العظة الخامسة والعشرون
قوة سرّ الصليب والنار الإلهية
” هذه العظة تعلّم بأنه لا يستطيع إنسان، بدون أن يتأيد بالمسيح، أن يغلب عثرات الشرير، وما ينبغي أن يفعله أولئك الذين يطلبون المجد الإلهي باشتياق، وتعلم أيضًا أنه بواسطة عصيان آدم قد نزلنا جميعًا إلى عبودية الشهوات اللحمية، والتي أُنقذنا منها بالسرّ المختفي في الصليب، وتعلّم العظة أيضًا أن قوة الدموع والنار الإلهية هي قوة عظيمة “.
السرّ الذي في الصليب:
1 – أولئك الذين كُتب في داخلهم الناموس الإلهي، ليس بحبر وحروف بل هو مطبوع في قلوب لحمية، فهؤلاء إذ قد استنارت عيون أذهانهم ويتطلعون إلى الرجاء الذي لا يُلمس ولا يُرى بل هو غير منظور وغير مادي فهؤلاء يملكون القوة أن يغلبوا عثرات الشرير وذلك بقوة لا يمكن أن تُقهر.
أما أولئك الذين لم يُكرَّموا ويتشرفوا بكلمة الله ولم يتهذبوا بالشريعة الإلهية فإنهم ” ينتفخون باطلاً” (كو8: 2). وهم يظنون أنهم بإرادتهم الحرة يستطيعون أن يقطعوا أسباب الخطية التي يُحكم عليها فقط بواسطة السر الذي في الصليب أن إرادة الإنسان الحرة لها سلطان أن تقاوم الشيطان، ولكنها لا تمتد إلى السيادة المُطلقة على الشهوات. ” فإن لم يبن الرب البيت – كما يقول الكتاب – وإن لم يحفظ المدينة فباطلاً يسهر الحارس، وباطلاً يتعب البانى” (مز1: 127).
2 – لأنه لا يستطيع احد أن يطأ على ” الأفعى والحيّة ويدوس الأسد والتنين” (مز13: 91) إن لم يطهّر نفسه أولاً – بأقصى ما في طاقة الإنسان – وأن يتأيد بقوة ذلك الذي قال لرسله: ” ها أنا أعطيكم السلطان لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو” (لو19: 10).
حاجتنا للروح القدس للغلبة وللتبنى:
فلو كانت طبيعة الإنسان لها القدرة بدون سلاح الروح القدس الكامل أن ” تقف ضد مكايد إبليس” (أف11: 6)، لما كان الرسول قد قال بتأكيد: ” إله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا” (رو20: 16). وأيضًا ” الذي سيبيده الرب بنفخة فمه” (2تس8: 2). لهذا السبب أيضًا قد أوصانا الرب أن نصلى ونطلب قائلين ” ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير” (مت13: 6). فإن لم تخلّصنا معونة القوة العليا من سهام الشرير الملتهبة، وإن لم نُحسب أهلاً لأن نكون أبناء بالتبني، فإن حياتنا على هذه الأرض تكون حينئذٍ باطلة وبلا هدف، إذ نوجد بعيدين عن قوة الله.
3 – لذلك فمن يريد ويشتهي أن يصير شريكًا في المجد الإلهي، وأن يرى كما في مرآة صورة المسيح في داخل عقله، فينبغي أن يطلب معونة الله التي تتدفق منه بقوة – يطلبها بحب مشتعل لا ينطفئ وبرغبة حارة من كل قلبه وكل قدرته، ليلاً ونهارًا، هذه المعونة الإلهية التي لا يمكن نوالها، كما قلت سابقًا إن لم يتخل الإنسان عن لذة العالم وعن شهوات ورغبات القوة المعادية، والتي هي أجنبية عن النور ومخالفة له وهي من نشاط وعمل الشرير، وليس لها أى قرابة أو مشابهة لعمل الصلاح بل هي غريبة تمامًا عنه.
حالة الإنسان العتيق:
لذلك، فإذا أردنا أن نعرف لماذا نحن الذين قد خُلقنا في كرامة ووُضعنا لنحيا في الفردوس، صرنا بعد ذلك ” مثل البهائم التي لا تفهم وشُبهنا بها” (مز20،12: 49)، إذ قد سقطنا من المجد الأصلي، فاعرف أننا بواسطة التعدي، صرنا عبيدًا للأهواء الجسدية. لقد أخرجنا أنفسنا من ” أرض الأحياء المغبوطة” (مز9: 116) وسرنا إلى الأسر حيث لا نزال ” جالسين على أنهار بابل” (مز1: 137).
ولأننا لا نزال محبوسين في ” مصر”، لذلك فإننا لم نرث بعد أرض الموعد، ” التي تفيض لبنًا وعسلاً” (خر8: 3). إننا لم نتخمّر بعد ” بخميرة الإخلاص” (1كو8: 5)، ولكننا لا نزال في “خميرة الشر”. إن قلبنا لم يُرش بعد بدم الله، لأن ” فخ جهنم” (أم18: 9 السبعينية)، وصنارة الخطية لا تزال منصوبة فيه.
4 – إننا إلى الآن لم نقبل بهجة خلاص المسيح، لأن ” شوكة الموت” (1كو55: 15) لا تزال جذورها فينا. إننا لم نلبس بعد ” الإنسان الجديد، المخلوق بحسب الله في القداسة” (أف24: 5). لأننا لم نخلع بعد ” الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الخطية” (أف 22: 4). إننا لم نحمل بعد “صورة السماوي” (1كو49: 15). ولم نصر ” مشابهين لصورة مجده” (في21: 3). إننا لم نعبد الله ” بالروح والحق” (يو24: 4) لأن ” الخطية تملك في جسدنا المائت” (رو12: 6).
إننا لم نرَ بعد ” مجد الله الذي لا يفنى” (رو23: 1) لأننا لا نزال تحت سطوة ” الليل المظلم” (مز11: 2). وإلى الآن لم ” نلبس أسلحة النور” (رو12: 13) لأننا لم نلق عنا سلاح الظلمة وسهامها وأعمالها. نحن ” لم نتغيّر بعد عن شكلنا بتجديد أذهاننا”، لأننا لا نزال ” مشاكلين ومطابقين لهذا العالم” (رو2: 12)، ” في الذهن الباطل” (أف17: 4). إننا لم ” نتمجد بعد مع المسيح، لأننا لم نتألم بعد معه” (رو17: 8). إننا لا ” نحمل سماته بعد في جسدنا” (غل17: 6) لأننا لا نحيا في سر صليب المسيح، لأننا لا نزال في ” أهواء وشهوات الجسد” (غل 24: 5). إننا لم نصر بعد ” ورثة الله ووارثون مع المسيح” (رو7: 8)، لأن ” روح العبودية” لا يزال فينا وليس ” روح التبني” (رو15: 8)، وحتى الآن لم ” نصر هيكلاً ومسكنًا للروح القدس” (1كو16: 3)، لأننا لا نزال هيكلاً للأصنام ومستودعًا لأرواح الشر بسبب تعلقنا بالشهوات.
5 – وفي الحقيقة أننا إلى الآن لم نحصل على بساطة السيرة واستنارة العقل. وإلى الآن لم نُحسب أهلاً لنوال ” اللبن العقلى العديم الغش” (1بط2: 2)، والنمو الروحى غير المنظور. وإلى الآن لم ينفجر النهار ولم يطلع كوكب الصبح في قلوبنا (2بط19: 1). ” إننا لم نمتزج بشمس البر” (ملا2: 4). ولا ابتدأنا أن نضئ بأشعته. إننا لم نقبل بعد ” شبه الرب” (تك26: 1)، ولا صرنا ” مشاركين للطبيعة الإلهية” (2بط4: 1). وإلى الآن لم نتحوّل إلى ذلك الأرجوان الملوكى الحقيقى، ولا صرنا صورة الله الحقيقية. إننا لم نسبى بعد بالحب الإلهي ولا انجرحنا بمحبة العريس الروحانية. إننا لم نعرف بعد تلك الشركة السرّية التي تفوق الوصف ولم نعرف القوة والسلام الموجودان في القداسة. وبكلمة واحدة فإننا لسنا بعد ” جنسًا مختارًا، كهنوتًا ملوكيًا، أمة مقدسة، شعب اقتناء” (1بط9: 2) لأننا لا نزال إلى الآن ” حيات وأولاد أفاعى” (مت33: 23).
أنوح وأبكى أمام الله على شقاوتنا:
6 – وكيف لا نكون سوى حيات، ونحن لا نطيع الله بل نعيش في العصيان الذي دخل إلينا بواسطة الحية. وأنا لا أستطيع أن أعرف كيف أبكى وأنوح على شقاوتنا هذه كما تستحق ولا أعرف كيف أصرخ بصوت عال باكيًا أمام الله الذي يستطيع وحده أن ينزع منى الخطأ المزروع في. ” كيف أرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة” (مز 4: 137)، كيف أنوح على أورشليم؟ وكيف أهرب من عبودية فرعون القاسية؟ وكيف أهجر مكان الإقامة الدنس؟ وكيف أستطيع أن أنكر أو أجمد الطغيان المُر؟ وكيف أستطيع أن أخرج من أرض مصر؟ وكيف أستطيع أن أعبر البحر الأحمر؟ وأسير في وسط البرية الكبرى؟ وكيف أنجو من الهلاك بلدغات الحيات؟ وكيف أهزم الغرباء؟ وكيف أحكم الأمم الذين في داخلي تمامًا[1]، وكيف أتقبل أقوال الشريعة الإلهية على ألواح قلبي؟ وكيف أرى عمود النور الحقيقي والسحاب الناشئ من الروح القدس؟ وكيف أتنعم بمَنّ البهجة الأبدية؟ وكيف أشرب الماء من الصخرة المعطية الحياة؟ كيف أعبر الأردن وأدخل إلى أرض الموعد الجيدة؟ وكيف أعاين رئيس جند الرب الذي حينما رآه يشوع بن نون، خر في الحال ساجدًا؟.
ضرورة العبور والدخول إلى الراحة:
7- لأنني إن لم أعبر بكل هذه وأحطم الأمم الذين يعيشون في داخلي فإنني لن أستطيع أن أدخل إلى “أقداس الله” وأستريح (مز 17: 73). “ولا أصير شريكًا في مجد الملك”.
لذلك أسع بكل اجتهاد لتكون ابنًا لله بلا لوم، وأن ” تدخل في تلك الراحة” (عب11: 4)، حيث دخل المسيح كسابق لأجلنا (عب20: 6).
اجتهد أن يكون أسمك مكتوبًا في ” الكنيسة التي في السماء مع الأبكار” (عب23: 12)، لكى توجد عن ” يمين العظمة في الأعالى” (عب 3: 1). أسع أن تدخل إلى المدينة المقدسة، أورشليم مدينة السلام، التي هي فوق، فوق الكل، حيث يوجد الفردوس. فلا يوجد أمامك طريق آخر للدخول إلى هذه الأمجاد العجيبة السعيدة سوى أن تسكب الدموع نهارًا وليلاً مثل ذلك الذي قال ” كل ليلة أعوم سريري وبدموعي أبل فراشي” (مز6: 6). وأنت تعرف جيدًا أن ” الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج” (مز6: 126). لهذا السبب فإن النبى يقول بكل صراحة ” لا تسكت عن دموعي” (مز12: 39). وأيضًا ” أجعل دموعي أمام عينك كما وعدت”(مز8: 56). وأيضًا ” دموعي صارت لي خبزًا نهارًا وليلاً” (مز3: 42). وفي مزمور آخر ” مزجت شرابي بدموعي” (مز9: 102).
قوة الدموع:
8 – لأن الدموع التي تُسكب حقًا من حزن كثير وكآبة قلب وبمعرفة للحق واحتراق في الداخل، إنما هي طعام للنفس يأتيها من الخبز السماوي الذي سبقت مريم وأخذت منه حينما جلست عند قدمي الرب وبكت بحسب ما شهد لها المخلص نفسه. فإنه قال: ” لقد اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها” (لو42: 10).
فما أثمن تلك الدرر، التي تتساقط مع انسكاب وفيض الدموع المغبوطة! ويا لتلك الاستجابة الفورية والإنصات المستمر! وأي عقل قوى حكيم! ويا لشدة روح الرب، التي تتحرك بقوة نحو عريس بلا عيب! وأي رغبة شديدة وشوق في النفس إلى الله الكلمة! وأي شركة حميمة للعروس مع العريس السماوي!.
النار الإلهية:
9 – فتمثل بها إذن يا ابني، اقتد بتلك التي ثبتت عينيها عليه وحده، ذلك الذي قال ” جئت لألقى نارًا على الأرض فماذا أريد لو اضطرامت” (لو49: 12).
فهناك اشتعال للروح، هو الذي يُشعل القلوب نارًا. فإن النار الإلهية غير المادية لها فاعلية لإنارة النفوس وتمحيصها كما يُمتحن الذهب النقي بنار البوتقة. ولكنها (النار الإلهية) تحرق كل شر مثل الأشواك والقيود ” لأن إلهنا نارًا آكلة” (عب29: 12) ” معطيًا نقمة للذين لا يعرفون الله، في نار لهيب، وللذين لا يطيعون إنجيله” (2تس 8: 1).
وهذه النار هي التي عملت في الرسل حينما تكلموا بألسنة نارية (أع25: 2). هذه النار هي التي أحاطت ببولس، بالصوت الذي أنار عقله ولكنها أعمت بصره (أع3: 9). فلم تكن رؤيته لقوة ذلك النور بدون الجسد. هذه النار ظهرت لموسى في العليقة، وهذه النار، في شكل مركبة هي التي اختطفت إيليا من الأرض (2مل11: 4). وداود المبارك كان يطلب فاعلية هذه النار حينما قال “امتحنى يارب، جربنى محص كليتى وقلبى” (مز2: 26).
10 – هذه النار هي التي ألهبت قلب كليوباس ورفيقه حينما تكلم المخلص معهما بعد القيامة. والملائكة والأرواح الخادمة تأخذ من لمعان هذه النار كما هو مكتوب ” الصانع ملائكته أرواحًا وخدامه نارًا ملتهبة” (عب7: 1). وهذه النار هي التي تحرق الخشبة التي في العين الداخلية، لتجعل العقل نقيًا، حتى إذا استرد قوة رؤيته الطبيعية، يمكنه أن يتفرس بلا انقطاع في عجائب الله كما هو مكتوب ” افتح عيني، لكى أبصر عجائب من شريعتك” (مز18: 119).
هذه النار أيضًا تطرد الشياطين، وتنزع الخطايا، ولها قوة القيامة، وفاعلية قوة الخلود، وهي نور النفوس المقدسة، وسند القوات العاقلة.
فلنصلِ ولنتوسل أن تأتى إلينا أيضًا هذه النار، حتى بسيرنا دائمًا في النور، فإننا ” لا تعثر بحجر أقدامنا” (مز12: 91) ولا إلى لحظة واحدة، بل ” نضئ كأنوار في العالم” ” ممسكين بكلمة الحياة الأبدية” (في15: 2)، حتى إذا تنعمنا بخيرات الله بين قديسيه، فإننا نجد راحة مع الرب في الحياة، ممجدين الآب والابن والروح القدس الذي له المجد إلى الأبد. أمين.
—————-
[1] يقصد الشعوب الوثنية وعبادة الأصنام الأهواء الشريرة.