كهنوت

Sacerdoce

مقدمة

العهد القديم

أولاً: تاريخ النظام الكهنوتي

ثانياً: الخدمات الكهنوتية

1.
خدمة طقوس العبادة
:

2.
خدمة الكلمة
:

ثالثاً: نحو الكهنوت الكامل

1.
نقد الكهنوت
:

2.
المثل الأعلى الكهنوتي
:

العهد الجديد

أولاً: يسوع الكاهن الواحد

1.
الأناجيل الإزائية
:

2.
من بولس إلى يوحنا
:

3.
الرسالة إلى العبرانيين
:

ثانياً: الشعب الكهنوتي

ثالثاً: خدّام كهنوت يسوع

 

 

مقدمة


وأما هذا الذي يبقى (يسوع) للأبد، فله كهنوت لا يزول” (عبرانيين 7: 24). هكذا إذ أرادت الرسالة إلى العبرانيين، أن تصف وساطة ” المسيح، قربتها من وظيفة كانت موجودة في العهد القديم، أسوة بها في كل الديانات المجاورة، وهي وظيفة الكهانة. فحتى نفهم كهنوت المسيح، ينبغي أن نعرف بدقّة مفهوم الكهنوت في العهد القديم، الذي مهّد لكهنوت المسيح وكان رمزاً مسبّقاً له
.

العهد القديم

أولاً: تاريخ النظام الكهنوتي

1.
عند الشعوب المتمدّنة التي تحيط بإسرائيل، يتولى الملك وظيفة الكهنوت، خاصة فيما بين النهرين وفي مصر. ويساعد الملك في هذه الوظيفة طبقة كهنوتية خاضعة لنظام رئاسي، وراثي في أغلب الأحيان، يشكّل طبقة متميّزة. ولا يوجد شيء من هذا القبيل عند الآباء في العهد القديم. فلا يوجد حينذاك هيكل ولا كِهنة مخصّصون لإله إبراهيم واسحق ويعقوب. ونرى في كتاب التكوين الآباء يبنون مذابح في كنعان (تكوين 12: 7- 8، 13: 18، 26: 25) ويقدمون ذبائح (تكوين 22، 31: 54، 46: 1). ويتولى الآباء الكهنوت العائلي الذي يمارس في أغلب الشعوب القديمة. فالكهنة الوحيدون الذين يذكرهم الكتاب هم من الكهنة الغرباء: ملكيصادق، الكاهن- الملك لأورشليم (تكوين 14: 18- 20)، وكهنة فرعون (تكوين 41: 45، 47: 22). أما سبط لاوي فليس بعد سوى قبيلة عادية لا تقوم بأية وظيفة مقدّسة تكون 34: 35 – 31، 49: 5- 7
).

2.
منذ عهد موسى الذي كان هو نفسه لاويا، يبدو أن هذا السبط بدأ في تولي الوظائف الطقسية. وتعبر الرواية القديمة، المذكورة في كتاب الخروج 32: 25- 29، عن الطابع الأساسي لكنهوت سيط لاوي ” إذ قد اختار الله نفسه هذا السبط وكرّسه لخدمته
.

إن البركة التي يمنحها موسى لهذا السبط، بخلاف بركة يعقوب، تنسب إليه المهمات الخاصة بالكهنة (تثنية 33: 8- 11). وحقيقة، يعكس لنا هذا النص الحالة كما صارت إليها في فترة لاحقة. كان اللاويون حينذاك الكهنة الأصيلون (قضاة 17: 7- 13، 18: 19)، الذين يوقفون اهتمامهم على معابد البلاد المختلفة، ولكن، بجانب الكهنوت اللاوي، لا يزال الكهـنوت العائلي قائماً (قضاة 6: 18 -29، 13: 19،5:17،1 صموئيل 1:7
).

3.
في نظام الملكية، يقوم الملك بوظائف كهنوتية عديدة، مثلما كان يفعل ملوك الشعوب المجاورة. فيقدّم ذبائح، وذلك منذ شاول (1 صموئيل 13: 9)، وداود (2 صموئيل 6: 13 و 17، 24: 22 – 25) إلى آحاز (2 ملوك 16: 13)، ويبارك الشعب (2 صموئيل 6: 18، 1 ملوك 8: 14)…، لكنه لا يحصل على لقب الكاهن إلا في المزمور القديم 110: 4 الذي يقارن بينه وبين ملكيصادق. وفي الواقع، برغم هذه الإشارة إلى كهنوت كنعان الملكي، فالملك هو حامي الكهنوت أكثر منه عضواً في طبقة الكهنوت المقدسة
.

أصبحت هذه الطبقة وقتئذ مؤسسة منظّمة خاصة في معبد أورشليم الذي أضحى، منذ داود، مركز إسرائيل الخاص بالعبادة. وقد اشترك في خدمته، في بادئ الأمر، كاهنان: أبياتار، من نسل عالي، خادم شيلو (هو في الغالب لاوي) (2 صموئيل 8: 17) الذي سوف يعزل سلمان عائلته عن الخدمة (1 ملوك 2: 26 27)، وصادوق، الذي نجهل أصله، ومع ذلك ستتولى ذريته الكهنوت في الهيكل حتى القرن الثاني
.

إن أنساباً لاحقة سوف تربط صادوق، أسوة بأبياتار، بنسل هارون (راجع ا أيام 5: 27- 34). وتحت إمرة الكاهن الرأس، يشمل كهنوت أورشليم مرؤوسين مختلفين. وقبل السبي كان يضم الهيكل بين خدامه-، حتى بعض الغرباء القلف (حزقيال 44: 7 9، راجع يشوع 9: 27). وفي المعابد الأخرى، خاصة في يهوذا، كان يوجد عدد لا بأس به من اللاويين. ويظهر أن داود وسليمان حاولا توزيعهم على كل البلاد (يشوع 21، قضاة 18:.3). ولكنَ خداماً غير لاويين كانوا يعملون في معابد كثيرة محليّة (1 ملوك 12: 31
) .

4.
إن إصلاح يوشيا سنة 621، بإلغاء المعابد المحلية، يكرّس اختصاصَ كهنوت لاوي وسيادة كهنوت أورشليم. وإذ تتجاوز هكذا متطلبات تثنية الاشتراع (18: 6- 8)، يخصّص القيام بالوظائف الكهنوتية لذرية صادوق وحدها (2 ملوك 23: 98)، ويمهد بهذه الطريقة للتمييز الآجل بين كهنة ولاويين، وسنرى هذا التمييز أكثر وضوحاً عند حزقيال 44: 10- 31
.

لااَّ أنَّ دمار الهيكل والملكية في آن واحد (587) قد أنهى الوصاية الملكية على الكهنوت، وأتاح لهذا الأخير سلطة أكبر على الشعب. وإذ تخلص الكهنوت من التأثيرات ومن مغريات السلطة السياسية التي أصبح يتولاها رؤساء وثنيين، أضحى الكهنوت مرشد الأمة الديني. وإن اختفاء التنبؤ تدريجاً ابتداء من القرن الخامس عمل على إعلاء شأن السلطة الكهنوتية
.

منذ سنة 573، تستبعد أنظمة حزقيال الإصلاحيّة ” الرئيس ” عن المقدس (حزقيال 44: 1- 3، 46). فتخطى منذ ذلك الوقت الطبقة اللاوية بامتياز فريد لا جدال فيه. (إن الاستثناء الوحيد في إشعيا 66: 1 يتعلق “بالأزمنة الأخيرة”). وإن مجموعات التوراة الكهنوتية (بين القرنين السادس والخامس)، ثم مؤلف كتاب أخبار الأيام (في القرن الثالث)، تعطي أخيراً جدولاً مفصّلاً بترتيب الدرجات في النظام الكهنوتي
.

إن هذا النظام شديد الدقة. ففي القمة، الكاهن الأعظم أو رئيس الكهنة، ابن صادوق، خليفة هارون، مثال الكهنوت. ويرأس كل معبد الكاهن الرأس، وظهر لقب “الكاهن الأعظم” في الزمن الذي أحسّ فيه الشعب، في غياب الملك، بالحاجة إلى رئيس لنظام الحكم الديني
.

إن المسحة التي يحصل عليها هذا الكاهن الأعظم منذ القرن الرابع ( لاويين 8: 12، راجع 4: 3، 16: 32، دانيال 9: 25)، يعيد إلى الذاكرة المسحة التي كان يكرس بها الملوك من قبل. ويلي الكاهن الأعظم في الترتيب أباء هارون. ثم أخيراً يأتي اللاويون، الذين يكونون من طبقة أدنى، ويجمعون في ثلاث أسر وينضمّ إليهم أخيراً الموسيقيون والبوابون (1 أيام 25، 26). وتكوّن هذه الطبقات الثلاث إلى السبط المقدس، الموقوف على خدمة الرب
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ل لاسية ة

5.
ومن الآن فصاعداً، لن تطرأ تغييرات على النظام الكهنوتي، اللهم إلا بالنسبة لتعيين الكاهن الأعظم. وفي سنة 172 ق. م.، لاقى الكاهن الأعظم أونيا الثالث مصرعه نتيجة دسائس سياسية، و بموته اندثرت سلالة صادوق. ومن بعده تولى ملوك سوريا أمر تعيين خلفائه من خارج سلالته. وأدت مقاومة المكابيين إلى تنصيب يوناتان، المنحدر من أسرة كهنوتية مجهولة الأصل. وخلفه أخوه سمعان (143) الذي به بدأت السلالة الحشمانية التي جمعت بين الملك والكهنوت (من 134 إلى 37
).

كان هؤلاء الحشمانيون رؤساء سياسيين وعسكريين أكثر منهم دينيين. ولذا فقد أثاروا مقاومة الفريسيين. والكهنوت التقليدي، من جهة، أخذ عليهم انحدارهم من أصل لا ينتمي إلى صادوق، وتعلن شيعة قمران الكهنوتية الانشقاق. أخيراً، ابتداء من الملك هيرودس (37)، أخذت السلطة السياسية تعيَن رؤساء الكهنة، وتختارهم من الأسر الكهنوتية الشهيرة، وهذه تكون مجموعة ” رؤساء الكهنة ” الذين ترد أسماؤهم مراراً في العهد الجديد
.

ثانياً: الخدمات الكهنوتية

كان الكهنة، في الديانات القديمة، خدّام الطقوس: وحرّاس التقاليد المقدسة، ولسان حال الآلهة بوصفهم عرّافين.. وفي إسرائيل، برغم التطور الاجتماعي والتوسع في العقيدة اللذين يظهران خلال العصور، يقوم الكهنوت دائماً بخدمتين أساسيتين ، تشكلان صورتين للوساطة: خدمة طقوس العبادة وخدمة الكلمة
.

1.
خدمة طقوس العبادة
:

إن الكاهن هو رجل المعبد. كان يحرس التابوت ” في العصر القديم (1 صموئيل 1 إلى 4، 2 صموئيل 15: 24- 29)، ويستقبل المؤمنين في بيت الله (1 صموئيل 1) ،ويرأس الطقوس أثناء أعياد الشعب (لاويين 23: 11 و20). بعمله الأساسي هو تقديم الذبيحة. ففيها يظهر في كامل دوره كوسيط: يقدّم لله قربان مؤمنيه وينقل إليهم البركة الإلهية. هكذا فعل موسى في ذبيحة عهد سيناء (خروج 24: 84): هكذا فعل لاوي، رئيس كل السلالة (تثنية 33: 10
).

بعد السبي، يقوم الكهنة بهذه المهمة كل يوم في الذبيحة الدائمة (خروج 29: 38- 42). ومرة في السنة، يظهر عظيم الأحبار في دوره كوسيط أعلى ويقدَم الذبيحة في يوم الكفارة” من أجل غفران كل خطايا شعبه (لاويين 16، سيراخ 50: 5- 21)، وبالإضافة إلى ذلك، يتكفَل الكاهن أيضاً برتب التكريس والتطهير، كالمسح الملكي (1 ملوك 1: 39، 2 ملوك 11: 12)، وتطهير البرص (لاويين 14)، أو المرأة في حالة نفاس (لاويين 12: 6- 8
).

2.
خدمة الكلمة
:

فيما بين النهرين وفي مصر، كان الكاهن يقوم بالعرافة، باسم إلهه كان يجيب على استشارات المؤمنين. وقديماً في إسرائيل، كان الكاهن يؤدّي عملاً مماثلاً باستعمال الأفود (1 صموئيل 30: 7-8) والأوريم والثمنيم (1 صموئيل 14: 36 42، تثنية 33: 8). ولكن لم تعد تذكر هذه التصرّفات، بعد عهد داود
.

منذ ذلك الحين، في إسرائيل تصل كلمة الله إلى شعبه، مناسبة لظروف الحياة المختلفة بطريقة أخرى: بواسطة الأنبياء الذين كانوا مدفوعين من الروح. ولكن توجد أيضاً صورة شفهية للكلمة، تنبع من حوادث التاريخ المقدس الشهيرة، ومن بنود العهد السينائي. ويتبلور هذا التراث المقدس، من جهة، في الروايات التي تعيد ذكريات الماضي العظيمة، ومن جهة أخرى، في الشريعة التي توضحها هذه الروايات
.

وكان الكهنة خدام هذه الكلمة، مثل هارون في خروج 4: 14 14-16. ففي الاحتفالات بالأعياد كانوا يرددون على مسامع المؤمنين الروايات التي تدعم الإيمان (خروج1 إلى5 ، يشوع 2 إلى 16). هذه النصوص تعتبر في الغالب صدى لهذه الاحتفالات. وبمناسبة تحديد العهد، يعلن الكهنة التوراة (خروج 24: 7، تثنية 27، نحميا 8). وبما أنهم المسئولون العاديون عن تأويلها، يجيبون بتعليمات عملية على استشارات المؤمنين (تثنية 33: 0 1،إرميا 18: 18 ” حزقيال 44: 23، حجاي 2: 11- 13). ويقومون بدور قضائي (تثنية 8:17-13. حزقيال 23:44- 24
).

وامتداداً لهذه الأعمال، يتكفل الكهنة بتدوين الشريعة في مجموعة القوانين المختلفة: تثنية الاشتراع، شريعة القداسة ( لاويين 17 إلى 26)، توراة حزقيال (40 إلى 48) 0 التشريع الكهنوتي (خروج، لاويين ، عدد). جمع التوراة النهائي (راجع عزرا 7 : 14- 26)، نحميا 8). ونفهم هكذا لماذا يظهر الكائن، في الكتب المقدسة، كرجل المعرفة (هوشع 4: 6 ملاخي 2: 6-7 سيراخ 45: 17): هو وسيط كلمة الله بمظهرها المتوارث كتاريخ ومجموعة قوانين
.

ولكن، في أجيال الأودية الأخيرة، تتعدد المعابد ويركز الكهنوت نشاطه على خدماته الطقسية. وفي الوقت نفسه تنمو سلطة الكتبة العلمانيين. وينتمي غالبية هؤلاء إلى شيعة الفريسيين، الذين سيكوّنون في زمن يسوع أهم المعلمين في إسرائيل
.

ثالثاً: نحو الكهنوت الكامل

ظلّ كهنوت العهد القديم، في أغلبيته، أميناً على رسالته. فبطقوسه وتعليمه وتدوينه الكتب المقدسة، أبقي حياً في إسرائيل التراث المسلّم من موسى والأنبياء، وَوطد من جيل إلى جل، حياة شعب الله الدينية. ولكن كان لا بدّ أخيراً من تجاوزه
.

1.
نقد الكهنوت
:

كانت الرسالة الكهنوتيّة تفرض متطلبات عالية جداً. والحال أنه وجد هناك دائماً كهنة غير جديرين بمهمتهم. وقد ندد الأنبياء بتراخيهم: إفساد عبادة” الرب بإدخال العادات الكنعانية في معابد إسرائيل المحلية (هوشع 4: 4-11، 5: 1-7، 6: 9)، ومحاولات المزج بين اليهودية والوثنية في أورشليم (إرميا 2: 26- 28، 23: 11، حزقيال 8)، وخرق التوراة (صفنيا 3: 4، إرميا 8:2، حزقيال 22: 26)، ومقاومة الأنبياء (عاموس 7: 0 1 17، إشعيا 28: 7- 13،إرميا 0 2: 1 – 6، 23: 33- 34، 26) مراعاة المصلحة الشخصية (ميخا 3: 11، راجع1 صموئيل 2: 12-17، 2 ملوك 12: 5- 9)، وقلة التحمس لعبادة الربّ (ملاخي 2: 1-9
)…

وقد يكون من التبسيط المفرط ألا نرى في هذه المآخذ إلا جدلاً كلامياً بين طبقتين اجتماعيتين متعارضتين: طبقة الأنبياء في مواجهة طبقة الكهنة. إن النبيّين إرميا وحزقيال كاهنان. ويظهر جليَاً أن الكهنة الذين دوّنوا تثنية الاشتراع وشريعة القداسة، قد حاولوا إصلاح طبقتهم نفسها. وفي أجيال اليهودية الأخيرة، فإن جماعة قمران، التي أخذت تحيد عن الهيكل بمقاومة “الكاهن الكافر”، تشكّل برغم ذلك شيعة كهنوتية
.

2.
المثل الأعلى الكهنوتي
:

هل تبحث عن  الكتاب المقدس تشكيل فاندايك وسميث عهد جديد سفر رؤيا يوحنا اللاهوتى 18

أكثر ما يثير الاهتمام في هذه الانتقادات ومحاولات الإصلاح هو كونها منبعثة جميعها من صورة مثالية للكهنوت. يذكّر الأنبياء كهنة زمنهم بالتزاماتهم ويطالبونهم بالعبادةِّ النقية وبالأمانة للتوراة. ويصف الفقهاء ما يجب أن تكون عليه طهارة الكهنة وقداستهم ” (حزقيال 44: 15-31، لاويين 21: 10
).

وتفيدنا الخبرة مع ذلك أن الإنسان بقواه الذاتية غير قادر على الحصول على هذه الطهارة ولا على هذه القداسة. لذلك يضع الشعب رجاءه في الله نفسه الذي يستطيع وحده أن يحقق أخيراً الكهنوت الكامل في يوم الإصلاح (زكريا 3) ويوم الدينونة (ملاخي 3: 1-4). وينتظر الجميع الكاهن الأمين بحانب المسيح، ابن داود (زكريا 6: 12- 13، إرميا 33: 17 – 22). ويظهر هذا الرجاء الخاص بالمسيا الكاهن والمسيا الملك، مرّات عديدة في كتابات قمران، وفي مكتوب منتحل، هو “وصايا الآباء
“.

في هذه النصوص، مثلما هي الحال في تنقيحات عديدة أدخلت على نصوص الكتاب المقدس (زكريا 3: 8، 6: 11)، يقدّم المسيا الكهنوتي على المسيا الملكي. وتتّفق أفضلية الكاهن هذه مع جانب أساسي من عقيدة العهد: إن إسرائيل هو ” الشعب الكاهن ” (خروج 19: 6، إشعيا 61: 6، 2 مكابيين 2: 17-18)، الشعب الوحيد في العالم الذي يتكفّل بعبادة الله الحق. فعند وصوله إلى مرحلته النهائية، هو الذي سيقوم بواجب العبادة الكاملة للرب (حزقيال 40 إلى48، إشعيا 60 إلى 62، 2: 1- 5). كيف يمكنه ذلك إن لم يوجد كاهن برأسه؟

إن العهد القديم يعرف وساطات بين الله وشعبه غير وساطة الكاهن. يقود الملك شعب الله في التاريخ، كرئيس شرعي، عسكرياً، سياسياً، ودينياً. والنبي مدعوّ شخصياً إلى أن يحمل كلمة مبتكرة من لدن الله، مطابقة لحالة خاصة، يكون فيها مسئولاً عن خلاص إخوانه. ويقوم الكاهن، مثل النبي، برسالة دينية بحتة. ولكنه يمارسها في إطار الأنظمة المقررة. وهو يتعين بالوراثة، ويرتبط بالمعبد وتقاليده
.

يحمل الكاهن كلمة الله للشعب باسم التراث ” المسلّم له، وليس باسمه الخاص، ويحيي الذكريات الكبرى للتاريخ المقدس، ويعلم شريعة موسى. يرفع لله صلاة الشعب في الفرائض الطقسية، ويجيب عن هذه الصلاة بالبركة الإلهية ويكفل في الشعب المختار تواصل الحياة الدينيّة بواسطة تسليم التراث المقدس
.

العهد الجديد

لا تأخذ قيم العهد القديم كل معناها إلا في يسوع الذي يتممها متسامياً عليها. ويحقق هذا المبدأ العام الوحي على الوجه الأكمل، في حال الكهنوت
.

أولاً: يسوع الكاهن الواحد

1.
الأناجيل الإزائية
:

لا ينسب يسوع إلى نفسه، ولو مرة واحدة، لقب الكاهن. السبب في ذلك هو أن هذا اللقب يعني، في بيئته، وظيفة محددة بذاتها، مقصورة على أعضاء سبط لاوي. والواقع أن يسوع يدرك أن عمله يختلف كل الاختلاف عن عمل كهنة زمنه، لما فيه من الاتساع والابتكار. فيفضّل أن يسمي نفسه الابن وابن ” الإنسان. ولكنه يستعمل اصطلاحات كهنوتية في وصف رسالته. وبحسب طريقته المألوفة، يستعمل عبارات ضمنيّة ومجازيّة
.

وهذا واضح، خصوصاً عندما يتكلم يسوع عن موته، الذي يرى في الأعداء عقاباً عن تجديف، ويعتبره تلاميذه فشلاً شائناً. أما يسوع فيرى في موته ذبيحة يصفها بواسطة رموز العهد القديم. يقارنها تارة بذبيحة عبد الرب التكفيرية (مرقس 10: 45، 14: 24، راجع إشعيا 53)، وتارة بذبيحة العهد الذي تسلمه موسى على سفح جبل سيناء(مرقس 14: 24، راجع خروج 24: 8). أما الدم الذي يعطيه يسوع في زمن الفصح، فيذكّر بدم حمل الفصح (مرقس 14: 24، راجع خروج12: 7 و13 و22- 23
).

يقبل يسوع هذا الموت الذي يقضون به عليه، بل يقدمه بنفسه كما يقدم الكاهن الذبيحة. ولذلك ينتظر منه التكفير عن الخطايا وإقامة العهد الجديد، وخلاص شعبه. وقصارى القول، هو الكاهن الذي يقدم ذبيحة ذاته
.

كانت توكل إلى كهنة العهد القديم وظيفة ثانية، تقوم في خدمة التوراة. والواقع أن موقف يسوع، موقف واضح بالنسبة إلى شريعة موسى: لقد أتى ليكملها (متى 5: 17- 18). لم يقيد نفسه بحرفية هذه الشريعة التي يتجاوزها (متى 5: 20- 48). إلا أنه يكشف قيمتها العميقة المتضمنة قي الوصية الأولى وفي الوصية الثانية، الشبهة بالأولى (متى 22: 34-40). وهذا الجانب من وظيفته يكمل عمل كهنة العهد القديم، بل يتجاوزه بكل الاعتبارات، لأن كلمة” يسوع هي الوحي الأسمى، هي بشارة الخلاص التي تعطي الشريعة كمالها النهائي
.

2.
من بولس إلى يوحنا
:

إن بولس الذي يشير مراراً إلى موت يسوع يقدّم هذا الموت، تبعاً للمعلم، على ضوء ذبيحة الحمل الفصحي (1 كورنتس 5: 7)، واتضاع العيد (فيلبي 2: 6- 11)، ويوم الكفارة (رومة 3: 24- 25
).

ويظهر تأويل الذبيحة هذا، من جديد، في صورة الاشتراك في كأس دم المسيح (1 كورنتس 10: 16- 22)، وصورة الفداء بهذا الدم (رومة 5: 9، كولسي 1: 20، أفسس 1: 7، 2: 13). ويرى بولس في موت يسوع أعلى ممارسة لحريته، والذبيحة المثالية، فهو إذن عمل كهنوتي بكامل المعنى، قدمه يسوع بنفسه. ولكن، اقتداء بمعلمه، ولنفس الأسباب فيما يبدو، لا يسمي الرسول يسوع بلقب الكاهن
.

والحال كذلك في جميع كتب العهد الجديد، فيما عدا الرسالة إلى العبرانيين. فإن كل هذه الكتب تقدم موت يسوع كذبيحة عبد الرب (أعمال 3: 13 و26، 4: 27- 30، 8: 32- 33، 1 بطرس 2: 22- 24) أو كذبيحة الحمل (1 بطرس 1: 19). وتشير إلى دمه (1 بطرس 1: 2 و19، يوحنا 1: 7) ولكنها لا تلقبه بالكاهن
.

أما كتب القديس يوحنا، فهي أقل تردّداً: إنها تصف يسوع مرتدياً ثوباً حبرياً (يوحنا 19: 23، رؤيا 1: 13). وتبدأ عرض رواية الآلام، التي هي عمل ذبيحة، “بالصلاة الكهنوتية” (يوحنا 17). فإن يسوع، مثل الكاهن، “يقدّس نفسه” أي يتكرس بالذبيحة (يوحنا 17: 15). ويقوم هكذا بوساطة فعالة، كان يصبو الكهنوت القديم عبثاً إلى توليها
.

3.
الرسالة إلى العبرانيين
:

إن الرسالة إلى العبرانيين، وحدها، توضح بإسهاب كهنوت المسيح. فهي تتناول المواضيع التي سبق أن صادفناها، مقدمة الصليب كذبيحة الكفارة (9: 1 14، راجع رومة 3: 24- 25) وذبيحة العهد (9: 18 – 24)، وذبيحة عبد الرب (9: 28). ولكنها تركز اهتمامها على دور المسيح الشخصي في تقدمة هذه الذبيحة. ذلك أنَّ الله يدعو يسوع، مثلما دعا قديماً هارون، ولكن بطريقة أفضل، حين يتدخّل لصالح البشر ويقدم ذبائح عن خطاياهم (5: 1-4). ويجد كهنوت يسوع صورته مسبقاً في كهنوت ملكيصادق (تكوين 14: 18- 20) طبقاً لإشارة المزمور 110: 4. وإبرازاً لهذه إلى الربطة بين يسوع وملكيصادق، يعطي صاحب الرسالة تأويلاً ماهراً لنصوص العهد القديم. فهو يعتمد صمت كتاب التكوين حول نسب الملك- الكاهن، كدليل لأزلية ابن الله (7: 3). ويرى في العشور الذي قدمها ابراهيم لملكيصادق امتياز كهنوت المسيح على كهنوت لاوي (7: 4-10). كما أن تم الله في المزمور 110: 4 يعلن عن الكمال الدائم للكاهن الحقيقي (7: 20-25). إن يسوع هو الكاهن القدوس، الوحيد (7: 26-28)، ويضع كهنوته جداً لكهنوت العهد القديم
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ش شُوحِي ي

ويتأصل كهنوت يسوع في كيانه نفسه الذي يجعل منه الوسيط المثالي، إذ هو في الوقت نفسه إنسان حقيقي (2: 10َ-18، 5: 7- 8)، يشاركنا ضعفنا، حتى التعرّض للتجربة (2: 18، 4: 15)، وابن الله الحقيقي، متفوقاً على الملائكة (1: 1-13)، وهو الكاهن الواحد والأبدي، الذي قرّب ذبيحته مرة واحدة في الزمن (7: 27، 9: 2 1 و 25-28، 10:10- 14). منذ ذلك الوقت، هو حيّ باق إلى الأبد ليشفع للجميع (7: 24-25)، ووسيط العهد الجديد (8: 6-13، 12:10 – 18
).

4.
لا يوجد لقب يستوعب وحده سر المسيح بأكمله. بصفته ابناً لا ينفصل عن الآب وبصفته ابن الإنسان الذي يحوي في شخصه كل البشرية، يجمع يسوع في ذاته، في آن واحد، صفات عظيم أحبار العهد الجديد، والمسيح الملك، وكلمة الله. وقد سبق العهد القديم فميز بين وساطات الملك والكاهن (الزمني والروحي)، و بين وساطات الكاهن والنبي (المؤسسة والحادث). وقد كانت هذه التمييزات ضرورية لفهم القيم الخاصة بالوحي
.

ولكن، نظراً لتسامي يسوع الإلهي الذي يضعه فوق مواطن اللبس في التاريخ، فهو يجمع، في شخصه، هذه الوساطات المختلفة. فبصفته الابن، هو الكلمة الأزلية التي تتمم وتفوق رسالة الأنبياء. وبصفته ابن الإنسان، يحمل مسئولية كل البشرية التي يملك عليها، بسلطان ومحبة لم يعرفهما البشر حتى مجيئه. وكوسيط أوحد بين الله وشعبه، هو الكاهن الكامل الذي يقدس البشر
.

ثانياً: الشعب الكهنوتي

1.
لم ينسب يسوع الكهنوت صراحة إلى شعبه، كما لم ينسبه إلى نفسه. ولكنه لم يكف عن التصرف ككاهن. ويبدو أنه اعتبر شعب العهد الجديد شعباً كهنوتياً. يظهر يسوع كاهناً بتقدمة ذبيحته وبخدمة ” الكلمة
“.

وممّا يلفت النظر، أنه يدعو كل واحد من ذويه ليشترك في الوظيفتين الخاصتين بكهنوته: على كل تلميذ أن يحمل صليبه (متى 16: 24//)، وأن يشرب كأسه (متى 20 -22، 26: 27). ولا بد لكل واحد من أن ينشر رسالته (لوقا 9: 60، 10: 1- 16)، وأن يشهد للمسيح حتى الموت (متى 10: 17-42). وكما أن يسوع يجعل كل الناس أبناء وملوكاً معه، كذلك يشركهم في كهنوته
.

2.
ينشر الرسل فكر يسوع هذا، عندما يقدمون الحياة المسيحية باعتبارها ذبيحة طقسية، أي كمشاركة في كهنوت الكاهن الواحد
.

يعتبر بولس إيمان المؤمنين “ذبيحة وقرباناً” (فيلبي 2: 17)، والمعونات المالية التي يتسلمها من كنيسة فيلبي “عطراً طيب الرائحة وذبيحة يقبلها الله ويرضى عنها” (فيلبي 4: 18) وهو يرى في حياة المسيحيين كلها عملاً كهنوتياً، يدعون فيه إلى تقديم أجسادهم “ذبيحة حيّة، مقدسة، مرضيّة عند الله. فهذه هي عبادتهم الروحية ” (رومة 12: 1، راجع فيلبى 3: 3، عبرانيين 9: 4 1، 12: 28
).

وتقوم هذه العبادة في تسبيح الرب، مثلما تكون في الإحسان والمشاركة في المال (عبرانييِن 13: 15- 16). وتذكر رسالة يعقوب بالتفصيل الأفعال الواقعية التي تشكّل العبادة الحقيقية: ضبط اللسان، والعناية بالأيتام والأرامل، وصيانة النفس عن دنس العالم (يعقوب 1: 26- 27
).

وتتميز رسالة بطرس الأولى وكتاب الرؤيا بالأقوال الصريحة في هذا المضمار، فهما ينسبان إلى الشعب المسيحي “الكهنوت الملوكي ” الخاص بإسرائيل (1 بطرس 2: 5 و 9، رؤيا 1: 6، 5: 10، 25: 6، راجع خروج 19: 6). وبهذا اللقب، كان أنبياء العهد القديم يعلنون أنه على إسرائيل أن يحمل، في وسط الشعوب الوثنية، كلمة الله الحق وأن يحافظ على عبادته. فيأخذ الشعب المسيحي، منذ الآن فصاعداً، على عاتقه، أداء هذه المهمّة. هو قادر على ذلك بفضل يسوع الذي يشركه في كرامته المسيانية ككاهن وكملك
.

ثالثاً: خدّام كهنوت يسوع

لا ينسب أي نص من نصوص العهد الجديد تسمية الكاهن إلى أحد من المسئولين في الكنيسة. ولكنّ تحفّظ يسوع في استعمال هذه التسمية كبير، إلى حد أن صمته ليس له تفسير قاطع. فإن يسرع يشرك شعبه في كهنوته. في العهد الجديد، مثلما هي الحال في العهد القديم، لا يمكن أن يباشر شعب الله هذا الكهنوت، بطريقة عملية، إلا عن طريق خدام مدعوين من الله
.

1.
لذلك نلاحظ أن يسوع دعا الإثني عشر ليعهد إليهم بمسئولية إدارة كنيسته، وقد أعدّهم لخدمة ” الكلمة”، وأولاهم بعض سلطاته (متى 10: 8 و40، 18: 18). وفي المساء الأخير، عهد إليهم بالأفخارستيا (لوقا 22: 19). وهذه كلها مشاركة خاصة في كهنوته
.

2.
وقد فهم الرسل هذا، ولذا عيّنوا بدورهم مسئولين ليواصلوا عملهم. ويحمل بعض هؤلاء لقب الشيوخ، الذي هو أصل التسمية الحالية للكهنة،
(presbytres) (
أعمال 14: 23، 20: 17، تيطس 1: 5). إن فكر بولس حول الرسالة ومواهبِّ الروح القدس، يتجه منذ ذلك الوقت نحو كهنوت خدام ” الكنيسة. ويعطي بولس المسئولين في الجماعات ألقاباً كهنوتية: “وكلاء أسرار الله ” (1 كورنتس 4: 1- 2)،و ” خدام العهد الجديد ” (2 كورنتس 3: 6). ويصف البشارة” الرسولية بأنها خدمة كهنوتية ( رومة 1 : 9، 15: 15- 16
)

هذه هي نقطة انطلاق التفسيرات اللاحقة، في تاريخ الكنيسة، الخاصة بكهنوت الخدمة. إلا أن هذا الكهنوت لا يشكّل طبقة ذات امتيازات، فلا يمس لا كهنوت المسيح الوحيد ولا كهنوت المؤمنين. ولكن، بما أنه في خدمة الإثنين فهو إحدى الوساطات التي تكفل خدمة شعب الله
.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي