ماهية المسيح
(










[1]










)

rlrlr

المسيح لا يُعرف في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد إلاَّ بالنسبة لله. وما صار إليه بالتجسد في علاقته بالإنسان.

والآية الرائدة التي اتخذها كل الآباء القديسين واللاهوتيين عموماً، هي آية سفر العبرانيين التي أوحى بها الله لكاتب
(







[2]







)

سفر العبرانيين ليبتدئ بها سفره الثمين الذي يدور بأكمله حول شخص يسوع المسيح. وقد عرَّفه في هذه الآية تعريفاً في غاية الدقة بالنسبة لله، سواء من جهة طبيعته أو شخصه هكذا:

+ “الله بعد ما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عَمِلَ العالمين، الذي وهو
بهاء مجده ورسم جوهرهوحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم” (عب 1: 1
4)

وهكذا لكي يدخل الوحي إلى التعريف بماهية المسيح، بدأ أولاً بالأنبياء ليتجاوزهم شأناً وزماناً، إذ حصرهم جميعاً في العهد القديم الذي انتهى سنة 400 ق.م، ثم بالنهاية نجده يتجاوز الملائكة أيضاً باعتباره أعظم منهم جميعاً، وهو بحال تجسُّده؛ إذ لما قام من الموت بجسده، وقد ظفر بالشيطان وكل رئاساته، حاز خلاصاً من الخطية والموت لكل بني البشر، وارتفع فوق أعلى السموات باقتدار عظيم:

+ “إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمَّى، ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإياه جعل رأساً فوق كل شيء..” (أف 20: 1
22)

وبهذا الانتصار الفريد فوق الموت كأعظم عدو، والظفر بالشيطان باعتباره مَنْ له سلطان الموت!! وارتفاعه السامق فوق هامات الملائكة كأقدس خلائق الله؛ ورث اسماً أعظم منهم إذ تعيَّن أنه هو ابن الله الذي تجسد! ثم بعد أن ظهر وعُرف واستُعلن وتعيَّن أنه هو هو ابن الله، بدأ الوحي يصف المسيح في علاقته بالله ذاته.


“الذي هو بهاء مجده”:

Öj ín ¢paÚgasma tÁj dÒxhj aÙtoà

وهذا الوصف تُرجم إلى اللغة الإنجليزية بطريقتين:


الأولى:

وهي بحسب النص اليوناني حرفياً:

who being (the)
Radianceof the Glory of God

.


والثانية:

بحسب المعنى المباشر:

He
reflectsthe Glory of God

.

وبهذا نفهم صفة المسيح طبيعياً بالنسبة للآب هكذا: أن المسيح هو
إشعاع يعكس بطبيعته مجد الله.وهذا الوصف قائم أساساً على علاقة طبيعة المسيح بطبيعة الله على أن طبيعة الله هي مجده، ومجده هو نور. وهذا هو ما اصطلح عليه الآباء القديسون الأوائل بمقولة لاهوتية صارت جزءاً لا يتجزأ من إيماننا، أن المسيح هو
“نور من نور”.


فإن كان “الله هو نور لا يُدنى منه”،

فالمسيح كابن الله هو كما قال عن نفسه: “أنا هو نور العالم
” وكما شهد له القديس يوحنا واصفاً طبيعة المسيح: “كان
النور الحقيقيالذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم

” (يو 9: 1). ثم يعود القديس يوحنا ويصفه هكذا: “وهذه هي الدينونة إن
النور قد جاء إلى العالموأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو 19: 3)


“ورسم جوهره”:

carakt¾r tÁj Øpost£sewj aÙtoà

وقد ترجمتها اللغة الإنجليزية بطريقتين:


الأولى:

حرفية:

The
representationof the reality of him

.


والثانية:

بحسب المعنى المباشر:

bears the very
stamp,of his nature

.

وهكذا يمكن ترجمتها إلى اللغة العربية هكذا:

أ. المسيح
هو الممثللشخص الله.

ب. المسيح
حامل لذات الطبيعةأو الصورة لشخص الله.

فإن قال الله في العهد القديم عن شخصه:
“أنا هو الأول والآخر” (إش 6: 44؛ 12: 48)؛ فالمسيح قالها عن شخصه بتأكيد: ”
أنا هو الأول والآخر..الألف والياء، البداية والنهاية

” (رؤ 17: 1و8). بمعنى أن الله في ذاته يحيط بكل شيء ولا يحيط به شيء ولا حتى الفكر، فهكذا هو المسيح بالمثل. وقد أكَّد المسيح مراراً هذه الحقيقة أنه حامل لذات صورة شخص الله:
“الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 9: 14)، ولكي يحسم وحدانية الآب والابن ويحرم أي فكر من أن يفكر في ثنائية الآب والابن، قالها واضحة أشد الوضوح وبتأكيد:
“أنا والآب واحد” (يو 30: 10)؛ بمعنى أن الآب والابن
بالرغم أن الآب هو دائماً آب، والابن هو دائماً ابن في الواقع المطلق
إلا أنهما
ذات واحدة، وكيان واحد،وهذا أوضحه بقوله:
“أنا في الآب، والآب فيَّ.” (يو 10: 14)

وخلاصة هذه المعلومة الإنجيلية القائلة بأن المسيح هو “رسم جوهره
” ومن واقع التعريف والشرح الذي أوضحناه، ندرك ما قاله الآباء القديسون بمقولتهم اللاهوتية التي دخلت في قانون الإيمان القويم:
إن المسيح “إله حق من إله حق”.

فمن جهة طبيعة المسيح بالنسبة لطبيعة الله الآب: هو
“نور من نور”.

ومن جهة شخص المسيح بالنسبة لشخص الله الآب: هو
“إله حق من إله حق”.

ولعل وصف الله لذاته
عندما طلب منه موسى: “فالآن إن كنتُ قد وجدتُ نعمة في عينيك فعلِّمني طريقك
حتى أعرفك..” (خر 13: 33)
يُعتبر أول استعلان لطبيعة الله وشخصه، إذ قال لموسى:

+ “فنزل الرب في السحاب. فوقف (موسى) عنده هناك ونادى باسم الرب. فاجتاز الرب قدامه ونادى: الرب الرب إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء، حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية..” (خر 5: 34
7)

أما
سمو بهاء الله
إشعاع
طبيعةمجده
الذي احتواه المسيح إذ: “فيه يحلُّ كل ملء اللاهوت جسدياً

” (كو 9: 2)، وكذلك
حقيقة رسم جوهر الله
صورة
شخصالله
الذي حمله: “الذي رآني فقد رأى الآب

” (يو 9: 14)؛ فهذه وتلك فوق إدراكنا وأعلى وأعمق من أن يفحصها أحد. ولكن المسيح على مدى ثلاث سنوات ونصف، عمل وعلَّم وأتى من المعجزات والآيات
هذه التي سجَّلتها الأناجيل الأربعة بكل دقة وباستعلان الروح القدس
إن توفرنا على الالتصاق بها بالروح والقلب، نستطيع أن نأخذ منها ما يكفي ليرسِّخ في أعماق روحنا وإيماننا لنشهد ونعترف أن المسيح حقاً هو بهاء مجد الله، أي يمثل لنا حقاً
طبيعة الله،وأنه حامل لجوهر الله أي صورة صادقة لشخص الله.

والمسيح كان يعلن عن
طبيعته وشخصهفي كل ما قال وعلَّم وعمل، وليس فقط بهذه؛ بل وبالأكثر في الصليب والقيامة المجيدة، مستعلناً لنا قوة وعظمة ونعمة الله التي كان يحياها كنموذج حي لله لكي يسلِّمها لنا بالسر. لذلك يتحتم لنا أن نعلن أن كل ماهية المسيح التي استعلنها لنا بالإنجيل، كان يقصد بها قصداً أن يسلمها لنا لنكون فيها شركاء معه
(







[3]







)

، حسب مسرة الله الآب الذي أرسله لهذا عينه. لأنه إن كان قصد الله حينما صوَّر طبيعته وشخصه لموسى، هو أن يستمد موسى من هذه الطبيعة وهذه الصفات التي طرحها كحقيقة حيَّة فعَّالة في فهمه وروحه ووجدانه
يستمد قوة ونعمة وإرشاداً وهداية يعبر بها أهوال غربته التي طالت بطول حياته. فكذلك وبنفس القصد والقوة، طرح الله لنا نفس طبيعته وصفاته، ليس شفاهاً بالكلمة وحسب كما كان لموسى؛ بل استودعها كاملة في شخص ابنه لما تجسَّد،
لكي نستلمها منه بالنعمة وبالسر، نستلمها كاملة أيضاً وغير منقوصةلنعبر بها، ليس على مدى غربتنا على أرض الشقاء فحسب، بل ولتكون هي بعينها سمة حياتنا الجديدة المؤهَّلة للشركة مع الله في ابنه المحبوب لحياة الأبد، في ملء طبيعته وصفاته، كقول بولس الرسول العجيب: “وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله” (أف 19: 3)

ولنا في ذلك شهادة من المسيح تعتبر ذات قوة وذات دفع: “أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به. لا أعود أسميكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سمَّيتكم أحباء
لأني أَعلَمْتُكُم بكل ما سمعته من أبي

” (يو 14: 15و15). ثم أيضاً هذه الشهادة ذات المضمون الإعلاني الفريد الذي بلغنا به ملء الحياة الأبدية بمعرفة
طبيعةالله في المسيح،
وشخصالله في المسيح:

+ “مجِّد ابنك ليمجِّدك ابنك أيضاً، إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليُعطي حياة أبدية لكل مَنْ أعطيته. وهذه هي الحياة الأبدية: أن
يعرفوك أنتالإله الحقيقي وحدك،
ويسوع المسيحالذي أرسلته” (يو 1: 17
3)

وهكذا إذ عرفنا الله والمسيح معرفة الشركة في ذات
الطبيعة والشخص،نلنا ملء الحياة الأبدية. والقديس يوحنا يشهد ويعترف بلساننا:

+ “ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً” (يو 14: 1)،

+ “ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة” (يو 16: 1)،

+ “وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح” (1يو2: 1
4)


(يونيه 1993)





(



[1])

الماهية هي كلمة تعبِّر عن مَنْ هو الشخص من جهة شخصه وطبيعته. على أن الماهية في اللاهوت غير الماهية في الأشياء: الماهية في اللاهوت مستمدة من كلمة “هو”، و“هو” في اللاهوت لا تعبِّر عن الغائب، ولكن تعبِّر عن الكائن بذاته وهو الله. ونجدها بوضوح في قول المسيح: “أنا هو”.


(





[2]





)
وهو بولس الرسول بحسب تقليد الكنيسة الأرثوذكسية.


(





[3]





)
نحن نصير “شركاء المسيح” (عب 14:3)، و”شركاء الطبيعة الإلهية” (2بط 4:1)، ليس بمعنى أن تتغيَّر طبيعتنا إلى طبيعة الله؛ بل بمعنى أنه يحل هو فينا بحسب قوله: “أنتم فيَّ، وأنا فيكم” (يو
20:14
)، فيهبنا شركة في صفاته الخاصة.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي