طرفا مجمع أفسس يحتكِمان إلى الإمبراطور في افسس

كما رأينا، فقد صمم أعضاء المجمع مراراً وتكراراً وفى كل جلسة، على أن يرسلوا المحاضر إلى الإمبراطور، ولكنهم اشتكوا، حتى فى الوقت الذى وصل فيه بلاديوس إلى أفسس، من أن الكونت كانديديان لم يسمح لتقاريرهم بالوصول إلى الإمبراطور. كما قام النساطرة بأعمال عنف أكثر إسرافاً فى هذا الصدد فى القسطنطينية نفسها. فقد احتلوا الطرقات العامة والبوابات، وقاموا بزيارات لجميع السفن حتى يمنعوا أى اتصال بين المجمع والعاصمة. وبالرغم من ذلك، فقد نجح أحد المتسولون أخيراً فى تهريب خطاب من كيرلس إلى الأساقفة والرهبان فى القسطنطينية، هذا الخطاب مفقود حالياً، وكان قد تم إخفاؤه فى عصا مفرغة من الداخل، وفيه يصف كيرلس اضطهاد كانديديان والشرقيين (الأنطاكيين) للمجمع، ويطلب أن يسمح لهم بإرسال أساقفة كمندوبين إلى القسطنطينية. ([1]) وقد تأثر رهبان القسطنطينية جداً مع رؤساء أديرتهم وعلى رأسهم دلماتيوس بهذه الرسالة، وساروا وهم يرتلون تراتيل ومزامير حتى وصلوا أمام المقر الإمبراطورى. كان دلماتيوس قد قضى 48 سنة فى الدير، وكان يتمتع بسمعة حسنة لورعه، ولم يكن ممكناً بأى حال إقناعه بترك ديره، ولكنه الآن يؤمن أنه مدعو بنداء من السماء لإنقاذ الكنيسة، وقد كان لظهوره المفاجئ عظيم الأثر. فقد سمح الإمبراطور بدخول رؤساء الأديرة
archimandrites
إلى مسكنه والمثول أمامه بينما ظل الرهبان والشعب منتظرين، فى هذه الأثناء كانوا يرتلون تراتيل مقدسة أمام الأبواب. قام رؤساء الأديرة بتلاوة الرسالة التى تسلموها من أفسس على مسامع الإمبراطور، ودارت المحادثة التالية. قال الإمبراطور: “إذا كان الأمر كذلك، ينبغى أن يحضر بعض الأساقفة (من المجمع) إلىَّ ويعرضوا قضيتهم”. أجاب دلماتيوس: “لا يجرؤ أى منهم أن يحضر إلى هنا”. وأجاب الإمبراطور على ذلك قائلاً: “لا يمنعهم أحد”. دلماتيوس: “نعم، هم ممنوعون، بينما الكثير من أتباع نسطور يحضرون ويذهبون دون أدنى موانع، ولكن لا يجرؤ أحد أن يُعِّرف جلالتكم بما يفعله المجمع”. وأضاف: “هل تفضل الإنصات لعدد 6000 أسقف (جميع العالم المسيحى الأرثوذكسى) أم لشخص غير تقى (نسطور)؟” حينئذ سمح الإمبراطور لمبعوثى المجمع أن يحضروا إلى القسطنطينية، وفى الختام طلب من رؤساء الأديرة أن يصلوا إلى الله من أجله. بعد أن خرج رؤساء الأديرة من القصر الإمبراطورى مع الرهبان والشعب ذهبوا إلى كنيسة القديس موكيوس
Mocius
الشهيد، حيث صعد دلماتيوس إلى الإنبل وقدم تقريراً عما حدث، وعندئذ صاح جميع الحاضرون “محروم نسطور”. ([2]) ثم انتهز المجمع الإذن الإمبراطورى، حتى قبل وصوله إلى أفسس، وأرسلوا كل من الأسقف ثيوبيمبتوس
Theopemptus
أسقف كاباسوس
Cabasus
والأسقف دانيال أسقف دارنيس
Darnis
(كلاهما مصريان) إلى القسطنطينية، برسالة شكر موجهة إلى دلماتيوس. ([3])

 

وجد يوحنا والشرقيون التابعون له أنه من الضرورى استخدام تأثيرهم على البلاط، ولكن من أجل طاعة أوامر الإمبراطور، كما قالوا، فإنهم لن يفعلوا ([4]) مثل المصريين ويرسلون أساقفة، بل إنهم يطلبون من الكونت ايرينيئوس
Irenaeus
، وهو الصديق الغيور لنسطور، أن يذهب نيابة عنهم إلى القسطنطينية. وهذا كان مستعداً لذلك، فأخذ معه رسالة من المنشقين
Schismatics
، فيها عرَّفوا الإمبراطور كيف لم يُسمح لهم بإقامة شعائر الخدمة المقدسة فى أفسس، وكيف أنه بعد مدة قصيرة من وصول بلاديوس، عندما أرادوا أن يدخلوا الكنيسة ليشكروا الله على الرسالة التى تسلموها من الإمبراطور، أسيئت معاملتهم، وكيف سمح كيرلس وأتباعه لأنفسهم بالقيام بكل أنواع أعمال العنف. (†) وهكذا ينبغى أن يستمع الإمبراطور إلى إيرينيئوس
Irenaeus
الذى قام بتسليم عدة مقترحات من جانبهم، بقصد وضع نهاية للشر. ([5])

 

وحيث إنه لم يرد فى هذه الرسالة أن المجمع قد أعلن بالفعل أحكاماً بالقطع من الشركة والإيقاف ضد المنشقين، فيبدو أنه قد تم إعداد ذلك قبل جلسات المجمع الرابعة والخامسة (16 و17 يوليو) حتى أن إيرينيئوس لابد أن يكون قد غادر بالفعل حوالى منتصف شهر يوليو.

 

لكن بعد أن نطق المجمع فى هاتين الجلستين بالحكم على يوحنا الأنطاكى وأتباعه، للحال أعد هؤلاء تقريراً بهذا أيضاً للإمبراطور، وتم إرساله خلف إيرينيئوس، الذى كان قد غادر بالفعل، حتى يتمكن من تسليمه للإمبراطور فى نفس الوقت. فى هذا التقرير يحاولون أن يبرهنوا للإمبراطور أن حكمهم على كيرلس وممنون قانونى، ومن جهة أخرى أن حكم المجمع عليهم أحمق وعقيم، ويشتكون مرة أخرى من الظلم، ويطلبون أن يتم استدعاءهم للاجتماع فى القسطنطينية أو نيقوميديا
Nicomedia
(فى مجمع جديد) من أجل فحص أدق. ولكن يجب إعطاء الأمر (كما اقترحوا من قبل) بأنه لا يجوز لأى مطران أن يحضر معه أكثر من أسقفين لهذا المجمع. وأخيراً طلبوا من الإمبراطور أن يعطى تعليماته بأن كل شخص عليه أن يوقِّع على قانون الإيمان النيقاوى، الذى يضعونه هم أنفسهم فى رأس هذه الرسالة، ([6]) وبألا يضيف أى شخص شيئاً جديداً عليه، وألا يدعو أحد المسيح مجرد إنسان (مثل نسطور) وألا يُعلن أحد أن لاهوت المسيح قابل للألم (ذكرت هذه النقطة ليلام كيرلس) لأن كلا التعبيرين يعتبرا تجاديف. ([7]) وفى نفس الوقت قام المنشقون بتوجيه خطابات لبعض كبار رجال الدولة، ليعرضوا عليهم حالتهم المحزنة فى أفسس، وسوء المعاملة التى لاقوها، ويلتمسون منهم المساعدة على استدعائهم للاجتماع فى القسطنطينية، ونيل موافقة الإمبراطور لانعقاد مجمع جديد. ([8]) ينتمى خطاب ثيئودوريت أسقف قورش إلى أندرياس
Andreas
أسقف ساموساط
Samosata
إلى هذه الحقبة (هذا الخطاب موجود الآن باللغة اللاتينية فقط)، وفيه يهنئه على المرض الذى منعه عن الحضور إلى أفسس، حيث كان سوف يضطر إلى معاينة حزنهم وبؤسهم. ويقول: إن المصرى (†) يهيج غيظاً ضد الله، والجزء الأعظم من شعب الله ينحازون إلى صفه، كالمصريين والفلسطينيين والذين من بنتس
Pontus
وآسيا والغرب. وقد قام الرجال المعزولون (كيرلس وآخرون) بالخدمة المقدسة، بينما الذين عزلوهم كانوا يندبون فى المنزل. وأضاف أنه لم يؤلف أى كاتب كوميديا قصة مضحكة كهذه، ولا كاتب مأساة مثل هذه المسرحية المحزنة. ([9])

 

وصل مبعوثو المجمع الحقيقى إلى القسطنطينية قبل إيرينيئوس بثلاثة أيام، كما قص هو، وبعرضهم للأوضاع الحقيقية، أثَّروا بقوة على كثير من ذوى المكانة الرفيعة، من رجال الدولة والضباط، حتى أنهم أدركوا أن حكم المجمع ضد نسطور كان حكماً عادلاً تماماً. وقد تبنى هذا الرأى بصفة خاصة الياور سكولاستيكوس
Scholasticus
، خاصة لأن نسطور كان قد عارض فى أفسس عبارة “والدة الإله”. ([10]) وبعد وصول إيرينيئوس تمت عدة مقابلات ومناقشات بين أتباع الطرفين، واتفقوا على أن إيرينيئوس ومندوبى المجمع عليهم أن يمثلوا معاً بحضور كبار رجال الدولة أمام الإمبراطور. وأعلن إيرينيئوس أنه لم يكن يستطيع الوصول إلى القصر بدون مواجهة خطر إلقائه فى البحر (إلى هذه الدرجة العظمى كان غضب الناس ضد النساطرة)، ولكنه يفتخر بنجاحه فى إقناع الإمبراطور بأن المجمع غير عادل، وتصرفاته فوضوية (لعدم انتظار الأنطاكيين) وبأنه أقنع الإمبراطور أن يعتزم على عزل كيرلس، ويعلن أن ما تم عمله بواسطة الأغلبية فى أفسس غير قانونى. وبعد ذلك بفترة قصيرة، قال أن يوحنا الطبيب سكرتير كيرلس وصل إلى أورشليم وحطم ما بناه إيرينيئوس وكسب مرة أخرى كثير من كبار الدولة إلى صفه. والآن ينصح أحد الأطراف الإمبراطور بأنه يجب أن يؤكد على العزل الذى تم من قبل الطرفين، وبالتالى، ذاك الصادر ضد نسطور من ناحية، ومن ناحية أخرى الصادر ضد كل من كيرلس وممنون. ونصح طرف آخر على النقيض من ذلك، بأن الإمبراطور يجب ألا يوافق على أى قرار بالعزل، ولكن بالأحرى أن يدعو أكثر الأساقفة تفوقاً إلى الاجتماع معاً لفحص ما قد تم. نصيحة ثالثة كانت أن يرسل الإمبراطور مفوضين إلى أفسس، ليتمكنوا من إعادة السلام مرة أخرى. هذا الاقتراح الأخير كان أقلهم قبولاً بالنسبة إلى إيرينيئوس، حيث إنه جاء من طرف كان معادٍ لنسطور. ([11])

—-
———–

[1]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t.iv. p.1429; Hardouin, t.i. p. 1588 sq
.

[2]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t.iv.p. 1427 , 1430; Hardouin, t.i.p. 1586 sqq
.

[3]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t.iv.p. 1258; Hardouin, t.i. p. 1447
.

[4]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t.iv.p. 1374; Hardouin, t.i. p. 1535
.

† وهذا يوضح رياءهم من جانب ومن جانب آخر افتراءاتهم ضد القديس كيرلس شخصياً.

[5]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t.iv.p. 1390, Hardouin, t..p. 1547
.

[6]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t. iv.p. 1375, and in Hardouin, t. i. P. 1535
.

[7]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t. iv. p.1371 sqq.; Hardouin, t.i. p. 1534 sqq
.

[8]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t. iv. P. 1383, 1386; Hardouin, t. i. P. 1543
.

 

† يقصد القديس كيرلس وواضح كراهيته الشديدة له، وظل هذا هو شعوره ضده حتى أنه لما سمع بخبر نياحة البابا كيرلس قال فى شماتة: “أخيراً وبصعوبة مات الحيوان، الصالحين والرحماء يرحلون، أما الأشرار فحياتهم تمتد لسنوات طويلة.” (
Las Koen, The Saving Passion, p.13
)

 

[9]
Hefele, C.J., quoting Theodoreti opp. ed. Schulze, t. iv. P. 1335, t.v. p. 649. Garnier , ibid, p.368. Mansi, t.v. p. 787, t. ix. P. 293, Hardouin, t. iii. P. 136, collat. V
.

[10]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t.v. p. 777; Hardouin, t.i. p. 1552
.

[11]
Hefele, C.J., quoting Mansi. t. iv. p. 1391 sqq; Hardouin, t.i. p. 1547 sqq
.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي