المسيح والمسيَّا

rUrUr


[ كيف أخطأوك يا مسيَّا المجد والحب..،


كيف أهانوك وأنت أكرمت أباك، كيف قتلوك؟


هل يُقال للنهار أنت ليل، كيف رأوك ظلمة وأنت النور الحقيقي.


فجَّرْتَ بالموت ينابيع الحياة، وبقيامتك أَقَمْتَ خليقة جديدة.


العبيد حوَّلْتهم سادة بل أحباء بل ملوكاً وكهنة لله أبيك،


ومعك اختفى البكاء والحزن والتنهد،


في نور وجهك يسطع علينا وجه الآب،


والنار التي ألقيتها أشعلت فينا حباً لا ينطفئ].


 

المسيَّا هو، بالمفهوم العبري، الشخص الممسوح من الله. والمسيَّا هو انتظار اليهود الذي كانوا يترجونه لكي يخلِّص إسرائيل من عبودية الأمم أي الرومان، وقد بنوا شخصيته على عدة نبوات فهموها فهماً خاصاً بهم، إذ انتظروه ملكاً أرضياً بقوة سمائية قادراً أن يبيد أعداءهم الأرضيين ويملك على إسرائيل إلى الأبد.

وفي الحقيقة كانت هذه النبوات خاصة بالمسيح وقد تحققت فيه، ولكن اليهود لم يؤمنوا به لأنه جاء مخالفاً لآمالهم، فهو لم يأتِ ملكاً أرضياً بل سماوياً، ولم يجيء ليملك على إسرائيل؛ بل على كل الأمم ومن بينها إسرائيل، كل مَنْ آمن به. وقد جاء لا لكي يبيد أعداء اليهود من الأمم بل أعداء الإنسان، وهي الخطية والموت، ويزرع الحب في قلب الإنسان.

أما الخطوات التي أكملت في حياة المسيح حقيقة المسيَّا، والتي استعلن بها أنه هو المسيَّا الحقيقي الممسوح من الله، فكانت كالآتي:

1.
مسحة الروح القدس علناً، واستعلان يسوع أنه ابن الله الحبيب:

+ “ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً، وإذ كان يصلي انفتحت السماء
ونزل عليه الروح القدسبهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلاً: أنت
ابني الحبيب بك سُررت” (لو 21: 3و22)

وهكذا اسُتعلنت في مسحة المسيح حقيقته أنه الابن، وحقيقة المحبة التي انسكبت على الإنسان.

2.
يسوع يُدرك أنه قد مُسح بالروح القدس،ويعلن ذلك داخل المجمع تتميماً لنبوة إشعياء النبي:

+ “وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربَّى، ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدُفع إليه سفر إشعياء النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه:
روح الرب عليَّ لأنه
مسحني

لأُبشِّر
المساكين،أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأُنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأُرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة. ثم طوى السفر وسلَّمه إلى الخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول لهم:
إنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم” (لو 16: 4
21)

لقد أيقظت النبوة واقع اللاهوت في قلب المسيح، فتهلَّلت روح المسيح وخفق لها قلبه وارتفع قدر
المساكينعنده إلى قمة الرسالة.

وهكذا من هذين الموقفين: موقف العماد ونزول الروح القدس عليه علناً مع صوت الله من السماء “أنت ابني الحبيب بك سُررت
” وموقف قراءة المسيح في المجمع لنبوة إشعياء التي تتنبَّأ عن كيفية مسح المسيَّا بالروح القدس وإعداده لعمل البشارة وتحرير الإنسان من عبودية الخطية والموت وإعلان المسيح أن هذه النبوة إنما تحققت فيه هذا اليوم؛ من هذين الموقفين يكون قد استُعلن وتوثق بموافقة المسيح نفسه أن يسوع هو المسيا الموعود، إنما على أساس العهد الجديد: “أُبشِّر المساكين، أشفي المنكسري القلوب، أُعطي البصر للعميان، وأُحرر المنسحقين تحت العبودية، وأكرز بزمان الخلاص”.

يا لفرحتك يا إشعياء هذا اليوم. لقد صَدَقَتْ كل أناشيدك، وارتفع سِفْرك وتبوَّأ مجد افتتاح أول العهد وصار خطاب العرش.

وطبعاً من نبوة إشعياء بالكرازة لمساكين الأرض؛ ومن تقرير المسيح عن نفسه كطبيب للعُمي ومنكسري القلوب وسجناء الإثم، لا تكون هذه المسحة مسحة مسيَّا اليهود حسب رجائهم وانتظارهم أن يأتي ملكاً بسيف ورمح ويؤسس مملكة لإسرائيل على أنقاض ممالك الأمم وأشلاء قياصرة الرومان.

وهكذا وقفت أمام المسيح الصعوبة البالغة: كيف يصرِّح أنه هو المسيَّا
بحسب الله وبنص روح التوراة
الآتي ليفتتح العهد الجديد بالروح، للحب والسلام للأعداء؟ أليس هذا معناه أنه ليس مسيَّا اليهود ولا يمتُّ لرجائهم بصلة؟ وبالتالي أدرك أنه سيُواجَه بالرفض الكامل وبلا هوادة.

لذلك فالمسيح مع كونه يعلم تماماً أنه مسيَّا الله والآتي لخلاص إسرائيل والعالم، نجده يتحاشى بكل حذر وانتباه أن يعلن، لا من قريب ولا من بعيد، أنه
“المسيَّا”؛بل حينما كان ينتبه تلاميذه إلى حقيقة أنه فعلاً المسيا، كان ينتهرهم ويوصيهم أن لا يقولوا لأحد. وأوضح موقف لذلك حينما سأل المسيح تلاميذه عن ماذا يقول الناس عنه، مَنْ هو، فقالوا: “يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون واحدٌ من الأنبياء. فقال لهم: وأنتم مَنْ تقولون إني أنا، فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح. فانتهرهم كي لا يقولوا لأحدٍ عنه

” (مر 28: 8
30). ومعنى هذا أنه وافق على هذا الإعلان واعتبره أنه من الله الآب (مت 17: 16). ولكن في الحال أراد أن يمسح من ذهنهم أي تصوُّر ماسيَّاني عن المسيح مما ينتظره اليهود، فاستبدل لقب المسيح بلقب “ابن الإنسان”، وأمعن في إعطاء صورة عن نفسه تختلف كل الاختلاف عن صورة مسيَّا اليهود: “وابتدأ يعلِّمهم أن
ابن الإنسانينبغي أن يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم

” (مر 31: 8). فكيف يُجنُّ اليهود بعد ذلك ويؤمنون به أنه المسيَّا؟

3. لكن، ولعل أصعب موقف وقفه المسيح من جهة الإعلان عن نفسه إن كان هو المسيَّا أم لا كان مع رؤساء الكهنة هكذا:

+ “فقام رئيس الكهنة في الوسط وسأل يسوع قائلاً: أما تجيب بشيء، ماذا يشهد به هؤلاء عليك. أما هو فكان ساكتاً ولم يجب بشيء. فسأله رئيس الكهنة أيضاً وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك” (مر 60: 14و61)

وكان هذا السؤال لئيماً دبَّره رئيس الكهنة، بحيث لو قال “نعم” يأخذها عليه أنه المسيَّا بحسب انتظار اليهود، أي أنه ملك وقد جاء ليؤسس مملكة داود ليخلِّص إسرائيل من نير الرومان، أو بصريح العبارة وبالمفهوم السياسي أنه ثائر على الاحتلال الروماني ومزمع أن يقود ثورة ضد الحكم الروماني وضد قيصر، وهذا يكفي للقبض عليه ومحاكمته أمام الرومان وبالتالي التخلص منه، وهذا مخطط نجحوا فيه أخيراً باستخدام شهود كذبة وتلفيق وادِّعاء. أما إذا أجاب بالنفي أي أنه ليس المسيَّا، يكون أمام الشعب كمدَّعٍ ومحتال ويكفي إذاعة ذلك من المشيخة لينفضَّ عنه الشعب وتصير محاكمته أيضاً.

لذلك كان سؤال رئيس الكهنة مبيَّتاً على أساس التخلُّص منه بنعم أو لا مهما كان.

والآن نأتي إلى إجابة المسيح، فنحن نعلم أنه يستحيل أن ينفي أنه المسيح الحقيقي، كما لا يمكن أن يوافق على أنه مسيَّا اليهود حسب انتظارهم كملك أرضي! لذلك فالذي ننتظره من إجابة المسيح أن تجيء حتماً لا ب“نعم” ولا ب“لا”!! ولكن تأتي بمفهوم صادق وحقيقي أنه مسيح الله الحقيقي وليس مسيَّا اليهود. لهذا، فلنبدأ دراسة إجابة المسيح:


أ. الإجابة بحسب إنجيل القديس مرقس:

وذلك أمام رئيس الكهنة في وسط السنهدريم:

+ “فقال يسوع: أنا هو
™gè e„mi
” (مر 62: 14)

وهذا يعني بحسب اللغة اليونانية:
نعم،ولكن الأناجيل الأخرى لا تُظهر الإجابة هكذا.


ب. الإجابة بحسب إنجيل القديس متى:

(64: 26)

+ “قال له يسوع: أنت قلت
sÝ epaj

وهذا الرد بحسب اللغة اليونانية يفيد أيضاً نعم.

ولكن اللغة اليونانية أخذتها من اللغة الأرامية، ولكن ليس بدقة لأنها في الأرامية تأتي هكذا:
“أنت الذي قلت هذا وليس أنا”.وهذه لا تفيد قط الموافقة بنعم؛ بل وتعطي معنىً مغطَّى بالنفي!! وواضح أن المسيح يتحاشى الإجابة بنعم أو بلا، فهو لا ينفي ولا يوافق على سؤال رئيس الكهنة “أأنت المسيح

” وهذا ما كنَّا نتوقعه تماماً، لأن في صميم قلب المسيح هي “نعم” مائة بالمائة، وذلك حسب مسحة الله لإرسالية العهد الجديد للخلاص. ولكنها أيضاً “لا” مائة بالمائة بحسب ما يضمر رئيس الكهنة في قلبه من مفهوم كلمة “المسيَّا” كملك محارب.

وهذا ما فهمه آباء الكنيسة الأوائل، فأوريجانوس في شرحه على إنجيل متى
(


*)


، يكتب بكل وضوح أن رد المسيح على رئيس الكهنة كان لا بالإيجاب ولا بالنفي! ونعت هذا الرد بأنه مراوغ.

ثم في إنجيل القديس متى، استطرد المسيح إجابته بجملة تستبعد جداً فكرة أنه هو المسيَّا بحسب انتظار اليهود، أي ملكٌ محاربٌ يعيد مملكة داود ويُخضع الأمم. وفي نفس الوقت تأتي هذه الجملة أو المعلومة لتؤكِّد رسالة مسيح العهد الجديد الذي جاء ليموت عن الخطايا، ويقوم ليُعطي الحياة، ويرتفع إلى السماء ليجلس عن يمين الله، ويملك ملكه الأبدي على العالم.

+ “وأيضاً أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء” (مت 64: 26)

وقد جاءت كلمة
“أيضاً”في الترجمة العربية غير دقيقة، وصحتها و
“لكن”

pl”n
. وكلمة “لكن” هنا في غاية الأهمية، لأنها تأتي لتشرح حقيقة أخرى لنفي قولٍ سابقٍ بحسب ظن رئيس الكهنة: “أنت قلت هذا،
ولكنمن الآن تبصرون ابن الإنسان..”

ومفهوم الحديث معاً يكون بحسب القديس متى هكذا: “أنت قلت هذا وأنا لا أُجاوب على هذا السؤال، ولكني أقول لكم حقيقة أخرى..” وهنا يأتي المسيح بحقيقة “ابن الإنسان” وما سيؤول إليه وهو اللقب المختار عند المسيح ليغطي به لقبه الإلهي “المسيح”. والمسيح أتى بلقب ابن الإنسان هنا ليعطي استكمالاً لرسالته الخاصة التي ستنتهي على أيديهم بالقتل. علماً بأن تكميل رسالته في السماء بجلوسه عن يمين الآب، ومجيئه الثاني آتياً على سحاب السماء لا تمت لمسيَّا اليهود حسب انتظارهم بصلة. فكأن المسيح يقول لهم: “إنكم لم تفهموا رسالة المسيَّا الحقيقي لذلك ستقتلونه بأيديكم، ولكن بقتلكم لي ستكمِّلون رغماً عنكم رسالتي التي ستكمل في السماء كملك سمائي حقيقي سوف يأتي على السحاب كما أخبركم دانيال في رؤياه”.


ج. الإجابة بحسب إنجيل القديس لوقا:

(67: 22
70)

+ “فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدِّقون وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني، منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أفأنت ابن الله، فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو


الجزء الأول من الإجابة:


“إن قلت لكم لا تصدقون”،

لقد قال المسيح قولته لهم وللشعب مئات المرات في الشارع والمجمع والهيكل. فالمسيح عمل “أعمالاً لم يعملها أحد غيره” حسب تعبيره، وقال عن نفسه إنه ابن الله بوضوح: “فالذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدِّف لأني قلت إني ابن الله
” (يو 36: 10). ثم لماذا القول بعد وقد أظهروا نيَّاتهم عدة مرات أنهم يضمرون له الرفض والعداء، وقد أحكموا الخطة لقتله. فمهما قال لن يصدقوا لسبب واحد أعلنه هو سابقاً: “أنكم لستم من خرافي
” (يو 26: 10).
ثم كيف يؤمنون بأنه المسيح وقد قالوا عنه: “هذا لا يُخرج الشياطين إلاَّ ببعلزبول رئيس الشياطين
” (مت 24: 12). ومعروف يقيناً أن لا أحد يستطيع أن يقول إن المسيح رب إلاَّ بالروح. إذاً فعدم تصديقهم لقوله مضمون لأن الروح غائب عن تفكيرهم، وعسير أن يأتي أحد إلى المسيح إن لم يجتذبه الآب أولاً. واليهود وخاصة الرؤساء منهم أغضبوا الله بأقوالهم وأعمالهم.


الجزء الثاني من الإجابة:

من عادة المسيح أنه إذا سُئل سؤالاً ما، إما لا يجيب أو إذا أجاب يجيب بسؤال آخر مختلف تماماً، وذلك علامة واضحة على رفضه للسؤال، وذلك واضح عندما سألوه عن السلطان الذي يعمل به الآيات والمعجزات، فلم يجبهم إلاَّ بسؤال يستفاد منه أنهم مخالفون لله وغير جديرين بأن يسألوه عن سلطانه إن كانوا قد احتقروا سلطان الله.

“وأنا أيضاً أسألكم.. معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس
” (مر 29: 11و30)، فحيَّرهم سؤاله جداً إذ أوقفهم أمام أنفسهم كمخالفين لعمل الله: “ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء يقول فلماذا لم تؤمنوا به، وإن قلنا من الناس فخافوا الشعب، لأن يوحنا كان عند الجميع أنه بالحقيقة نبي” (مر 31: 11و32)

وهنا أيضاً إن قال المسيح لهم إنه المسيَّا الآتي من عند الله لا يصدقون، وإن سألهم عن الآيات والمعجزات التي عملها أمامهم علناً لا يجيبون. وهكذا بإجابة المسيح بهذا الرد بشطريه يثبت ضمناً أنه هو المسيَّا حقاً، كما يثبت أن رجال هذا السنهدريم برؤساء كهنته منافقون وقتَّالون، وأن وراء سؤالهم
فخاً منصوباًللإساءة إليه.

وهكذا استطاع المسيح أن يكون شاهداً أميناً لنفسه دون أن يعطيهم الفرصة أن يمسكوا عليه إجابة يستخدمونها ضده! وهذه حكمة يسوع في أشق الظروف. وقد نجح المسيح في أن يستبدل لقب المسيح بلقب “ابن الإنسان”، لأن لقب المسيح على الأرض قد انتهى على أيدي هؤلاء السفاحين، إذ يقول: “ومن الآن
” أي من وقت الصلب وما بعده يصبح المسيح هو “ابن الإنسان” الذي ارتفع ودخل إلى مجده وجلس عن يمين الآب.

+ “كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقرَّبوه قدامه فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض” (دا 13: 7و14)

وفي قول المسيح إنه “ابن الإنسان” “منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله
” يدحض نهائياً صورة مسيَّا اليهود الذي يطلبونه ملكاً على الأرض ليجدد مملكة داود ويهزم أعداء إسرائيل. وبهذا القول يقطع عليهم خط الرجعة أنه ليس ثائراً على الرومان ولا طامحاً في ملك أرضي لأن ملكوته ما لن يزول.

4.
أما الموقف الآخر فهو الذي وقفه المسيح أمام بيلاطس ليرد على سؤاله: هل أنت ملك اليهود؟

ومعروف أن المسيَّا الآتي عند اليهود هو ملك بالضرورة، وعلى مستوى إخضاع الشعوب والأمم لسلطان إسرائيل، وبالتالي يكون حتماً عدواً لقيصر.

ولقد سلَّم رؤساء الكهنة المسيح لبيلاطس البنطي بادِّعاء أنه جعل نفسه ملكاً مقاوماً لقيصر، ويقول عن نفسه إنه ابن الله!

+ “فسأله بيلاطس أنت ملك اليهود؟

فأجاب وقال: أنت تقول” (مر 2: 15)

وعلى هذا السؤال كانت تتوقف المحاكمة كلها، لأن ترجمة السؤال هي هل أنت عدو لقيصر؟ ولكن لأن بيلاطس لم يجب بشيء على قول المسيح: “أنت تقول
” يفهم من ذلك قطعاً أن بيلاطس فهم تماماً قصد المسيح: أي أن المسيح لم يقل هذا ولا هو هكذا بمفهوم الملوكية عند بيلاطس. ويقيناً لو فهم بيلاطس أن المسيح يوافق على هذا الاتهام لكانت إجراءات المحاكمة قد أخذت قمة عنفها.

وفي إنجيل القديس لوقا هناك ما يوضح أن بيلاطس فهم من رد المسيح أن اليهود هم أصحاب اتهام كاذب، لأنه خرج للشعب بعد جواب المسيح مباشرة قائلاً:
“إني لا أجد علَّة في هذا الإنسان” (لو 4: 23). وعجيب حقاً أن تكون نظرة بيلاطس صافية نقية في تقديره لشخصية المسيح وهذه شهادة لا يُستهان بها.

ولكن عاد المسيح في إنجيل القديس يوحنا ليوضح لبيلاطس أنه وإن كان ليس ملكاً أرضياً لليهود، إلاَّ أنه ملك: “مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أُسلَّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا!
” وهكذا كان المسيح أميناً على الشهادة لملكوته السماوي: “لهذا قد وُلدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق” (يو 36: 18و37)

ومرة أخرى يفهم بيلاطس ما لم يفهمه اليهود ورؤساء الكهنة أن المسيح هو أعظم من افتراءات اليهود، وأنه يتكلم بالحق: “لهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق
” (يو 37: 18)، فخرج أيضاً للشعب بعد جواب المسيح مباشرة قائلاً:
“أنا لست أجد فيه علَّة واحدة” (يو 38: 18)، مما يفهم منه أنه صدَّق قول المسيح. فشهادة بيلاطس لثلاث مرات أنه لم يجد في المسيح علَّة واحدة للموت لا تنفي فقط كل ادِّعاءات اليهود بأنه ملك على مستوى السياسة والثورة والحرب وادِّعاء بنويته لله؛ بل تؤكِّد أن بيلاطس فهم عكس ما فهمه اليهود عن المسيح، ويكفي أن يقرر قاضي أعلى محكمة في العالم آنئذ (أي محكمة القانون الروماني): أن المسيح ليس فيه علَّة واحدة. هذا يجعل صدق المسيح في رسالته كمسيَّا وكإبن الله على مستوى الشهادة من محكمة دولية، أنه بالحق يتكلم وبالحق يعمل.

5.
سؤال المسيح الاستنكاري بخصوص تعليم الكتبة: أن المسيح هو ابن داود:

+ “ثم أجاب يسوع وقال وهو يعلِّم في الهيكل: كيف يقول الكتبة إن المسيح ابن داود؟ لأن داود نفسه قال بالروح القدس: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فداود نفسه يدعوه ربًّا، فمن أين هو ابنه؟
” (مر 35: 12
37)

هذا السؤال بالرغم من أنه حيَّر جميع الشرَّاح، قدامى ومحدثين، إلاَّ أن معناه واضح غاية الوضوح، فالمسيح ينعي على الكتبة أنهم اكتفوا بوصف المسيح بالأوصاف الأرضية مما فوَّت عليهم التعرف على شخصية المسيح الحقيقية الكاملة كإبن الله وكربٍّ حقيقي. فالمسيح يوضح هنا أنه ليس فقط ابن داود، وذلك لأن داود نفسه يدعوه ربًّا، أي أنه أيضاً رب داود. وهذا تأكيد على نسبه البشري من إبراهيم وإسحق ويعقوب وداود حسب الوعد، مع تأكيد على ربوبيته بآن واحد وبصورة حاسمة وقاطعة. الأمر الذي أوضحه بولس الرسول في مطلع رسالة رومية هكذا: “الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة، عن ابنه الذي
صار من نسل داودمن جهة الجسد
وتعيَّن ابن اللهبقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات، يسوع المسيح ربنا” (رو 2: 1
4)

إذاً، فالمسيح هنا يلقي هذا السؤال الاستنكاري على الكتبة ليصحح فهمهم للمسيح بحسب نبوة داود أنه وإن كان هو ابناً لداود، فهو ربٌّ وعلى مستوى الرب، أي الله “قال الرب لربي
” والمساواة أكَّدها المزمور بالنبوَّة بقوله: “اجلس عن يميني
” فهنا المساواة محققة مع ملوكية إلهية سماوية.

وليلاحظ القارئ أن المسيح، وهو ينقد تعاليم الكتبة، يوضح ضمناً من تعاليمهم أن
“المسيح”هو ابن داود، ولكن يعود المسيح نفسه ويحقق أن المسيح هو رب مطبِّقاً قول الكتبة على قول الروح في المزمور، وهذا يعتبر أقوى تصريح قاله المسيح عن نفسه أنه المسيح ابن داود، وأنه رب داود بآن واحد، أي بمفهومنا: ابن للإنسان، وهو ابن لله!!

ولكن المسيح يسأل هنا سؤالاً خطيراً حقاً: “فداود نفسه يدعوه ربًّا،
فمن أين هو ابنه؟

” (مر 37: 12). هنا لا يصعب علينا أن نلمح في قول المسيح إشارة سرية خفية إلى ميلاده العذري من الروح القدس ومن مريم العذراء، فهي من نسل داود حقاً، ولكن ابنها يسوع جاء مولوداً من الله من الروح القدس. وهنا نشير إلى مفهوم ضمني يوضح ذلك في إنجيل القديس يوحنا عن أبناء الله أو ابن الله في الحقيقة: “الذين وُلدوا،
ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل،بل من الله” (يو 13: 1)

هذا يصوِّر في الحقيقة الميلاد العذري للمسيح من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم التي من نسل داود. فحضور الله في ميلاد المسيح باعتباره ابن الله أصلاً وأساساً ينفي قطعاً دخول مشيئة رجل أو مشيئة جسد في ميلاد المسيح؛ بل مشيئة الله ومشيئة الروح القدس. هذا هو الميلاد من الله، لأن المسيح هو نسل
امرأةوليس نسل
رجل!!حسب الوعد الأول لحواء والكلام للحيَّة: “وأضع عداوة بينكِ وبين المرأة وبين نسلكِ ونسلها، هو يسحق رأسكِ (رأس الحية)، وأنتِ تسحقين عَقِبَه

” (تك 15: 3). وهنا لم يذكر الله شيئاً قط عن تدخل آدم أو نسل آدم. فعلى نسل حواء عُقد لواء سَحْق رأس
الحيَّةأي الشيطان، ولكن بعد أن يسحق الشيطان عَقِبَ هذا النسل أي جسده. فسحق الرأس للحيَّة هو موت الإبادة، ولكن سحق العقب لا يفيد إلاَّ موتاً يعقبه قيامة!

فالميلاد العذري من عذراء من نسل داود، يحفظ للمسيح لقب ابن داود حسب الجسد. ولكن كون المسيح
“ربًّا”،فهذا يحقق بكل تأكيد أنه مولود من الله أي من الروح القدس وهو الشق الإلهي من الميلاد العذري.

وشدة تأكيد الروح القدس في الإنجيل عند كل الكارزين أن المسيح هو رب، ثم التكرار بلا هوادة أنه جلس عن يمين الله تأكيداً لربوبيته، ينبِّه ذهن المؤمن أن ربوبية المسيح وجلوسه عن يمين الآب هي أخص خصائص المسيح من جهة طبيعته، وبالتالي ميلاده:


(رو 34: 8):

“مَن هو الذي يدين، المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً،
الذي هو أيضاً عن يمين الله

 


(1كو 25: 15):

“لأنه يجب
أن يملك(عن يمين الله جالساً) حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه

 


(كو1: 3):

“فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق
حيث المسيح جالس عن يمين الله

 


(أف 19: 1و20):

“حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات
وأجلسه عن يمينه في السماويات

 


(عب 3: 1):

“الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا
جلس في يمين العظمة في الأعالي

 


(عب 1: 8):

“وأما رأس الكلام فهو أن لنا رئيس كهنة مثل هذا
قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات

 


(عب 12: 10):

“وأما هذا فبعد ما قدَّم عن الخطايا ذبيحة واحدة،
جلس إلى الأبد عن يمين الله

 


(1بط 22: 3):


الذي هو في يمين الله،إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مُخضعة له


(أع 34: 2):

“لأن داود لم يصعد إلى السموات وهو نفسه يقول:
قال الرب لربي اجلس عن يميني


(أع 31: 5):


هذا رفَّعه الله بيمينهرئيساً ومخلِّصاً ليُعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا


(أع 55: 7):

“وأما هو (إستفانوس) فشَخَصَ إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس، فرأى مجد الله،
ويسوع قائماً عن يمين الله


(رؤ 21: 3):

“مَنْ يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضاً
وجلست مع أبي في عرشه


(مت 44: 22):


قال الرب لربي: اجلس عن يمينيحتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك


(مت 64: 26):

“قال له يسوع: أنت قلت، وأيضاً أقول لكم
من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة


(مر 36: 12):

“لأن داود نفسه قال بالروح القدس:
قال الرب لربي اجلس عن يميني


(مر 62: 14):

“فقال يسوع: أنا هو،
وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة


(مر 19: 16):

“ثم إن الرب بعد ما كلَّمهم،
ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله


(لو 42: 20):

“وداود نفسه يقول في كتاب المزامير:
قال الرب لربي اجلس عن يميني


(لو 69: 22):

“منذ الآن
يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله

 

هذا الاعتراف المتواصل بجلوس المسيح عن يمين الله، يبرهن بالروح أن
يسوع هو المسيح وهو رب!!

ولكن الإيمان المسيحي بحسب الكتاب لا يذكر المزمور كأنه المرجع الوحيد، ولكن بالإلهام وبالروح القدس تخطَّى الرسل مزمور العهد القديم كمرجع، وارتفعوا بالرؤيا ليروا حقيقة المسيح في السماء وعن يمين الله، لا كأنه غالب أعداء إسرائيل كما يقول المزمور، ولكن غالبٌ أعداء الإنسان وأعداء الخلاص، كما يضعها بطرس الرسول باعتبارها حقيقة الإيمان المسيحي المستعلن هكذا: “الذي هو في يمين الله، إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مُخضعة له
” (1بط 22: 3)؛ حيث الملائكة هنا هم الملائكة الأشرار أعوان الشيطان، والسلاطين هي قوات العدو.

إذاً، المزمور جاء كنبوة عن المسيَّا القادم بحسب رؤية داود؛ أما الواقع في الإيمان المسيحي فهو عن المسيح الذي صعد بالفعل إلى السماء بقوة الله، وجلس بالفعل عن يمين الله، وسيظل جالساً حتى يكمل خضوع كافة أعداء الخلاص للإنسان، حيث آخر عدو يبطل هو الموت.

وبولس الرسول يصف الرب يسوع المسيح وهو في السماء في واقع مجده وسلطانه حيث ليس الأعداء فقط يخضعون له صاغرين؛
بل تعبده كل ركبة قديسة في السماء والأرض: “لذلك رفَّعه

الله
أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم (تُقرأ صحيحاً هكذا: وأعطاه الاسم
tÕ Ônoma
الذي هو فوق كل اسم “أي رب”)، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممَّن في السماء ومَنْ على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (في 9: 2
11)


لقب “المسيح”: عبوره من اللقب إلى “الاسم”:

كان لقب “المسيح” المسيَّا أيام المسيح لا يُقال من الرسل إلاَّ باحتياط شديد. ولكن بعد أن قام الرب وتأكد أنه هو المسيح وابن الله، انطلقت الكنيسة الأولى تنادي بهذا اللقب دون حذر بعد، حتى صار لقب المسيح هو التعبير الطاغي عن شخصية يسوع، فلم يعُدْ يُذكر اسم يسوع إلاَّ ملتحماً بالمسيح تعبيراً عن الإيمان بحقيقة المسيح ومعياراً للعبادة باسمه، فصار يُقال علناً وبقوة أن يسوع هو المسيح، ثم زاد التركيز على لقب “المسيح” حتى صار يُقال دون الاسم الأول يسوع، فصار اسم يسوع المتداول هو “المسيح”. بل وتمادى القديس بولس في التعبير عن أهمية “المسيح” كلقب فوق الاسم يسوع، فصار يقول “المسيح يسوع” مقدِّماً اسم المسيح على اسم يسوع. كل ذلك لأن الإيمان “بالمسيح” أخذ اعتباره النهائي من جهة الفداء والخلاص وحقيقة بنوته لله.

وبوصول لقب “المسيح” إلى مستوى الاسم الثابت والمحقق بالإيمان، صارت فكرة المسيَّا وأوصافه الأرضية والزمانية والسياسية عند اليهود تتراجع وتتلاشى من فكر الكنيسة نهائياً ليصبح المسيح اسماً يدل على المحبة والسلام مربوطاً بالغفران والمصالحة والتبني لله.

والملاحظة الهامة جداً في ألقاب المسيح أنه سقط منها “ابن داود” بعد أن ذاع في الكنيسة استعلان حقيقة ميلاد المسيح من العذراء القديسة مريم، إذ اهتزت بشدة كل النبوات عن تسلسل ملوكية داود باعتبار أن المسيَّا هو الحامل لنسله، وبالتالي لميراث وعود الله بدوام مملكته. فصار ميلاد المسيح من الروح القدس وحقيقة بنوته لله عاملاً جذرياً في نقل مفهوم الملوكية والمملكة من الانتساب لداود والأرض إلى ملكوت الله والمسيح في السماء. خصوصاً وأن المسيح نفسه قلَّل جداً من أهمية انتساب بنوة المسيَّا لداود النبي التي كان يهلل لها الكتبة والفريسيون إمعاناً منهم في إعطاء المسيَّا صورة التبعية لإسرائيل كنوع من العنصرية للتعالي والتجبُّر. وذلك واضح منذ أن ألقى سؤاله الاستنكاري “فداود نفسه يدعوه ربًّا، فمن أين هو ابنه” (مت 37: 12)

وكان قصد المسيح الأساسي رفع أنظار تلاميذه إلى حقيقة بنوَّته الروحية والإلهية لله فوق بنوته الجسدية الممتدة من داود، ولكن ليس من جهة رجل؛ بل ومن الروح القدس ومن عذراء حيث يصبح الجسد أكثر انتساباً لله منه لداود وأكثر قدسية بما لا يُقاس!!

لذلك صار افتخار الكنيسة بقدسية المسيح فوق أعظم افتخار لليهود بمسيَّا السياسة والقوة الحربية. ويُلاحظ أن الكنيسة ربطت ربطاً شديداً محكماً بين لقب المسيح وبنوَّته لله وربوبيته أيضاً منذ أول يوم الخمسين فصاعداً: “فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم
ربًّا ومسيحاً

” (أع 36: 2). لذلك أصبح اسم “المسيح” يدل من تلقاء ذاته على ربوبيته وبنوَّته لله وملكوته السماوي؛ بل والقيامة والحياة الأبدية: “أنا هو القيامة والحياة!!
” (يو 25: 11)

والكنيسة فهمت بصورة سرِّية قوية للغاية بنوع من الاستعلان والاختبار الروحي في علاقتها بالمسيح المُقام الذي لازمهم أربعين يوماً، مدى ارتباط قداسة المسيح وبنوته لله ومجده الفائق في السماء بميلاده البتولي من عذراء قديسة ومن الروح القدس كتقليد مسموع من أصوله الأولى. فالقديس لوقا يكتب، عن دراية وسماع وتأكيد، ظروف ميلاد المسيح بغاية من الدقة والسرِّية التي لا يمكن أن يبوح بها إلاَّ العذراء نفسها، أما القديس متى فقد كتب عن مصدر موثوق منه للغاية إنما باختصار.

لقد تيقَّنت الكنيسة من هذا السر الرهيب، أنه كان يتحتم على المسيح
الذي سيرفع اللعنة عن بني آدم

أن يولد بدون لعنة الخطية والموت.فالمسيح لم يمت كمَنْ وقعت عليه لعنة آدم وحواء؛ بل مات بإرادته وسلطانه وحده: “لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضاً!!

” (يو 18: 10). لقد حمل اللعنة، لعنة الخطية والموت بمنتهى إرادته وإرادة أبيه السماوي: لأنه قد ”
وضَعَعليه إثم جميعنا

” (إش 6: 53)، “الذي
حملهو نفسه خطايانا على الخشبة

” (1بط 24: 2). مرة أخرى فإن المسيح وُلد بلا لعنة الخطية والموت لأنه وُلد من الروح القدس وعذراء قديسة، أي بدون رجل، أي بدون اجتماع رجل بامرأة، وبذلك انكسر حكم اللعنة عن المولود. لأنه معروف أن كل مَنْ وُلد من آدم وحواء وَرَث لعنة آدم وحواء
، لأن اجتماع آدم وحواء كان بعد أن قبلا حكم الموت واللعنة.فالمسيح لم يُولد من رجل وامرأة فلم يرث حكم اللعنة والموت.

كما تحتَّم أن يُولد قدوساً لأنه سيقدِّس الشعب بدم نفسه. لذلك وُلد من الروح القدس والعذراء، كما عاش قدوساً وبلا لوم: “كان بلا خطية، ولم يوجد في فمه غش
” كما أكَّده هو بصورة مؤثرة: “ولأجلهم أُقدِّس أنا ذاتي” (يو 19: 17)

بهذا تجلَّت صورة المسيح في الكنيسة الأولى على حقيقتها الإلهية كقوة مجيدة مؤثرة زادها حضوره فعالية في تقديس المؤمنين باسمه، فأحسَّ المؤمنون بقوة تقديسه لأرواح محبيه فشهدوا له من اليوم الأول: “يسوع الذي من الناصرة
كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة،الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلِّط عليهم إبليس لأن الله كان معه، ونحن شهود بكل ما فعل” (أع 38: 10و39)


(ديسمبر 1993)





(*



) Comm. on Mathew, (
باترولوجيا جريكا: جزء 13، عمود 1757
).

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي