عدم تغير

 

عدم التغير خاصية يتميز بها الله في ذاته وفي طبيعته وكمالاته. كما في علمه وإرادته ومقاصده ، فهو يظل هو هو على الدوام في ملء كيانه الكامل غير المحدود، فهو يجل عن كل تغير وتحول وتطور ، التي هي خصائص كل الأكوان والخلائق ، فعدم التغير من الصفات التي ينفرد بها الله ، والتي تجعل الله هو الله متميزاً عن كل ما هو محدود معَّرض للتغير والفناء، وحيث أن العقل المحدود لا يستطيع أن يحيط الله غير المحدود فان وراء كل ما أعلنه الله عن نفسه، ووراء سلطانه المطلق وسرمديته وعدم تغيره، يكمن ملء كيانه غير المحدود الذي لا يُستقصى و لايدرك والذي لا شبيه له ولا نظير في طبيعته وصفاته (مز 145 :3، 147 : 5، أيوب 11 : 7– 9، إش 40 : 28
).

وعدم التغير لا يقتصر على طبيعة الله الأدبية ، او على محبته فحسب، ومع أن هذه الصفات التي ينفرد بها قد تجلت بصورة واضحة في عمل الفداء ، إلا أنها لا تقتصر على ذلك، فمن الحق أن الله غير متغير في محبته ونعمته وقدرته على الخلاص ، ولكن ذلك كله ، لأنها محبة ونعمة وقدرة الله غير المتغير وغير المحدود
.

أولاً : عدم تغير الله حقيقة لاهوتية
:

فحيث أن الله كائن بذاته وكامل كمالاً مطلقاً، فهو منزه عن احتمال التغير، وأسمى من كل عوامل التغير، لأنه سرمدي ، إزلي أبدي ، غير محدود بمكان أو زمان، فهو وحده الكامل المطلق المنزه عن التغير والتحول ، فهو الله الذي “ليس عنده تغيير ولاظل دوران” (يع 1 : 17
).

ثانياً : تعليم الكتاب عن عدم تغير الله
:

يؤكد لنا الكتاب المقدس هذا الحق ، فهو يعلن لنا الله الخالق الحي الذي له علاقة وثيقة بالعالم والإنسان، وفي نفس الوقت هو غير محدود بالعالم أو الإنسان. فالله الذي أعلن نفسه في العهدين القديم والجديد هو الله الخالق الذي به كل شئ كان وبغيره لم يكن شيء مما كان، وهو حامل كل الأشياء بكلمته قدرته ، فالكل به وله قد خلق ، الذي هو قبل كل شيء، وفيه يقوم الكل (يو 1 : 1، كو 1 : 16 و17
).

(1) 
عدم التغير هذا ليس جموداً : فالكتاب المقدس لا يصـَّور الله غير المتغير كمن لا علاقة له بالإنسان أو بالعالم، فهذا مفهوم ينتج عن خشية إضفاء صفات بشرية على الله ، باعتبار أن خلع هذه الصفات على الله فيه محدودية له . وهذا الفكر يؤدي إلى مفهوم تجريدي عن الله، حتى لتصبح كلمة ” الله “مرادفا ” للمجهول” الذي لا سبيل إلى معرفته . ولكن الكتاب المقدس ينفي هذا المفهوم الخاطيء ويعلن أن الله كائن سام له علاقة وثيقة بالعالم والإنسان. “ففي البدء خلق الله السموات والأرض” (تك 1 : 1) ومنذ ذلك الزمن السحيق ، وهو “حياة العالم” وبخاصة لشعبه ولابراز هذا الحق تنسب إليه الصفات البشرية، فهو يأتي ويذهب ويعلن ذاته ويحجب نفسه، هو يندم (تك 6 : 6 ،1 صم 15 : 11، يؤ 2 : 13، عا 7 : 3) ويغضب (عد 11 : 1، مز 106 : 40)، ويرجع عن حمو غضبه (تث 13 : 17، هو 14 :4)، وله علاقات مختلفة مع الأشرار والصالحين (أم 11: 20 ،12 :22). وفي ملء الزمان أعلن ذاته في تجسد ابنه ، ويسكن في شعبه بالروح القدس
.

هل تبحث عن  م المسيح المسيح وأمثالة 25

وفي الجانب الآخر، يؤكد الكتاب المقدس – على الدوام – في عبارات لا لبس فيها ـ ولا غموض – عدم تغير الله ، فهو عديم التغير في طبيعته ومع أن ” شدأي ” (القدير) الذي أعلن به نفسه للآباء (انظر تك 17 :1) يدل بصورة خاصة على قدرة الله ، الا أن هذا الاسم لا يستوعب كل إعلان الله في تلك الحقبة من التاريخ، ولا شك أن ” اسم الرب الإله السرمدى” (تك 21 :33) الذي دعا إبراهيم الرب، يتضمن عدم تغيره، ولكن هذا الحق يجد تعبيرا أوضح في الاسم ” يهوه ” أو ” أهيه الذي أهيه ” (خر 3 :13- 15) الذي أعلنه موسى، فهو “الكائن من الأزل وإلى الأبد” منزه عن التغير ليس في ذاته فحسب ، بل أيضاً في علاقته مع شعبه كما أن نفس الفكر عن عدم تغير الله يؤكده الرب علىفم النبي إشعياء بالقول : “من فعل داعياً الأجيال من البدء ؟ أنا الرب الأول ومع الآخرين أنا هو “(اش 41 :40– انظر أيضاً 48 :12). كما يقول الرب : ” أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيرى “(إش 44 :6) ويقول على فم النبى ملاخي : ” أنا الرب لا أتغير” (ملاخى 3 :6
).

ويظهر مفهوم اسم ” يهوه ” (خر3 :13– 15) وفي سفرالرؤيا/ في عبارة : “الكائن والذي كان والذي يأتى “(رؤ 1 :4)، فهو لا يدل على دوام الوجود فحسب، بل على عدم التغير أيضاً، وكذلك : “أنا هو الألف والياء” (رؤ 1: 8، 21: 6، 22: 13) “والأول والآخر”، (رؤ 21 : 6، 22 :13)، فكلها تبرز نفس الفكر، ويوصف بها الل،ه كما يوصف بها المسيح ايضا ، وفي ذلك دلالة واضحة قاطعة على لاهوت ربنا يسوع المسيح، كما أن الرسول بولس يؤكد سرمدية الله وداومه وعدم تعرضه للفناء (رو1 :23) فهو “ملك الدهور الذي لايفني” (1تى 1 :17)، “الذي وحده له عدم الموت” (1 تى 6 :16
).

(2)
عدم التغير بالمقابلة مع الفانى المحدود : ولايقتصر تأكيد الكتاب المقدس على عدم تغير طبيعة الله وعلاقة ذلك بتعامله مع الإنسان، بل يُعلن أن عدم التغير ، خاصية مميزة لطبيعة الله بالمقابلة مع كل الكون المحدود المتناهي ، فبينما الأ رض والسموات تتغير ، وفي طريقها إلى الفناء ، الا أن الله هو هو الله إلى أبد الأبدين (مز 102 :26– 28). واستخدام كاتب
 
الرسالة إلى العبرانيين ، كلمات هذا المزمور في الاشارة إلى المسيح (عب 1 :10– 12) تتضمن عدم تغير المسيح، وهو ما يعلنه بكل وضوح في القول: “يسوع المسيح هوه أمسا واليوم وإلى الأبد” (عب 13 :8). وفي ذلك إعلان جلي قاطع لألوهية المسيح ، وهي الحقيقة التي تنطق بها جميع أسفار العهد الجديد
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ف فلتوس س

(3)
علم الله وإرادته ومقاصده

فالكتاب المقدس يعلن أيضاً أن الله لا تغيير في علمه أو إرداته أو مقاصده وقضائه، فهو ” ليس انساناً فيندم” (1 صم 15 :29)، ولذلك فمقاصده لا تتغير فهو ” ليس إنساناً فيكذب ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول ولا يفعل، أو يتكلم ولا يفي؟ “(عد 23 :19 انظر أيضاً إش 46 :11 أم 19 :21)، فكل قراراته راسخة كجبال من نحاس (زك 6 :1)، وعدله ثابت لا يتغير مثل الجبال (مز 36 :6) وقدرته لا تغيير فهو صخر الدهور (إش 26 :4) ومع ان الله على علاقة حيه وثيقة بخلائقه ، الا أنه غير مقيد اطلاقاً بأفعال الإنسان ، سواء في علمه أو إرداته أو مقاصده أو قدرته. فالله يعلم منذ الأزل المسار المتغير للأحداث (أع 15 :18) وهو يتصرف تصرفاً مختلفاً في الظروف المختلفة ، ولكن جميع الأحداث بما فيها أفعال البشر ، محكومة بقصده الذي لا يتغير، فعلم الله وأعماله لا تتوقف على أي
  
شئ خارج ذاته ويقول الرسول بولس: “فلذلك اذ أراد الله أن يظهر أكثر كثيراً لورثه الموعد عدم تغير قضائه توسط بقسم حتى بأمرين عديمي التغير لا يمكن أن الله يكذب فيهما تكون لنا تعزية قوية ..” (عب 6 : 17 و18
).

(4)
في علاقته بالعالم : كما أن الله غير متغير في طبيعته وصفاته ، فهو أيضاً غير متغير في علاقته بالعالم، وهي العلاقة التي يذكر الكتاب أنها علاقة الخلق والحفظ والعناية ، وليست علاقة “انبثاق”، فمع أن كل الأشياء فانية وزائلة ومتغيرة، فإن الله يظل هو هو دون أدنى تغيير (مز 102 :26– 28)، ولذلك فإن فكرة وحدة الوجود هي فكرة غير كتابية ، لانها تدمج الله في العالم وما يعتريه من تطور وتغير ، بينما يعلن الكتاب بكل جلاء أن الله لا تغيير عنده إطلاقاً، وهو مطلق السلطان في علاقته بكل الخليقة التي وجدت بكلمة قدرته فهو الذي ” قال فكان هو أمر فصار” (مز 33 :9) فكل “العالمين أتقنت بكلمة الله ، حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر” (عب 11 :3
).

وعندما تجسَّد ابن الله ليتمم عمل الفداء ، لم يكن
 
ذلك بأي تغيير في طبيعته الإلهية بل جاء ” في شبه جسد الخطية” (رؤ 8 :3)، “بلا خطية” (عب 4 :15) و “لم يعرف خطية” (2 كو 5 :21) و “لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر” (1بط 2 :22) ” قدوس بلا شر ولا دنس ” ( عب 7 : 26 ) وكل الفصول الكتابية التي تتحدث عن تجسد ربنا يسوع المسيح، تعلن بكل جلاء أن الابن احتفظ بلاهوته كاملاً، فهو ” الله الذي ظهر في الجسد” (1 تى 3 :16، أرجع أيضاً إلى الأصحاح الأول من إنجيل يوح، والرسالة إلى فليبي 2 :16- 8) بل إن تعليم العهد القديم عن “روح الله” كمصدر لحياة العالم، يحرص دائماً على عدم الخلط بين “الروح” وعمليات الطبيعة، وهو نفس ما يحرص عليه أيضاً العهد الجديد في تعليمه عن سكنى ” الروح ” في المؤمن ، فيميز دائماً بينه وبين روح الإنسان (رو 8 :16
).

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد قديم سفر أخبار الأيام الثانى 04

(5)
علاقته بالناس : وليست لله علاقة بالكون فحسب ، ولكنه ايضا في علاقه وثيقة بالناس وبخاصة شعبه ، وهذا نابع من طبيعته الأدبية التي لا تتغير. فكثيراً ما يجمع الكتاب بين عدم تغير الله وصلاحه (مز 100 :5، يع 1: 17)، وأمانته ورحمته (مز 100: 5، 117: 2) ووعود عهده (خر 3: 13-15) فعدم تغيره بالنسبة لوعود عهده، يحمل معنى الأمانة ، الأمر الذي يؤكده العهد القديم بشدة للتحريض على الاتكال على الله (تث 7 : 9، مز 36 : 5، 92 :2، إش 11 : 5، مراثى 3 :23). كما أن حقيقة عدم تغير الله بالنسبة لوعود عهده، أي أمانته لوعوده، يؤكدها العهد الجديد مراراً، فهباته ونعمته واختياره هي بلا ندامة (1 تس 5 : 24، رو 11 :29)، فهو على الدوام يبقى أميناً لن
 
يقدرأن ينكر نفسه (2 تى 2 :13)، فأمانته هي هي رغم عدم إيمان الناس (رو 3 :3)، وهذه الأمانة هي أساس ثقتنا في الله الأمين لاختياره ومواعيد نعمته (1 كو1 :9، 10، 10 : 13، 2 تس 3 :3 عب 10 :23، 11 :11، ابط 4 :19 ،1 يو1 :9- الرجا الرجوع إلى مادة ” أمين – أمانة

ولأنه أمين لمواعيده فأمانته لا يعتريه تغير، فهو وحده موضع الإيمان والثقة، الذي نستطيع ان نعتمد عليه في وسط فساد العالم وتقلبه ، ولذلك كثيراً ما يقال عن الله في لغة مجازية إنه “الصخر الكامل صنيعه”، وصخرة خلاصنا وحصننا ومنقذنا (تث 32: 4 و15، مز 18 :2، 42 :9، 71 :3، إش 17 :10)، وهو “صخر الدهور” الذي لا يتزعزع أبداً (إش 26 :4
).

من كل هذا يتضح لنا أن الفكرة الكتابية عن عدم تغير الله تؤكد أربع نقاط هامة
:

أ – إن عدم تغير الله لا يعني جموداً بل هو عدم تغير كائن حي أسمى من أن يعتريه تغير أو تحول
.

ب- أنه عدم تغير حقيقي في طبيعة الله وصفاته ومقاصده
.

جـ- إن عدم التغير هذا هو إحدى خصائص الله التي ينفرد بها ويتميز بها عن كل الخلائق والأكوان
.

د- لا يذكر عدم تغير الله كشيء نظرى مجرد ، بل يؤكد الكتاب – باستمرار – قيمته الدينية التي لا وجود لها إلا في الإله السرمدى الذي لا تغير عنده وظل دوران
.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي