اجتماع ممثلي طرفي مجمع أفسس في خلقيدونية

من خطاب قصير من المندوبين الأنطاكيين إلى المجمع الأنطاكى
conciliabulum
بتاريخ 11 سبتمبر 431م نعرف أن الإمبراطور ثيئودوسيوس كان قد غيَّر خطته فى غضون ذلك، فلم يسمح لأى من الطرفين بالدخول إلى القسطنطينية، لكنه أمرهم بالتوجه إلى خلقيدونية([1]) (التى تقابل القسطنطينية ويفصلها عنها مضيق البوسفور
Bosporus
) وانتظاره هناك. كان فى رأى الأنطاكيين، أن الاضطرابات التى حدثت وسط الرهبان هى التى حثت الإمبراطور على اتخاذ هذه الخطوة. وفى نفس الوقت نعرف من هذا الخطاب أنه قد تم إخطار نسطور، قبل ذلك التاريخ بثمانية أيام، بترك أفسس والعودة إلى الدير الذى كان راهباً فيه من قبل. وقد اعترض المندوبون الأنطاكيون على هذه الخطوة، لأنها كانت تبدو مؤيدة للحكم غير العادل (†) الصادر ضد نسطور. وقد أعلنوا بعد ذلك استعدادهم للنضال فى سبيل الإيمان حتى الدم، (†*) وعلقوا بأنهم يتوقعون مجيئ الإمبراطور فى هذا اليوم، وهو الحادى عشر من شهر سبتمبر. أخيراً استودعوا أنفسهم إلى تضرعات أصدقائهم، الذين يتمنون لهم التمسك بالإيمان. ويختمون بأن هيمريوس
Himerius
(أسقف نيقوميديا وأحد الممثلين الأنطاكين الذى مرض فى الطريق) لم يصل بعد. ([2])

 

بلغ إلى مسامعنا (†) أن نسطور تلقى إنذاراً بترك أفسس فى غضون مغادرة مندوبى الطرفين ووصولهم إلى خلقيدونية. ولازال المنشور الذى أعلن له فيه ذلك موجوداً، وإن لم يكن كله، وهو فى الغالب مرسل من انتيوكوس
Antiochus
والى البريتورين
Praetorians

لكن وفقاً للتقليد المعتاد فقد صدر باسم كل الحكام. هو إنذار قصير ولطيف لكنه محدد، وينص على أنه بناء على رغبة نسطور نفسه ([3]) فى مغادرة أفسس والعودة إلى ديره السابق، فقد أمد بحراسة لخدمته خلال الرحلة. وقد سُمح له باختيار الطريق بنفسه، إن كان بالبر أو بالبحر، لكن كان على هؤلاء القائمين على خدمته أن يوصلوه إلى ديره (دير القديس

Euprepius
فى أنطاكيا). وفى الختام يتمنون له كل ما هو جيد وصالح لمستقبله، وأضيف أنه بحكمته لا يمكن أن يعتاز إلى الراحة. ([4])

 

أجاب نسطور ([5]) بأنه “استلم خطاب الوالى ومنه علم بأمر الإمبراطور أنه يجب عليه من الآن فصاعداً أن يعيش فى الدير. وقد قبل ذلك بشكر، لأنه من وجهة نظره ليس هناك شئ أكرم من أن ينفى من أجل الدين. وهو يطلب فقط أن يستخدم الوالى سعيه لدى الإمبراطور بأن يتم نشر المرسوم الإمبراطورى فى كل الكنائس من أجل أن ترفض عقيدة كيرلس الزائفة لمنع أذى البسطاء”. (†*)

 

إذا عدنا مرة أخرى إلى مندوبى الفريقين ومجهوداتهم، يجب علينا أولاً أن نرثى المنية العظيمة للمصادر الأصلية للمعلومات، خاصة وأنه ليست هناك وثيقة أصلية واحدة باقية لممثلى الأرثوذكس، فمن كل هذا الطرف لم يصل إلينا إلا تقرير واحد مختصر معاصر لما تم. وحتى الوثائق الصادرة عن الأنطاكيين والإمبراطور فهى ناقصة بدرجة لا تمكننا من فهم الإجراءات التى تمت فى خلقيدونية بتفاصيل كافية. سوف نجترئ بوضع القليل الذى نعرفه فى الترتيب الزمنى التالى. فى المكانة الأولى نذكر التقرير القصير المذكور أعلاه الذى أرسله مندوبو الأنطاكيين لمن مثلوهم، فيه يعلنون وصول الإمبراطور فى الحادى عشر من شهر سبتمبر عام 431م. ثم بعد ذلك ببضعة أيام أرسلوا خطاباً قصيراً لأصدقائهم فى أفسس، وفيه أعطوهم تقريراً عن الإجراءات الأولى التى تمت فى خلقيدونية بحضور الإمبراطور. ويعبرون عن ملء الفرح لأن الإمبراطور قبل طلبهم بلطف، وإنهم انتصروا على خصومهم، وكان لهذا انطباعاً سيئاً. فمن حين لآخر عرض أولئك الخصوم اسم كيرلسهم والتمسوا أن يسمح له بالحضور ليتولى قضيته بنفسه. لكنهم لم ينالوا مطلبهم، بل كان هناك تصميم على وجوب مراعاة الإيمان وتأكيد عقيدة الآباء القديسين. وأما الأنطاكيون فقد قاوموا (عارضوا) أكاكيوس أسقف مليتين صديق كيرلس، لأنه أكَّد أن اللاهوت قابل للألم (†). عند هذا التجديف تكدر الإمبراطور جداً حتى أنه حرك رداءه القرمزى، واتفق معه فى ذلك كل الشيوخ المجتمعين. وفى النهاية أمر الإمبراطور أن يقدِّم له كلا الطرفين تقريراً مكتوباً عن إيمانهم، وقد أجابوا بأنهم لن يستطيعوا أن يقدِّموا أى إيضاح آخر غير إيمان نيقية، وقد أرضى هذا أيضاً الإمبراطور كثيراً. وقد خرجت كل القسطنطينية إليهم تترجاهم أن يناضلوا بشجاعة فى سبيل الإيمان. وفى الختام ضموا نسختين للإيمان المعلن فى نيقية، معينين للإمبراطور حتى يوقع عليهما أعضاء المجمع الأنطاكى
conciliabulum
بأيديهم. ([6])

 

فرح الأنطاكيون فى أفسس فرحاً عظيماً بهذا، وللحال أعادوا الوثيقتين وعليهما توقيعاتهم، مؤكدين لممثليهم فى ردهم، أن يفضلوا الموت على قبول أى حرم هرطوقى خاص بكيرلس. وإن كانت هذه الحروم هرطوقية، فبالتالى تكون أحكام العزل التى نطق بها أتباع هذه الحروم لاغية وغير معمول بها (هم يشيرون بالتحديد إلى الحروم التى صدرت ضد نسطور كما هو مبين فى الخطاب التالى). وقد استأمنوا المبعوثين أن ينالوا من الإمبراطور رفض الفصلين الخاصين بحروم كيرلس وأحكام العزل، وأرسلوا إليهم نسخة من شرح الحروم التى وضعها كيرلس حديثاً، حتى يمكنهم بأكثر سهولة أن يبينوا كفره. ([7])

 

وقع على هذه الوثيقة اثنان وأربعون تابعاً للجانب الأنطاكى وعلى رأسهم ترانكيلينوس
Tranquillinus
الأنطاكى فى بيسيديه ([8]) وفى نفس الوقت أرسلوا خطاباً إلى الإمبراطور يشكرونه فيه على استقباله الحسن لممثليهم ويمجدون حماسه للإيمان ويتشفعون فى نسطور دون ذكر اسمه بطريقة مباشرة، ويقولون أن عزله بواسطة الجانب الهرطوقى الذى لكيرلس هو باطل. ([9]) فى حقبة سابقة، حينما نطق الإمبراطور بالحكم بعزل نسطور وفى نفس الوقت بعزل كيرلس وممنون احتفظوا بصمت الجبناء، بل مدحوا حكمة الإمبراطور، وفصلوا أنفسهم بالكلية عن نسطور، مما جعل أحد أصدقائهم وهو ألكسندر أسقف هيرابوليس يؤنبهم على فعلهم هذا. والآن على النقيض، يبدو أن الساعة قد حانت لكى يزاح القناع عن وجوههم، ومرة أخرى ينحازون إلى نسطور. (†) لكنهم خدعوا أنفسهم وآمالهم الدموية لم تصل إلى تمامها بأى حال.

 

كانت هناك أربع جلسات أخرى فى خلقيدونية بعد هذه الجلسة الأولى، أو مجموعة من المفاوضات التى تمت فى حضور الإمبراطور، لكن لم تحفظ لها أى تفاصيل. ليس هناك سوى قصاصات قليلة قصيرة لثيئودوريث ([10]) تحتوى على هجوم عنيف ضد آراء أتباع كيرلس وهى خاصة بالكلمات التى ألقاها خلال هذه المفاوضات. كل الوثائق الأخرى الموجودة لاحقة لهذه الجلسة، وعلى الأخص خطاب من ممثلى الأنطاكيين إلى روفس
Rufus
رئيس أساقفة تسالونيكى، حث فيه يوليان أسقف سارديكا
Sardica
وعضو المجمع الأنطاكى
conciliabulum ([11
]) تحريرياً بألا يسمح بأية إضافة إلى قانون الإيمان النيقاوى ولا بأن يحذف منه شئ. وقد مدحه المندوبون على ذلك، وتكلموا ثانية عن أبولينارية كيرلس، وعن نضالهم من أجل الإيمان النيقاوى، وعن عزل كيرلس وممنون، واستحالة عودتهما (لأنهما استمرا فى ممارسة مهامهما الروحية)، وعن عناد فريق كيرلس. وكان الإمبراطور قد أنذر مبعوثى هذا الفريق فى خمس جلسات إما أن يرفضوا فصول (حروم) كيرلس لأنها مضادة للإيمان أو أن يثبتوا مطابقتها لعقيدة الآباء القديسين فى مناظرة. وقد جمع الأنطاكيون لأنفسهم براهين كاملة ضد هذه العقائد، مع دلائل من باسيليوس أسقف قيصرية وأثناسيوس ودماسوس أسقف روما وأمبروسيوس أسقف ميلان، وأعطوا البعض منها (لكن لا تتضمن فقرات آبائية) لمصلحة روفوس، ليثبتوا أن كيرلس كان أريوسياً وأفنومياً. كان لدى الكثير من الأساقفة الشرقيين واللاتينيين نفس النظرة بالكلية. (†) وفى هذا كتب الأسقف مارتين أسقف ميلان إليهم، وأرسل كتاب القديس أمبروسيوس
De Dominica Incarnation
الذى يعلِّم بعكس هذه الفصول (الحروم) الهرطوقية. ([12]) وعلاوة على ذلك، فقد قالوا إن كيرلس وممنون لم يزيفا الإيمان فقط بل انتهكا كل الشرائع القانونية، وقبلا هراطقة مثل البلاجيين والمصلين فى الشركة حتى يضاعفا عدد أتباعهما. فقد ظنا أنه بواسطة الرجال وصرف المال الكثير يمكنهما تحطيم إيمان الآباء. فيجب على روفوس أن يكون يقظاً من أن تكون له شركة معهما وأن يعلن فى كل مكان أن فصولهما (حرومهما) أبولينارية. (†*) ختاماً، أرسلت نسخة من هذا الخطاب إلى الإمبراطور وعرضت أمامه وفيها ينطقون بالإيمان النيقاوى ويقاومون حروم كيرلس. ([13])

—-
———–

[1]
Hefele, C.J.,pp 99-104
.

† فى رأى الطرف المعادى للقديس كيرلس.

†* لم يكن إيمانهم سليماً كما لم يحدث أنهم ناضلوا من أجله حتى الدم، بل هو مجرد أسلوب مخادع لكسب الناس فى صفهم. فمثلاً حينما صدر أمر الإمبراطور بعزل نسطور التزموا الصمت بل مدحوا حكمة الإمبراطور (انظر صفحة 125من هذا الكتاب).

[2]
Hefele, C.J., quoting Hardouin, t.i.p.1568; Mansi, t.iv.p.1406; t.v.p. 794
.

† نذكر القارئ أن المتكلم هو المؤرخ هيفيلى فى كل الجزء الخاص بمجمع أفسس.

[3]
Hefele, C.J., quoting Evagrius, i.7
.

[4]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t. v. p. 792, Hardouin, t.i. p. 1631
.

[5]
Hefele, C.J., quoting Epistola Nestorii ad eundem Proefectum proetorium Antiochenum, Mansi, t. v.p.793; Hardouin, t.i. p. 1631
.

 

†* واضح الدهاء الشديد الذى تكلم به نسطور هنا، فهو أولاً يستدر عطف الأخرين ثم أنه يظهر الخضوع والمثول لأمر الإمبراطور، ولكنه من جانب يشكك فى عقيدة القديس كيرلس لأنه إن شك الجميع فى عقيدة القديس كيرلس سوف تكون النتيجة أن يتبرر هو، ومن جانب آخر يوحى للناس أنه يضحى من أجل الإيمان.

 

† هذه تهمة نسطورية ضد ذوى الإيمان القويم لأن نسطور وكل أتباعه لم يفهموا حقيقة سر التجسد واتحاد اللاهوت بالناسوت فى شخص واحد. وهذا الخطاب من المجمع الأنطاكى يبين بغضهم الشديد للقديس كيرلس وحيلهم الماكرة.

 

[6]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t. iv. p. 1411, t.v.p.795; Hardouin, t.i. p. 1572
.

[7]
Hefele, C.J., quoting Hardouin, t.i.p.1577; Mansi, t.iv.p.1417, Synodicon, ibid. t.v. p. 795-797
.

[8]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t. v.p.797; Hardouin, t.i. p. 1578
.

[9]
Hefele, C.J., quoting Hardouin, t.i.p.1579; Mansi, t.iv.p.1419, Synodicon, ibid. t.v. p. 797
.

† التعليق فى هذه الفقرة هو للمؤرخ هيفيلى.

[10]
Hefele, C.J., quoting Schulze edition of the works of Theodoret, t.v.p.104 f.; Hardouin, t.iii.p.136; Mansi,t.ix.p.292sq
.

[11]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t.v.p.797; Hardouin, t.i.p. 1578
.

 

† لقد ذُكر عموماً كما ذُكر بالتحديد أن ثيئودوريت قال أن اللاتين كانوا فى الجانب المضاد لنسطور (هامش صفحة 104 من كتاب المؤرخ هيفيلى) كما أن كل ما ذكر فى هذا الخطاب لم يكن صحيحاً، ويعوزنا الوقت إذا قمنا بتفنيد كل ما يقولون.

 

[12]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t.v.p.807
.

†* من المؤكد أن هذه التهم غير صحيحة لأن القديس كيرلس حرم الأريوسيين البيلاجيين والمصلين والأبوليناريين وأعلن ذلك مراراً، (على أنه لا يلام إن كان قد قبل من قدم توبة منهم). أما بالنسبة للحروم فقد وافق عليها المجمع كله كما رأينا فى الجلسة الأولى.

 

[13]
Hefele, C.J., quoting Mansi, t.iv.p.1411-1418; Hardouin, t.i.p.1571
.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي