المعجزة الخامسة عشرة شفاء أعميين

27 وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرَخَانِ وَيَقُولانِ: «ارْحَمْنَا يَا ابْنَ دَاوُدَ». 28 وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الأَعْمَيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هذَا؟» قَالا لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ». 29 حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلاً: «بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا». 30 فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَانْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلاً: «انْظُرَا، لا يَعْلَمْ أَحَدٌ!» 31 وَلكِنَّهُمَا خَرَجَا وَأَشَاعَاهُ فِي تِلْكَ الأَرْضِ كُلِّهَا (متى 9: 27-31).

 

فتح المسيح عيون الأعميَيْن في ذات النهار الذي أقام فيه ابنة يايرس وشفى نازفة الدم، فبعد إقامة الابنة الميتة أخذ المسيح طريقه إلى بيت سمعان بطرس. وفي الطريق ناداه أعميان بأعلى صوت: «ارحمنا يا ابن داود». ولا بد أنهما سمعا أخبار معجزاته في تلك المنطقة وعرفا عن مجيئه القريب، وأنه ابن داود أي المخلِّص. وأدركا سلطانه العظيم على المرض والطبيعة وعلى الأبالسة والموت نفسه، فلا يوجد شيء غير خاضع له، وهو الذي قال: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ» (متى 28: 18). فسلطانه السماوي واضح في مغفرة الخطية، ومنح الحياة الأبدية، واستجابة الصلاة، والشفاعة. وسلطانه على الأرض واضح في الشفاء، والحماية إذ يُرسل ملائكته من السماء ليعتنوا بالمؤمنين فإن «مَلاكُ الرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ وَيُنَجِّيهِمْ» (مزمور 34: 7).

 

كان المسيح متجهاً من بيت يايرس إلى بيت بطرس في كفرناحوم عندما تبعه الأعميان إلى أن دخل البيت، فتقدَّما إليه. وسألهما: «أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟» أجابا: «نعم يا سيد». فلمس أعينهما قائلاً: «ليكن لكما حسب إيمانكما». فانفتحت أعينهما. وطلب منهما ألاّ يرْوِيا الخبر لأحدٍ، لكنهما لم يطيعا أمره، وخرجا من البيت يذيعان الخبر للجميع.

 

أولاً – المحتاجان والمعجزة

1 – أعميان:

يرمز العمى في الكتاب المقدس للخطية التي هي العمى الروحي، لأن الخاطئ لا يرى حالته الشريرة، ولا يرى كفارة المسيح. كما يرمز العمى إلى الجهل، فالجاهل لا يرى الحقائق.

 

وهذان الأعميان بالجسد يرمزان إلى البشرية كلها التي عميت عيونها عن رؤية محبة الله وعن رؤية خطيّتها، التي يصفها سفر التثنية بالقول: «فَتَتَلَمَّسُ فِي الظُّهْرِ كَمَا يَتَلَمَّسُ الأَعْمَى فِي الظَّلامِ، وَلا تَنْجَحُ فِي طُرُقِكَ بَلْ لا تَكُونُ إِلاَّ مَظْلُوماً مَغْصُوباً كُلَّ الأَيَّامِ وَلَيْسَ مُخَلِّصٌ» (تثنية 28: 29) ويصفها إشعياء بالقول: «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لا يَسْمَعَ.. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ابْتَعَدَ الْحَقُّ عَنَّا وَلَمْ يُدْرِكْنَا الْعَدْلُ. نَنْتَظِرُ نُوراً فَإِذَا ظَلامٌ. ضِيَاءً فَنَسِيرُ فِي ظَلامٍ دَامِسٍ. نَتَلَمَّسُ الْحَائِطَ كَعُمْيٍ، وَكَالَّذِي بِلا أَعْيُنٍ نَتَجَسَّسُ. قَدْ عَثَرْنَا فِي الظُّهْرِ كَمَا فِي الْعَتَمَةِ، فِي الضَّبَابِ كَمَوْتَى» (إشعياء 59: 1-10).

 

ويصف الكتاب الخلاص من الخطية باعتبار أنه فتحٌ للعيون كقول إشعياء: «وَيَسْمَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ، وَتَنْظُرُ مِنَ الْقَتَامِ وَالظُّلْمَةِ عُيُونُ الْعُمْيِ وَيَزْدَادُ الْبَائِسُونَ فَرَحاً بِالرَّبِّ، وَيَهْتِفُ مَسَاكِينُ النَّاسِ بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ» (إشعياء 29: 18، 19). وكقول بولس: «لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ. اسْلُكُوا كَأَوْلادِ نُورٍ» (أفسس 5: 8). فيوم الخلاص هو يوم فتح الأذنين لتسمعا صوت المسيح، وفتح العينين لتريا نوره وهو يقول: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلا يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12).

 

2 – جمعَتْهما الحاجة:

جمع الحزن المشترك هذين الرجلين. وكثيراً ما يرسل الرب علينا ضيقات يصعب علينا التعامل معها وحدنا، فنجتمع معاً. فجميل أن يكون هناك توافق مع شريكٍ في الصلاة من أجل طلبةٍ واحدة، حسب قول المسيح: «إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَات» (متى 18: 19). فيتوحّد القلب في رفع الطلبة إلى الله في تجانس وتفاهم، فيجد استجابةً من السماء.

 

3 – بصيرتاهما المفتوحة:

كانت عيونهما عمياء، ولكن بصيرتيهما كانتا مفتوحتين! فقد عرفا في المسيح «ابن داود»المخلِّص الآتي.

 

عندما أجرى المسيح معجزاته قال رجال الدين اليهود عنه إنه برئيس الشياطين يُخرج الشياطين (مرقس 3: 22). ولكن الأعميين ناديا: «ارحمنا يا ابن داود» لأنهما آمنا أنه المُخلِّص المنتظَر غالب الموت. لقد سمعا بمعجزاته، فأدركا أن هذا هو الذي تنبأ عنه إشعياء: «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُّوَةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ» (إشعياء 11: 1، 2) وقول النبي حزقيال: «يَرْعَاهَا عَبْدِي دَاوُدُ.. وَأَنَا الرَّبُّ أَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً، وَعَبْدِي دَاوُدُ رَئِيساً فِي وَسَطِهِمْ»(حزقيال 34: 23، 24). فكانت لهما البصيرة التي لم تكن لرجال الدين!

 

4 – إيمانهما الوثيق:

عندما سألهما المسيح: «أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟» كانت إجابتهما: «نعم يا سيد». والإيمان الذي يتوقع القليل ينال القليل، والذي يتوقع الفشل يفشل. وإيمان هذين الأعميين توقَّع البصر، فناله!

 

الإيمان هو الدلو الذي ندليه في بئر عميقة لنستقي ماء الحياة. وهو الجيب الذي لا يُغْني صاحبه، ولكنه يغتني بالثروة التي تُوضع فيه. فالإيمان مهمٌّ في موضوع ثقته وليس في ذاته، وهو الوسيلة التي نحصل بها على البركة الموهوبة لنا في المسيح. ولكن المسيح هو واهب البركة، وهو مُغني الحياة، وهو مُروي القلب. والإيمان الصحيح يُبنَى على كلمة الله، لا على وعود البشر. وهذا ما فعله الأعميان عندما صدَّقا نبوات العهد القديم عن المسيح، وعرفا أنها تحققت في يسوع الناصري.

 

وكان إيمانهما عاملاً، فَصَلَّيا: «ارحمنا يا ابن داود». وكان إيماناً مثابراً، فبذلا جهداً لأنهما تبعاه واستمرا يسيران حتى وصلا إلى البيت الذي دخله، وهما لا يريان شيئاً في تلك الشوارع الضيقة وفي وسط الزحام. هذا هو الإيمان الذي لا ييأس بل ينتظر: «اِنْتِظَاراً انْتَظَرْتُ الرَّبَّ فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي» (مزمور 40: 1). وكان إيمانهما متعاوناً، فاهتم كل واحدٍ منهما بالآخر، وظلاَّ معاً يدعوان الرب لنوال الرحمة.

 

ولقد أكرم المسيح إيمانهما بأن فتح أعينهما على رؤية وجهه المحب، ويا له من وجه مشرقٍ مشعٍّ بالمحبة والخير والنعمة!

 

5 – عصيانهما المحبّ:

بعد شفاء الأعميين قال المسيح لهما: «أنظرا! لا يعلم أحد». إلا أنهما أشاعا هذا الأمر في المنطقة كلها. وهذا ما نسمّيه بعصيان المحبة، فهما لا يقصدان شراً، ولكن من شدة فرحتهما بالشفاء وحبهما للمسيح لم يستطيعا أن يحتفظا بالسر. ولفرط انبهارهما وانذهالهما مما جرى لهما لم يقدرا أن يسكتا، مع أنهما غالباً كانا يعلمان نصيحة النبي صموئيل: «الاسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ وَالإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكِبَاشِ» (1صموئيل 15: 22).

 

قد يُطرح تساؤل: لماذا أصدر المسيح أمراً بالصمت في هذا الموقف، بينما أمر بالإعلان عن المعجزة في مواقف أخرى؟

 

لقد أمر المسيح تلاميذه بالسكوت عن ذكر موضوع التجلي (متى 17: 9) وأمر الأبرص ألاّ يخبر أحداً بشفائه (مرقس 1: 44) وأمر عائلة يايرس بعدم إذاعة خبر قيامة ابنتهم من الموت (مرقس 5: 19). ولكنه بعكس ذلك أمر اللجئون الذي شُفي أن يعلن خبر شفائه (مرقس 5: 43).

 

والإجابة على هذا التساؤل هي: هناك حرية في عمل روح الله، فالروح القدس ديناميكي وعامل ومتحرّك. وعلى هذا فنحن لا نصبّ عمل روح الله في قالب جامد، ولا نحدّ عمله، ولا نحجّمه، بل نستجيب ونخضع له. فقد يكون السكوت عن الإعلان طاعة، كما قال المسيح في الموعظة على الجبل: «لا تُعْطُوا الْمُقَدَّسَ لِلْكِلابِ، وَلا تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَّزِقَكُمْ» (متى 7: 6). وقد يكون السكوت عن الإعلان عصياناً، فقد قال المسيح: «فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (متى 28: 19، 20).

 

وعلى كل مؤمن أن يكون على اتصالٍ مباشر بالرب ليصغي لتوجيهه خطوة بعد أخرى، كل خطوة حسب ظروفها كما يراها الله نفسه. وهذا الاتصال يجب أن يكون مستمراً لا يتوقف مهما اختلفت المواقف وأبعادها. فكما أن طعام الأمس الجسدي لا يكفي لليوم، هكذا التوجيه الإلهي والإرشاد الروحي بالأمس لا يكفي لليوم. فنحن نحتاج إلى الصلة مع الله في الصلاة وقراءة كلمته وإدراك وجوده الفعلي في حياتنا كل يوم. لقد كان الله يُنزل المن السماوي لبني إسرائيل كل صباح ليأتوا إليه شاكرين كل صباح ليطلبوا عطية محبته. وهذه هي ديناميكية الروح القدس، وطبيعة حركة ملكوت الله الحي الذي يتعامل مع أبناءٍ أحياء.

 

ثانياً – المسيح والمعجزة

1 – اختار المسيح وقت الشفاء ومكانه:

أراد الأعميان أن يكون الشفاء في الطريق، وأن يتم فوراً، فصرخا في الطريق يطلبان الشفاء. لكن المسيح مضى في سيره إلى أن وصل إلى البيت. ولا شك أن توقيت شفاء الأعميين ومكانه هو لمصلحتهما، لأن المسيح أراد أن ينشئ علاقةً شخصية بينهما وبينه، فتركهما يسيران وراءه إلى أن وجدا نفسيهما معه داخل البيت.

 

كثيراً ما يبدو أن الله يتأخر في الاستجابة، ولكنه لا يتأخر، بل يُوجِد الظرف المناسب لينشئ لنا معه العلاقة الأعمق والأقوى، ليمتلئ القلب من نعمة المسيح قبل أن يتمتع الجسد بعطاياه. ولقد أجَّل المسيح الشفاء إلى أن يصل للبيت، ليُجري المعجزة في السر، لا في العَلَن. وهذا ما ندركه من طلب المسيح من الأعميين عدم إذاعة خبر شفائهما.

 

2 – عبَّر المسيح عن حنانه بطريقة تناسب حالتهما:

شفى المسيح كثيرين بكلمة، ولكن مع العميان كان الشفاء بلمسة، لأن الذي لا يرى يشعر باللمسة. هكذا شفى المولود أعمى (يوحنا 9: 6) وهكذا شفى أعمى بيت صيدا (مرقس 8: 23).

 

والله دائماً يكلّمنا بلغةٍ نفهمها، ويتعامل معنا بطريقة تتناسب مع تفكيرنا ومع احتياجنا الذي يحدّده هو بحكمته، آخذاً في الاعتبار حالتنا وحالة المجتمع الذي نعيش فيه.

 

أجرى المسيح هذه المعجزات في القديم، ولا يزال مستعداً أن يجريها اليوم، وهو يريد أن يفتح عينيك لترى محبته، وطريقته لغفران خطاياك، لتنال الخلاص والحياة الأبدية.

 

صلاة

أبانا السماوي، نشكرك لأنك باركت الأعميين وفتحت عيونهما، فكان أول ما رأياه وجه المسيح الجميل.

أشرِقْ علينا بنور وجهك، حتى بنورك نرى نوراً، وافتَحْ عيوننا على المسيح نور العالم. باسم المسيح. آمين.

 

أسئلة

ما معنى لقب «ابن داود» الذي نادى به الأعميان المسيح؟

إلى أي شيء يشير العمى في الكتاب المقدس؟

ما الذي جمع الأعميين معاً؟ وماذا يعلّمنا هذا؟

قدِّم تشبيهين يصفان الإيمان ذكرناهما في شرح هذه المعجزة.

اذكر وصفين لإيمان الأعميين.

ما هي أول مكافأة نالها الأعميان؟

لماذا عصى الأعميان أمر المسيح وأذاعا خبر شفائهما؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي