مذبحة الأبرياء

 

أولاً – معني الاسم وتاريخة : يطلق هذا الاسم في التقليد الكنسي على المذبحة التي ارتكبها هيرودس الأول في زمن ولادة المسيح، بقتله أطفال بيت لحم وتخومهم من ابن سنتين فما دون ( مت 2 : 16 )، ويمكن العودة بهدا التعبير عن هذه الحادثة إلى أوغسطينوس نقلاً عن كيبريانوس
.

ويدعو إيريناوس ( المتوفي في 202 م ) هؤلاء الأطفال ” شهداء “، ويعلق في عبارة بليغة رائعة على المسأساة التي أنهت حياتهم القصيرة، بأنها كانت ” ارسالاً كريماً ورقيقاً لهم إلى ملكوت الله بواسطة الرب نفسه
“.

و يقول كيبريانوس ( المتوفي في 208 م ) : ” إن الطفولة البريئة قد بُذلت للموت من أجل اسم المسيح، لنتيقن ان من يقتلون لأجله هم أبرياء
“.

ويتحدث أوغسطينوس ( الذي ولد في 354 م ) في معرض تعليقه على المزمور الثالث والأربعين ( العدد الخامس ) بمثل ما قاله كيبريانوس عن الأطفال ” الأبرياء ” أما المعالجة الكنسية لتلك الحادثة فجديرة بالملاحظة بسبب المغالاة الكبيرة فيما يختص بحدود تلك المذبحة وعدد ضحاياها. فقد صرحت الكنيسة اليونانية في وقت مبكر بأن عددهم كان أربعة عشر الفاً، ثم ازداد العدد بعد ذلك إلى مائة أربعة وأربعين ألفاً بناء على التفسير الغريب الخاطيء لما جاء في سفر الرؤيا ( 14 : 1، 3
).

ويقول ميلمان إن الطقس الكنسي في كنيسة إنجلترا، يحتفظ بذكري هذا الخطأ القديم، وفي استخدام الأصحاح الرابع عشر من سفر الرؤيا في عيد ” الأبرياء
“.

وهذه المغالاة التي لا توجد أدنى إشارة إليها في العهد الجديد، شيء ملفت للنظر، لأن أهم الاعتراضات على تاريخية الرواية يبني على صمت يوسيفوس عن هذه المذبحة. ولما كان من المرجح جداً أن عدد الاطفال الذين شملتهم المذبحة لم يزد على العشرين طفلاً، فهي لا تعد شيئاً ذا أهمية كبيرة بين سلسلة الفظائع التي ارتكبها أو خطط لها هيرودس في الشهور الأخيرة من حياته ( كما يقول فرار في كتابه ” حياة المسيح
” ).

ثانيا – تحليل الرواية في ضوء الباعث عليها : إن أول وأهم خطوة عند تقييم القصة من وجهة النظر التاريخية، هي دراسة الباعث عليها. لماذا كتبت القصة ؟ ليس من اليسير دائماً الإجابة على هذا السؤال، ولكن في المسألة التي نحن بصددها هناك محك بسيط جداً ولكنه فعَّال للغاية
.

1- 
مجال القصة – الاقامة في الناصرة : توجد خمسة اقتباسات من العهد القديم في سياق الرواية في مستهل إنجيل متي ( ص 1، 2 ). وتمثل هذه الاقتباسات الخمسة النقاط الأساسية والبارزة في القصة، وهذة الاقتباسات حسب ترتيبها هي
:

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ب بَارِيج ج

(
أ ) الميلاد العذراوي ( 1 : 23
).

(
ب) الميلاد في بيت لحم ( 2 : 6
).

(
جـ ) النزول إلى مصر ( 2 : 15
).

(
د ) قتل الأطفال ( 2 : 18
).

(
هـ ) السكني في الناصرة ( 2 : 23
).

وهناك شيء هام يسترعي الانتباه من أول وهلة، وهو عدم وجود أي اقتباس من العهد القديم عن زيارة المجوس، وهو إغفال جدير بالملاحظة، لأنة توجد شواهد جميلة ومناسبة في سفر العدد ( 24 : 7 )، والمزامير ( 72 : 10 )، واشعياء ( 60 : 6 ) وغيرها كثير عن اجتماع الأمم، كان من الممكن الربط بينها وبين زيارة الغرباء عن المشرق
.

ويمكن تفسير هذا الإغفال الملحوظ من جانب كاتب شديد الاهتمام بالنبوات واتمامها وابراز الانسجام والتناسق الواضحين بين العهدين، على أساس أن زيارة المجوس لا تحتل أهمية خاصة من وجهة نظر الكاتب للأحداث. إن قصة المجوس لم تذكر لذاتها، ولكن لارتباطها بقتل الاطفال، وبالرحلة إلى مصر. فإن موضوع قتل الأطفال ذو أهمية خاصة لأنه ينم عن شخصية هيرودس الدموية، وعن الأخطار التي أحاطت بالمسيا عند ولادته، كما أنه يبين سبب الزيارة لمصر ثم الاقامة في الناصرة. وهذه النقطة الأخيرة هي لب الموضوع، لذلك يفرد لها مكاناً خاصاً ويذكر أيضاً الشاهد الخاص بها
.

والاقتباس من العهد القديم بخصوص الاقامة في الناصرة يبدو مبهماً غامضاً
.

ومحور الاهتمام في الجزء المختص بهيرودس والمجوس هو الاقامة في الناصرة، فالغرض الواضح من القصة هو شرح سبب اقامة وارث بيت داود – المولود في بيت لحم – في الناصرة. وبذلك تبدو العلاقة بين روايتي متي ولوقا، علاقة ملفتة للنظر
.

إن غرض رواية لوقا هو اظهار أن المسيا الذي عاش في الناصرة، كان قد ولد في بيت لحم، وهنا نجد واحداً من الاتفاقات غير المتعمدة التي تربط بقوة بين هاتين الروايتين اللتين تبدوان حسب الظاهر – متباعدتين، فمتي لا يذكر شيئاً عن الاقامة السابقة في الناصرة، بينما لا يذكر لوقا شيئاً عن العودة الاضطرارية إلى هناك. على أي حال فإن الاتساق بينهما يفوق – بما لايقاس – مايبدو من تعارض
.

2- 
نتائج الحقائق السابقة : وحقيقة أن محور الرواية هو اقامة يسوع في الناصرة، تحسم عدداً من المزاعم الشائعة حول أصل الرواية عن المجوس
:

(
أ ) فكرة أنها مجرد أسطورة رويت لاضفاء زخرفاً أدبياً
.

ويستحيل تفسير التوافق بين الموضوع الرئيسي ومشتملات الرواية بأحداثها الثانوية على أساس هذا الزعم. كما أن عدم ذكر الشواهد من العهد القديم كفيل وحده بحسم هذا الموضوع
.

(
ب ) فكرة أن الرواية قد كتبت لاظهار مدي امتداد نفوذ المسيا خارج حدود إسرائيل، وهنا أيضاً يحسم الأمر، الوضع الثانوي لقصة المجوس وعدم ذكر أي اقتباس عنها من العهد القديم. كما أن قصة المجوس تنقطع على نحو مفاجيء بذكر عودتهم إلى موطنهم، فلا نقرأ عنهم شيئاً بعد ذلك بمجرد انتهاء هذه الصلة العارضة بينهم وبين مسار حركة التاريخ في عصر هيرودس. كما أن المقدمة الافتتاحية من إنجيل متي والمختصة بولادة يسوع وطفولته، تتسم بشدة بالصبغة العبرية، وهذا دليل آخر في نفس الاتجاه
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ر راشف ف

(
جـ ) فكرة أن القصة كتبت لتأكيد عنصر المعجزة بالارتباط بولادة المسيح. والحقائق تناقض هذا الزعم، فبالاضافة إلى الأهمية الثانوية لهذه القصة بالنسبه لعنصر المعجزة، فهناك دلائل اخرى هامة على أن الكاتب لم يهدف إلى ذلك،
 
فمع أنه كان مقتنعاً راسخاً أكيداً بأن العناية الإِلهية هي التي قادت المجوس إلى حيث كان الصبي يسوع، فإن السمة البارزة في القصة، هي – رغم هذا الاقتناع – التزامه بكل دقة بالتسلسل الطبيعي للأحداث، ولايخرج عن ذلك إلا في العددين التاسع والثاني عشر، وعبارة العدد التاسع تستلفت النظر في موقعها من القصة، إذ يجب أن نذكر أمرين بخصوصها، فمن الواضح أنه لا يمكن تفسير العدد التاسع بمعزل عن الفهم الصحيح للظاهرة الفلكية التي تشكل العبارة جزءاً منها
:

إن المجوس لم يأتوا إلى بيت لحم مباشرة بل إلى أورشليم، سائلين : “أين هو المولود ملك إليهود ؟ ” ثم يجيء العدد التاسع، بعد ذلك وبعد الاجتماع السري الذي دعاهم إليه هيرودس، الذي تحدد فيه بيت لحم مكاناً لولادة المسيا
.

وفي ضوء كل هذا يبدو واضحاً أن المجوس قد جاءوا إلى أورشليم بناء على دقة معلوماتهم الفلكية، ويبدو عنصر العناية الإلهية واضحاً في ظهور النجم لهم وهم في طريقهم إلى بيت لحم. ولم يكن همُّ كاتب موجها أساساً إلى عنصر المعجزة، وإلا لكان قد حدد خطوط القصة بوضوح وأزال كل غموض يحيط بطبيعة الحادث
.

ثالثاً – دلائل تاريخية الرواية : والآن يمكننا أن نلقي نظرة على الدليل الايجابي على تاريخية الرواية
:

1-
تدور القصة حول إقامة يسوع في الناصرة، وهذا لا يجعل من إنجيل لوقا مدعماً للب الرواية فحسب، ولكنه يربط القصة بنقطة ذات أهمية بالغة لجيل المؤمنين الأوائل
.

وجدير بنا أن نذكر أن الاقامة في مصر لها سند مستقل، إذ توجد قصتان، يذكر إحداهما أوريجانوس نقلاً عن يهود عصره نقلاً عن أسلافهم، وتذكر الثانية في التلمود. وهاتان القصتان تربطان معجزات يسوع باقامته في مصر، في محاولة لتقليل أهمية عمله للمعجزات باسنادها إلى سحر مصر
.

2-
ثمة حقيقة واضحة، هي أن قصة المجوس كتبت بموضوعية بمثل هذا التجرد الشخصي، فلقد كان لكل من إليهود والمسيحيين الأوائل وجهات نظر متشددة ضد التنجيم والسحر عموماً، ولكن كاتب الإِنجيل يذكر القصة بدون تعليق، ومن جهة نظر المجوس. لقد كان كل اهتمامه هو التاريخ والواقع
.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ق قطورة 2

3-
صورة هيرودس الكبير : تقتصر الإِشارة إلى هيرودس على وحشيته الدمويه، ويقول كثيرون ان الصورة هنا عدائية وغير منصفة. ولكن ليس هذا الزعم ما يبرره، حتى ولو دارت كل الرواية حول موضوع الوحشية، ولكن هناك ما هو أكثر من الوحشية في هذه الحادثة
:

(
أ ) في المقام الأول، يوجد في الرواية عنصر الصدق القوي الذي لاينكر، فقد ارتكب هيرودس فعلاً جرائم القتل، فقد كان بين من قتلهم زوجته المحبوبة وأولاده، تحت تأثير عاطفة واحدة استجابة لباعث شخصي، وكان ذلك في كل الحالات سعياً وراء تعزيز سلطته واستمرارها

فلقد قتل كل أفراد عائله المقربين عن غيرة حمقاء، دفعته إلى حدود الضراوة الوحشية، لاتهامهم بالتآمر ضده، وكانت تلك الاتهامات كاذبة إلى حد بعيد، ولكن الشك قضى على أولئك المتهمين
.

وكان قتل الأطفال الأبرياء جريمة أخرى من نفس النوع، فقد كان الخوف ينتابه من ظهور مطالب بالعرش، وكان الرجاء اليهودي في مجيء المسيا، سبب عذاب خفي مستديم بالنسبة له، وكان قتل الاطفال، محاولة منه للوصول إلى الطفل الذي كان وجوده يهدد عرش هيرودس. وكانت المذبحة مبتكرة في أسلوبها متميزة في غايتها، مما يضفي على الرواية كلها مصداقيتها التي تشير إليها أيضاً
دلائل أخرى في النص
.

(
ب ) يتفق اكتشاف هيرودس الفوري لزيارة المجوس وبحثهم عن المسيا، مع ما نعرفه عن يقظة هذا الحاكم ودقة نظام التجسس المتقن الذي وضعه
.

(
جـ ) إن الدهاء الذي تصرف به هيرودس في الموقف بأكمله. لماَّ يتفق مع طبيعته. هذا الدهاء الواضح في اهتمام الملك الظاهري بأمر المجوس، واجتماعه السري المهيب بقادة اليهود ممثلاً دور السائل الجاد، وسؤاله الملح طالباً المعرفة حتي يسجد له هو أيضاً، ثم ما أعقب ذلك من غضب سريع عندما خدعوه ( لاحظ عبارة ” غضب جداً ” في العدد السادس عشر، عن الكلمة اليونانية ” ايتوموت ” التي لا ترد في أي موضع آخر في العهد الجديد )، ثم الضربة الانتقامية العمياء الرهيبه التي قام بها.. كل هذه الأمور تتفق مع طبيعة الرجل والجو الذي كان يحيط به على الدوام. حتى إننا نجد أنفسنا مضطرين للتسليم بأن ما أمامنا هو تاريخ صادق مستقي رأساً من شاهد عيان للأحداث أو هو عمل قصاص بارع لا يضارع
.

 

 

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي