الفصل الرابع


مريم العذراء في لاهوت الكنائس الإنجيليّة


 


تمهيد


1- مريم العذراء والدة الإله


2- مريم العذراء الدائمة البتوليّة


3- قداسة مريم العذراء وعقيدة الحبل بلا دنس


4- انتقال مريم العذراء الى السماء


5- مريم العذراء رمز الكنيسة وأمّ المسيحيين


6- مريم العذراء في الليترجيّا


 


تمهيد:

سنة 1963 نشر ماكس توريان، وهو أحد إخوة دير تيزيه البروتستنتيّين، كتابًا عنوانه “مريم أمّ الربّ ورمز الكنيسة”، أوضح فيه نظرة الفكر البروتستنتي (الذي يدعى اليوم “الإنجيلي”) في مريم العذراء، ولا سيّما أفكار المصلحين الأوائل الذين انطلقت منهم مختلف الكنائس البروتستنتيّة. لقد تطوّرت تلك الكنائس وتشعّبت كثيرًا، بحيث يستحيل تكوين فكرة واضحة عن تعليم البروتستنتيّة في مريم العذراء. فالفكر البروتستنتي يتمتّع في هذا الموضوع بكثير من الحرّية. فالكتاب المقدّس هو مصدره الأوحد، والسيّد المسيح المخلّص هو محور تفكيره، والإيمان بالكتاب المقدّس وبالمسيح المخلّص هو ركيزة حياته وروحانيّته. لذلك يبدو في نظره هامشيًّا كلّ ما يقال عن مريم العذراء، وينتقد الكاثوليكيّين والأرثوذكسيّين متّهمًا إيّاهم بالمغالاة والتطرّف في إكرام العذراء، وكأنّه يخشى أن ينقص الإكرامُ المؤدّى للعذراء مريم من الاهتمام بالسيّد المسيح المخلّص الأوحد والوسيط الأوحد بين الله والناس.

لقد بيّنا في كل صفحات هذا الكتاب أنّ إكرامنا لمريم العذراء لا يقود إلى التنقيص من أهمّية الخلاص بالمسيح ولا إلى إنكار وحدانيّة وساطة المسيح. إنّ إكرامنا لمريم العذراء يستند إلى كونها أمّ المسيح، وشفاعتها ترتكز على ارتباطها بوساطة المسيح. وهذه العلاقة بين مريم العذراء وابنها المسيح الربّ هي التي يؤكّدها المصلحون الأوائل، في مختلف النقاط المرتبطة بمريم العذراء.

 


1- مريم العذراء والدة الإله

إنّ لقب “والدة الإله” الذي أعلنه مجمع أفسس يجد تأييدًا لدى لوثر وزفينكلي، فيما يبقى كالفين متردّدًا حياله.

سنة 1539 كتب لوثر مقالة بعنوان “في المجامع والكنائس”، جاء فيها: “هكذا لم يأت مجمع أفسس بشيء جديد في الإيمان، وإنّما دافع عن الإيمان القديم ضدّ ضلال نسطوريوس الجديد. فالقول إنّ مريم هي والدة الإله كان في الكنيسة منذ البداية، ولم يخلقه المجمع جديدًا، بل قاله الإنجيل أو الكتاب المقدّس. ففي القدّيس لوقا (1: 32)، نجد أنّ الملاك جبرائيل بشّر العذراء بأنّ ابن العليّ سوف يولد منها. وقالت القدّيسة أليصابات: “من أين لي هذا أن تأتي أمّ ربّي إليّ؟” وأعلن الملائكة معًا يوم الميلاد: “اليوم ولد لكم مخلّص، هو المسيح الربّ” (لو 1: 11). وكذلك بولس الرسول: “أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة” (غلا 4: 4). هذه الأقوال التي أؤمن بصحّتها تدعم، وبكلّ تأكيد، الحقيقة القائلة إنّ مريم هي والدة الإله”. أمّا زفينكلي فقد كتب سنة 1524 عظة عن “مريم الدائمة البتوليّة الطاهرة والدة الإله”، استعمل فيها بحرّية لقب “والدة الإله”، وأعلن في مقطع منها نافيًا اتّهامات ذوي الإرادة السيّئة الذين ادّعوا أنّهم سمعوه يتحدّث عن مريم بأنّها امرأة خاطئة شبيهة بأيّة خليقة، قال: “لم أفكّر إطلاقًا، ولم أعلّم، ولم أقل جهرًا عن العذراء الطاهرة، مريم أمّ مخلّصنا، أيّ قول معيب أو شائن أو سيّئ”.

وكتب بولينجر خلف زفينكلي على زوريخ، ينتقد نسطوريوس الذي رفض تسمية العذراء بلقب “والدة الإله”. وكذلك كتب القسّ الفرنسي شارل دريلانكور: “بسبب هذا الاتّحاد المتين غير المدرك (بين طبيعتي المسيح)، فإن ما يناسب إحدى الطبيعتين يمكن أن يُنسَب إلى الشخص بشكل عام. لهذا قال بولس الرسول: “إنّ اليهود صلبوا ربّ المجد” (1 كو 2: 8). ولا نرى أيّ صعوبة في القول مع الأقدمين إنّ العذراء هي والدة الإله، لأنّ الذي ولدته هو الإله الفائق كل شيء، المبارك إلى الأبد” (رو 9: 5).

 


2- مريم العذراء الدائمة البتوليّة


  


ماكس توريان: يؤكّد تقليد الكنيسة العريق على بتوليّة مريم الدائمة. ويوجز إيمان المصلحين بقوله: “إنّ موقف مريم من احترامها سرّ إعدادها الأزلي يجعلنا نقرّ أنّ عقيدة مريم الدائمة البتوليّة التقليدية تنسجم، على الأقلّ، مع دعوة مريم الفريدة، المكرّسة تمامًا لخدمة الله، والممتلئة من نعمة الله، والمتّجهة كلّيًا نحو ملكوت الله. مريم، في بتوليّتها، هي علامة الخليقة المصطفاة والمكرّسة والممتلئة من ملء الله، التي لم تعد تنتظر شيئًا غير الاكتمال النهائي في ملكوت الله الظاهر، وتعيشه الآن بشكل خفيّ ومسبّق. هي علامة الكنيسة المقدّسة التي لا تنتظر ولا ترجو سوى عودة المسيح”.


       


أقرّ زعماء الإصلاح البروتستانت أنفسهم في القرن السادس عشر أنّ مريم دائمة البتوليّة.


  


مارتن لوثر: أكد على عقيدة بتوليّة مريم الدائمة طول حياتها، حيث قال في الثاني من شباط سنة 1546، يوم عيد تقدمة المسيح إلى الهيكل، قال: “كانت بتولاً قبل الحبل والولادة، وظلّت بتولاً حتى الولادة وبعدها”.


  


زفينكلي: تكلّم كثيرًا على بتوليّة مريم الدائمة، فأعلن في مدينة برن في كانون الثاني سنة 1528: إنّي أستشهد بكنيسة زوريخ التقيّة وبجميع مؤلّفاتي لأعترف بمريم بتولاً دائمًا وقدّيسة”. وكان سنة 1524 في عظة عن مريم العذراء أكّد بتوليّتها الدائمة بقوله: “إنّي أؤمن إيمانًا ثابتًا، استنادًا إلى ما جاء في الإنجيل المقدّس، أنّ هذه العذراء الطاهرة قد ولدت لنا ابن الله، وأنّها ظلّت، في الولادة وبعدها أيضاً، عذراء نقيّة وبكرًا إلى الأبد”.


  


كالفين: تردد في استعمال لقب “والدة الإله بسبب ما يحمله من خطر على سوء فهم علاقة مريم العذراء بالله،، ولكنة كان صريحًا في موضوع بتوليّة العذراء الدائمة، ورفض أن يكون لمريم أولاد غير يسوع.

 

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ت تسالونيكي ي


3- قداسة العذراء وعقيدة الحبل بلا دنس

حول عقيدة الحبل بلا دنس يقول أيضاً ماكس توريان: “لاحظنا سابقًا أنّ المصلحين يُجمعون الرأي على قداسة مريم وبتوليّتها الدائمة. ومهما كان الموقف اللاهوتي الذي يتّخذونه اليوم من عقيدتي الحبل بلا دنس والانتقال، فيجب أن نعرف، وربما نفاجأ، أنّ بعض المصلحين قبلوا بهاتين العقيدتين الكاثوليكيّتين، لا في صيغتهما الحاليّة، بل بحسب الرأي السائد آنذاك. كانت فكرة الحبل بلا دنس، أي عصمة العذراء مريم من الخطيئة الأصليّة، في عصر الإصلاح، موضوع جدل بل مرفوضة في بعض الأوساط الدومينيكانيّة. وكان معظم اللاهوتيين يقفون موقفًا وسطاً. فكانوا يقولون إنّ تكوين جسد مريم كان خاضعًا للخطيئة الأصليّة، إلاّ أنّ نفسها بُثَّت في جسدها دون تلك الخطيئة (حسب تعليم أوغسطينوس الذي يقول إنّ بثّ النفس في الجنين يأتي بعد الحبل). وكان لوثر يؤيّد هذا الرأي الشائع، فأعلن، في عظة طويلة، في “عيد الحبل بمريم والدة الإله” سنة 1527: “يجب أوّلاً أن نرى ما هي الخطيئة الأصليّة لنفهم كيف حُرِّرت منها مريم العذراء القدّيسة… أمّا بشأن الحبل بمريم العذراء فقد تكوّن جسدها على غِرار سائر الأطفال، حتى بثّت نفسها فيه. فلم يكن من الضروري أن يُحبَل بها كما حبلت هي بالمسيح. فربمّا تمّ هذا الحبل تحت ناموس الخطيئة الأصليّة إلى أن بُثَّت في جسدها النفس. أمّا بشأن الحبل الآخر، أي بثّ النفس، فنعتقد بتقوى وقداسة أنّه تمّ خارجًا عن الخطيئة الأصليّة، بحيث إنّها، في لحظة بثّ نفسها، تطهّرت أيضاً من الخطيئة الأصليّة، وفي اللحظة الأولى التي بدأت فيها الحياة، كانت وبدون خطيئة مزدانة براهب الله”. وهكذا يقع الحبل بمريم، في نظر لوثر وبحسب أقواله عيونها، في مكان وسط بين الحبل بالمسيح والحبل بسائر البشر”.

 


4- انتقال مريم العذراء إلى السماء

“في عقيدة انتقال العذراء، لم يعط لوثر حكمًا واضحًا، بل اكتفى بالقول في 15 آب 1522: “لا نستطيع من هذا الإنجيل أن نستنتج طريقة وجود العذراء في السماء. وعلى كل حال ليس من الضروري أن نعرف مصير القدّيسين في السماء، بل يكفي أن نعرف أنّهم يحيون في المسيح كما قال الله في متّى 22: 32: “الله ليس إله أموات بل إله أحياء”، مستندًا إلى نص سفر الخروج 3: 6: “أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب”.

وقد كتب بولينجر من جهته سنة 1565: “يعلن اللاهوتيّون الأكثر علمًا أنّه لا يستطيع أحد أن يجزم في موت العذراء أو انتقالها. وإن أردنا البحث في بعض الأحداث التي لا يتكلّم عنها الكتاب المقدّس وأردنا إيضاحها، ففي ذلك خطر. فلنكتفِ بالإيمان بأنّ مريم العذراء هي فاعلة الآن في السماء، مشتركة في السعادة كلّها”. إلاّ أنّه هو نفسه عاد فكتب سنة 1568 في الموضوع عينه، فقال: “إنّ إيليّا قد انتقل بجسده ونفسه على مركبة من نار، ولم يُدفَن جسده في أيّة كنيسة بل صعد إلى السماء، لنعرف من جهة أيّ خلود وأيّ مكافأة يعدّ الله لأنبيائه الأمناء وخلائقه البارزين الفريدين، ومن جهة أخرى لينزع من الناس إمكان تكريم جسد هذا القدّيس. لهذا السبب، حسب اعتقادنا، نقل الملائكة إلى السماء الجسد المقدّس وهيكل الروح القدس، جسد والدة الإله مريم العذراء الطاهرة والمنزّهة عن كل عيب”.

إنّ معظم البروتستنتيّين اليوم يرفضون عقيدة انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها إلى السماء. يقول ماكس توريان: “عيد الانتقال القديم في 15 آب أكثر دقّة لاختلاف المفاهيم المتعلّقة بدخول مريم في راحة الله: إنّ إخوتنا الكاثوليكيّين والأرثوذكسيّين يؤمنون بانتقال العذراء إلى السماء بجسدها، والبروتستنتيّين يؤمنون بموتها فبدخولها إلى السماء وانتظارها القيامة، شأنها في كلّ ذلك شأن سائر المسيحيّين. ومع ذلك، فبروح مسكونيّة، وبدون اختلاط في العقيدة، يبدو أنّه بإمكاننا أن نعيّد جميعنا في اليوم عينه لدخول مريم في راحة الله، مهما كانت العقيدة التي تعرض لنا هذا السرّ أو الإيمان الذي يدركه. يستطيع البروتستنتيّون أن يعيّدوا في 15 آب بالروح الذي أوحى هذه الأسطر لشارل دريلنكور، هذا القس الكلفيني الفرنسي من القرن السابع عشر، وقد ذكرناه سابقًا بضع مرّات: “كما أنّها نالت على الأرض أثمن نعمة وأندر حظوة يمكن خليقة أن تكرَّم بها، كذلك تتمتّع الآن في السماء بأرفع وأسمى مجد تقدر عليه نفس بشرية… إذا كان يوسف قد استقبل بدموع الفرح أباه الذي ذهب إلى مصر لرؤية وجهه والاشتراك في ثمار كراماته، فكم بالأحرى ابن الله، مخلّص العالم وفاديه، يكون قد استقبل بابتهاج هذه الأمّ الطوباويّة… التي صعدت إلى السماء لتتأمّل مجد نعيمه”.

 


5- مريم العذراء رمز الكنيسة وأمّ المسيحيّين

يقول ماكس توريان، تعليقًا على قول يسوع ليوحنّا الواقف مع مريم العذراء أمام الصليب: “هذه أمّك”: “يستطيع التلميذ الذي يحبّه يسوع أن يقول عن مريم إنّها أمّ يسوع وأمّه شخصيًّا، فيحقّق الصداقة الحميمة التي تربطه بالمسيح، ربّه وأخيه. مريم، أمّ يسوع وأمّه، هي الشخص الذي يستطيع أكثر من أي شخص آخر أن يقرّبه من المسيح سيّده وربّه، وقد كانت وإيّاه شاهدة على ساعات المصلوب الأخيرة، وسمعت آخر كلماته، وقبلت الروح الذي أسلمه إلى كنيسته. فمريم هي له، وبه لجميع التلاميذ وللكنيسة التي تجتمع حولهم، علامة قريبة لحضور الربّ، أمّ روحية في الجماعة المسيحية، وهي الأكثر إكرامًا من بين الأمّهات الروحيّات التي يجدها المسيحي في الكنيسة. إنّها الأمّ الروحيّة بكلّ ما في هذا التعبير من عمق وسموّ للتلميذ الحبيب والأمين، أي لكلّ مسيحي. لأنّ كلّ مسيحي هو أخ ليسوع… مريم هي بالنسبة للتلميذ الذي كان يسوع يحبّه، ولكلّ التلاميذ معه، صورة الكنيسة-الأمّ، والأمّ الروحيّة التي يجدها في الكنيسة من يؤمن بالمسيح (راجع مر 3: 31- 35). وتستطيع، بقدرة الروح، أن تنقل إلى التلاميذ وإلى الكنيسة الأولى كلّ ما تعرف عن يسوع، ابنها الحبيب، وما حفظته وما تأمّلته في قلبها (لو 2: 19، 51). ستحمل بتواضع إنجيل ابنها، لا على طريقة الرسل المبشّرين، بل على طريقة أمّ محبّة تعمل بصمت، أمّ بشريّة لابن الله الذي عرفته في أعماقه أكثر من أيّ شخص آخر، وأمّ روحيّة للتلاميذ تساعدهم على أن يتذكّروا كلّ ما قاله المسيح وعمله، وكانت له شاهدة متيقّظة وأمينة. بإيمانها ورجائها ومحبّتها وصلاتها، ستكون أمًّا روحيّة في الكنيسة-الأمّ التي هي صورتها الحيّة والمتواضعة”.

هل تبحث عن  هوت روحى كلمة منفعة 89

ثمّ يعرض المؤلّف بعضاً من أقوال لوثر في هذا الموضوع:

“إنّه لفرح عظيم يتحدّث عنه الملاك. وهي تعزية الله ورحمته الفائضة. فيحقّ لكلّ إنسان أن يفتخر بكنز كهذا: مريم هي أمّه الحقيقية والمسيح أخوه والله أبوه”.

“أظنّ أن لا أحد منّا يرفض أن يترك أمّه ليكون ابن مريم. ويمكنك الوصول إلى ذلك. بل هذا معروض عليك، وهو فرح أعظم ممّا لو كنت تعانق أمّك وتقبّلها بقبلات حقيقيّة”.

“مريم هي بحق أمّنا. ولكن إذا أردنا أن نبني على ذلك، فنأخذ من المسيح كرامته ورسالته ونعطيها لمريم، فهذا يعني إنكارًا لآلام المسيح”.

“مريم هي أمّ يسوع وأمّنا جميعًا… فإذا كان (يسوع) خاصّتنا، وجب أن نكون نحن في وضعه. فحيث هو، يجب أن نكون أيضاً، كلّ ما له يجب أن يكون لنا، وأمّه هي أيضاً أمّنا”.

ويرى لوثر علاقة حميمة بين العذراء والكنيسة. فالعذراء هي صورة الكنيسة، فهي ولدت المسيح، والكنيسة تلد إخوة المسيح. يقول: “إنّنا نختلف في الولادة الجسديّة. ولكنّنا، في العماد، كلّنا أبناء أبكار للعذراء، أي للكنيسة التي هي العذراء النقيّة بالروح. عندها كلمة الله النقيّة، تحملها في أحشائها. هنا نحن الثمار الأولى الحقيقيّة (البواكير)، لنكون ملك الربّ إلهنا”.

ويتابع المؤلّف تلك الصورة فيقول: “تلد الكنيسة أبناء الله الآب، إخوة يسوع، بقدرة الروح القدس، وتغذّيهم، وتعتني بهم. بكلمة الله والمعموديّة تلد المؤمنين الجدد إلى عالم الإيمان والرجاء والمحبّة، وبالإفخارستيّا تغذّيهم بجسد الربّ ودمه المحيِيَيْن، وبالحلّ تعزّيهم في رحمة الآب، وبالمسحة ووضع اليد تمنحهم شفاء الجسد والنفس.

“إنّ كلّ خدمة تمارسها تتّسم بسمة الأمومة الروحيّة هذه. لقد كتب بولس، لنفسه ولجميع الرعاة الذين يرتسمون لخدمة الكنيسة من أجل بناء كهنوت المؤمنين الملكي: “أيّها الكورنثيّون، إنّ فمنا قد انفتح إليكم وقلبنا قد اتّسع. لستم متضايقين فينا… إنّي أكلّمكم كأبنائي. وسّعوا أنتم أيضاً قلوبكم… لقد قلت لكم آنفًا: إنّكم في قلوبنا للحياة وللموت. إنّ لي بكم ثقة عظيمة، ولي بكم فخرًا عظيمًا، ولقد امتلأت تعزية، وأنا أفيض فرحًا في كل ضيقنا” (2 كو 6: 11- 13؛ 7: 3- 4)، “وما عدا هذه، ما يتراكم عليّ كلّ يوم، والاهتمام بجميع الكنائس. فمن يضعف ولا أضعف أنا، من يعثر ولا أحترق أنا؟” (2 كو 11: 28- 29). أليس هذا الكلام شبيهًا برسالة أمّ لأبنائها؟ يبدو بولس في رسائله أحيانًا أبًا، وأحيانًا أمًّا. وفي خدمته يحقّق رسالة الأمّ في الكنيسة. هذا العطف وهذا الحنان اللذان يميّزان قلب الأمّ عرفهما أيضاً يوحنّا في خدمته الراعويّة: “يا أولادي الصغار، أثبتوا الآن فيه… يا أولادي الصغار، لا يضلّكم أحد” (1 يو 2: 1، 12، 28؛ 3: 7، 18؛ 4: 4؛ 5: 21، تتكرّر لفظة “أولادي الصغار” سبع مرّات في الرسالة).

ثمّ يختم المؤلّف بقوله: “يجب على سلطة الخدمة أن تقترن بوداعة الخدمة. السلطة الضروريّة في الكنيسة يجب أن تظهر بروح محبّة الكنيسة الأمّ. ومريم صورة الكنيسة الأمّ، يمكنها أن تعلّم خدّام الكنيسة، والسلطات في الكنيسة، وجميع المؤمنين، أنّ من يعي الإرشاد الروحي كما تعيه الأمّ وعيًا شديدًا وبدون ميوعة، يستطيع وحده التعبير حقيقة عن محبّة الآب الذي يلد إلى الإيمان، ويغذّي، ويعزّي، ويشفى بكلمته وعلامات حضوره”.

 


6- مريم العذراء في الليترجيّا

نتابع عرضنا لموضوع مريم العذراء في الفكر البروتستنتي، فنكتشف أنّ التراث البروتستنتي الأصيل يعتبر ضروريًّا إكرام مريم العذراء والقدّيسين في الليترجيّا. لا شكّ أنّ الفكر البروتستنتي عرف في تطوّره مراحل كثيرة، وفي حدّة النقاش مع الكاثوليكيّين ردّ بعض البروتستنتيّين على تطرّف بعض الكاثوليكيّين بتطرّف معاكس، فأنكروا إكرام مريم العذراء والقدّيسين. ولكن بعد أن انحسرت موجة المجادلات والنقاشات الحادّة، وعاد الجوّ الى التحاور باعتدال ورصانة، رأى البروتستنتيّون ضرورة إكرام العذراء والقدّيسين، وإن بطريقة تختلف عن الطريقة المتّبعة في الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة. وهذا ما نقرأه في كتاب ماكس توريان. يقول في فصل عنوانه: “مريم في الكنيسة”:

“مريم، حسب الإنجيل، “تطوّبها جميع الأجيال” (لو 1: 48): في الليترجيّا وفي المواعظ وفي تقوى الكنيسة. لأنّ مريم حاضرة في الكنيسة بكونها المرأة المسيحيّة الأولى، ولأنّها رمز الكنيسة، لها مكانتها في إعلان كلمة الله في الكنيسة وفي حياة المؤمنين الروحيّة. لا شكّ أنّ هذه الالتفاتة الى مريم في الكنيسة قد عرفت ولا تزال تعرف تطرّفًا قد يسيء الى عبادة الله الثالوث الذي له وحده يجب السجود. ولكنّ هذا الخوف من التطرّف يجب ألاّ يقودنا الى الصمت والى غياب مريم عن الضمير المسيحي، فيكون ذلك أيضًا عدم أمانة لإنجيل المسيح.

“لقد أكّدنا، في خلال هذه الدراسة، استنادًا الى الكتاب المقدّس، كلّ ما تستطيع التقوى المسيحيّة أن تكتسبه من علم راسخ ومحيٍ في التأمّل بدعوة مريم، أمّ الربّ ورمز الكنيسة. بقي علينا هنا أن نحدّد كيف يمكن الإعلان عمّا صنعه الله في مريم أن يجد مكانه المشروع في ليترجيّا الكنيسة، وفي كرازتها، ليتاح لجميع الأجيال أن تطوّب أمّ الرب، حسب قول الكتاب المقدَّس.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ن نهلول ل

“للعذراء مريم مكانتها في الليترجيّا حيث يمكن أن تُعلَن، كما في الكرازة، النعمة التي صنعها الله فيها.

“أو ليس الكتاب المقدّس رواية المعجزات التي حقّقها الله لشعبه ولكلّ من أفراده؟ ومريم، بكونها عضوًا متميّزًا في الكنيسة، وصورة لشعب الله الأمين والممتلئ من نعمته، يجب أن تكون المناسبة لليترجيّا لتمجّد بها الله تمجيدًا خاصًّا. ولوثر الذي حافظ على عدّة أعياد للعذراء في الليترجيّا قال في عيد البشارة في 25 آذار سنة 1539: “هذا العيد هو واحد من أهمّ الأعياد التي يمكننا الاحتفال بها كمسيحيّين. لأنّنا دعينا، كما يقول بطرس، الى أن نكون شعبًا يبشّر بعجائب الله ويعلنها”. هذا هو معنى الليترجيّا التي تقام بمناسبة الأعياد التي تذكّر بدعوة مريم في تصميم الخلاص، لمجد الله وحده. إنّ حضور مريم في الليترجيّا، في بعض الأعياد الأكثر قدمًا، هو فرصة للمسيحيّين ليعلنوا، بمناسبة مريم، أمّ الربّ وصورة الكنيسة، تسابيح الذي دعاها ودعانا من الظلمة الى نوره العجيب.

“إنّ ذكر الرسل والشهداء وشهود الكنيسة والعذراء مريم في الليترجيّا أمر ضروري لندرك أنّنا لسنا وحدنا في سجودنا لله وتضرّعنا له تضرّع شفاعة من أجل البشر. بل إنّ المسيح يضمّ في جسد واحد معنا كلّ “السحاب من الشهود الذي يحدق بنا”. إنّ شركة القدّيسين توحّد جميع المسيحيّين في صلاة واحدة وحياة واحدة في المسيح. إنّها توحّد كنيسة اليوم وكنيسة كلّ الأزمنة، الكنيسة المجاهدة على الأرض والكنيسة المنتصرة في السماء. والكنيسة، في عراكها، بحاجة الى التطلّع الى آية سفر الرؤيا الإسختولوجية: المرأة الملتحفة بشمس الله، والكون تحت قدميها، وهي مكلّلة باثني عشر كوكبًا. هذه المرأة هي الكنيسة عينها، التي هي بالرغم من معركتها الضارية مع هذا العالم، موعودة بالمجد… والكنيسة بحاجة الى أن تشعر “بالسحاب الكثير من الشهود” يحيط بها لتسعى بثبات في ميدان المحنة المقدّمة لها (عب 12: 1). الكنيسة تسير نحو الملكوت بموكب عيد حافل: “لقد دنوتم الى جبل صهيون، والى مدينة الله الحيّ، الى أورشليم السماويّة، الى ربوات ملائكة، والى عيد حافل، الى جماعة الأبكار المكتوبين في السماوات، الى الله ديّان الجميع، الى أرواح الصدّيقين الذين بلغوا الى الكمال، الى يسوع وسيط العهد الجديد، والى دم مطهّر أبلغ منطقًا من دم هابيل” (عب 12: 22- 24). إنّ شركة القدّيسين هذه التي ترافق الكنيسة في عراكها وفي مسيرها نحو الملكوت تقوّيها في الإيمان، وتفرّحها في الرجاء، وتنعشها في المحبّة. هذا السحاب الكثيف من الشهود يذكّر الكنيسة بأنّها لا تحصى وبأنّها منتصرة في معركة تبدو وكأنّها ستغمرها. ومريم، أمّ الربّ وصورة الكنيسة، هي فرد من هذه الجماعة العظيمة من المسيحيّين، في مكان متميّز لكونها المسيحيّة الأولى الممتلئة نعمة. وهي أيضًا للكنيسة رمز أمومتها المتألّمة التي تلد المؤمنين الى حياة القيامة. إنّها مثال في الإلهي يمان والطاعة والثبات والقداسة، والكنيسة المجاهدة، وهي تتطلّع الى الكنيسة المنتصرة، ترى فيها مريم رمز انتصارها الأكيد.

“إنّ أمّ الربّ يمكن للكنيسة أنّ “تطوّبها” في الذكرى الليترجيّة للأحداث الكبرى من حياتها، وذلك من خلال أعياد إنجيليّة بسيطة، في تسبيح يُرفَع لمجد الله وحده، وتقدّم لجميع المؤمنين بالمسيح مثالاً في الإيمان والطاعة والثبات والقداسة”.

ثمّ يذكر المؤلّف كيف حافظ لوثر على معظم أعياد العذراء ثمّ اكتفى بثلاثة منها: البشارة والزيارة وتقدمة يسوع الى الهيكل، لأنّه وجد لها مستندًا في الإنجيل المقدّس. أمّا كلفين، الأكثر تشدّدًا من بين المصلحين، فقد ألغى كلّ أعياد العذراء والرسل والقدّيسين. ويشير أخيرًا المؤلّف الى ضرورة المحافظة على أربعة من أقدم أعياد العذراء: البشارة والزيارة وتقدمة يسوع الى الهيكل ورقاد العذراء. ويختم بقوله: “ليس القصد في هذه الأعياد الأربعة إلاّ أن نرفع آيات المجد والشكر لله لأجل كلّ ما حقّقه في حياة أمّه البشريّة، ونطلب اليه نعمة اتّباع مثل العذراء مريم في إيمانها وطاعتها وثباتها وقداستها، ونفرح في شركة القدّيسين، بانتظار القيامة وملكوت الله، حيث سنحيا مع مريم وجميع القدّيسين حياة أبدية وفرحًا كاملاً”.

قد لا يجد الكاثوليكي أو الأرثوذكسي في هذه النظرة البروتستنتيّة الجديدة تعبيرًا كافيًا عن إيمانه بما صنعه الله في العالم بواسطة مريم العذراء. ولكنّنا نرى أنّ هذه المحاولة تقرّب وجهات النظر المختلفة التي عبّرت من خلالها كلّ كنيسة عن إيمانها بالله وبعمله الخلاصي في العالم. وهذا هو في النهاية موضوع إيماننا المسيحي الذي أعلنته الكنيسة منذ المجامع الأولى وأوجزته في قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني:

“نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل…

وبربّ واحد يسوع المسيح… الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنّس…”

إنّ إكرامنا لمريم العذراء يهدف أوّلاً الى تمجيد الله والإشادة بما صنعه “من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا”، فتجسّد بقدرة الروح القدس من مريم العذراء. ويهدف ثانيًا الى مساعدتنا على قبول هذا الخلاص الذي جاءنا به ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح المولود من مريم العذراء. وفي مسيرتنا الخلاصية هذه نتّخذ “جميع القدّيسين”، “وخصوصًا سيّدتنا الكاملة القداسة الطاهرة، الفائقة البركات المجيدة والدة الإله الدائمة البتوليّة مريم”، قدوة ومثالاً ورفقاء درب على طريق الملكوت.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي