(ج) دعوتان واستجابتان مَثَل الأولاد الذين يلعبون في السوق

31 ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ: فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هذَا الْجِيلِ، وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ 32يُشْبِهُونَ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي السُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. 33لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. 34جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. 35 وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا(لوقا 7: 31-35).

(ورد المثَل أيضاً في متى 11: 16-19).

 

رأينا في مثلي الرقعة والزقاق أن ملكوت الله حياة جديدة، ورأينا في مثل الكاتب المتعلم أن الذي يقوم بالتعليم في الملكوت معلم يقدِّم التعليم الجديد، ويعلن الله من خلاله رسالة حبه لكل الناس بمختلف خلفياتهم، ويتواصل معهم بواسطة هذا المعلم، ويستخدم كل وسيلة لتحريك مشاعرهم وأشواقهم نحوه. وهذا المعلم كارز يدعو الجميع للتوبة بأساليب متنوعة.

 

ويعلِّمنا مَثَل «الأولاد الذين يلعبون في السوق» أن هناك دعوة موجَّهة دائماً لكل الناس من كل نوع وبكل أسلوب، فقد كلَّم الله الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة (عبرانيين 1: 1). كما يعلمنا المثل أن بعض الناس يقبلون التعليم الجديد والبعض الآخر يرفضونه، بغضّ النظر عن أسلوبه. والذين يخافون الله ويقبلون تعليمه الحكيم يدافعون عن هذا التعليم ويبرِّرونه أمام العالم بكلامهم وأفعالهم.

 

وصف المسيح في هذا المثل أولاداً خرجوا ليلعبوا في ساحة القرية الكبرى. وكان القرويون يستخدمون الساحة في الصباح الباكر سوقاً يبيعون فيه ما يستغنون عنه، ويشترون فيه ما يحتاجون إليه. وكانت الساحة تخلو من الباعة والمشترين وقت الظهر تقريباً، فيتجمَّع الأولاد ليلعبوا فيها. ويقول هذا المثل إن الأولاد الذين خرجوا ليلعبوا انقسموا إلى فريقين، ووقفوا صفَّين متقابلين، فاختار أحد الفريقين أن يلعبوا لعبة «وليمة العُرس»، فزمَّروا لزملائهم ليبدأوا اللعبة بالرقص، ولكن الفريق الآخر لم يتجاوب، وقالوا إن مزاجهم ليس مزاج فرح وسعادة، ورفضوا أن يرقصوا.. فقرَّر أفراد الفريق الأول أن يلعبوا لعبة الجنازة وبدأوا ينوحون، ولكن الفريق الآخر عاد ورفض الاشتراك في اللعب بحُجَّة أنهم لا يرغبون في هذه اللعبة أيضاً، ورفضوا أن يبكوا أو أن يلطموا.. ويتَّضح من المثَل أن الفريق الثاني غير متعاون، بل ورافض لكل نداءٍ يُوجَّه إليهم مهما كان موضوعه، ولا يستجيبون لأية دعوة مهما كان نوعها.

 

وقصد المسيح بهذا المثل أن أناس جيله سمعوا دعوةً للتوبة من يوحنا المعمدان تنذرهم وتحذِّرهم، فلم ينتبهوا إليها، ولم يؤمنوا بها، وانتهى الأمر بالمعمدان إلى السجن في قلعة مدينة «مخيروس» ثم قُطعت رأسه (متى 14: 10). وجاءتهم دعوةٌ ثانية من المسيح فيها ترغيب وتشجيع وتشويق، فرفضوها، وانتهى الأمر بالمسيح إلى الصليب، الذي تبعته القيامة فالصعود إلى السماء، ومنها ننتظر عودته ثانيةً. والدعوتان مختلفتان في أسلوبهما، متَّفقتان في موضوعهما. وكان يجب أن أناس جيله يستجيبون لإحدى الوسيلتين الكرازيتين، فيتوبون ويرجعون إلى الله، ولكن كثيرين منهم رفضوا.

 

أولاً – دعوتان

هناك أوجه شبَه كثيرة بين المسيح والمعمدان، منها صلة القرابة الجسدية، فقد قال الملاك جبرائيل للعذراء مريم وهو يبشِّرها بالحبَل بالمسيح: «هُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِراً» (لوقا 1: 36). وقد طلب المسيح من المعمدان أن يعمِّده ليكمل كل بر (متى 3: 13-15). وشهد يوحنا للمسيح أنه المخلِّص الآتي إلى العالم، وأنه «حَمَلُ اللّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29). وقال المعمدان عن المسيح: «وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللّهِ» (يوحنا 1: 34) وقال أيضاً: «يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ، وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ» (يوحنا 3: 30، 31). واشترك المسيح مع المعمدان في تعميد الناس بمعمودية التوبة، ونادى كلاهما بمجيء ملكوت الله (يوحنا 3: 22، 23).

 

وبالرغم من هذا التشابه فإننا نرى بينهما اختلافاً في أسلوب الكرازة، فقد استخدم المعمدان أسلوب التوبيخ والتحذير، وهو ما يسميه المثل «نُحنا لكم». واستخدم المسيح أسلوب التشجيع والتشويق، وهو ما يسميه المثل «زمَّرنا لكم». ونحن نحتاج إلى رسالة التحذير، كما نحتاج إلى رسالة التشويق، لأن بعض الناس يستجيبون للتوبيخ، وبعضهم الآخر يقبلون الكلمة الرقيقة. ويستخدم الله معنا طول الأناة، كما يستخدم التأديب لنتوب ونرجع إليه، ونصبح أبناء الملكوت.

 

1 – دعوة التوبيخ والتحذير:

 

كان يوحنا ناسكاً متقشِّفاً حتى قالوا إنه «لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً» (لوقا 7: 33) وكان يلبس وبر الإبل، ويأكل جراداً وعسلاً برياً (متى 3: 4)، ووصف نفسه بالقول: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ» (يوحنا 1: 23). وكان وعظه تحذيرياً نبَّر فيه على الدينونة قائلاً: «يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ…وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ» (متى 3: 7، 8، 10).. وكان مستمعو يوحنا من العشارين والخطاة، ومن الجنود الذين سألوه: «وَمَاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟» فَأجَابَ: «لاَ تَظْلِمُوا أَحَداً، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ» (لوقا 3: 14). وهذا الوعظ دعوة للتوبة وعمل الصلاح، خوفاً من العقاب الإلهي، وتحذيراً من الدينونة الأخيرة. وقد وصف واعظٌ حكيم يوحنا المعمدان بقوله: «كان يوحنا كئيباً وحقيقياً مثل جنازة، ولا مفرَّ من الاستماع إليه».

 

2 – دعوة التشويق والتشجيع:

 

جاء المسيح يدعو الناس لحياة التوبة المفرحة، «وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللّهِ وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللّهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ» (مرقس 1: 14، 15)، والإنجيل هو الخبر المفرح. والمسيح هو المملوء « نِعْمَةً وَحَقّاً… وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا» (يوحنا 1: 14، 16، 17)، وقد قال عن نفسه: «أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10)، وكان يلبي الدعوات ويشارك في الأفراح، وقد أجرى معجزته الأولى في حفل عرس لتستمر أفراح المدعوّين وسعادة أصحاب العرس (يوحنا 2: 1-11)، وذهب إلى بيت لاوي العشار، وجاء عشارون وخطاةٌ كثيرون واتكأوا ليأكلوا معه ومع تلاميذه (متى 9: 10). وضرب مثل «الابن الضال» ليعلن أنه «هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ» (لوقا 15: 7).

 

وأعلن المسيح ترحيبه بكل من يُقبل إليه حين قرأ في مجمع الناصرة ما تنبأ به النبي إشعياء عنه قبل ميلاده بسبعمئة سنة (61: 1-3) والذي يقول: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ» (لوقا 4: 18). وحقَّق المسيح إعلان محبته بأعمال رحمته، فعندما كان في بيت بطرس في كفرناحوم شفى حماة بطرس من الحمى، وفي المساء «قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ. وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ. فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً» (مرقس 1: 32-34).

 

وقد أحب المسيح الخطاة والزناة واللصوص ورحَّب بهم وأكل معهم، فاتَّهمه شيوخ اليهود بأنه محبٌّ للعشارين والخطاة (متى 11: 19 ولوقا 7: 34)، أما هو فقال: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً» (يوحنا 6: 37)، ورحَّب بالمرأة الخاطئة التي جاءت بقارورة طيب، ووقفت من ورائه عند قدميه وهو متكئ «بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ» (لوقا 7: 38)، «فقال: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً» (لوقا 7: 47). وطلب المسيح من الآب أن يبقى تلاميذه في العالم ليكونوا نوره وملحه، وشبَّههم بمدينة موضوعة على جبل، وسراج موضوع على منارة (متى 5: 13-16)، وصلى من أجلهم: «لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ» (يوحنا 17: 15) فيكونون مثل سفينة وسط الماء، دون أن يدخلها الماء.

 

وقد اتَّبع كثيرون من تلاميذ المسيح طريقته في الوعظ، ومنهم يوسف القبرصي الذي أُطلق عليه لقب «ابن الوعظ» لأنه كان يشجع الناس (أعمال 5: 36).

 

ثانياً – استجابتان

كما تليِّن الشمس الشمع وتيبِّس الطين، يقبل البعض رسالة المسيح شمس البر وتلين قلوبهم لها، بينما تتقسَّى قلوب البعض الآخر وترفض قبولها. ونجد استجابتين مختلفتين للأسلوبين المختلفين للوعظ:

 

1 – الاستجابة الرافضة:

 

رفض أبناء جيل المسيح رسالة اللطف واعتبروها تسيُّباً، كما سبق أن رفضوا رسالة التوبيخ واعتبروها تزمُّتاً. وواضح أن الواعظ لا يقدر أن يجتذب كل الناس، ولا يمكن أن يُرضي كل سامع، وعلى الوعاظ أن يتوقَّعوا الرفض بل والمقاومة من بعض سامعيهم، فقد قال المسيح لتلاميذه: «تُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ» (متى 10: 18 و19).

 

ومع أن بعض الناس يرون في كلمة الله حكمة، ويدركون أن «رَأْسَ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبّ»ِ (مزمور 111: 10)، إلا أن كثيرين يرون فيها جهالة وحماقة. وقد أوضح الوحي هذه الحقيقة المؤسفة بقوله: «لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللّهِ وَحِكْمَةِ اللّهِ. لأَنَّ جَهَالَةَ اللّهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللّهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ!» (1كورنثوس 1: 22-25). وواضحٌ من هذا أن اليهود لم يقتنعوا بتعاليم المسيح السامية ولا بمعجزاته الخارقة، فطلبوا آية جديدة، كأن ينزل من على الصليب، أو أن يردَّ المُلك الأرضي لبني إسرائيل. وطلب اليونانيون براهين منطقية يقبلونها، لا إعلانات إلهية يجب أن يقبلوها، واعتبروا معجزات المسيح خرافات أو أعمال سحر. وفي كل عصر نجد من يطلبون المعجزة، أو يعظمون العقل البشري. غير أن رسل المسيح، ومعهم كل المدعوّين من الله، رأوا في المسيح المصلوب مخلِّصاً وفادياً، فكان الخلاص بالصليب هو حكمة الله السامية حتى لو حسبه بعض الناس جهالة، وكان الفداء بالدم قوة الله المنقذة، حتى لو حسبه بعض الناس ضعفاً.. هكذا ظهر لبعض الناس أن الأبواق ضعيفة أمام أسوار أريحا الشامخة (يشوع 6: 20)، وأن مقلاع داود لا شيء أمام ضخامة جليات الجبار (1صموئيل 17: 45). لكن قوة الله وحكمته جعلت من الأبواق والمقلاع وسائل انتصار مذهلة.

 

وقد ظهر المسيح في الجسد إنساناً بسيطاً، فرفضه اليهود، ولكن «الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟» (لوقا 20: 17، 18)

 

لما أخطأ أبوانا الأوَّلان وأكلا من الشجرة المنهي عنها اكتشفا عريهما واختبئا من الله، ففتَّش عليهما وقدَّم الحل لمشكلتهما بحكمته السامية. فدبَّر أمر فدائهما بذبيحة ستر عريهما بجلدها، وهذا هو لباس البر من عند الله. وهكذا أعلن الله في جنة عدن لأبوينا الأوَّلين طريق الخلاص العظيم، إذ قال للحية التي أغوتهما: «هُوَ (نسل المرأة) يَسْحَقُ رَأْسَكِ (الحية) وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تكوين 3: 15). ولا يوجد إلا نسل امرأة واحد، هو المسيح ابن مريم. ولم يسحق رأس الحية أحدٌ غيره، فهو الوحيد الذي لم يخطئ. وقد سحقت الحيِّة عقبه يوم صليبه، لكنه قام منتصراً غالباً ولكي يغلب.

 

وكان يجب على الرافضين أن يدركوا حكمة الله في الصليب، لأن فيه تتلاقى عدالة الله مع رحمته. فالله غفور رحيم، ولكنه قاضٍ عادل. ولو أنه كان غفوراً فقط ما كان عادلاً. ولو أنه كان عادلاً فقط ما كان غفوراً. لكن في الصليب تلتقي العدالة مع الرحمة، كما قال المرنم: «الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مزمور 85: 10). وأساس هذه الحكمة إلهي، وموضوعها روحي، وهي أقوى من كل حكمة أرضية وأسمى من كل شريعة وضعية، لأنها أبدية تقودنا إلى الله، وما أسعد من يدركها.

 

2 – الاستجابة المنفتحة:

 

ولكننا نشكر الله على الذين قبلوا رسالة التوبة على فم يوحنا المعمدان، ومنهم تلاميذ المعمدان، ومنهم الجنود القساة الذين تابوا بعد أن سمعوه. ونحن نمجد المسيح على كل من فتح قلبه له، ومنهم زكا العشار الذي برهن على صدق توبته فقال المسيح عنه: «الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ابْنُ إِبْرَاهِيمَ» (لوقا 19: 9)، ومنهم المرأة السامرية التي تابت وصارت المبشِّرة بالخلاص لمدينتها (يوحنا 4: 28-30)، ومنهم قائد المئة الروماني الذي قال المسيح عن إيمانه: «لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هذَا» (متى 8: 10). ولا زال الرب يضمّ إلى الكنيسة الذين يخلصون.

 

3 – التائبون يدافعون عن حكمة الله:

 

ختم المسيح مثل «الأولاد الذين يلعبون في السوق» بقوله: «والحكمة تبرَّرت من جميع بنيها» بمعنى أن الذين يقبلون رسالة التوبة هم أبناء الحكمة الذين يدافعون عنها ويبرِّرونها، إذ يستجيبون لصوت العقل والضمير، ويقبلون رسالة الله، سواء كان الوعظ بها توبيخاً وترهيباً أو تشويقاً وترغيباً. وكل مَن يقبل رسالة الله يجب أن يدافع عن الحكمة التي آمن بها ويبرِّرها بالتغيير الذي أحدثته التوبة فيه، وبسلوكه الجديد، كما قال الرسول بولس للكورنثيين: «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ. ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ» (2كورنثوس 3: 2 و3). وهذا يعني أن الناس ستقرأ رسالة المؤمن، أراد أم لم يُرد، شعر أم لم يشعر. فهل ستُقرأ فيك رسالة حب، أم رسالة كراهية.. رسالة خدمة أم رسالة أنانية.. رسالة قداسة أم رسالة نجاسة؟.

 

فيا من قبلتم رسالة المسيح وتبرَّرتم بكفارته، أنتم الذين ستبرِّرون حكمة الله وتدافعون عنها، لأن الحكمة يجب أن تتبرَّر من بنيها لا من الأغراب عنها.. ولن يبرر الملائكة حكمة الله، لأن الذين سقطوا منهم حفظهم الله إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام (يهوذا 6) ويقول الوحي: «حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ الْمَلاَئِكَةَ، بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ» (عبرانيين 2: 16). فلا بد أن يبرِّر حكمة الله الذين استفادوا من هذه الحكمة. وهذه مسؤولية صعبة، غير أنها مسؤولية مفرحة.

 

هل كلَّمك الله بالمحبة، كما قال المسيح «زمرنا لكم»؟ أو هل تعامل معك بالتأديب «نُحنا لكم»؟ أحياناً يغدق لك العطاء لتتوب، وأحياناً يضغط عليك ويحاصرك حتى تسلِّم أمورك له.. وفي الحالتين هو يريدك أن تتمتع بكل بركات غفرانه وفدائه.

 

سؤالان

ما هي الحكمة، وكيف نكون حكماء؟

ماذا نفعل لنبرر الحكمة؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي