(ب) الأمانة للرؤساء مثل الوكيل الظالم

وَقَالَ أَيْضاً لِتَلامِيذِهِ: انَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لا تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ، لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ؟ لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هَذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ. اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ، وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟ لا يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلازِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللَّهَ وَالْمَالَ (لوقا 16: 1-13).

في هذا المثل نجد شخصيتين رئيسيتين:

 

الرجل الغني: صاحب الممتلكات الواسعة، الذي ترك قريته إلى المدينة، ووكَّل أمر إدارة أمواله إلى وكيل له، كان يثق فيه. وسمع أن وكيله «يبذِّر أمواله» وهو نفس التعبير الذي وُصف به «الابن الضال» أنه «بذَّر ماله» (لوقا 15: 13). فطلب الغني من وكيله أن يقدم له بياناً بالمبالغ التي يداين بها المزارعين، مصدَّقاً عليه من الوكيل.. فأنقص الوكيل ديون المديونين. ولما عرف الغني أن الوكيل خدعه بهذه الطريقة الذكية مدح الوكيل، لا على أخلاقه، فهو قد خانه فدعاه «وكيل الظلم»، لكنه مدح ذكاءه وحكمته. ونحن أحياناً نمدح ذكاء شحاذٍ خدعنا بقصة كاذبة، ولو أننا ندين خداعه، ونتساءل: لماذا لا يستخدم ذكاءه الذي حبك به قصةً كاذبة ليربح مالاً حلالاً؟

 

الوكيل الظالم: الذي كان يبذِّر المال، فطلب منه الغني أن يسلِّم عهدته. وكان يجب أن يعتذر عن خيانته ويردَّ المسلوب، لكنه لم يفعل لأنه كان يطلب الأفضل لمستقبله المادي مما في العالم من مسكن ومأكل وملبس. وكان واقعياً في تقييم قدراته، فهو يعلم أنه عاجزٌ جسدياً عن أن ينقب، وعاجز اجتماعياً عن أن يستعطي ويتسوَّل. وأعمل فكره في ماذا يعمل بعد أن يُطرد؟ إلى أن وجد الحل الظالم، الذي هداه إليه تفكيره الذكي الشرير، فقرر أن يزوِّر حسابات موكِّله. وكان التزوير سهلاً لأن الأرقام وقتها كانت تُكتب بالحروف الأبجدية، ولم يكن هناك فرق كبير يميِّز الحروف الدالة على العشرات من الحروف الدالة على المئات.. فاستدعى المزارعين وأنقص قيمة ديونهم حتى يكرموه فيما بعد. كان على المديون الأول مئة بث زيت (البث مكيال للسوائل يعادل نحو تسعة جالونات، وهو نتاج 146 شجرة زيتون)، فطلب منه أن يجعلها نصف الكمية. وكان على المديون الثاني مئة كُرّ قمح (الكُر مكيال للسوائل وللحبوب، ويساوي عشرة أبثاث)، فسامحه بخُمس الدين.

 

ونجد في المثل مجموعة المزارعين المديونين، الذين رحَّبوا بتزوير الوكيل: ولعلهم التمسوا العذر لأنفسهم في ذلك بأن حكموا أن الغني ظالم يتقاضى منهم أكثر مما يجب، فاعتبروا تغيير صكوك ديونهم إقراراً للعدالة يرد لهم بعض حقوقهم. ولعلهم شكروا الوكيل الظالم لأنه أنصفهم.

 

ويواجهنا هذا المثل بمشكلة هي أن المسيح يمدح المخادع الغشاش، ويدعو المؤمنين ليقتدوا به ويسيروا في خطوات غشِّه. والحقيقة هي أن المسيح لم يمدح كل تصرفات الوكيل الظالم، بل مدح حكمته فقط. فالمثل يقول: «فمدح السيد وكيل الظلم، لأنه بحكمةٍ صنع» لأن هذا الرجل استعد لما يأتي عليه في المستقبل قبل أن يُطرد من وكالته. لم يمدح المسيح غش الوكيل الظالم ولكنه مدح ذكاءه، لأنه استخدم فرصةً في متناول يده لتفيده في المستقبل الذي يجهله.

 

وتنحلُّ المشكلة لما ندرك أن المثَل عادةً يعلّمنا درساً رئيسياً واحداً، ويعطينا فكرة نحتذيها أو نتَّقيها، كما في مثل القاضي الظالم الذي استجاب لصراخ الأرملة المظلومة حتى لا تقمعه! (لوقا 18: 1-8). وهناك نقطة هامة جداً في تفسير الأمثال، هي أن هناك نقطة تشبيه محددة، لا نخرج عنها إلى التعميم. فمثلاً إن امتدحنا الأسد، لا نمتدح فيه الوحشية والافتراس، إنما القوة والشجاعة. وإذا شبَّهنا إنساناً بالأسد، فلا نقصد أنه حيوان من ذوات الأربع، وإنما نمتدحه على شجاعته وقوته. كذلك في مثل الوكيل الظالم، ينصبّ المديح على نقطة واحدة محددة هي الحكمة في الاستعداد للمستقبل، وليس على كل صفاته الأخرى. فنتعلَّم من مثَل الوكيل الظالم أن ذكاءنا في استخدام ما نملكه اليوم ذو أثرٍ عظيم على حالتنا المستقبلَة، وأن طريقة تصرُّفنا في ما نملكه الآن يعيِّن مصيرنا الأبدي. لهذا يجب أن نستعد ليوم الدينونة الذي سيُقال لنا فيه: «اعطِ حساب وكالتك».

 

وبعد أن انتهى المسيح من رواية المثل قدَّم أربعة تعليقات نتعلم منها أربعة دروس:

 

أولاً – أهمية الحكمة

قال المسيح تعليقاً على المثل: «أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم». وأبناء هذا الدهر هم الذين يسايرون العالم الحاضر الشرير الذي يريد الله أن ينقذنا منه (غلاطية 1: 4)، وقد ظهرت نعمته المخلِّصة لجميع الناس لتعلِّمنا أن ننكر الشهوات، ونعيش بالتقوى في هذا العالم الحاضر (تيطس 2: 12). وأبناء هذا الدهر يشبهون ديماس الذي ارتدَّ وترك خدمة الله لأنه أحبَّ العالم الحاضر الذي هو الحياة المناقضة لمبادئ ملكوت الله (2 تيموثاوس 4: 10).

 

أما أبناء النور فهُم الذين سمعوا قول المسيح: «ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور» (يوحنا 12: 36) فخضعوا لهذا الأمر. وهم الذين يسلكون في النور كما أن الله نور، فيطهِّرهم دم المسيح من كل خطية (1يوحنا 1: 7). وقيل لهم: «كنتم قبلاً ظلمة، وأما الآن فنورٌ في الرب. اسلكوا كأولاد نور.. جميعكم أبناء نور وأبناء نهار. لسنا من ليلٍ ولا ظلمة» (أفسس 5: 8، 1تسالونيكي 5: 5).

 

ومع أن كل المؤمنين الحقيقيين هم أبناء الحياة الجديدة، إلا أن كثيرين منهم تعوزهم الحكمة في العمل للأمور الباقية، وتنقصهم الرؤية الواضحة ومعرفة الواجبات المطلوبة منهم. والرب بهذا المثل يبكّتنا بالحكمة التي عند أهل العالم، فإن كان أهل العالم (على الرغم من خطاياهم) لهم مثل هذه الحكمة في الماديات، فإن أبناء الله ينبغي أن يكونوا أكثر حكمةً في الروحيات. لذلك بعد أن مدح المسيح الوكيل الظالم على حكمته، قال مباشرة: «لأن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم».

 

وواضح أن المسيح لا يمدح غشَّ أبناء هذا الدهر واتجاهاتهم الفكرية والأخلاقية، فهُم مخادعون. بل يمدح ذكاءهم المبدع، وحكمتهم في التعامل مع أهل جيلهم، فإنهم يحتاطون لمستقبلهم كما لحاضرهم باستخدام مال الظلم ليقيهم شرَّ الحاجة عندما يفنى مصدر أموالهم أو صحتهم أو مراكزهم. وأبناء هذا الدهر يقِظون، يتَّخذون قراراتهم بسرعة، وينتهزون الفُرص التي تسنح لهم ليكسبوا، ويُحسِنون استخدام ما عندهم وما حولهم من وسائل وأشخاص، ويعرفون كيف يسوِّقون بضاعتهم مع أنها باطلة، ويقدرون أن يخرجوا بسهولة من المآزق، ولا يحسبون وزناً للمخاطر والعوائق في سبيل تحقيق أهدافهم، ويسخِّرون جهدهم وطاقتهم في الوصول إلى ما يريدون.

 

ومع أن أبناء النور أمناء، وقد منحهم الرب فُرصاً كثيرة للشهادة وتخليص الخطاة وبناء الكنائس فكثيراً ما تفلت هذه الفرص من أيديهم، لأنهم يتواكلون على الله، ولا يبذلون الفكر والجهد والوقت والمال الكافي، أو ربما يخشون من فقدان مكانة وظيفية أو مادية إن هم تبعوا المسيح وعملوا للطعام الباقي لا البائد، وإن هم قاموا بواجب الكرازة للآخرين.

 

في هذا المثل يطالبنا المسيح بالنظر إلى حكمة أبناء العالم لنتعلم من حُسن استخدامهم للفرص، فنعمل مادام نهار كما أنه هو يعمل «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أفسس 2: 10). إنها ساعة الآن لنستيقظ من النوم ونعمل مشيئة الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب، ولا نخشى شيئاً، لأن الذي معنا أقوى من العالم وأسلحته، فنكون «هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح» (2كورنثوس 10: 5).

 

يصوِّر أهل هذا الدهر الوهم كأنه حقيقة، ويقدِّم أبناء النور الحقائق وكأنها أوهام! يتحدَّث أهل هذا الدهر عن أمور مادية منظورة بينما يتحدث أبناء النور عن حقائق روحية بإيمان قائم على رجاءٍ غير منظور! ويبذل أهل هذا الدهر غاية جهدهم وشعارهم «من طلب العُلى سهر الليالي» بينما يعتبر أبناء النور الأمور الأبدية مضمونة بالضمان الأبدي، وسينالونها حتى لو تكاسلوا «لأن الله غيور على عمله»! ويثق أبناء هذا الدهر في أسلحتهم الشريرة لأنها تفتك بأعدائهم أمام عيونهم، بينما لا يرى أبناء النور أعداءهم وأسلحتهم الروحية بعيون أجسادهم «فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات» (أفسس 6: 12). يكفي أن تقارن بين مجلة دنيوية ومجلة دينية، أو بين فيلم عالمي وفيلم مسيحي لترى الجهد والإبداع في الإنتاج العالمي الذي يفوق الإنتاج الديني بمراحل!

 

ولكن هل حقاً أبناء هذا الدهر حكماء؟ نعم، ولا! نعم، فهم حكماء في أمور «هذا الدهر» فقط، ولكنهم أغبياء في الأمور الروحية «لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء» (رومية 1: 21، 22). أما أبناء النور فيجب أن يكونوا حكماء كالحيات مع احتفاظهم ببساطة الحمام (متى 10: 16)، ويعدنا الوحي أن من تعوزه حكمة فليطلب من الله، الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعيِّر، فسيُعطى له (يعقوب 1: 5).

 

لنكُن حكماء في أمور ديننا أكثر من حكمة أبناء هذا الدهر في أمور دنياهم.

 

ثانياً – أهمية المال

في تعليق ثانٍ على هذا المثل قال المسيح: «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتى إذا فنيتُم يقبلونكم في المظال الأبدية». وهذا يعني أننا جميعاً وكلاء على ما منحه الله لنا، ولسنا مالكين. لقد أوصانا المسيح أن نستخدم المال لخدمة الملكوت، ولخير مستقبلنا، بأن نصنع لنا أصدقاء به حتى إذا فني، أو انتهت الحياة يكون لنا قبول في البيوت الأبدية.

 

قال بعض المفسرين إن المسيح سمَّى المال «مال الظلم» لأنها التسمية التي كانت تُطلَق على «غِنى العالم المادي» أو على «كنوز الشر (التي) لا تنفع» (أمثال 10: 2). على أن البعض قالوا إن المسيح قصد بالتسمية أن المال كثيراً ما يُجمَع ويُوزَّع بالظلم، وكثيراً ما يُستخدَم في الشر لا الخير، وبه نخطئ إلى الله وإلى أولاد الله. وقد يكون مال ظلم لأنه حُصِّل بطرق لا تحتمل نار الامتحان في اليوم الأخير.. كما أنه يظلم بعض الناس بأن يأسر قلوبهم حتى يعبدوه، فيهلكون. ولو أننا طلبنا من قطعة عملة أن تحكي تاريخ حياتها لسمعنا منها العَجَب! وقال البعض إن المقصود بمال الظلم ليس المال الحرام الذي يقتنيه الإنسان من الظلم أو من أية خطية أخرى، فهذا لا يقبله الله، لأنه يقول: «لا تُدخِل أجرة زانية إلى بيت الرب إلهك» (تثنية 18: 23). فالله لا يقبل عمل الخير، الذي يأتي عن طريق الشر.. بل إن مال الظلم هو العشور التي لا يدفعها صاحبها لعمل الرب، فقد أعطاه مالاً، وأمره أن يدفع عشوره. فإذا لم تدفع العشور تكون قد ظلمت مستحقّيها، وتكون عندك «مال ظلم» إذ يقول الرب: «أيسلب الإنسان الله؟ فإنكم سلبتموني. فقلتم: بِمَ سلبناك؟ في العشور والتقدمة» (ملاخي 3: 8). بل يمكن أن نصف كل مال مكنوز عندنا بلا منفعة، بينما يحتاج إليه الفقراء، أنه «مال ظلم». ولكن عندما ندفع العشور لعمل الرب نعطي ما لله لله، وعندما نسدد ضرائبنا نعطي ما لقيصر لقيصر.

 

فلنكن أسخياء في العالم الحاضر، عملاً بوصية المسيح: «بيعوا ما لكم وأَعطوا صدقة. اعملوا لكم أكياساً لا تفنى وكنزاً لا ينفد في السماوات، حيث لا يقرب سارق ولا يُبلي سوس» (لوقا 12: 33). ولنستخدم كل ما نملك في خدمة ملكوت الله، فقد ائتمن الله المؤمنين على بعض غِنى العالم المادي، ويريدهم أن ينفقوه بسخاء وبأفضل الطرق، ليصنعوا به لهم «أصدقاء»، فإن الذي يعطي يربح الذي أخذ، فيقف الذي أخذ في صفِّ الذي أعطى، ويصبح من «إخوة المسيح الأصاغر».

 

فلنبذل مالنا في سبيل الخير، ولا نعِش للعالم وغِناه، لأن كليهما إلى فناء، ولننتبه إلى أن حياتنا الأرضية لا بد ستنتهي يوماً، كما يمكن أن أموالنا قد تضيع لسبب أو لآخَر. لذلك يجب أن نصنع لنا أصدقاء بمال الظلم فيكون لنا أجرٌ سماوي، ونجد القبول في «المظال الأبدية» أي تكون لنا حياة أبدية في دار الخلود، التي مضى المسيح ليُعدَّ لنا مكاناً فيها (يوحنا 14: 2). وعندما نردد قول الملك حزقيا: «مسكني قد انقلع وانتقل عني كخيمة الراعي» (إشعياء 38: 12) نثق أننا سنصل إلى مكان أفضل. «لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السماوات بناءٌ من الله، بيت غير مصنوع بيد، أبدي» (2كورنثوس 1: 5).

 

هناك عالمٌ بعد هذا العالم هو «العالم الآتي» ننال فيه جزاء ما فعلناه في هذا العالم. وعندما نترك محل إقامتنا المؤقَّت في هذه الأرض، ونترك أصدقاءنا الفانين، تصبح السماء بيتنا الدائم، ولنا فيها أصدقاء باقون من فقراء أنجدناهم، وحزانى عزَّيناهم، وأطفال أسعدناهم، يقبلوننا في المظال الأبدية. هناك «الملك ببهائه تنظر عيناك» (إشعياء 33: 17). ويقول الملك لنا: «تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا المُلك المُعدَّ لكم منذ تأسيس العالم، لأني جعتُ فأطعمتموني.. فيجيبه الأبرار حينئذٍ قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً فأطعمناك؟.. فيجيب الملك: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتُم» (متى 25: 34-40). «لأن الله ليس بظالمٍ حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه، إذ قد خدمتُم القديسين، وتخدمونهم» (عبرانيين 6: 10).

 

ثالثاً – أهمية الأمانة

وأضاف المسيح تعليقاً ثالثاً على المثل، فقال: «الأمين في القليل أمين أيضاً في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضاً في الكثير. فإن لم تكونوا أمناء في مال الظلم، فمن يأتمنكم على الحق؟ وإن لم تكونوا أمناء في ما هو للغير، فمن يعطيكم ما هو لكم؟». وهو درس تناوله المسيح في عدة أمثال، مِنها مَثل العبيد العشرة الذين أعطاهم سيدهم عشرة أَمْناء ليتَّجروا بها، «فإن كل من له (أمانة) يُعطى، ومن ليس له (أمانة) فالذي عنده يُؤخذ منه» (لوقا 19: 17، 18، 26).

 

والأمانة الحقيقية لا تفرِّق بين العمل الصغير والعمل الكبير. بل إن الأمانة في الأمور الصغيرة أعظم منها في الكبيرة، والحاجة إليها أكبر، لأن الناس يهتمون عادة بالأمور العظيمة لأنها ظاهرة للعيون أكثر من اهتمامهم بالأمور الصغيرة التي لا يلتفت إليها كثيرون، فيتصرف الإنسان في الأمور الصغيرة على سجيته، وهذا يُظهِر سلوكه الحقيقي.

 

والأمانة في الأمور الصغيرة تجهِّزنا للقيام بالأمور الكبيرة. لقد ائتمننا الله على الصحة والعائلة والمواهب والوقت والعمل والمال، وهو ينتظر منا أن نستخدم هذه كلها لخدمة المحتاجين، ليحقق مقاصده الإلهية، وفي قمتها أنه يريد الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون (1تيموثاوس 2: 4). وعلى قدر أمانتنا في الأمور الوقتية يأتمننا الله على الأمور الأبدية. وبقدر أمانتنا على الزائل يأتمننا على الباقي.

 

رابعاً – أهمية القلب الموحَّد

وكان التعليق الرابع للمسيح على هذا المثل قوله: «لا يقدر خادمٌ أن يخدم سيدين، لأنه إمّا أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال». وفي هذا العالم نسمع نداء سيدين: الله السيد الحقيقي الرحيم، والمال الذي وهبه الله لنا ليكون خادمنا. وقد نتحول إلى عبيد له ويصير هو السيد. وليس المال بالضرورة ذهباً، لكنه قد يكون النجاح أو الوقت أو الإمكانيات أو السلطة أو العائلة أو الوظيفة.

 

ولا بد أن نخضع لسيد واحد، لأننا لا نقدر أن نخدم سيدين، فلا يقدر أحدٌ أن يخدم الله والمال، لأن الله يطالبنا بالتوزيع «أعطوا تعطوا» (لوقا 6: 38) بينما المال يطالبنا باكتنازه. والله يطالبنا بالتفكير في غيرنا، بينما المال يطالبنا بالتفكير في نفوسنا. فيجب أن نختار لأنفسنا اليوم من نخدم، والحكيم هو الذي يصلي: «علِّمني يا رب طريقك، أسلك في حقك. وحِّد قلبي لخوف اسمك» (مزمور 86: 11).

 

عندما استولت محبة المسيح على قلوب المسيحيين الأوَّلين باعوا كل ما عندهم وتقاسموا ثمنه، فلم يكن أحدٌ بينهم محتاجاً (أعمال 2: 44، 45 و4: 34). ولم تكن تلك المشاركة المالية لمجرد دوافع إنسانية، ولا لتجتذب الفقراء للكنيسة، ولو أنها لا بد فعلت هذا. ولكنها كانت للشركة بين المؤمنين لكي تكون في هذا الوقت فُضالتكم لإعوازهم، كي تصير فُضالتهم لإعوازكم، حتى تحصل المساواة (2كورنثوس 8: 14). فهكذا علَّمتنا نعمة المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره (2كورنثوس 8: 9).

 

«فاصنع لك أصدقاء بمال الظلم». أعطه للمحتاجين إليه، وسدّد به أعوازهم، يصبحوا لك أصدقاء، ويصلّوا من أجلك، ويسمع الله دعاءهم، ويباركك، فتعطي أكثر وأكثر.

 

سؤالان

ما معنى مال الظلم؟

لماذا مدح المسيح الوكيل الظالم؟ وماذا نتعلم من هذا؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي