الفصل الثانى عشر


المسيح هو الله أم هو بشر؟


إ


بن الله أم هو أبن إنسان؟

 

يبدو للبعض من القراءة الظاهرية، السطحية، للإنجيل، العهد الجديد، أن المسيح مجرد بشر مثل سائر البشر، فقد ولد من أم فى مكان محدد وزمان معين وكانت له عشيرة وأهل وأقارب وأصدقاء وأعداء، وكان له ما للإنسان من روح ونفس وجسد، ومكون من لحم ودم وعظام، وكان يجوع ويعطش ويأكل ويشرب يرتوى ويشبع، وكان يكل ويئن ويتعب ويحزن ويكتئب ويبكى ويضطرب، كان يبتهج ويفرح ويسر، وكانت له نهاية حياة اذ مات على الصليب ودفن فى القبر والأرتفاع، وكان كإنسان محدود فى المكان اذ كان ينتقل من مكان إلى آخر، وكان يسافر ساعات وأيام، وكان يبدو محدودأً فى القوة الجسدية ولم يقوى على حمل الصليب بل سقط به على الأرض، كما بدا أنه يجهل بعض الأمور مثل ساعة ويوم القيامة العامة. ويقول عنه الكتاب أنه “كان ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمه وكانت نعمة الله عليه”(1)، “وأما يسوع فكان يتقدم فى الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس”(2).. الخ. فى حين أن الله يسمو على هذه الأمور اذ هو نور ولا يجوز عليه ما يجوز على البشر “الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب الذى وحده له عدم الموت ساكناً فى نور لا يدنى منه الذى لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه الذى له الكرامة والقدرة الأبدية”(3). والله كما قال المسيح نفسه، روح “الله روح”(4) فى حين أن المسيح قال عن نفسه لتلاميذه “جسونى وأنظروا فأن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى”(5). وكان المسيح مجرياً، كما يقول الكتاب، “بل مجرب مثلنا فى كل شىء بلا خطية”(6)، وقد جربه إبليس على الجبل(7). وبالأجمال كان المسيح مساوياً للبشر فى كل شىء ما عدا الخطية، وكان له كل ما للبشر من صفات وخواص، أو كما يقول الكتاب “من ثم كان ينبغى أن يشبه أخوته فى كل شىء”(8). ولكن المسيح، كما بينّا فى الفصول السابقة، هو كلمة الله الذى كان من الأزل بلا بداية مع الله وهو الله، والذى كان منذ الأزل بلا بداية فى شكل وطبيعة وجوهر الله والمساوى لله لأنه منه وفيه “أنا فى الآب والآب فىّ”(9)، أنا أعرفه لأنى منه”(10)، هو صورة الله غير المنظور، الصورة التى تعكس وتظهر الأصل، صورة طبق الأصل، أنعكاس مجد الله، بهاء مجد الله، فهو نور من نور، ورسم جوهره، ختم جوهره، الصورة الفعلية الدقيقة التى تعلن جوهره لأنه من طبيعة الله الآب وجوهره، الواحد مع الآب فى الطبيعة والجوهر، والمساوى للآب فى الطبيعة والجوهر، كلمة الله الذى هو الله، صورة الله مثل صورة الإنسان فى المرآة، الذى هو الله، الله ناطقاً، الله معلناً، الذى به كان شىء “كل شىء به كان وبغيره لم يكن شىء مما كان فيه كانت الحياة”(11)، فإنه فيه خلق الكل.. الكل به وله قد خلق. الذى هو قبل شىء وفيه يقوم الكل”(12)، حامل كل الأشياء بكلمة قدرته”(13)، “الذى من أجله الكل وبه الكل”(14)، فهو خالق الكون وحامله ومدبره ومحوره. وهو الأبدى الذى لا بداية له ولا نهاية. وبالأجمال فهو له كل ما للآب من أسماء وألقاب وصفات؛ فهو بهوه وإيل وإيلوهيم وإله والإله والله “كل ما للآب هو لى”(15)، أنا والآب واحد”(16)، قبل أن يكون إبراهيم أنا أكون (كائن)”(17)، والذى خاطبه تلميذه توما بالروح القدس “ربى وإلهى”(18)، وقال عنه تلميذه بطرس “إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح”(19) وتلميذه يوحنا “هذا هو الإله الحق والحياة والحياة الأبدية”(20)، ورسوله بولس “إلهنا العظيم ومخلصنا يسوع المسيح”(21)، وأشعياء النبى “الإله القدير الآب الأبدى”(22)، وداود النبى “قال الرب لربى”(23)، وميخا النبى “ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل”(24)، وقال هو عن نفسه “أنا الألف والياء البداية والنهاية. الأول والآخر”(25).

والسؤال الآن هو: كيف يكون للمسيح كل ما للإنسان وكل ما لله؟ كيف يكون هو الله وإنسان فى آن واحد؟ كيف يكون ابن الله هو نفسه ابن الإنسان؟ كيف يكون غير المحدود هو المحدود؟ وكيف يكون القدير هو الضعيف؟ كيف يكون الكامل هو نفسه الذى نما فى القوة والحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس؟

1- تجسد الكلمة “أبن الله” واحتجاب لاهوته:

عندما قال المسيح للجموع وهو يعلم فى كفر ناحوم(26): “لأنى قد نزلت من السماء… أنا هو الخبز الذى نزل من السماء”(27)، تذمر اليهود عليه “وقالوا أليس هذا هو بن يوسف الذى نحن عارفون بأبيه وأمه. فكيف يقول هذا أنى نزلت من السماء؟ فأجاب يسوع وقال لهم لا تتذمروا فيما بينكم. لا يقدر أحد أن يقبل أن لم يجتذبه الآب الذى أرسلنى وأنا أقيمه فى اليوم الأخير… ليس أن أحداً رأى الآب إلا الذى من الله. هذا قد رأى الآب. الحق الحق أقول لكم منم يؤمن بى فله حياة أبدية. أنا هو خبز الحياة… هذا هو الخبز النازل من السماء.. أنا هو الخبز الحى الذى نزل من السماء. أن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.. والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى أبذله من أجل حياه العالم”. فقال كثيرون من تلاميذه اذ سمعوا أن هذا الكلام صعب. من يقدر أن يسمعه؟”. “فعلم يسوع فى نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا فقال لهو أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً… الكلام الذى من أبى… قال له بطرس يا رب إلى من نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك. ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله (الحى)”(28).

حقاً هذا الكلام صعب ولا أحد يقدر أن يعرفه ويدركه ويؤمن به إلا بإعلان من الآب وأرشاد وتعليم الروح القدس. قال المسيح لبطرس عند أعترافه بأن يسوع هو “المسيح ابن الله الحى”، “أن لحماً ودماً لم يعلن لك ولكن أبى الذى فى السموات”(29)، وقال عن الروح القدس “وأما المعزى الروح القدس الذى يرسله الآب بأسمى فهو يعلمكم كل شىء ويذكر بكل ما قلته لكم”(30)، ومتى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذى من عند الآب ينبثق. فهو يشهد لى”(31). وقال القديس بولس بالروح “لا يقدر أحد أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس”(32).

نعم لا يقدر أحد أن يكشف لنا سر المسيح سوى أعلان الآب وتعليم وإرشاد الروح القدس. إعلان الآب بالروح القدس الذى يرسله الأبن من الآب. وقال وكتب تلاميذ المسيح ورسلخ بالروح القدس:

 
C
“فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله.. والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملؤ نعمة وحقاً… الله لم يره أح قط الإله (الأبن) الوحيد الذى هو (الكائن) فى حضن الآب هو خبّر”(33)، “أخبر عنه”.

 
C
“الذى اذ كان فى صورة الله (فى طبيعة الله) لم يحسب مساواته لله أختلاساً لكنه أخلى نفسه أخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس. وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله وأعطاه أسماً فوق كل أسم لكى تجثو بأسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع هو رب لمجد الله الآب”(34).

 
C
“ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله أبنه مولوداً (صائراً –
Genomenon
) من مرأة مولوداً (صائراً –
Genonmenon
) تحت الناموس لتنال التبنى”(35).

 
C
“عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد تبرر فى الروح تراءى لملائكة كُرز به بين الأمم أؤمن به فى العالم رفع فى المجد”(36).

 
C
“الذى وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس فى يمنين العظمة فى الأعالى”(37).

فإذا قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم أشترك هو أيضاً كذلك فيهما… من ثم كان ينبغى أن يشبه أخوته فى كل شىء… أنه فيما هو قد تألم مجرّباً يقدر أن يعين المجربين”(38).

هذه الآيات وغيرها تكشف لنا الآتى:

1- أن المسيح، الذى هو كلمة الله الذى كان مع الله، فى حضن الآب، الذى هو الله، صورة الله الذى من طبيعة الله وجوهره والواحد مع الآب، والمساوى له، بهاء مجده، أشعاع مجد الله وختم، رسم، جوهره، الصورة الدقيقة المعبرة لذات الله، لجوهره، معلناً، الله ناطقاً، نزل من السماء وظهر على الأرض كإنسان.

2- أنه نزل من السماء، ظهر على الأرضن ظهر بين الناس وللملائكة أيضاً فى الجسد، ظهر فى الجسد، صار جسداً، أتخذ صورة العبد، صار فى شبه الناس ووجد فى هيئة إنسان، وتواضع إلى أقصى حد، حتى الموت، الموت بالجسد. صار من امرأة، وولد من امرأة فى “ملء الزمان” أى فى الزمان المحدد من قبل الله منذ الأزل(39)، أتخذ كل ما للإنسان، أتخذ جسداً كاملاً (
Sarx egeneto)(40
)، “وساركس
Sarx
” هنا
Flesh
وتعنى جسداً كاملاً، كان له لحم ودم وعظام وروح ونفس(41). شابه الإنسان فى كل شىء، أتخذ الطبيعة الإنسانية الكاملة، بلا خطية.

كلمة الله وصورة الله المساوى لله والواحد مع الآب فى الجوهر حل بكل ملء لاهوته فى الجسد “لأنه فيه (الجسد) سر أن يحل كل الملء”(42)، فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً”(43). أتخذ جسداً كاملاً، مولوداً، صائراً، من احرأة، من مريم العذراء “القدوس المولود (منك)”(44). أعده بنفسه ولنفسه، يقول بالروح “هيأت لى جسداً”، “لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقربان لم ترد ولكن لم ترد ولكن هيأت لى جسداً”(45). جاء إلى العالم بالجسد، فى الجسد، كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء فى الجسد فهو من الله”(46). جاء إلى العالم فى الجسد دون أن يفعل خطية “فالله اذ أرسل أبنه فى شبه جسد الخطية”(47)، “كان مجرباً مثلنا فى كل شىء بلا خطية”(48).

يقول الوحى الإلهى جاء “فى –
en
” ليعنى أنه جاء “فى”، حل “فى”، ظهر “فى”، جاء “فى” الجسد، ظهر “فى” الجسد، ولم يتحول أو يتغير أو يتبدل، فقد صار جسداً بمعنى أتخذ جسداً، كما يقول الرسول بالروح “أخذاً صورة عبد”. أخلى نفسه لاهوته، حجب “يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد”(49). أحتجب لاهوته فى ناسوته، أخفى لاهوته بحجاب وهذا الحجاب هو الجسد الذى أتخذه، وضع نفسه إلى درجة الموت كإنسان “أنه من أجلكم أفتقر وهو الغنى لكى تستغنوا أنتم بفقره”(50)، أو كما خاطب هو الآب مجدنى أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم”(51)، أخفى لاهوته، حجب لاهوته، أخلى نفسه أخذاً صورة عبد، وفى نفس الوقت أحتفظ بكل ماله من صفات اللاهوت وخصائصه وألقابه كإله لأنه لا يمكن أن يتغير.

ظهر على الأرض فى الجسد مثلما زظهر فى العهد القديم فى شكل مادى مؤقت، فقد مهد فى ظهوره الإلهى فى العهد القديم
Theophany
لتجسده الحقيقى بحلوله فى الجسد وأتخاذه صورة العهد فى “ملء الزمان”. وذلك دون أن يتغير ا, يتبدل أو يتحول أو يحد، فهو بلاهوته مالىء الكل “اما املأ أنا السموات والأرض يقول الرب” أو كما يقول “لأنه حيثما أجتمع أثنان أو ثلاثة بأسمى فهناك أكون فى وسطهم”(52).

تجسد كلمة الله وأتخذ الطبيعة الإنسانية الكاملة وظل كما هو الإله القدير دون تغيير أو تبديل أو تحول، ودون أن يحد لا فى كلية الوجود ولا فى كلية القدرة ولا فى كلية العلم. كان كاملاً فى لاهوته وكان كاملاً أيضاً فى ناسوته، إنسانيته، لم يتحول من إله إلى إنسان ولم يتغير عن كونه الإله ولم يبتدل لأن هذا لا يجوز على طبيعة الله، اللاهوت، بل ظل كما هو كامل فى لاهوته كإله مساوى لله وواحد مع الآب فى الجوهر، له كل ما للآب ويعمل كل أعماله، الله ككلمة الله الخالق والعامل فى الكون، الذى كان عند الله وكان هو الله.

وكان كاملاً فى ناسوته إنسانيته، له كل ما للإنسان من خواص وصفات ويعمل أعمال الإنسان بلا خطية. ظهر فى الجسد، حل فى الجسد، أخذ جسداً، صورة الله أخذ صورة العبد، فعبارة “أخذاً (
Labon
) صورة عبد، لا تعنى التحول أو التغيير إلى، بل تعنى “أضافة” أى أن صورة الله الكائن فى طبيعته الله، الكائن فى حضن الآب من الأزل بلا بداية “أخذاً”، “أضاف” لذاته صورة العبد، حجب لاهوته فى هذه الصورة، أخفى لاهوته فى الجسد، حتى يقدر الناس أن يروه “الله لم يره أحد قط الأبن الوحيد الكائن فى حضن الآب أخبر عنه”. أتخذ جسداً أخذاً صورة عبد، حجب لاهوته، حجب بهاء مجده، إشعاع مجد الله، نوره الخارج عنه وبعد أن كان غير مرئى صار مرئياً بالجسد وفى الجسد، رآه البشر ورأته الملائكة أيضاً “ظهر فى الجسد تبرر فى الروح تراءى لملائكته”، كلمنا الآب فيه “كلمنا فى أبنه الذى وهو بهاء وجده ورسم جوهره”.

3- صورة الله أخذاً صورة العبد، متى حدث ذلك؟ يقول الكتاب فى “ملء الزمان”، فى الوقت المعين من قبل الله، ولكن كيف حدث ذلك؟ فهذا مالا يدركه عقل مخلوق، إنه سر المسيح، كما يقول الكتاب(53)، الذى لا يدركه إلا الآب والابن “وليس أحد يعرف الابن إلا الآب”. أتخذ صورة العبد وطبيعته وخواصه وألقابه ودعى “ابن الإنسان” و “إنسان” ووضع نفسه إلى أقصى درجة ممكنة “وضع نفسه وأطاع حتى الموت”، “موت الصليب”. وهذا يفسر لنا ما يبدو، ظاهرياً، أنه تناقض، يفسر لنا ما يتصوره البعض أنه دليل على أن المسيح لم يكن سوى بشر!! وأنه مجرد إنسان عادى مثل سائر البشر!! وأنه مجرد رسول ونبى مثل سائر الأنبياء والرسل صنع الله على يديه معجزات وعجائب، أو كما قال بطرس الرسول: “يسوع الناصرى رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيديه فى وسطكم وأنتم تعلمون”(54).

فالمسيح قال عن نفسه أنه “رب داود”(55) وأعظم من سليمان(56) وأعظم من يونان(57) و “قبل أن يكون إبراهيم أنا أكون (كائن)”(58) و “أنا والآب واحد” وأكد على أنه إله والمساوى لله: وقال “أنا الألف والياء. البداية والنهاية. الأول والآخر”(59)، و “أنا فى الآب والآب فى”(60)، “كل ما للآب هو لى”(61)، “مهما عمل ذلك (الآب) فهذا يعمله الأبن كذلك”(62) ومدح نثنائيل وبطرس ومرثا عندما أعترفوا بأنه المسيح أبن الله الحى(63)، وأكد أنه كائن مع الآب من الأزل بلا بداية “مجدنى أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذى كان لى عندك قبلكون العالم”(64)، وأكد مرات عديدة أنه نزل من السماء، كما أكد أنه الموجود فى السماء وعلى الأرض فى آن واحد(66). وقال عنه بطرس وفى نفس الخطاب الذى قال فيه “يسوع الناصرى رجل”، “واذ أرتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب سكب هذا الذى أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه. لأن داود لم يصعد إلى السموات وهو نفسه يقول: قال الرب لربى أجلس عن يمينى… أن الله جعل يسوع هذا الذى صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً”(67)، وقال عنه أيضاً “هذا هو رب الكل”(68)، و “إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح”(69)، “ربنا ومخلصنا يسوع المسيح”(70)، وقال عن نفسه “بطرس عبد يسوع المسيح”.

المسيح كإنسان جاء من نسل داود بالجسد” ولكنه فى ذاته الإله المبارك “ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على اكل الإله المبارك إلى الأبد”. ومن فقد تعب وجاع وعطش وكان ضعيفاً بالجسد كإنسان، ومات بالجسد “وقد صالحكم الآن فى جسم بشرته بالموت”(71)، “فأن المسيح تألم مرة واحدة… مماتا فى الجسد ولكى محيى فى الروح”(72)، “الذى فى أيام جسده اذ قدم بصراخ شديد ودموع وطلبات وتضرعات”(73). دعى من نسل إبراهيم بالجسد وهو الكائن الذى كان والذى يكون قبل أن يكون إبراهيم أنا أكون، كائن، وجاء من ثمرة صلب داود وهو الكائن الذى على الكل الإله المبارك إلى الأبد. تعب وجاع وعطش وحزن وأنّ ومات بالجسد يموت. كان كاملاً فى لاهوته وكاملاً فى ناسوته. كان يتكلم كإله ويعمل كإله وفى نفس الوقت كان يتكلم كإنسان ويتصرف كإنسان، فهو الإله المتجسد، الكلمة الذى صار جسداً، أخذاً صورة عبد.

4- حجب لاهوته فى ناسوته، أخفى لاهوته فى ناسوته، فقد حجب وجوده الكلى كالموجود فى كل مكان بلاهوته، وبدا محدود فى المكان، فكان ينتقل من مكان إلى مكان، ويتكلم عن نفسه كالموجود فى مكان واحد معين بالجسد وغير الوجود فى غيره، كقوله “لعازر مات وأنا أفرح لأجلكم أنى لم أكن هناك لتؤمنوا. ولكن لنذهب إليه”(75)، فى حين يقول فى مواقف أخرى “لأنه حيثما أجتمع أثنان أو ثلاثة بأسمى أكون فى وسطهم”(76)، “وها أنا معكم كل الأيام إلى أنقضاء الدهر”(77)، “وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء”(78)، “أنا فى أبى وأنتم فى وأنا فيكم”(79). أنه المحدود فى المكان بالجسد، بناسوته، والموجود فى كل مكان، كلى الوجود، بلاهوته.

حجب علمه باليوم والساعة “أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين فى السماء ولا الابن إلا الآب”(80)، كما كان ينمو فى الحكمة، كإنسان، بالجسد، وفى نفس الوقت يقول عنه الكتاب أنه “امذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم”(81) وأنه كان يعرف الجميع”(82) ويعرف خفايا القلوب والأفكار(83)، ماضى الإنسان وحاضره(84). وقال له تلاميذه “الآن نعلم أنك عالم بكل شىء ولست تحتاج أن يسألك أحد”(85). كان العليم والعالم بكل شىء كلى العلم بلاهوته ولكنه أخفى هذه المعرفة الكلية، حجبها بناسوته. كان يعلم بيوم وساعة الدينونة بلاهوته ولكنه أخفى هذه المعرفة بناسوته كإنسان.

حجب قدرته الكلية، كالقادر على كل شىء، وظهر كإنسان ضعيف فتعب وأستراح من تعبه وسقط بالصليب على الأرض، كان ضعيفاً كإنسان بناسوته، ولكنه فى نفس الوقت كان هو القادر على كل شىء، فكان له سلطان على الطبيعة، البحر والريح(86)، وعلى الأمراض(87)، وعلى الموت(88)، وعلى الأرواح الشريرة(89)، أو كما قال “دفع إلى كل سلطان فى السماء وعلى الأرض”(90) و “مهما عمل ذلك (الآب) فهذا يعمله الأبن كذلك”(91).

كان يصلى لله كإنسان بالجسد، بناسوته، وكان هو المعبود كإله(92)، بلاهوته، المعبود من الملائكة(93)، ومن جميع المخلوقات التى فى السماء وعلى الأرض وتحت الأرض(94). ولأنه المعبود فقد قبل أن يسجد له تلاميذه ورسله(95)، وغيرهم(96).

2-من هو ابن الإنسان؟

سأل المسيح تلاميذه هذا السؤال “من يقول الناس أنى أنا ابن الإنسان؟ فقالوا. قوم يوحنا المعمدان. وآخرون إيليا. وآخرون أرميا أو واحد من الأنبياء”. هذه هى أجابة البشر الذين يأخذون الأمور بحسب الظاهر، بعيداً عن روح الله. وهنا سأل المسيح عن مفهوم التلاميذ أنفسهم لأبن الإنسان: “قال لهم أنتم من تقولون أنى أنا؟ فأجاب سمعان بطرس أنت المسيح أبن الله الحى”. فقال له السيد مادحاً “طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبى الذى فى السموات”(97).

إذاً ابن الإنسان “هو نفسه “ابن الله: وهذا الأعلان لم يعرفه بطرس من نفسه ولكن عرفه بإلان سماوى من الآب نفسه، كما أكد السيد نفسه، وكما أكد سابقاً بقوله “وليس أحد يعرف الأبن إلا الآب”(98). أنه الإله المتجسد، الكلمة المتجسد، الذى له كل صفات وخصائص اللاهوت وكل صفات وخصائص الناسوت. هو الكلمة الذى صار جسداً وصورة الله الذى أخذ صورة العبد. ولقب ابن الإنسان هو لقب الإله المتجسد الذى أعطاه لنفسه ولم يلقبه به غيره، كان هو اللقب الذى لقب به نفسه، وكان يفضله على غيره لأنه اللقب الذى يحجب اللاهوت فى الناسوت، يخفى لاهوته فى إنسانيته “أخلى نفسه أخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع”.

وقد يبدو للبعض أن هناك اللقب يدل على أن المسيح مجرد إنسان، بشر؛ فإبن الأنسان ماذا يكون “أن الم يكن آدمياً، إنساناً؟!، كما يقول البعض. ولكن الواقع غير ذلك تماماً لأن المسيح يشير بهذا اللقب إلى ما سبق أن تنبأ به عنه دانيال النبى “كنت أرى فى رؤى الليل واذا مع سحب السماء مثل أبنى إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطى سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض”(99). وهذا ما قاله لرئيس الكهنة عندما سأله أن كان هو “المسيح ابن الله الحى؟” “من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء”(100). فهو “ابن الإنسان” الذى له المجد والملكوت الذى لا ينقرض والسلطان الأبدى الذى لا يزول، والمعبود من جميع الشعوب والأمم والألسنة، هو الجالس فى يمين عرش الله، فى يمين القوة، والذى رآه القديس يوحنا فى رؤياه وأعلن له أنه “الأول والآخر” و “الحى إلى أبد الأبدين”(101) “الألف والياء. البداية والنهاية. الأول والآخر”(102). الآتى على السحاب “ثم نظرت واذا سحابه بيضاء وعلى السحابه جالس شبه ابن إنسان على رأسه أكليل من ذهب وفى يده منجل حاد”(103)، والجالس على العرش الأبيض العظيم، عرش الدينونة(104). والذى رآه أستفانوس لحظة أستشهاده قائماً عن يمين الله “ها أنظر السموات مفتوحة وأبن الإنسان قائماً عن يمين الله”(105).

أن لقب “ابن الإنسان” كما أستخدمه المسيح لم يعبر عن إنسانيته فحسب، بل عبر عن كونه الكلمة المتجسد، الإله المتجسد، الله الظاهر فى الجسد لذلك ربط به كثيراً من صفاته الإلهية؛ يقول فى مواضع كثيرة:

 
C
“من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على أبن الإنسان”(106).

 
C
“وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء”(107).

 
C
“لأنه كما أن الآب له حياه فى ذاته أعطى الإبن أيضاً أن تكون له حياه فى ذاته. وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه أبن الإنسان”(108).

 
C
“فأن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً”(109).

 
C
“متى رفعتم أبن الإنسان فحينئذ تفهمون أنى أنا هو”(110).

 
C
“أن لإبن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا”(111).

 
C
“أبن الإنسان هو رب السبت أيضاً”(112).

 
C
“يرسل أبن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته..”(113).

 
C
“فأن ابن الإنسان سوف يأتى فى مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله”(114). “ابن الإنسان آتياً فى ملكوته”(115).

 
C
“متى جلس ابن الإنسان على كرسى مجده”(116).

 
C
“وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان فى السماء… ويبصرون ابن الإنسان آتياً على يحاب السماء بقوة ومجد كثير. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء السموات إلى أقصاها”(117).

 
C
“ومتى جاء ابن الإنسان فى مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسى مجده. ويجتمع آمامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعى الخراف عن الجداء… ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا إلى يا مباركى أبى رثو الملك المُعد لكم منذ تأسيس العالم”(118).

ابن الإنسان فى أقوال المسيح هذه هو رب الملائكة والنازل من السماء والعائد إلى السماء إلى حيث كان أولاً وهو فى السماء وعلى الأرض فى آن واحد، وهو الحى والذى له الحياة فى ذاته، والديان الجالس على عرش الدينونة الأبيض العظيم والذى يجازى كل واحد بحسب أعماله، وهو أيضاً “يهوه” “أنى أنا هو”، ورب الملكوت، ملك الملكون ورب السبت وغافر الخطايا، وهو رب العلم بلاهوته كإله، وفى نفس الوقت كان مجرباً مثلنا فى كل شىء بلا خطية(119). أنه كلمة الله الأزلى الذى صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً، صورة الله، الذى فى نفس طبيعة الله، اشعاع مجد الله والصورة المعبرة لجوهره، المساوى لله ولكنه أخلى نفسه، تنازل، تواضع وآخذ صورة العبد وصار فى شبه الناس ووجد فى الهيئة كإنسان، الذى فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً(120) “ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل الإله المبارك إلى الأبد”(121)، “وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد تبرر فى الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم أؤمن به فى العالم رُفع فى المجد”(122). لذلك رفعه الله وأعطاه أسماً فوق كل أسم لكى تجثو بأسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب”(123).

 

 

(1) لو 40: 2.

(2) لو 52: 2.

(3) 1تى 15ك6،16.

(4) يو 24: 4.

(5) لو 39: 24.

(6) عب 15: 4.

(7) متى 10: 4.

(8) عب 17: 2.

(9) يو 10: 14.

(10) يو 29: 7.

(11) يو 3: 1،4.

(12) كو 16: 1،17.

(13) عب 3: 1.

(14) عب 10: 2.

(15) يو 15: 16.

(16) يو 30: 10.

(17) يو 58: 8.

(18) يو 28: 20.

(19) 2 بط 1: 1.

(20) 1يو 20: 5.

(21) تى 13: 2.

(22) اش 6: 9.

(23) مز 1: 110.

(24) ميخا 2: 5.

(25) رؤ 13: 22.

(26) يو 59: 6.

(27) يو 38: 6،41.

(28) يو 60: 6-69.

(29) متى 17: 16.

(30) يو 26: 14.

(31) يو 26: 15.

(32) 1كو 3: 12.

(33) يو 1: 1،2،14،18.

(34) فى 5: 2-11.

(35) غل 4: 4.

(36) 1تى 16: 3.

(37) عب 3: 1.

(38) عب 14: 2،17،18.

(39) اف 10: 1.

(40) لو 39: 24.

(41) مر 34: 14؛ لو 46: 23.

(42) كو 19: 1.

(43) كو 9: 2.

(44) لو 35: 1.

(45) عب 5: 10.

(46) 1يو 3: 4.

(47) رو 3: 8.

(48) عب 15: 4.

(49) عب 8: 13.

(50) 2كو 9: 8.

(51) يو 5: 17.

(52) متى 20: 18.

(53) اف 4: 3.

(54) أع 22: 2.

(55) متى 41: 22-43.

(56) لو 31: 11.

(57) متى 41: 12.

(58) يو 58: 8.

(59) رؤ 13: 22.

(60) يو 10: 14.

(61) يو 15: 16.

(62) يو 19: 5.

(63) متى 16: 16، يو 49: 1؛27: 11.

(64) يو 5: 17.

(66) يو 13: 3.

(67) أع 33: 2-36.

(68) أع 36: 10.

(69) 2بط 1: 1.

(70) 2بط 11: 1.

(71) كو 2: 1.

(72) 1بط 8: 3.

(73) عب 7: 5.

(75) يو 14: 11،15.

(76) متى 20: 18.

(77) متى 20: 28.

(78) يو 13: 3.

(79) يو 30: 16.

(80) مر 32: 3.

(81) كو 3: 2.

(82) يو 24: 2.

(83) يو 24: 2.

(84) يو 29: 4.

(85) يو 30: 16.

(86) متى 26: 28.

(87) متى 1: 8-4؛ لو 39: 4.

(88) لو 14: 7؛15؛54: 8،56؛ يو 4: 11.

(89) متى 16: 8،17؛ لو 35: 14.

(90) متى 18: 28.

(91) يو 19: 6.

(92) متى 9: 4،10.

(93) عب 16: 1.

(94) فى 10: 2.

(95) متى 9: 28.

(96) أنظر لو 5: 2؛ متى.

(97) متى 15: 16-17.

(98) متى 27: 11.

(99) دا 13: 7،14؛2: 2؛18: 9.

(100) متى 64: 26.

(101) رؤ 17: 1.

(102) رؤ 13: 22.

(103) رؤ 14: 14.

(104) رؤ 11: 20.

(105) أع 56: 7.

(106) يو 51: 1.

(107) يو 13: 3.

(108) يو 26: 5،27.

(109) يو 12: 6.

(110) يو 28: 8.

(111) مر 10: 2.

(112) متى 8: 11.

(113) متى 41: 13.

(114) متى 27: 16.

(115) متى 28: 16.

(116) متى 28: 19.

(117) متى 30: 24.

(118) متى 31: 25-34.

(119) عب 15: 4.

(120) كو 9: 2.

(121) رو 5: 9.

(122) 1تى 16: 3.

(123) فى 9: 2-11.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي