مجمع القسطنطينية


الأنبا بيشوى

 

عرض تاريخى لبعض الأحداث التى سبقت ظهور مقدونيوس وأتباعه

والتى أدت إلى مجمع القسطنطينية


(الفترة ما بين مجمع نيقية 325م ومجمع القسطنطينية 381م)


 

تأثير تعاليم أوريجانوس فيما يخص البدع الخاصة بالروح القدس:


مهّد تعليم أوريجانوس عن الابن والروح القدس لثلاث بدع هى: بدعة أريوس، وبدعة إنكار ألوهية الروح القدس، وأيضاً بدعة


انبثاق الروح القدس من الابن.

 

يضع أوريجانوس الروح القدس فى درجة أقل من الابن، لا بالنسبة للكرامة بل بالنسبة للأصل، فهو يقرر أن الابن وحده هو من الآب فقط، ولكن الروح القدس هو من الآب بواسطة الابن، وهنا تظهر

بداية بدعة الكاثوليك فى انبثاق الروح القدس من الآب والابن.

 

وفى شرحه لعبارة “كل شىء به كان” (يو 1: 2) فى بداية انجيل يوحنا تساءل أوريجانوس قائلاً: “والآن، كما رأينا، فإن كل الأشياء عملت من خلاله (اللوغوس). وهنا يجب أن نتساءل إن كان الروح القدس أيضاً قد عُمل من خلاله. يبدو لى أن هؤلاء الذين يتمسكون بأن الروح القدس مخلوق، والذين يقبلون أن “كل شئ به كان” لابد أنهم يفترضون أن
الروح القدس عمل من خلال الكلمة، لكون اللوغوس بالتالى أكبر منه. وهذا الذى يخشى السماح للروح القدس بأن يكون قد عُمل من خلال المسيح، يجب عليه إن كان يقبل الحق الذى ورد فى آيات الإنجيل، أن يفترض أن الروح القدس غير مخلوق. هناك مصدر ثالث بالإضافة إلى هذين الاثنين (الذى يفترض أن الروح القدس عُمل من خلال الكلمة، ويعتبره غير مخلوق)، وبالتحديد لتأكيد على أن الروح القدس ليس له جوهر مستقل به فيما وراء الآب والابن…

 

[لكن]
هناك ثلاث أقانيم الآب والابن والروح القدس؛ وفى نفس الوقت
لا نؤمن بأن هناك ما هو غير مخلوق سوى الآب. لذلك بما إننا أكثر وقار وأصدق فى

سبيلنا، فإننا نقبل أن كل الأشياء عُملت بالكلمة،
وأن الروح القدس أكثر سمواً من كل الخليقة، والأول من حيث الترتيب بالنسبة لكل ما عمله الآب من خلال المسيح. وقد يكون هذا هو السبب فى أنه لا يقال أن الروح القدس هو ابن الله الخاص”.




[1]



 

وهكذا
مهد أوريجانوس لإنكار أريوس ومن بعده مقدونيوس للاهوت الروح القدس. وقد وقع
ثيئوغنسطسفى نفس الخطأ باعتماده على تعاليم أوريجانوس.

 

سؤال: هل الجذور الأساسية لهرطقة مقدونيوس هى الهرطقة الأريوسية وفكر أوريجانوس؟

أن يقول أحد بعدم مساواة الابن للآب فى الجوهر هذا يعنى أنه تكونت عنده فكرة أن الجوهر الإلهى للآب منعزل ومستقل. هذه الفكرة تفرخ بأن الابن غير مساوى للآب أو الروح القدس غير مساوى للآب والابن وهكذا. كلها تداعيات تبدأ بفكرة أن الآب متفوق بجوهره عن الابن والروح القدس. كان البابا ثيئوفيلس محقاً فى قوله أن أوريجانوس هو ينبوع الهرطقات. فبالحقيقة أوريجانوس هو الذى أفرخ كل هذه الهرطقات حتى النسطورية لأنه كان يؤمن أن اللوغوس كان متحداً بروح يسوع الإنسانية قبل خلقة آدم وأنه فى ملء الزمان جاءت هذه الروح الوحيدة التى لم تسقط بين البشر كلهم وحلت فى بطن العذراء. ففكرة أن الروح الإنسانية هى حلقة الاتصال بين اللاهوت والجسد أخذها نسطور من أوريجانوس.

 

تعليم آباء القرون الأولى عن الروح القدس:

فى نهاية القرن الثالث الميلادى شهد
ميثوديوس(260-312) أسقف صور لتقليد الكنيسة الرسولى وقال صراحة “إن الروح القدس

o`moou,sion pneu/ma

(

of one and the same essence with him
) مساوى للآب فى الجوهر (هومو أوسيون ابنفما) “.




[2]



 

وقد سبق ذلك
القديس اغناطيوس الأنطاكى(الثيئوفورس) وهو أول بطريرك لأنطاكية بعد عصر الرسل، وعلى اسمه يسمى كل بطاركة الكرسى الأنطاكى (مار اغناطيوس يعقوب الثالث



مار اغناطيوس زكا الأول..). كتب عن الروح القدس فى رسائله باختصار لكن فى وعى

أصيل
بخصوص دوره فى الكنيسة. وتكلم عن الثالوث معاً فى فقرتين، فى إحداهما يجعل الترتيب هو: الابن والآب والروح القدس




[3]




. أى أنه يعتبر الروح القدس ضمن الثالوث وواحد فى الجوهر لكن متمايز من حيث الأقنوم.

 

كان القديس اغناطيوس يعرف أن الروح القدس أقنوم يقول “أفرزوا لى برنابا وشاول..” أى أنه يتكلم، ويقود، ويعلم، ويرشد. من الصعب أن تُفهم فكرة أن الروح القدس له شخصية. فالآب معروف والابن جاء كشخص وعاش وسط الناس ونظروه، ولا ينكر أحد أن الابن شخص. أما الروح القدس فقد يظنه البعض طاقة أو قدرة، هنا تبرز أهمية إعلان القديس اغناطيوس عن الإيمان المسلَّم عن حقيقة الروح القدس بهذه الصورة، وقد كان هذا نتيجة لقربه من العصر الرسولى.

 

أما
الشهيد ثيئوفيلوس الأنطاكى

فقد طبّق تعبير الثالوث
Trinity

على اللاهوت فى كتاباته موضحاً أنه الله وكلمته وحكمته،





[4]





ويبدو أنه كان يقصد روح الحكمة فى إشارته إلى الروح القدس عندما أطلق عليه لقب الحكمة. ولكن نظراً لأن هذه الأمور كانت فى فجر المسيحية (فى القرن الثانى الميلادى) فلم يكن لقب روح الحكمة قد استقر بعد فى تسمية الروح القدس. فيقول الشهيد ثيئوفيلوس العبارة التالية:

tou qeou kai tou logou autou kai thj sofiaj autou
triado
V
(تريادوس تو ثيئوكى تو لوغو آفتوكى تيس صوفياس آفتو)
The Trinity of God and His Word and His Wisdom

وتعنى “ثالوث الله وكلمته وحكمته”.





[5]



 


وأهمية قول ثيئوفيلوس الأنطاكى

هذا هو أنه تكلم عن لقب “الثالوث” لأول مرة بالنسبة للأقانيم الثلاثة. ففى الأناجيل يُذكر أن الآباء الرسل كانوا يعمدون باسم الآب والابن والروح القدس، وتكلموا عن الروح القدس والابن والآب. لكن أول من جمع الثلاثة فى تعبير واحد سمى الثالوث
triadoV
كان فى كتابات
ثيئوفيلوس الأنطاكى. وإن كان ثيئوفيلوس الأنطاكى قد سمى الروح القدس “الحكمة” لكن لأنه قال “الله والكلمة والحكمة” فمفهوم أن المقصود باللقب الثالث هو أقنوم الروح القدس. ونحن لا ننفى أن الروح القدس هو روح الحكمة. ففى ذلك الزمان، كما أشرنا سالفاً، لم تكن الألفاظ اللاهوتية قد استقرت بعد فكان كل واحد يعبِّر عن الإيمان الذى يعيش فى ضميره بتعبيرات معينة. لكننا نعترف بفضل القديس ثيئوفيلوس الأنطاكى أنه قدّم تعبير “الثالوث” إلى التعبيرات اللاهوتية فى الكنيسة.




[6]



 

أما
القديس أثناسيوسفقد قاوم

فى رسالته الثالثة ضد الأريوسيين فكرة أن الروح القدس هو الذى يوحّد الآب بالابن، أو يمثل الرباط بين الآب والابن، لأن الروح القدس لو كان هو مجرد رباط الوحدة بين الآب والابن، فهو إذن ليس أقنوم. وهذا هو الخطأ الذى يقع فيه الكاثوليك حتى يومنا هذا. فيقول الكاثوليك أن الآب هو المحب والابن هو المحبوب والروح القدس هو الحب الذى يجمعهما.

 

لقد قاوم
القديس أثناسيوسهذا الفكر فقال: “لأن الابن لا يأخذ الروح القدس لكى يصير هو أيضاً فى الآب، ولا الابن يتقَّبل الروح القدس بل بالحرى هو بنفسه يمّد به الجميع،
والروح القدس لا يوحَّد الكلمة بالآب

The Spirit does not unite the Word to the Father
.. فالابن هو فى الآب لأنه كلمته وشعاعه.”




[7]



 

إذا جعلنا الآب هو المحب والابن هو المحبوب هذا يعنى أن لهما وحدهما ديناميكية الفعل، وبهذا يتحول الروح القدس إلى مجرد طاقة بينهما يتبادلها الآب والابن، فتلغى بذلك أقنومية الروح القدس.

 

فى مفهومنا الثالوثى الثلاثة أقانيم يتبادلون الحب مع بعضهم البعض. فالحب هو صفة للجوهر وليس هو الخاصية الأقنومية للروح القدس. الحب هو صفة الجوهر فهو فى الآب والابن والروح القدس بنفس القوة وبنفس التأثير. فكل أقنوم يحب الآخر ويبادله الحب، ولا نستثنى الروح القدس من هذه القاعدة.

 

تعبيرات الأريوسيين عن الروح القدس:

“نحن نؤمن بالروح القدس، الباراقليط، روح الحق، الموعود به من الأنبياء ومن الرب
،
وأرسل إلى الرسل ليعلمهم كل شىء وليعزى ويقدس ويكمل المؤمنين. والابن هو الذى منح الروح القدس للكنيسة بحسب إرادة الله. لذلك
نحن نحرم كل من يقول أن الروح القدس هو إله غير مخلوق، ونحرم كل من يخلط بين شخص الروح القدس وشخص الابن أو يقول أنه من الآب، أو يقول إنه من الابن الذى

الروح القدس

هو به (وليس منه)
،
أى أرسل به إلى العالم.
ونحن نرفض الاصطلاح غير الكتابى “جوهر واحد” للآب والابن والروح القدس
“.




[8]




 

وقد كتبت هذه التعاريف فى الفترة ما بين مجمع نيقية سنة 325م وبين سنة360م. فتمكن كل من الأريوسيين وأيضاً اليوسابيين من شرح وجهة نظرهم باستفاضة تجاه إنكارهم للاهوت الروح القدس ضمن قوانينهم الكثيرة التى خرجوا بها للعالم بعد المجامع التى عقدوها. (من المعروف أن يوسابيوس النيقوميدى (أسقف نيقوميديا فى تركيا) هو أحد أقطاب الحركة الأريوسية).

 

الروح القدس حتى مجمع القسطنطينة 381م:

أعلن القديس أثناسيوس منذ البداية رأيه فى محاولات الأريوسيين فى تشويه الإيمان بالروح القدس وذلك فى ر
سالته الأولى ضد الأريوسية (الفصل الثامن) فقال: “كيف يمكن أن يكون إيمانه بالروح القدس إيماناً صحيحاً، طالما يتكلم ب
تجديف على الابن”




[9]




منكراً مساواته للآب فى الجوهر (هومو أسيون تو باترى).

 

إن ما قاله القديس أثناسيوس هنا يعتبر وكأنه نبوة أو بعد نظر، لأن ما قاله حدث بالفعل. فبعدما أنهى مجمع نيقية الصراع الخاص بألوهية الابن، بدأ الصراع حول ألوهية الروح القدس، فبدأ القديس أثناسيوس يحارب أيضاً ضد إنكار ألوهية الروح القدس. وفى سنة 360 م أصدر القديس أثناسيوس أول شرح مستفيض عن شخص الروح القدس وانبثاقه من الآب.

 

واجه الآباء الأرثوذكس مشكلة عدم وجود تكملة لقانون الإيمان بعد عبارة “نعم نؤمن بالروح القدس”. وقد كان الآباء فى نيقية يعتبرون أن قانون الإيمان النيقاوى قد ذكر الروح القدس فى إطار إلهى، أى ذكر “آب ضابط الكل… ورب واحد يسوع المسيح… والروح القدس”. ويلاحظ وضع كلمة “نؤمن” قبل كل واحد من أسماء الأقانيم الثلاثة: “نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل.. ونؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد.. نعم نؤمن بالروح القدس.. “. فبالنسبة لأى مسيحى يسلك فى طريق الحق يشعر أن قانون الإيمان النيقاوى هو إعلان واضح عن إيمان الكنيسة بالثالوث القدوس.

 

لم يذكر فى قانون الإيمان أننا نؤمن بأى آخر سوى الثلاثة أقانيم، لكن لأن الصراع كان ساخناً بخصوص لاهوت الابن لذلك شرح قانون الإيمان النيقاوى بالتفصيل ما يخص لاهوت الابن، ثم أتى مجمع القسطنطينية ليضيف الجزء الخاص بالروح القدس.

 

وبعد عودة القديس أثناسيوس إلى الإسكندرية من منفاه عقد مجمعاً وأصدر منشوراً مجمعياً رسمياً سمى بطومس الأنطاكيين (لأنه أرسل إلى أنطاكية بنوع خاص) يحمل أول حكم بالإدانة تصدره الكنيسة ضد عدم الإيمان بلاهوت الروح القدس. وقد قبل الأسقف بولينوس فى أنطاكية الوثيقة بكل فرح ووقّع عليها بإمضائه.
وقد أعلن مجمع الإسكندرية فى هذه الوثيقة بكل وضوح أن الروح القدس واحد فى الجوهر مع الآب


والابن

adiaireton thV ousiaj tou uiou kai PatroV

(إذيرتون تيس أوسياس تو أيو كى باتروس). ولم يقل عبارة (هومو أسيون توباترى) لأن عبارة “واحد فى الجوهر” تعتبر أخف، حيث أن الوضع كان ملتهباً بشدة نتيجة وجود أنصاف الأريوسيين فى منطقة أنطاكيا (مثل يوسابيوس النيقوميدى ويوسابيوس القيصرى اللذان تسببا فى نفى البابا أثناسيوس أربع مرات والخامسة لم تنفَّذ).

 

وقد انبرى فى هذه الحقبة مقدونيوس وماراثونيوس اللذان رفضا بشدة القول بلاهوت الروح القدس، وظلا يعلِّمان أن الروح القدس مخلوق وخادم الله، ولذلك دعيا هما وجماعتهما بمحاربى الروح القدس (بنفما توماخوس) الذين حرمتهم الكنيسة آنئذ.

 

وقد حدث فى مدة الصراع أن أرسل مقدونيوس وأتباعه إلى البابا ليبريوس فى روما، بعثة من مجمعه الخارج على الإيمان المسيحى المسمى بمجمع لمباسكوس سنة 365م، ونجح مقدونيوس فى إقناع البابا ليبريوس وكل أساقفة إيطاليا واكتسبهم أنصاراً له فيما يخص تعاليمه المغشوشة عن الروح القدس مدعياً أنه يتمسك بقوانين مجمع نيقية المقدس.

 

ويذكر لنا المؤرخ الشهير هفلى
Hefele

أنه لم تهدأ روما

من
سنة 368 م إلى سنة 381م وهى تقيم المجامع الواحد تلو الآخر (369م، 374م، 380م)، وفى هذه المجامع استعادت روما أرثوذكسيتها وقررت:

1.
           


أن الروح القدس غير مخلوق.

2.
           


أنه فى كرامة واحدة وجوهر (أوسيا) واحد وقدرة واحدة مع الآب والابن.

3.
    


أ

زلى عالم بكل شئ (كلى العلم)، موجود فى كل الوجود
omnipresent
، متميز بشخصه، معبود من الكل،
منبثق من الآب
فقط
، واحد مع الآب والابن فى وحدة كاملة مطلقة.

 

وحرمت بالتالى أريوس ومقدونيوس وإفنوميوس




[10]




وكل من أنكر أزلية الروح القدس وإنبثاقه من الآب




[11]




. وأعلنت روما إيمانها بعد وفاة القديس أثناسيوس بخمس سنوات وعلى هدى مقررات مجامع الإسكندرية بالثالوث القدوس، لاهوت واحد قدرة واحدة وكرامة ومجد واحد، وسمى هذا طومس داماسوس




[12]





ولاقى قبولاً فى أنطاكية ووقع علية 146 أسقفاً اجتمعوا فى مدينة أنطاكية عام 378م بحسب تحقيقات العالم والمؤرخ هفلى.

 

وهذه هى الأحداث التى هيأت الجو أمام البابا تيموثاوس الأول وسائر الأساقفة الأرثوذكس أن يكملوا قانون الإيمان فى المجمع المسكونى الثانى المنعقد فى القسطنطينية 381م. وبذلك صار يدعى القانون: قانون الإيمان النيقاوى-القسطنطينى
Nicene-Constantinople

والذى ورد فيه “نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيى المنبثق من الآب نسجد له ونمجده مع الآب والابن…”.

 

وفى هذا المجمع تم تأكيد حرم أريوس ومقدونيوس إلى جوار سابيليوس وأبوليناريوس. وانتصرت الأرثوذكسية انتصارها المشهور بعد الصراع الطويل الذى عاشه القديس أثناسيوس الرسولى ما قبل مجمع نيقية وبعده وإلى حين أن رقد فى الرب عام 373م .

 

دور يوسابيوس القيصرى المؤرخ:

لا نغفل فى سرد هذه الحقبة دور يوسابيوس القيصرى المؤرخ الشهير أسقف قيصرية (ولد 264م- توفى340م) الذى كان عضواً فى جماعة النصف أريوسيين، وواحد من المتحمسين لأوريجانوس. لقد كان غير دقيق فى تعبيراته اللاهوتية، حتى أنه يمكن بسهولة وضعه ضمن المتقدمين فى الهرطقة الأريوسية. وقد كتب نفس المفاهيم التى أوردناها عن تعليم أوريجانوس بشأن الروح القدس.

 

كان يوسابيوس يؤمن ويعلِّم بأن الروح القدس هو ثالث فى الكرامة والمجد وفى الدرجة أيضاً أى فى الجوهر. فكان يصف الروح القدس بأنه يستقبل نوره من الكلمة، كالقمر فى فلك اللاهوت وأنه يستمد كل كيانه وصفاته من الابن. وبذلك كان يحسبه أنه ليس إلهاً ولا حتى بمستوى الابن، أى ليس غير مخلوق، وكونه لا يستمد أصله من الآب كالابن فيتحتم أن يكون واحداً من الأشياء التى خلقت بواسطة الابن، وبالنص الحرفى يقول:

Oute qeoV oute uioV epi mh ek tou patroV omoiwV tw uiw kai auto thn genesin eilhfen en de ti twn dia tou uiou genomenwn




[13]



 

ثم يعود يوسابيوس ويستدرك هذا الشطط، لعله يعيد للروح القدس شيئاً من هيبته الإنجيلية فيقول: وبالرغم من أنه مخلوق إلا أنه أعلى وأفضل جميع المخلوقات.. لكن أى كرامة لمخلوق!؟

كما يتبين من أقوال يوسابيوس هذا، أن انبثاق الروح القدس مرتبط فقط بإرساليته، أى كحدث زمنى. فمثلاً حينما قال السيد المسيح “متى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذى من عند الآب ينبثق” (يو 15: 26). اعتبر يوسابيوس أن الروح القدس انبثق لكى يرسله الابن، أى أنه انبثق فى الزمان وأرسل، وبهذا ألغى أزليته. وليت المدافعون عن أوريجانوس يدرسون كتابات يوسابيوس القيصرى المؤرخ وهو من أكبر المدافعين عن أوريجانوس ليكتشفوا خطأ دفاعهم.




[14]



 

حاولت هنا أن أقدم عرض تاريخى عن الأحداث التى سبقت ظهور هرطقة مقدونيوس وأتباعه، والتى أدت إليها، والتداعيات التى أوصلتنا إلى مجمع القسطنطينية.





[1]


Origen,
Commentary on Johnii.6, ANF 10:328, quoted by Stanley M. Burgess,
The Spirit and the Antiquity of the Church, Hendrickson Pub. USA, 1984, p. 73




[2]


The Ante Nicene Fathers, Vol. 6  Methodius, Eerdmans Pub. Com., Grand Rapids, Michigan, reprinted 1978, Oration Concerning Simon and Anna, par. 2. p. 384.




[3]


The Ante Nicene Fathers, Vol 1, Ignatius, Eerdmans Pub. Com., Grand Rapids, Michigan, reprinted 1978, Epistle of Ignatius to the Magnesians, chapter 13 p. 64; quoted by Stanley M. Burgess,
The Spirit and the Antiquity of the Church, Hendrickson Pub. USA, 1984.




[4]


Stanley M. Burgess,
The Spirit and the Antiquity of the Church, Hendrickson Pub. USA, 1984, p. 32




[5]


The Ante Nicene Fathers Vol, 2 Theophilus, Eerdmans Pub. Com., Grand Rapids, Michigan, reprinted 1978, Theophilus to Autolycus, Book 2, Chapter 15 p. 101.


6
وهكذا ذكر فى الكتاب المقدس أن التلاميذ دعوا مسيحيين أولاً فى أنطاكية (انظر أع
11: 26
). أى أن هذا لم يكن لقبهم من البداية. هكذا كان الإيمان بالثالوث يعيش فى الكنيسة منذ اللحظة الأولى لكن لقب “ثالوث” جاء لاحقاً. 




[7]


N & P. N. Fathers, series 2, Vol.  IV, St Athanasius, Eerdmans Pub. Com., Grand Rapids, Michigan, reprinted 1978, Four Discourses against Arians, discourse III, chapter 25, par 24, p. 407.




[8]


N. & P. N. Fathers, series 2, Vol.  IV, St Athanasius, Eerdmans Pub. Com., Grand Rapids, Michigan, reprinted 1978, De Synodis, P. 454, 464-467.




[9]


N. & P. N. Fathers, series 2, Vol.  IV, St Athanasius, Eerdmans Pub. Com., Grand Rapids, Michigan, reprinted 1978, Four Discourses Against Arians, Discourse 1, chapter III, par. 8, p. 310.


10
وهو أحد تلاميذ أريوس وهو الذى وجه له القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات مقالاته الخمس اللاهوتية.


11
ظلت روما تصارع ضد فكرة إنبثاق الروح القدس من الآب والابن حتى القرن الحادى عشر، حتى أن أحد باباوات روما فى القرن التاسع عمل لوحين من الفضة وعلقهما على باب كاتدرائية سانت بيتر بنص قانون الإيمان باليونانى واللاتينى بدون الإضافة (من الآب
والابن). ثم بدأت هذه الهرطقة فى أسبانيا فى القرن السادس الميلادى حينما كانوا يحاربون ضد

الأريوسية لإثبات أن الابن مساوى للآب. قالوا أن الابن مساوى للآب وضمن المساواه أنه يبثق الروح القدس، قد رفض باباوات روما هذا الكلام حتى القرن الثانى عشر. ثم فى عام 1054م حرمت روما القسطنطينية لأنها رفضت قبول الإضافة، وردخ باباوات روما أمام ضغوط أباطرة ألمانيا، وبهذا انتصرت هرطقة انبثاق الروح القدس من الآب والابن فى العالم الغربى! 


12

داماسوس هو بابا روما فى هذه الفترة.




[13]


Euseb. De Eccl. Theol. III. 6.


14
والمدافعون عن أوريجانوس يقولون أن هناك من دس فى مخطوطات أوريجانوس بعض أقوال لم يقلها هو. فإذا افترضنا أن هذا الكلام صحيح، ماذا نقول عن أقوال تلميذه الذى أرّخ تاريخ الكنيسة كله فى تلك الحقبة، وكتب تعليمه هو الشخصى وهو صورة طبق الأصل من تعليم أوريجانوس عن الروح القدس الذى أوردناه سابقاً. لذلك من يريد أن يدرس حقيقة العقيدة أو حقيقة التاريخ لا يأخذ جزء واحد أو زاوية واحدة من الأمور بل يجب عليه أن يخوض فى كل المجالات ليرى رؤية متسعة لكى يستطيع أن يكون فكرة حقيقية عن كيف سارت الأمور. لذلك نحذِّر من قراءة كتاب تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصرى.

وعلى سبيل المثال أيضاً كان جيروم من أقوى المدافعين عن أوريجانوس، فلما قابله القديس إبيفانيوس وشرح له تحوّل إلى أشد المهاجمين لأوريجانوس. فكون البعض كان يدافع عنه فى تاريخ الكنيسة فقد كان هذا نتيجة لجهلهم بحقيقة الأمور.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي