عصر رسولي
أولا – الكرازة
:
( 1 )
عندما تبين للتلاميذ انهم قد رأوا المسيح المقام من الأموات ، لآخر مرة إذ رأوه صاعداً الى السماء ، أيقنوا أن الواجب عليهم الآن هو نشر رسالته ، فاجتمعوا معاً واستكملوا عدد الشهود الى ما كان عليه – أي اثنى عشر – وبعد ذلك مباشرة بدأوا في الكرازة فور انسكاب الروح القدس عليهم . وتركزت كرازتهم في البداية في أورشليم ، ثم جاءت بداية تجوالهم نتيجة التشتت الاضطراري من جراء الضيق ، وليس بناء على خطة مرسومة من قبل ( أع 11 : 19
) .
لكن الحجاج الذين صعدوا الى أورشليم للاحتفال بالأعياد ، حملوا معهم رسالة الانجيل
وهكذا انتشرت المسيحية حتى وصلت الى دمشق على الأقل ( أع 9 : 2 و 19 ) ، وقد وسَّع التشتت ذاته دائرة الكرازة فامتدت الى قبرص وانطاكية ، وهكذا بدأت الكرازة للأمم ( اع 11 : 19 و 20 ) ، ويجب ألا تحجب جهود الرسول بولس الكرازية ، أبصارنا عن أن ترى ما قام به الآخرون ، ولا نعلم متى بدأ الرسل رحلاتهم التبشيرية ، إلا أنه يتضح لنا من الرسالة الى الكنيسة في غلاطية ( 1 : 19 ) أنه لم يكن في اورشليم في ذلك الوقت – من الاثنى عشر – سوى بطرس . كما يذكر الرسول بولس في رسالته الأولى الى كورنثوس ( 1 كو 9 : 5 و 6 ) اتساع دائرة عملهم . ويبدو من المؤكد أن الرسول بطرس كان في روما قبيل استشهاده . وقد دفعت المتاعب الني سببها التهوديون للرسول بولس ، الى أن يذكر بعض الدلائل على غيرته في التبشير . كما يجب ألا ننسى كرازة برنابا ومرقس بعد انفصالهما عن الرسول بولس ( أع 15 : 39 ) . وقد وصلت المسيحية الى روما قبل أن يصل اليها الرسول بولس بزمن طويل ( رو 1 : 13 ) . وما أن أوشك القرن الأول للميلاد على الانتهاء ، حتى كانت المسيحية قد امتدت الى كل الأقطار المحيطة بالبحر المتوسط من الاسكندرية إلى روما ( وإلى ما وراء ذلك بلا شك رغم عدم كفاية ما لدينا من معلومات ) ، كما كانت قد تغلغلت في أسيا الصغرى بصفة خاصة
.
( 2 )
تضافرت عوامل كثيرة على امتداد العمل ، فكان الأمن في الامبراطورية مستتبا ، وكانت طرق المواصلات سهلة ، كما أن اللغة اليونانية كانت قد انتشرت في كل مكان ، وحالت الحماية التي تمتعت بها اليهودية دون الهجوم عليها ، كما أن وجود اليهود في كل أجزاء الامبراطورية أتاح للتلاميذ حسن الضيافة ، وتوفر المستمعين لهم في الفترات الأولي على الأقل ، كما أن غيرة اليهود لاكتساب دخلاء ، هيأت الأمم لقبول المسيحية ، كما حدث انهيار للعبادات القديمة ، وهو عامل لا يقل أهمية عن سابقيه ، وتطلع الناس الى الشرق بحثا عن إشباع جوعهم الروحي
.
( 3 )
أما أساليب العمل ، فقد كان منهج الرسول بولس مثاليا ، فقد تجنب القرى الصغرى ، مكرسا نفسه للعمل في المدن كنقط استراتيجية ، سالكا الطرق الرئيسية ايضا دون التعريج إلى طرق جانبية ، وهكذا يمكننا تتبع ” خط النار ” ( كما يقول هارناك ) التي أشعلها الرسول بولس ، كما كان يمكن لهذه النيران أن تنتشر تلقائيا على جانبي الطريق ، ومن ثم ظهرت – كثمرة لخدمة الرسول بولس في افسس – كنائس في كولوسي ولاودكية على بعد نحو مائة وعشرين ميلا من افسس ( كو 2 : 1 ، 4 : 16 ) ، وكانت هذه الكنائس في حاجة الى زيارات متكررة لتثبيت العمل
.
وعندما وجدها قد اصبحت قادرة على أن تتدبر أمورها بنفسها ، أحس أن عمله في الشرق قد كمل ، فتوجه بنظره إلى الغرب ( رو 15 : 23
) .
ثانيا – الكنيسة في اورشليم
:
لقد كان أعضاء الكنيسة الأولى في أورشليم يظنون انهم مجرد يهود لهم إدراك حقيقي للمسيا ، ومن ثم فهم لا يشكلون سوى ” طريق ” أو ” حزب ” جديد داخل اليهودية
(
اع 22 : 4 ) . وكان مسموحا لهم – في البداية – أن يتكاثروا بلا مضايقات ، فلم يكن هناك من ينازعهم حقهم في الوجود ، ولم تكن مقاومة الصدوقيين لهم ، في حقيقتها سوى احتياطات أمنية ( أع 4 : 1 ، 5 : 17
) .
ومما يستلفت النظر ، ان أول من هوجم كان أجنبيا – وهو استفانوس – الذي يبدو أنه أهاج الجموع ضده بحديثه عن خراب الهيكل الوشيك ، ولكنه رجم بسبب ما نسبه ليسوع من أمجاد الهية ( أع 7 : 56 ) ، وظل الرسل في اورشليم ، ولم يطرودا منها ( أع 8 : 1 ) ، واستمرت الكنيسة تنمو ، وفي 41 م أفسح ممثلو روما المجال لأغريباس الأول – فريسي النزغة – فأندلع الاضطهاد ( لأسباب غير واضحة ) فقتل يعقوب أخو يوحنا بن زبدي بالسيف ، أما بطرس فقد نجا من الموت بمعجزة ( أع 12 ) ، وتوقف الاضطهاد عندما استأنفت روما إرسال ولاة رومانيين لحكم اليهودية في 44 م ، وحلت فترة من السلام ، كما يبدو من عدم الاشارة الى حدوث متاعب ( أع 21 : 17 – 26 ) ، وكذلك من كتابات المؤرخين يوسيفوس وهجسيبوس
( Hegesippus )
عما كان يلقاه يعقوب أخا الرب من تقدير واحترام ، ولم يكن استشهاده ( في 62 م ؟ ) إلا نتيجة للاضطرابات التي سبقت الثورة الأخيرة ضد روما ، والتي لم يشارك فيها مسيحيو أورشليم ، بل انسحبوا عبر الأردن إلى ” بيلا
” ( Pella )
، حيث انشئوا مجتمعا يهوديا برياسة أحد احفاد إخوة الرب حسب الجسد ، وقد قاموا ببعض العمل التبشيري في الشرق ، إلا أنهم في القرن الثاني الميلادي كانوا قد انصهورا في جموع المسيحية ، أو صاروا أحد العوامل التي أدت الى ظهور الهرطقة الإبيونية
.
ثالثا – التهوديون
:
أظهر كثيرون من أعضاء هذه الجماعة ( وغيرهم من المسيحيين اليهود خارجها ) ، درجات مختلفة من عدم القدرة على تفهم الكرازة للأمم ، ولم تكن هناك صعوبة كبيرة في قبول مسيحي أممي أغلف باعتباره ” مخلِّصا ” ( غل 2 : 3 ، أع 15 ) ، أما موضوع مشاركته في الكل ، فكان مشكلة أخرى ، إذ كان ذلك عثرة أمام الكثيرين رغم اعتبارهم له ” مخلِّصا ” ( غل 2 : 12 و 13 ) . أما القرار الحاسم بأن الناموس لم يعد يقيد المسيحي ، فكان شيئا مختلفا تماماً ، حتى إنه لم يكن من السهل على يعقوب نفسه ان يقبله ( أع 21 : 21 ) . وفي الوقت الذي كتب فيه الرسول بولس رسالته إلى غلاطية ، لم يكن المعتبرون أعمدة في الكنيسة ( غل 2 : 9 ) قد فكروا في العمل بين الأمم بعامة ، وقد دافع الرسول بولس عن ذلك بقوة ، ولعل هذا النزاع لم يتوقف إلا بسقوط اورشليم ( 70 م ) . إلا أن المتاعب خفت تدريجيا ، ورسالة بطرس الرسول الأولى دليل على أن بطرس نفسه قد أقر أخيراً بحرية الأمم في المسيح
.
رابعا – العلاقات معه روما
:
تمتعت المسيحية – في البداية – بالأمن في ظل السلطة الرومانية ، إذ كانت السلطات الرومانية تعتبرها إحدى الطوائف اليهودية ، اذ لم يكن من السهل عليها إدراك الفرق بينها وبين اليهودية ( أع 8 : 14 – 16 ، 25 : 19 ) ، فكانت الحكومة حامية للأمن وضامنة للسلام ، ويتكلم عنها الكتاب بأرق العبارات وأقواها ( رو 13 : 1 ، 1 بط 2 : 13 و 14 ) ، ومع أن المسيحيين لم يعتزلوا من حولهم تماماً ، إلا أنهم – شيئا فشيئا – أصبحوا يميلون الى التقارب معاً في جماعات ، ليس بينها وبين العالم إلا أقل ارتباط ( 1 بط 4 : 3 – 5 ) ، مما أثار عليهم سخط وعداء جيرانهم ، فكانوا عند نيرون كبش الفداء الملائم بعد حريق روما ، وليس من السهل أن نعرف على وجه اليقين ، المدى الذي وصل اليه ذلك الاضطهاد أو غيره من الاضطهادات ، بين عصر نيرون وعصر دومتيان ( انظر رسالة بطرس الرسول الأولى ) ، إلا أن سفر الرؤيا يجعل من روماً رمزا لكل ما هو معادٍ للمسيح
.
خامسا – الهيلينية
:
لم يكن تأثير العبادات الوثنية ملحوظا في القرن الأول ، إلا أن الجمع بين الديانات كان شائعا في ذلك العصر ، ولابد أن الكثيرين ممن تحولوا إلى المسيحية ، حاولوا أن يمزجوا بين الديانة الجديدة ، وبين معتقداتهم القديمة ( أو غيرها من المعتقدات التي عرفوها فيما بعد ) . ولكن ما أقل ما نلاحظ ذلك اذا اقتصر الأمر على التفاصيل الصغيرة ( 1 كو 15 : 29 ) ، ولكننا نجده يمتد إلى مواضيع حيوية ( كو 2 : 8 – 23 ) ، ويزداد الخطر شدة في الرسائل الرعوية ( 1 تي 1 : 4 ، 4 : 3 ، تى 3 : 9 ) ، وفي الأصحاح الثاني من سفر الرؤيا نجد أنه قد نتج عن ذلك ضرر كبير ، كما نجد في رسائل يهوذا وبطرس الثانية ويوحنا الأولى ، هجوما مباشراً على الانحرافات التي كانت قد أخذت في الظهور ، فكانت بداية الغنوسية التي استشرت في القرن الثاني
.