هرطقة نسطور

من مدرسة ثيئودور جاء نسطور[1]، الذى ارتبطت باسمه الحقبة الأولى للنزاع الكرستولوجى الكبير. ولد نسطور فى جرمانيكيا (قيصرية سوريا، كهرمان مراس، فى تركيا حالياً) وهى مدينة بسوريا، ثم أتى إلى أنطاكيا فى سن مبكرة.. والتحق بدير أوبريبيوس فى أنطاكيا (أنطاكيا التى كانت فى ذلك الحين عاصمة الإمبراطورية)، ومن هناك عيّن شماساً ثم قسيساً فى كاتدرائية أنطاكيا.. ونتيجة للشهرة التى نالها بعد موت الأسقف سيسينوس أسقف القسطنطينية (أى البطريرك) فى 24 ديسمبر عام 427م فقد رُفع إلى هذا الكرسى الشهير، وترجّى شعبه أن ينالوا فيه خلفاً لذهبى الفم أسقف القسطنطينية. منذ وقت سيامته فى 10 أبريل عام 428م أظهر إعجاباً عظيماً بعمل الوعظ وحماساً ضد الهراطقة. ففى عظته الأولى خاطب الإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير بالكلمات التالية: “أعطنى أيها الإمبراطور الأرض نقية من الهراطقة وأنا سوف أعطيك السماء، ساعدنى لأشن حرباً ضد الهراطقة وأنا سوف أساعدك فى حربك ضد الفرس.”[2]

 

من هذه الكلمات تظهر نبرته المتكبرة، وكأن السماء تحت أمره. والعجيب أنه بمرور الأيام تصبح الكنيسة الوحيدة اليوم التى تعتبر نسطور قديساً هى كنيسة الفرس فى إمبراطورية فارس
Persia
.

 

عندما انعقد المجمع المسكونى فى أفسس عام 431م، كان انعقاده بأمر إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الشرقية أى البيزنطية. وكانت هناك حرب مستمرة بين إمبراطورية فارس
Persian Empire
والإمبراطورية الرومانية
Roman Empire
، حتى أن الفرس كانوا يعتبرون أى فارسى تتفق عقيدته مع عقيدة المجمع المسكونى 431م خائناً. ونتيجة لذلك تعرَّض السريان الأرثوذكس سكان إمبراطورية فارس لذبائح شرسة بإيحاء من الأشوريين للإمبراطور بأنهم خونة لأنهم يتبعون قرارات مجمع أفسس المسكونى 431م، أى انهم أتباع الإمبراطورية الرومانية فى العقيدة.

 

نسطور – لأنه كان بطريرك القسطنطينية أى تابع للإمبراطورية الرومانية- فقد قال للإمبراطور أنه سيساعده فى الحرب ضد الفرس. تدور الأيام، والآن كنيسة الفرس هى الوحيدة التى تعتبر نسطور قديساً لأنها رفضت مجمع أفسس 431م وظلت محتفظة بتعاليم ثيئودور الموبسويستى التى انتشرت فى الشرق.

 

أراد نسطور أن يثبت خطأ الأريوسيون. وتساءل الأريوسيون كيف يموت الله الكلمة على الصليب؟ فقالوا إن كان الله الكلمة هو الذى مات على الصليب، إذن اللوغوس مخلوق.. وبذلك أنكروا ألوهيته. فقال نسطور أن الله الكلمة ليس هو يسوع بل سكن فى يسوع، وأنه من أجل كرامة الإله الحال فى الإنسان يعبد الإنسان مع الإله. وبذلك تكون الأريوسية قد أنكرت ألوهية الابن والروح القدس بينما النسطورية أنكرت ألوهية الفادى المخلص وأدخلت الشرك بالله.

 

وفى رسالة.. ليوحنا أسقف أنطاكية، يؤكد نسطور أنه فى وقت وصوله إلى القسطنطينية وجد خصوماً (متضادين) موجودين فعلاً. لقّب أحد أطرافهم القديسة العذراء بلقب “والدة الإله”، والآخر بأنها مجرد “والدة إنسان”. وحتى يتم التوسط بينهما قال إنه اقترح عبارة “والدة المسيح” معتقداً أن كلا الطرفين سوف يرضى بها[3].. من ناحية أخرى فإن سقراط يروى أن “الكاهن أنسطاسيوس صديق نسطور، الذى أحضره معه إلى القسطنطينية قد حذَّر سامعيه يوماً ما، فى عظة أنه لا يجب أن يطلق أحد على مريم لقب والدة الإله
qeoto,koj
لأن مريم كانت إنسانة والله لا يمكن أن يولد من إنسان”[4]. هذا الهجوم على الاعتقاد القديم والمصطلح الكنسى المقبول حتى ذلك الوقت، سبب هياجاً عظيماً واضطراباً وسط الإكليريكيين والعلمانيين. وتقدّم نسطور نفسه ودافع عن خطاب صديقه فى عدة عظات. واتفق أحد الأطراف (المتضادة) معه، وعارضه الآخر..

 

وفقاً لهذا التقييم للأمر، فإن نسطور لم يجد النزاع قائماً بالفعل فى القسطنطينية، ولكنه مع صديقه أنسطاسيوس كانا أول من أثاره. ومع ذلك فإن العظات الموجودة لدينا، كما ذكرنا، والتى ألقاها فى هذا الموضوع لا زالت محفوظة لنا جزئياً، وهى كافية بالتمام لدحض تأكيدات الكثيرين غير الدقيقة بأن نسطور فى الواقع لم يعلِّم شيئاً ذا سمة هرطوقية. ففى خطبته الأولى هتف بعاطفة (إنهم يسألون إن كان من الممكن أن تدعى مريم والدة الإله. لكن هل لله أُم إذاً؟ فى هذه الحالة يجب أن نعذر الوثنية التى تكلمت عن أمهّات للآلهة، لكن بولس لم يكن كاذباً حينما قال عن لاهوت المسيح (عب7: 3) أنه بلا أب، بلا أم، بلا نسب. لا يا أصدقائى لم تحمل مريم الله.. المخلوق لم يحمل الخالق إنما حملت الإنسان الذى هو أداة اللاهوت. لم يضع الروح القدس الكلمة، لكنه أمد له من العذراء المطوبة، بهيكل حتى يمكنه سكناه.. أنا أكرِّم هذه الحُلة التى إستفاد منها من أجل ذاك الذى إحتجب فى داخلها ولم ينفصل عنها.. أنا أفرِّق الطبائع وأوحِّد التوقير. تبصَّر فى معنى هذا الكلام. فإن ذاك الذى تشكّل فى رحم مريم لم يكن الله نفسه لكن الله إتخذه.. وبسبب ذاك الذى اتَّخَذَ فإن المُتَّخَذْ أيضاً يدعى الله)[5]..

 

من السهل أن نرى أن نسطور قد تبنّى وجهة نظر معلمه ثيئودور الموبسويستى.. وقد أنذره كثير من كهنته بالإنسحاب من شركته ووعظوا ضده. وصرخ الشعب “لدينا إمبراطوراً، لكن ليس لدينا أسقف”. والبعض ومنهم علمانيون تكلّموا ضده علناً حينما كان يعظ، وبالأخص شخصاً بإسم يوسابيوس وهو بلا شك نفس الذى صار فيما بعد أسقف دورليم، والذى على الرغم من كونه علمانياً فى ذلك الوقت، إلا أنه كان أول من كانت له نظرة ثاقبة وعارض الهرطقة الجديدة. لهذا السبب استعمل نسطور لقب “الرجال البؤساء”[6] عنه وعن بعض الرهبان الذين وجهوا إلى الإمبراطور اتهاماً ضد نسطور واستدعى الشرطة ضدهم، وتم جلدهم وسجنهم[7]. (أى جلد مجموعة من الرهبان ومن ضمنهم يوسابيوس المحامى الذى صار أسقف دورليم فيما بعد).

 

إن مقتطفات عظة أخرى موجهة كليةً ضد تبادل الخواص
communicatio idiomatum
(أى تبادل الألقاب الإلهية والإنسانية للسيد المسيح فى مقابل خواصه الإنسانية والإلهية) وبالتحديد ضد عبارة “تألّم الكلمة”، ولكن خطابه الرابع ضد بروكلوس[8] هو الأكثر الأهمية ويحوى الكلمات التالية: (إنهم يدعون اللاهوت معطى الحياة قابلاً للموت، ويتجاسرون على إنزال اللوغوس إلى مستوى خرافات المسرح، كما لو كان (كطفل) ملفوفاً بخرق ثم بعد ذلك يموت.. لم يقتل بيلاطس اللاهوت – بل حُلة اللاهوت. ولم يكن اللوغوس هو الذى لف بثوب كتّانى بواسطة يوسف الرامى.. لم يمت واهب الحياة لأنه من الذى سوف يقيمه إذاً إذا مات.. ولكى يصنع مرضاة البشر إتخذ المسيح شخص الطبيعة الخاطئة (البشرية).. أنا أعبد هذا الإنسان (الرجل) مع اللاهوت ومثل آلات صلاح الرب.. والثوب الأرجوانى الحى الذى للملك.. ذاك الذى تشكَّل فى رحم مريم ليس الله نفسه.. لكن لأن الله سكن فى ذاك الذى اتخذه، إذاً فإن هذا الذى اتُّخِذَ أيضاً يدعى الله بسبب ذاك الذى إتخذه. ليس الله هو الذى تألم لكن الله إتصل بالجسد المصلوب.. لذلك سوف ندعو العذراء القديسة ثيئوذوخوس
qeodocoV
(وعاء الله) وليس ثيئوتوكوس
qeotokoV
(والدة الإله)، لأن الله الآب وحده هو الثيئوتوكوس، ولكننا سوف نوقّر هذه الطبيعة التى هى حُلة الله مع ذاك الذى إستخدم هذه الحُلة، سوف نفّرق الطبائع ونوحّد الكرامة، سوف نعترف بشخص مزدوج ونعبده كواحد)[9].

 

من كل ما تقدم نرى أن نسطور.. بدلاً من أن يوحّد الطبيعة البشرية بالشخص الإلهى، هو دائماً يفترض وحدة الشخص الإنسانى مع اللاهوت.. لم يستطع أن يسمو إلى الفكرة المجردة، أو يفكر فى الطبيعة البشرية بدون شخصية، ولا اكتسب فكرة الوحدة التى للطبيعة البشرية مع الشخص الإلهى. لذلك فإنه يقول حتماً أن المسيح اتخذ شخص البشرية الخاطئة، ويستطيع أن يوحِّد اللاهوت بالناسوت فى المسيح خارجياً فقط، لأنه يعتبر الناسوت شخصاً كما هو مبيَّن فى كل الصور والتشبيهات التى يستخدمها.

—-
———–

[1]
C.J. Hefele, A History of the Councils of the Church, Vol III, p.9-17, AMS Press 1972, reprinted from the edition of 1883 Edinburgh

[2]
Socrates, History of the Church from A.D. 305-439, Nicene and Post Nicene Fathers, edited by Schaff, P. & Wace, H., WM. B. Eerdamns Publishing Company, Grand Rapids Michigan 1979, series 2, Vol. II, Book 7, Chapter 29, p. 169
.

[3]
Mansi, t. v. p. 573; Hardouin, t.i.p. 1331

[4]
According to Cyril of Alexandria (Ep. vi. p. 30, Ep. ix. P.37, Opp.t.v.ed. Aubert; and in Mansi, t. iv. p. 1014
).

[5]
Marius Mercat. ed. Garnier-Migne, p. 757 sqq

[6]
Marius Merc. l.c. p.770 ; Cyrill. Opp. t. iv. P.20; Tillemont, t. xiv. p. 318
.

[7]
In Hardouin. t. i. p. 1336; Mansi, t. iv. p.1102
.

أسقف سيزيكوس

[9]
In Marius Merc. l.c. pp. 789-801
.

 

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي