مجمع افسس الثانى

و ترأس المجمع ديسقورس بابا الاسكندرية بأمر القيصر ثم جلس بعده نواب اسقف روما ثم يوبيناليوس اسقف اورشاليم فدمنوس اسقف انطاكية ففلابيانوس اسقف القسطنطينية ثم اسطفانوس اسقف افسس ومن بعده اسقف قيصرية. ولما افتتحت الجلسة الاولى تليت تحارير الملك واثبت قبول نيابة نواب لاون اسقف روما. ثم قرىء الامر بقبول المرسوم. ثم طلب رئيس المجمع البابا ديسقورس من نواب القيصر ما عندهم فى ذلك فقرأت رسائل القيصر الى نوابه والمجمع بخصوص اجراءات فلابيانوس ثم شرعوا فى موضوع الايمان فقال نائب اسقف روما ان اسقفهم ارسل معهم رسالة فأمر الرئيس بقبولها. ولما قُدمت الى القس يوحنا سكرتير المجمع ليتلوها رأى نفسه مضطرا الى قراءة رسائل اخرى من القيصر الى رئيس المجمع قبل رسالة اسقف روما. فتليت رسائل القيصر وبعد ذلك قال الرئيس “يظهر لنا ان القيصر امر بعقد هذا المجمع بسبب المشاغبة التى جرت فى القسطنطينية ولذلك يلزمنا ان نبحث اولا فى هذه المسألة وبعد ذلك نقارنها بأعمال ابائنا القديسين التى فرضوها فى المجامع المقدسة” فوافق المجمع على رأيه.

 

حينئذ قال اسقف اورشاليم ينبغى ان يحضر اوطاخى بنفسه للمجمع ويدافع عن نفسه. فجاء اوطاخى وقدم اعترافا مثل اعتراف المجمع الثالث بدون ان يذكر شيئا من المسألة المُختلف عليها , فقُرىء. ثم طلب البيدوس المقدم قراءة بقية الاعمال قبل الرئيس طلبه وسأل اباء المجمع عن رأيهم فأجابوا بالقبول الا نواب اسقف روما , فأنهم طلبوا قراءة رسالة اسقفهم الى فلابيانوس قبل قراءة الاعمال. فوقف اوطاخى واشتكى للمجمع ضد هؤلاء الرجال لأنهم لما اتوا للمدينة اقاموا فى بيت فلابيانوس الذى احسن وفادتهم وقدم لهم هدايا جزيلة والتمس من المجمع ان يمنعهم عن ابداء رأيهم لئلا يحكموا عليه تبعا لأهوائهم. فعمل الرئيس برأى الجمهور وقرئت الاعمال فظهر منها ان أعمدة الايمان الاقوياء هم باباوات الاسكندرية الافاضل الذين جاهدوا جهاد الابطال فى الدفاع عن تعاليم السيد المسيح وحظوها نقية سالمة فعبقت رائحة فضيلتهم فى المجمع كالعبير وذكر بالاخص القديس كيرلس على اثر قراءة رسائله التى اقر عليها جميعها. ثم قال افسطاثيوس مطران بيروت ما فعل كيرلس حين فُهمت كتاباته على غير معناها الى ان اورد قوله: “لا ينبغى لنا ان نفهم طبيعتين بل طبيعة واحدة لكلمة الله المتجسد” وهذا القول اثبته القديس كيرلس بشهادة القديس اثناسيوس الرسولى فأجبا المجمع “ليس من يقول ان المسيح اثنان بعد الاتحاد ولا من يفصل الغير منفصل”.

 

و لما وصلوا فى القراءة الى سؤال يوسابيوس لأوطاخى “هل تعتقد بطبيعتين فى المسيح بعد التجسد؟” عارض اباء المجمع بشدة وحدة وقام جملة من الاساقفة الحاضرين وصرخوا بأعلى اصواتهم “ارفعوا يوسابيوس واحرقوه , ليُشق الى اثنين كما حاول ان يقسم المسيح. كل من يقول بطبيعتين هو محروم” فقال القديس ديسقورس: “هل تسلمون بأن المسيح بعد التجسد صار له طبيعتين؟” فأجاب الاباء بالاجماع “كل من يقول بطبيعتين بعد التجسد فليكن محروما” فقال القديس ديسقورس “لنؤيد هذا الكلام” فقال الاباء بالاجماع “لأنه اعتقاد الاباء”.

 

و بعد ذلك سأل رئيس المجمع الاعضاء عما يرونه فى اوطاخى فأجاب اسقف اورشاليم بما انه اعترف بأيمان مجمع افسس الاول (المسكونى) فانا ارى انه ارثوذكسى واحكم بتثبيته فى درجة الكهنوتية وفى ديره. فوافق باقى الاعضاء على رأيه بقولهم “يظهر من قول اوطاخى انه ارثوذكسى” فلما رأى الرئيس هذا الاجماع قال “انى قد ثبت انا ايضا حكم هذا المجمع وحكمت بأن يُحصى اوطاخى فى عدد الكهنة ويتولى ديره كما كان سابقا”.

 

ثم قدم للمجمع احتجاج من رهبان اوطاخى على حرم فلابيانوس لهم فقال لهم الرئيس “لا يحلكم من حرمكم الا اعترافكم بالايمان الصحيح” فصاح كبيرهم ” ان ايماننا هو ايمان مجمعى الاباء فى نيقية وافسس , ايمان اثناسيوس وكيرلس وباقى الاساقفة الارثوذكسيين” فرأى اسقف اورشاليم ان يقبلوا فى شركة المؤمنين فرضى المجمع بذلك وبرأهم جميعا.

 

و بعد فحص قضايا كثيرة نظير هذه قال الرئيس “يجب ان نطبق اعمالنا على اعمال الاباء الذين سبقونا” ثم اتفقوا على ان تُقرأ اعمال مجمع افسس المسكونى فقُرىء ايمان المجمع وحُكم فى الجلسة السادسة بالقصاص على الذين يعلمون الضلال.

 

و كان اوطاخى قد أدعى بتحريف اعمال مجمع القسطنطينية مستشهداً بنقيب الوظائف الملوكية فعارض كلامه فلابيانوس. فطلب الرئيس البينة كتابةً فقال له فلابيانوس “انك قطعت امامى السبيل لأيراد كل احتجاج وان كان حقاً” فاستشهد البابا ديسقورس بالمجمع المقدس على انه لم يمنعه عن شىء وكرر طلب الاحتجاج منه فأستمر فلابيانوس على عناده من الجهة الواحدة لم يتنازل عن قوله بطبيعتين بعد الاتحاد , وأيد رأيه غير مكترث بتحديد المجمع الافسسى الاول. ومن الجهة الاخرى لم يؤمن على الحكم الذى اصدره بحل اوطاخى وبالحالة هذه ظهر مضاداً لأولئك الاباء. فتعين لهم حينئذ عزله من الرئاسة وحكم بذلك جميعهم واحد بعد واحد بما فيهم البابا ديسقورس رئيس المجمع.

 

ثم نظر فى الجلسة الثانية شكايات كثيرة قدمت الى المجمع ضد اساقفة نسطوريين وبناء عليها حكم المجمع بتجريد كل من ثاوذوريتس اسقف كورش وتهمته بالنسطورية وطعنه فى حق القديس كيرلس وهيبا (ايباس) اسقف الرها ايضا , ودمنوس اسقف انطاكية لمدافعته عن تعليم نسطور وعين بدلا منه مكسيموس. وايريناؤس اسقف صور الذى كان نسطوريا ومتزوجا بأمرأتين ورسم عوضا عنه فوتيوس ثم عرض المجمع اعماله على القيصر فأمن على تحديدهم وحكمهم وتقرر حرم فلابيانوس وستة من اساقفته وكل من لا يقول بطبيعة واحدة لكلمة الله المتجسد حسب اعتقاد كيرلس والمجمع المقدس.

 

ان كل ما يدعيه اساقفة روما حول هذا المجمع بأنه اسعتمل القوة فى تنفيذ جميع قراراته بل وحتى تسميتهم له ب “المجمع اللصوصى” الذى سمى به المجمع المسكونى الثالق من قبل النساطرة وغير ذلك , هو امر لا يُستغرب صدوره من هؤلاء الذين طغى عليهم الكبرياء وحب الذات حتى فقدوا عقولهم. وفى الحقيقة لقد كان من المُنتظر ان يختلق اساقفة روما هذه الاتهامات الدنيئة لما وجودوا انفسهم خاليين من اى فضيلة يجارون بها بطاركة كرسى الاسكندرية العُظمى وكل من يتابع كم من الدماء اراقوا فقط لأجل الوصول لرئاسة الكنيسة المسيحية فى العالم.

 

و اننا لفى غاية العجب كيف انهم يعتبرون المجمع المسكونى الثالث مجمع افسس الاول ويؤمنون على اعماله واعمال رئيسه القديس كيرلس السكندرى وفى الوقت نفسه يشجبون المجمع الافسسى الثانى مع ان المعارضين والذين وقعت عليهم الاحكام فى كلا المجمعين هم رؤساء الحزب النسطورى الذين حضروا المجمعين وقاوموهما فهل غيرت الايم قلب اسقف روما من نحو النساطرة؟ ام ان الميل لمقاومة بابا الاسكندرية الزمه بأن يتنازل عن المُعتقد القديم رغبة فى ان يجد طريقة لمقاومته فأعتنق مذهبا باطلا ليؤيد مركزه بأنصاره؟ ومما يوضح ما نقول هو انه حدث بعد انفضاض مجمع افسس الثانى ان نواب اسقف روما خرجوا منه بالخيبة اذ لم يتمكنوا من نجاة فلابيانوس وحزبه فتجمهروا معا عصبة واحدة وانطلقوا الى روما يشتكون لأسقفهم ما اصابهم من الخذلان وكان اسقف روما يتوهم ان الرسالة التى ارسلها لفلابيانوس يتخذها المجمع كقانون ايمان او كوحى الهى فلما خاب رجاؤه من ذلك اضمر سوءاً لجميع اباء المجمع المقدس وعلى رأسهم ديسقورس بابا الاسكندرية ويلوح لنا أن الشيطان كان يرسم فى مخيلة اسقف روما صورة سلطته العامة على كل الكنائس وبذلك يفقده صوابه ويسهل له ارتكاب كل محرم فى سبيل الحصول على تلك السيادة الموهومة.

 

فأخذ لاون الاسقف الرومانى يعمل جهده فى الحط من قوة خصمه وتخفيض شأنه فلم يدع واسطة لمقاومة البابا ديسقورس اسقف الاسكندرية ومناجزته الا وطرق بابها فكتب كتابات الى ثيودوسيوس قيصر يقول له فين ان العقيدة المسيحية تكاد تضمحل ما لم يُلغ حكم ديسقورس فى مجمع افسس الثانى. ثم كتب لبوليكاريا شقيقة القيصر وكتب لكنيسة القسطنطينية يحرضها على نبذ قرارات مجمع افسس الثانى. ولما لم تفده كل هذه الوسائل والحيل رمى نفسه بين يدى فالنتنيان قيصر روما والتمس منه ان يطلب من ثيودوسيوس قيصر الشرق ان يسمح باقامة مجمع عام فى روما حيث يكون نفوذه اقوى من نفوذ خصمه. قال المؤرخون “ان محبة الذات او خذلانه فى نيل الرئاسة المُطلقة اضطراه الى سكب الدموع بغزارة كذباً امام افدوكيا زوجة قيصر روما وامه ابلاكيديا لكى تحمل القيصر على الكتابة لثيوديسيوس فلم يسع فالنتيان الى الاجابة لكثرة الالحاح وكتب لثيودسيوس قيصر الشرق”. غير ان ثيوديسيوس القيصر الارثوذكسى أبى اجابة الطلب لثقته فى البابا ديسقورس ورد على فالنتيان قائلا: “ان ما جرى يكفى وهو حسن ولا حاجة الى مجمع اّخر” ومما ينبغى الاشارة اليه ان فالنتيان كان يُلقب لاون فى خطاباته لثيوديسيوس ب “البابا الاعظم” الا ان ثيوديسيوس كان يسمه “البطريرك المحترم” او “رئيس الاساقفة” وهذا يعنى اعتراف فالنتيان امبراطور الغرب برئاسة اسقف روما العامة بينما يرفضها ثيوديسيوس امبراطور المملكة الشرقية.

 

غير ان الحظ عاد وخدم لاون فأنه فى شهر يونيو من تلك السنة , انتقل ثيوديسيوس الى الملكوت بدون خلف , فقامت مكانه بالملك اخته بوليكاريا الراهبة التى نكثت عهد العفة وتزوجت بقائد الجيش مركيان وسلمته ادارة المملكة. فلما تغيرت احوال المملكة استحضر لاون اسقف روما زعماء الحزب النسطورى ليستعين بهم على ديسقورس ومنهم ثاوذوريتوس اسقف كورش وهيبا (ايباس) اسقف الرها وغيرهما , وبعث بانصار السوء هؤلاء الى مركيان يلتمسون منه السماح بعقد مجمع تُفحص فيه اعمال مجمع افسس الثانى. فلما رأى البابا ديسقورس ان لاون تمادى فى عدوانه شرع فى حرمه وتجريده من رتبته الكهنوتية وذلك لأنه سعى فى ابطال قرارات مجمع نظامى شرعى , فجمع مجمعا قطع فيه لاون من شركته لقبوله اولئك الهراطقة. وهذا المجمع عقد بعد موت ثيوديسيوس الملك الارثوذكسى وهذا ينقض قول المدعين بأن بابا الاسكندرية فعل هذا مُعززا بقوة الملك.

 

و كان موظفوا بلاط ملك الشرق الجديد بعضهم يتحزب لنسطور والبعض الاخر للأرثوذكسية الا ان الحزب الاقوى كان النسطورى وذلك لأن بوليكاريا وزوجها مركيان كانا من هذا الحزب. كانت بوليكاريا شديد الكراهية الى البابا ديسقورس بالنسبة لما وصل اليه من سلطة ونفوذ. فرأت ان الفرصة مناسبة لهدمه واتخذت ذريعة لذلك اتهامه بالهرطقة. وكان اول عمل عدائى وجهته لديسقورس هو انه كان لهذا البابا نائب فى القسطنطينية فأرتقى بواسطته الى كرسى البطريركية. فابتدأت بوليكاريا مقاومتها لديسقورس بأن اجبرت نائه بالقسطنطينية على حرم اوطاخى ونسطور والمصادقة على مبادىء لاون.

 

ثم كتب مركيان زوج بوليكاريا الى لاون يقول له: “انى مستعد لعقد مجمع تحت رئاستك واذا كان فى السفر مشقة عليك فانا اقوم مقامك لرئاسة المجمع” فرد عليه لاون بانه ينبغى فى هذا المجمع البحث عن طريقة يتمكنون بها من الصفح عن الاساقفة الذين سلكوا مسلك ديسقورس ووافقوا على رأيه. وكان يأمل لاون ان يكون مقر المجمع هو روما غير ان الملك اصدر امره بأن يكون المجمع فى مدينة نيقية حيث عُقد المجمع المسكونى الاول , مما اساء لاون ومنعه عن الحضور فأرسل نوابا عنه ادعى فيما بعد انهم ترأسوا الجلسات بأسمه ولكن الحقيقة ان مركيان انتخب تسعة عشر عضوا من كبار المملكة ليترأسوا المجمع بالنيابة عنه.

 

اما الذين حضروا هذا المجمع فيقول البعض 330 ويقول اّخرون انه 500 وقيل ان البابا ديسقورس لما حضر مع اساقفته وشاهد هذا الجمع الغفير هتف نحو الملك قائلا: “ايها الملك الاعز ما هذا الجمع الى اراه وما سبب اجتماعه. ان الايمان لفى غاية الكمال والاّن لسنا ننتظر قيام هرطقة توجب اجتماعا مثل هذا فدع الاساقفة ليذهبوا كل الى مركزه” فأجابه بعضهم “ان الملك ليس بمتحقق ان كان المسيح طبيعة واحدة ام طبيعتين” فوقف البابا ديسقورس وقال: “ان اعتقاد البيعة لا ينبغى ان يُزاد عليه او يُنقص منه فالمسيح واحد بالطبع والجوهر والفعل والمشيئة كما كرز الاباء” ولما تردد قليل مثل هذا الكلام قال ديسقورس: “اسألكم فأجيبونى. لما دُعى المسيح الى عرس قانا الجليل دُعى انسانا ام الها” فأجابوه “انسانا” فقال لهم: “و لما حول الخمر كان تحويله له بالناسوت ام باللاهوت؟ او فوض اللاهوت ان يعمل ذلك وللناسوت ان يسكت؟ وان كان حسب رأيكم باللاهوت فليس ذلك بعجب عجيب وامر غريب اذ كان اللاهوت قادرا على كل شىء وانما العجب بالناسوت لاتحاد اللاهوت به , وها انا اقول ان ذهبى الفم يدعو مريم والدة الله , ولم يقل نصف اله. ز كيرلس يدعو المسيح الها واحدا بالحقيقة وابنا واحدا بالحقيقة وان اتحاد اللاهوت بالناسوت يماثل الفولاذ اذا عبر الكور واتحد بالنار فيصير طبع الناس وطبع الحديد شيئا واحدا. اما احتجاجكم عن ذلك بأيجاب وقوع الاّلام على اللاهوت فمعنا الدليل الكافى من الشهداء الذين لما كانوا يعاقبون ما كنت تُعاقب انفسهم وتتألم والله قبل الاّلام بجسده ولاهوته مُنزه عن قبول الاّلام بالكلية”.

 

فأقتنع كثيرون بهذا الكلام ثم خطب البابا ديسقورس داعيا للملك حتى انزعج المقطوعون واتباع لاون واختلوا بالملك ووشوا اليه بحق البابا ديسقورس بأنه يريد سلب سلطانه وان لاون يرغب بحط ديسقورس استقرار الكلمة له وان ترك الحرية لديسقورس لا تتمم اغراضهم وطلبوا منه الحرية فى اعمالهم ليخرجوا ديسقورس من المجمع. فلم يكد عدد المجتمعين يكمل حتى صدر اليهم الامر حال وصولهم الى نيقية بأن يرحلوا الى خلقيدونية بالقرب من البوسفور وعُقد المجمع بها واُفتتحت الجلسات فى اليوم الثامن من شهر اكتوبر من عام 451 م فى كنيسة خلقيدونية.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي