير أغيباس فيما بعد . ولكن حدثت مفاجاءات غريبة نتيجة هذه الصداقة : فيوما ما كان الصديقان يركبان معاً مركبة يقودها سائق اسمه ” افتيخوس ” أحد عتقاء الإمبراطور طيباريوس . وفى أثناء حديث الصديقين معاً ، مد اغريباس ذراعيه وقال بحماسة لكاليجولا إنه يتمنى أن يموت طيباريوس العجوز ليتيح الفرصة لكاليجولا للجلوس على عرش الامراطورية . وسمع السائق هذا الحديث ، ونقله إلى الإمبراطور طيباريوس ، الذي أمر فى الحال أن يُكبَّل أغريباس بالسلاسل ويلقى فى السجن . ونفذ الأمر فوراً ، ودخل أغريباس فى ثيابه الفاخرة إلى السجن حيث كان يوجد عتاه المجرمين
.

ولكن هذا الإذلال لم يدم سوى ستة أشهر ، عندما مات طيباريوس قيصر ،أصبح كاليجولا إمبراطوراً لروما
.

فبعد تشييع جنازة طيباريوس ، استدعى كاغليجولا صديقه أغريباس وحالما رآه وضع على رأسه تاجاً وعينه ملكاً على مقاطعة عمه فيليبس مضافاُ إليها مقاطعة ليسانيوس ، وخلع سلسلة الحديد التى كانت تكبل يديه ، ووضع عوضا عنها سلسلة من الذهب بنفس الوزن ، علقها فى رقبته . وقد علقها أغريباس فيما بعد فى الهيكل في أورشليم لتكون تذكاراً لما عاناه ، وكيف أحسن إليه الله . ثم خلع عليه مجلس شيوخ روما رتبة شرفية فى حرس الإمبراطور
.

وفي السنة الثانية لكاليجولا ، التمس أغريباس من الإمبراطور أن يرجع إلى بلاده في فلسطين ، ليحكم مملكته . وبناء علي ذلك ركب سفينة نقلته من روما إلى الإسكندرية في مصر . وكان يهود الإسكندرية فى ذلك الوقت فى علاقات سيئة مع اليونانيين فيها ، فعندما رأى اليونانيون هذا الملك اليهودى مصحوبا بحرسه الخاص ، وهو يصرف الكثير من الذهب والفضة ، انتهزوا الفرصة للاستهزاء به ورميه بأقذع الألفاظ ، بل وأخذوا ولداً فقيراً أبله اسمه ” كارباس ” ، كان أضحوكة للأولاد في الشوارع ، ووضعوا تاجا من ورق على رأسه ، وعصا فى يده عوضا عن الصولجان ، وجعلوا من بعض الأولاد المتشردين حرساً خاصا له ، ودفعوا به على المسرح العام استهزاء بهذا الملك الجديد . ولكن عندما وصل أغريباس إلى بلاده ، استقبله اليهود بالترحاب
.

وفى ذلك الوقت بدأت أعراض الجنون تظهر على كاليجولا . وكان من أثر ذلك أنه أصدر الأوامر بأن يعتبره رعاياه فى كل جهات الإمبراطورية إلها يتعبدون له ، وأن يقسم جميع الناس باسمه . وقد ملأ هذا الخبر قلوب اليهود بالفزع والرب ، وبخاصة عندما أمر ” بترونيوس ” حاكم سورية أن يقيم تمثالاً مذهباً للإمبراطور في قدس الأقداس في الهيكل في أورشليم لكي يقدم له اليهود العبادة . وقد حاول تنفيذ نفس الأمر في الإسكندرية ، مما أدى إلى اضطرابات عنيفة ومذابح . فذهب وفد من يهود الإسكندرية على رأسه فيلو الفيلسوف السكندري الشهير ، إلى روما لإقناع كاليجولا بالعدول عن هذا الخطأ الفاحش . لكن عندما وصل الوفد إلى روما ، رفض الإمبراطور بجفاء أن يقابلهم . وفى نفس الوقت ذهب ” بترونيوس ” بجيش إلى أورشليم . وفي بتوطايس اجتمع نحو عشرة آلاف يهودي ملتمسين من الوالي السوري ألا يجبرهم على ” عصيان شريعة آبائهم ” ، وأنه إذا أصر على تنفيذ الأمر الإمبراطورى ، فعليه أن يقتلهم هم أولا ، ثم بعد ذلك يفعل ما يريد . وقد تأثر ” بترونيوس ” من شدة ولائهم لعقيدتهم ، وصرف اليهود واعداً بأن يرفع ملتمسهم إلى روما
.

وفي ذلك الوقت ، كان أغريباس في روما يقيم مأدبة عظيمة تكريما للإمبراطور ، وعندما لعبت الخمر برأس كاليجولا ، وأغريباس يشرب نهب الإمبراطور ، عرض كاليجولا على أغريباس أن يمنحه كل ما يرضيه طالما كان هذا الطلب فى استطاعة الإمبراطور ، فرفض أغريباس – فى لباقة ودهاء – أن يطلب شيئا لنفسه ، إذ قد حصل فعلا على الكثير ، ولكنه من أجل أخوته فى الوطن ، يلتمس ألا يصر الإمبراطور على إقامة التمثال الذى أمر بترونيوس أن يقيمه فى الهيكل . فألغى كاليجولا أمره المذكور إكراما لأغريباس . ولكنه إذ اكتشف أن بترونيوس قد توانى فى تنفيذ الأمر ، أمره بأن ينتحر ، لكن لم يصل هذا الأمر الجائر إلى سورية إلا بعد أن كان كاليجولا قد مات مقتولاً بطعنة خنجر من شخص اسمه ” كاريا ” كان الإمبراطور قد أفحش في سبه وإهانته ، وكان ذلك فى 14 م . فاعتلى عرش روما كلوديوس قيصر . واستخدم أغريباس كل دبلوماسيته ونفوذه فى روما تأييداً لكلوديوس . ولذلك حالما اعتلى كلوديوس قيصر العرش ، أصدر قرارات فى صالح اليهود ، ووسع من المنطقة التى يحكمها الملك أغريباس إذ أضاف إليها اليهودية والسامرة والأبلية . وهكذا أصبح ” أغريباس ” ملكا على كل مملكة جده ، هيرودس الكبير ، فيما عدا أدومية ( كما يذكر يوسيفوس ) ومما يؤيد هذا اكتشاف قطعة من العملة منقوش على أحد وجهيها : ” أغريباس الكبير المحب لقيصر ” ، وعلى وجهها الآخر : ” قيصر على ميناء سيبسطوس ” ( أي أوغسطس
).

وعلى الرغم مما حصل عليه أغريباس من امتيازات وامتداد فى مملكته ، فإن روما جعلته يشعر على الدوام ، بأنه يحكم اعتماداً على قوة روما التي تسيطر على كل الأمم التى يرفرف عليها العلم الرومانى . ولأن هيرودس كان أدوميا أصلاً ، فمما يذكر عنه ، أنه في إحدى المناسبات ، قبل توسيع كلوديوس لمملكته ، في أحد أعياد المظال ، قرئ فى سفر الشريعة : ” فانك تجعل عليك ملكا الذي يختاره الرب إلهك . من وسط إخوتك تجعل عليك ملكا ، لا يحل لك أن تجعل عليك رجلا أجنبيا ليس هو أخاك ” ( تث 17 : 15 ) ، وإذ تذكر أغريباس أنه من جنس غريب ، وأن هذه نظرة شعبه إليه ، افنجرت الدموع من عينيه . ولكن الشعب تعاطف معه ، وهتفوا قائلين : ” لا تخف يا أغريباس لأنك أنت أخونا ، لأن الشريعة تقول أيضاً ” لا تكره أدوميا لأنه أخوك … في الجيل الثالث يدخلون منهم في جماعة الرب ” ( تث 23 : 7 و 8 ) . وكان هذا القول ينطبق – بلاشك – على أغريباس ، فقد كان قد تجاوز الجيل الثالث
.

وكان أغريباس يقيم معظم وقته في أورشليم ، وبدأ فى بناء الأسوار الحصينة حولها ، ولكن ” مارسوس قبيوس ” والي سورية أمر بالكف عن البناء لمجرد الشك . وكان الملك أغريباس – ككل أسلافه – شغوفا بالفخفخة . وقد دعا مرة عدداً من صغار الملوك المجاورين لمملكته ليستضيفهم فى مدينة طبرية ، وجاء ” مارسوس فبيوس ” من سورية ، ورأى أغريباس والملوك الخمسة الذين معه أن يكرمو ” فبيوس ” فخرجوا في مركبة لاستقباله وهو على بعد سبع غلوات ، ولكن إذ كانت الشكوك تساور ” فبيوس ” من جهة تلك الضيافة ، وجَّه إهانة قاسية للجميع بإصدار أمره لهم بأن يعود كل واحد من الملوك الخمسة إلى موطنه ( كما يروي يوسيفوس
).

ويُذكر هيرودس أغريباس الأول فى العهد الجديد باسم ” هيردوس ” ، وهو الوحيد الذي خلع عليه الإمبراطور لقب ” الملك ” ، وهو وحده الذي حكم كل مملكة جده هيرودس الكبير الذى كان قد مات عقب مولد الرب يسوع المسيح . ويذكر هيرودس أغريباس مرتين في الإصحاح الثاني عشر من سفر أعمال الرسل . ومع أنه كان بعامة رجلاً كريما ، إلا أنه كان يتلهف على إرضاء رعاياه ( اليهود ) مما دفعه إلى اضطهاد جماعة المسيحيين في أورشليم ، إذ نقرأ : ” في ذلك الوقت مد هيرودس الملك يديه ليسيئ إلى أناس من الكنيسة ، فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف ، وإذ رأى أن ذلك يرضى اليهود ، عاد فقبض على بطرس أيضاً . وكانت أيام الفطير . ولما أمسكه وضعه فى السجن مسلِّماً إياه إلى أربعة أرابع من العسكر ليحرسوه ناويا أن يقدمه بعد الفصح إلى الشعب ” ( أع 12 : 4 ) . ولكن الرب أرسل ملاكه وأنقذ بطرس من السجن ( أع 12 : 5 – 10
) .

اجتمع أغريباس ونوابه وبعض أشراف المملكة للاحتفال بإقامة دورة ألعاب ، ولنذر النذور من أجل سلامة الإمبراطور كلوديوس ، وفي صباح اليوم الثاني من الاحتفالات ، ظهر الملك أمام الشعب ، مرتديا حلته الملوكية منسوجة كلها من خيوط الفضة ، فعندما وقعت أشعة الشمس عليها ، انعكست عليها فبدت برَّاقة ، فهتف الشعب : ” هذا إله ” . ويقول يوسيفوس إن الملك لم يردعهم ولم يرفض هذا الهتاف له ( ارجع إلى أع 12 : 20 – 23 ) ، كما يذكر أن الملك فارق الحياة بعد ذلك بخمسة أيام ، وهو في الرابعة والخمسين من عمره ، وفي السنة السابعة من ملكه ، إذ قد حكم أربع سنوات فى عهد الإمبراطور كاليجولا ، كانت ثلاث منها على منطقة فيلبس رئيس الربع ، وفي السنة الرابعة امتد حكمه إلى منطقة هيرودس أنتيباس ، ثم حكم ثلاث سنوات أخرى فى عهد كلوديوس قيصر
.

 

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي