المسيح إبن


الإنسان


اللقب المحبوب عند المسيح

rUrUr

هذا اللقب “ابن الإنسان”، اختاره المسيح
ليُخفي به لقب “المسيَّا”،الذي كان اليهود يستخدمونه في تمنياتهم وانتظارهم، باعتباره الملك الآتي، ابن داود؛ لكي يردَّ المُلْك لإسرائيل ويُقيم مملكة داود النبي حسب النبوات التي فسَّروها لحساب نُصرة إسرائيل على الأمم وعلوِّ مملكتهم على ممالك العالم. وفي نفس الوقت
ليستعلن بهذا اللقب عينه حقيقة المسيحالتي غابت عن ذهن اليهود أنه “ابن الله” وصاحب الملكوت السماوي لحساب الآب، وهو لقب المسيَّا الحقيقي في نبوة دانيال النبي.

ولكي نتعمق معنى ابن الإنسان كما كان يراه المسيح في نفسه، نعطي هنا ردود المسيح التي استخدم فيها لقب “ابن الإنسان” ليتضح لنا معناه:

+ “فلما رأى يسوع إيمانهم، قال للمفلوج (المشلول): يا بُنيَّ مغفورة لك خطاياك. وكان قوم من الكتبة هناك جالسين يفكرون في قلوبهم: لماذا يتكلم هذا هكذا بتجاديف،
مَنْ يقدر أن يغفر خطايا إلاَّ الله وحده.فللوقت شعر يسوع بروحه أنهم يفكرون هكذا في أنفسهم، فقال لهم: لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم، أيما أيسر أن يُقال للمفلوج مغفورة لك خطاياك، أم أن يُقال قُمْ واحمل سريرك وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن
لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا..” (مر 5: 2
10)

هنا أعطى المسيح لابن الإنسان من السلطان لمغفرة الخطايا ما يعادل ما لله. وهنا يتضح للقارئ بطلان كل أبحاث العلماء الذين قرروا أن لقب “ابن الإنسان” لا يزيد قط عن لقب إنسان!! فمن كلام المسيح يستحيل أنه كان يقصد أن للإنسان سلطاناً كسلطان الله تماماً في مغفرة خطايا الناس، ولكن الذي يقصده المسيح عن حق ويقين أن لقب “ابن الإنسان”، هو اللقب التجسيدي الخاص جداً بابن الله. فابن الله هو الوحيد الذي له سلطان مغفرة الخطايا كسلطان الله تماماً.

وهنا المسيح يوجِّه أنظارهم عبثاً أن سلطانه في مغفرة الخطايا وصُنْع المعجزة لشفاء المفلوج بآن واحد، لا يعود قط إلى أنه مجرد إنسان؛ بل لأنه “ابن الإنسان” أي
الله المتجسد،أو ابن الله الذي صار في الهيئة
كإنسانعندما أخذ لنفسه جسداً. والمسيح يقولها وهو يعلم أن لقب “ابن الإنسان” كما جاء في كل كتب الأبوكاليبسيس (الرؤيا) التي لليهود، من سفر عزرا وأخنوخ ودانيال، يشير إلى الإنسان السماوي المسيَّاني الذي يوصف بكل أوصاف يهوه الرب. إذ دائماً يعطي هذا اللقب صورة مَنْ يركب السحاب، الذي هو صفة الله يهوه وحده، والتي سبق المسيح وأعطى لنفسه هذه الصورة عينها في بداية خدمته: “وقال له الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من الآن ترون
السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان

” (يو 51: 1). فهل ابن الإنسان هنا هو مجرد إنسان كما يقول العلماء؟؟

وعاد الرب وكررها مضيفاً إليها هيئة ركوبه على السحاب لتستيقظ أرواحهم الغارقة في الجهالة: “وأيضاً أقول لكم: من الآن تبصرون
ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء

” (مت 64: 26). هذا نصٌّ ماسيَّاني في غاية الوضوح، حيث يظهر المسيح عن يمين الله بمفهوم
التساوي المطلق،ثم مجيئه الثاني بمجدٍ على السحاب.

فارتباط “ابن الإنسان” عند المسيح بمغفرة الخطايا (مر 5: 2
10)،
وبالدينونة العتيدة: “وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان” (يو 27: 5)، هو رفع كبير للغاية من شأن ابن الإنسان، إذ تُنسب إليه الدينونة وكأنه أعظم منها. فهي تُعطى له
لأنه ابن الإنسان،كما نقول،
لأنه ابن اللهأو
لأنه الله.هنا قصد المسيح المباشر أن يجعل مجده وسلطانه السابق على التجسد فعَّالاً كما هو في وضع التجسد. وكأنه يقول ويكرر أن
ابن الإنسان، هو ابن الله، وصار آدم الجديد وله كل صلاحيات ابن الله!!

كذلك يعطي المسيح صورة مضيئة “لابن الإنسان” لا يُدانيها مخلوق حينما أوضح أنه في مجيئه كإبن الإنسان، فسوف تضيء السموات من أقصاها إلى أقصاها، وكأنها حضرة الله ذاته: “لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا يكون أيضاً
مجيء ابن الإنسان..ويبصرون
ابن الإنسانآتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير” (مت 27: 24و30)

هنا المسيح يمعن في إيقاظ قلوبنا أن الجسد الذي أخذه من بشريتنا لا يفارقه، وهو قائم دائم في أَوَجِ مجده وسلطانه. فابن الإنسان هو هو المسيح مُستَعْلِناً لاهوته في بشريته، فالمجد والسلطان والقوة لا تُفارق بشريته، وإنما أضافت بشريته إليه إمكانية نظرنا إليه ورؤيته الكاملة والتعرُّف عليه والاقتراب من لاهوته بل والشركة معه.

فاستخدام المسيح للقب ابن الإنسان، هو تعزيز لبشريته واستعلان للاهوته بآن واحد. وهو يتمسك بهذا اللقب ليفرِّح قلبنا ويُبهج أرواحنا لنقترب إليه ببساطة الأطفال وفرح الحكماء، لأنه أخونا بكر القيامة من الأموات؛ الذي ارتفع إلى أعلى السموات وصار محمَّلاً بالهدايا والنِعَم والبركات، يغدقها بلا كيل على كل الذين يقتربون به إلى الله. فحينما نراه وهو يضيء السموات من أقصاها إلى أقصاها سنعرفه ونحبه، ولن نخاف منه لأننا سنراه كما هو، ابن الإنسان الذي أحبَّنا وأسلم ذاته إلى الموت من أجلنا، واستعاد مجده في الذات الإلهية ليهب منها بلا كيل. أما علامة ابن الإنسان التي ستظهر في السماء وتقطع بأنه هو هو، فهي جوقة القديسين، الذين سنعرفهم بأسمائهم، من حول الرب؛ وبذلك لن نخطئ معرفته.

ولكن لا يفوت على المسيح أن يحذِّرنا حتى لا نلهو ونعبث بمحبتنا ونستهين بحبه وذبحه على الصليب، لئلا يجيء بغتة ولا نكون باستعداد التعرف عليه والهتاف والتهليل وإعطاء المجد:
“اسهروا إذاً وتضرعوا في كل حين، لكي تُحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون،
وتقفوا قدام ابن الإنسان

” (لو 36: 21). فالمسيح على صلة دائماً بنا حسب وعده، وهو يلهب فينا حب الصلاة والتضرُّع، لأنه يشتهي أن يجدنا حسب قلبه عندما يأتي في مجده فيجد فينا الإيمان الحي والحار الملتهب الذي يليق بمجيئه العظيم: “ولكن متى جاء ابن الإنسان، ألعلَّه يجد الإيمان على الأرض
” (لو 8: 18). والسؤال هو لي ولك، أيها القارئ العزيز، فصوت العريس على الأبواب ومصابيحنا تكاد تنطفئ!!!

ومن أقوى وأعمق الأمثلة التي قدمها المسيح عن
موت ابن الإنسان الفدائي والخلاصي بآن واحد،المثل الذي قاله: “فأجاب وقال لهم: جيل شرير
وفاسقيطلب آية ولا تُعطى له آية إلاَّ آية يونان النبي، لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ

” (مت 39: 12و40). وشرح هذا المثل جليل للغاية، ولكن للأسف الشديد انشغل المفسرون بالثلاثة الأيام والثلاث الليالي، وهي على هامش المثل. ولكن لُبَّ المثل خطير، لأن يونان ألقاه البحَّارة في البحر باعتباره أنه خيرٌ أن يموت واحد ولا تهلك السفينة كلها. فتحويل الله موت يونان إلى نجاة عظيمة له، يُعتبر بحد ذاته معجزة المعجزات، ثم كانت نجاته وحياته خلاصاً لأهل نينوى الذين تابوا بمناداته. هكذا كان تماماً مع سنهدريم رؤساء الكهنة، وإعلانهم أنه خيرٌ أن يموت واحد عن الأمة ولا تهلك الأمة كلها، فدفعوه إلى الموت (يو 50: 11). ولكن تمَّت في المسيح نفس معجزة يونان، إذ أقام الله المسيح من الموت بإعجاز يفوق العقل فتمجَّد الله بحياته، وصار موته فداءً للعالم، وحياته خلاصاً له!!

فهنا شخصية “ابن الإنسان”، ارتفعت ارتفاعاً مجيداً للغاية، لأنه صارع الموت بروح الله الذي فيه. وبسبب قداسته الفائقة وقداسة جسده الذي حلَّ فيه ملء اللاهوت، لم يقوَ عليه الموت؛ بل إن ابن الإنسان صرع الموت بموته وأباد بالقيامة سلطانه، لا عن نفسه وعن جسده فقط، بل وعن كل البشرية التي فداها بموته وأحياها بحياته.

بهذا الشرح اللاهوتي الذي قصده المسيح من هذا المثل، يتحول المثل من مجرد تشبيه يشوبه الضعف والإبهام، إلى حقيقة لاهوتية مضيئة تجعل من موت المسيح أعلى صورة للفداء، وقيامته أعظم قوة مجدِّدة للحياة؛ فيأخذ ابن الإنسان بمقتضاه لقب الفادي والمخلِّص بآن واحد!!

وكما أن الحوت لم يستطِعْ أن يقتنص يونان وهو في باطنه ويلتهمه؛ بل كان في بطنه كالوجيعة، هكذا صار ابن الإنسان في الهاوية، فلم تستطع أن تُطبق عليه فاها، ولا قدرت أن تُمسك به؛ لأنه أية قوة للموت على المحيي وصاحب الحياة. فكما قذف الحوت يونان من بطنه متضجراً، هكذا قذفت الهاوية ابن الإنسان بعد أن أصابها العار والانهزام.

أما الجيل الفاسق الشرير بشبه أهل نينوى، فسيظل ينتظر التوبة بمناداة المسيح والإنجيل.

ويعطي المسيح صورة
لأيام ابن الإنسانكيف هي سارت مع التلاميذ بملء المسرة، والمسيح يعلِّم كل يوم جديداً، ويفك مغاليق الحقائق الإلهية، ويسكب من ينبوع محبته ليشرب المحبون ماء الحياة مجاناً، والإيمان يتحول في بطون التلاميذ إلى ينابيع أنهار حية. لقد صوَّر المسيح أيام ابن الإنسان بالعُرس الذي تمتد أيامه بامتداد أيام العريس وهو معهم؛ ولكن حينما يُرفَع العريس، حينئذ يصوم التلاميذ ويعودون ليشتهوا يوماً من أيام ولائم حب العريس.. آه مَنْ يعطينا؟!!! فأيام ابن الإنسان في نظر المسيح هي أيام تجسُّد الابن الوحيد المحبوب مع أحبائه وخاصته الذين أحبهم إلى المنتهى!!


صورة ابن الإنسان يوم مجيئه:

المسيح يشبِّه يوم مجيء ابن الإنسان، بيوم مجيء الطوفان بغتة ليُهلك مَنْ كان خارج الفُلْك، الذين كانوا مشغولين بهمِّ العالم وشهواتهم: “اسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي
ربكم.. لذلك كونوا أنتم أيضاً مستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي
ابن الإنسان” (مت 42: 24و44)

واضح هنا التطابق بين
“ربكم”،وبين
“ابن الإنسان”.

والمسيح هنا يسبق ويترجى ويتوسل “اسهروا
” لأنه لا يريد أن تكون صورة ابن الإنسان مخيفة أو مزعجة لنا، لأنه هو الحبيب ويكره أن يكون مكروهاً، لهذا يتوسل حتى تظل صورة ابن الإنسان في قلوبنا حلوة، وانتظاره كانتظار العذارى الحكيمات، زيتهنَّ تحت أيديهنَّ، ساهرات باستعداد لحظة التسبيح والهتاف: “العريس أقبل”.

ولا يخفى عليك، أيها القارئ الحبيب اللبيب، أن المسيح حينما يقول هنا عن يوم مجيء ابن الإنسان، فهو يتكلم عن نفسه. فالمسيح يتوق أن يتراءى في وسط محبِّيه كعريس حقيقي يخطف حبُّه وجماله قلوب مُحبِّيه. فالعريس لا يصبح عريساً إن لم تكن له عروسٌ أي عذارى ساهراتٌ.

فالمسيح قلق علينا، يسأل عن إيماننا حتى إذا جاء يتمجد وسط قديسيه، ويسأل عن سهرنا حتى يجيء وسط تهليل مُنتظريه. وهو بهذا وذاك ينقل إلينا قلقه من جهتنا حتى لا نستهين بالزمان، فيضيع الخلاص من قلوبنا ظلماً، ونسوِّف العمر باطلاً، فيأتي زمان الحصاد وإذا البذار قد أكلتها العصافير.

والمسيح يضع عِوَض صورة ابن الإنسان المضيء السماء كلها يوم مجيئه وسط تهليل أحبائه وأولاده ومتَّقيه، صورة لصٍّ ينقضُّ على حين غرَّة ليخطف الحياة وينهب كل رجاء الإنسان: “فاذكر كيف أخذت وسمعت، واحفظ وتُبْ، فإني إن لم تسهر أُقْدِمُ عليك كلصٍّ ولا تعلم أية ساعة أُقْدِمُ عليك
” (رؤ3: 3)، وكما يقول بولس الرسول: “لأنكم أنتم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلصٍّ في الليل هكذا يجيء” (1تس 2: 5)

لأن نبوة دانيال النبي يتضح فيها دور المسيَّا
الأُخروي.فابن الإنسان
في رؤيا دانيال
بعد أن أكمل عمله وحياته على الأرض، رآه قادماً على سحاب السماء، ورآه وهم يقدِّمونه “إلى عتيق الأيام

” وهو تعبير فيه أقصى الاجتهاد للإشارة إلى الآب، هكذا:

+ “كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سُحُب السماء، مِثل
ابن إنسان،أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقرَّبوه قدامه.
فأُعطِيَ سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة،سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض” (دا 13: 7و14)

فنحن لو وضعنا هذه النبوة بدقائقها أمام الحدث الفعلي المنظور من التلاميذ والملائكة بعد أربعين يوماً من قيامة المسيح، والمسيح صاعد في سحب السماء، نستطيع أن نتبين الأصول الدقيقة التي عاشها وأشار إليها المسيح طبقاً لنبوة دانيال، وذلك كما جاء في سفر الأعمال بواسطة لوقا البشير هكذا:

+ “الكلام الأول (إنجيل القديس لوقا) أنشأته يا ثاوفيلس عن جميع
ما ابتدأ يسوع يفعله ويُعلِّم به إلى اليوم الذي ارتفع فيهبعد ما أوصى بالروح القدس الرسل الذين اختارهم، الذين أراهم أيضاً نفسه حيًّا ببراهين كثيرة بعد ما تألم، وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله.. لكنكم ستنالون قوة متى حلَّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض.


ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون، وأخذته سحابة عن أعينهم،

وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق إذا
رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض،وقالا: أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء،
إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء” (أع 1: 1
11)

فإذا أخذنا بواقع وصف “ابن الإنسان” عند دانيال نجده اسماً اسخاتولوجياً، أي اسماً يختص
بشخصية سماوية مثل “ابن إنسان”، يأتيويقرِّبوه إلى عتيق الأيام، الذي هو تعبير واضح عن المسيَّا القادم الذي لم يكن على مستوى أبناء الإنسان تماماً، ولكن مثل ابن إنسان. لذلك نرى أن المسيح عند استخدامه لاسم “ابن الإنسان”، إنما يستخدمه في وضع اسخاتولوجي أي يختص بمستقبل حياة المسيح بالدرجة الأولى كما هو من واقع نبوة دانيال. فهو يستخدمه للتعبير عما سيجوزه من الآلام والصلب والموت باعتباره أنه قد أخلى ذاته كإله وصار مثل ابن إنسان بل وعبد:
“لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شِبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب” (في 7: 2و8).

كما استعمله عند صعوده وجلوسه عن يمين الآب، وكذلك في مجيئه الممجَّد والمُظفَّر: “فإن ابن الإنسان
سوف يأتي في مجد أبيهمع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله

” (مت 27: 16).
ويُلاحظ هنا ربط لقب “ابن الإنسان” بالله كأب له،شأنه شأن ابن الله بكل وضوح، وذلك فيما يختص بالدينونة المزمعة أن تكون.

ولكنَّ المسيح كان يستخدم لقب “ابن الإنسان” بحكمة بالغة. فعندما قال بطرس بالإلهام: أنت هو
المسيح،انتهره المسيح ألاَّ يقول ذلك لأحد، ثم أسرع المسيح وأعطى صورة حقيقية لنفسه
تتنافى كليًّا مع ما يتوقعه اليهود في المسيَّا القادم
ونسبها لابن الإنسان، وهو في ضميره يقصد بها نفسه هو:

+ “فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح، فانتهرهم (المسيح) كي لا يقولوا لأحد عنه. وابتدأ يعلِّمهم أن
ابن الإنسانينبغي أن يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتل، وبعد ثلاثة أيام يقوم. وقال القول علانية. فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره (ينتهر المسيح). فالتفت وأبصر تلاميذه، فانتهر بطرس قائلاً: اذهب عني يا شيطان لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس” (مر 29: 8
33)

والذي لا يعرف دقة الكلام، يظهر هذا الكلام عنده كلغز. ولكن الحقيقة أن المسيح لما رأى أنه أصبح معروفاً تماماً أنه
“المسيح”عند تلاميذه، أراد أن يخفي هذه الحقيقة حتى لا يمسكها اليهود ويقولون إنه ينادي بنفسه أنه المسيَّا. ومعروف أن المسيَّا عند اليهود يأتي كملك ليبيد أعداء اليهود ويُحارب عنهم، وبالتالي يُقاوم روما والقيصر، وهنا يأخذها اليهود عليه أنه يُعادي بيلاطس كثائر، وبذلك يمكن تقديمه للمحاكمة ليتخلصوا منه.

واضح هنا أن المسيح رضي بل وسُرَّ في نفسه أن تلاميذه قد استعلنوا حقيقته أنه “المسيح”، ولكنه أسرع لكي ينفي أن يكون هو المسيَّا الملك المحارب الذي سيُعادي روما، فابتدأ يكشف عمَّا سيحدث له:
“يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل”.وهذا أمر مستحيل أن يحدث لمسيَّا اليهود! فإن سمعه اليهود يقول ذلك، يطمئنون أنه لا يُنادي بنفسه مسيَّا، وفي نفس الوقت يكون قد أوضح لتلاميذه مستقبل آلامه الحقيقية كإنسان وموته باعتباره
مسيح العهد الجديد، حمل الله الذي يرفع خطايا العالم.

وهنا يهمنا أن نوضِّح للقارئ أهمية “ابن الإنسان” كلقب للمسيح يستخدمه بحكمة بالغة ليُخفي فيه نفسه عن ظنون اليهود أنه المسيَّا القادم لتحرير إسرائيل من الرومان، وفي نفس الوقت يوقِّع على شخصية “ابن الإنسان” مستقبل آلامه وموته ثم قيامته، مشيراً بذلك إلى نفسه. وهكذا
بلقب “ابن الإنسان” أنجز المسيح هدفين: الأول أنه غطَّى نفسه عن عيون إسرائيل من أن يحسبوه المسيَّا، والثاني أنه استعلن حقيقة نفسه كمسيح الله لتلاميذه بآن واحد.

وعلى القارئ أن ينتبه،
لأن التلاميذ لم يدعوه قط بهذا اللقب “ابن الإنسان”ولا مرة واحدة، ولكن المسيح هو الذي كان يستخدمه بنوع خصوصي، لأن لقب ابن الإنسان يحوطه الغموض كما أنه تعبير عام أُخروي كان من الصعب جداً على التلاميذ أن يلمحوا مرامي المسيح من استخدامه.


والمسيح كان يرتاح إلى لقب ابن الإنسان ليخفي لاهوته عن أفهام اليهود

التي انطمست معالمها الروحية، حتى إن الجمع سأله مرة: “نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد، فكيف تقول أنت أنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان؟
مَنْ هو هذا ابن الإنسان؟

” (يو 34: 12). وهنا يتضح أن اليهود فهموا أنه يشير إلى نفسه باعتباره المسيح مختفياً في لقب ابن الإنسان، وهكذا أرادوا أن يتبيَّنوا منه علاقته بالمسيَّا وابن الإنسان! فكان ردُّه هادفاً نحو إحراجهم بقوله: “النور معكم زماناً قليلاً بعد، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يُدرككم الظلام
” (يو 35: 12)، موضحاً بذلك أنهم عبثاً يريدون أن يعرفوه مَنْ هو وهم يعيشون في ظلام الجهالة،
لأنه هو النور الحقيقي، ولكن لِمَنْ يسير في النور؛أما لِمَنْ يسير في الظلام، فالمسيح حتماً يبقى إلهاً مُحتَجباً، كما شهد ونادى إشعياء النبي بالنبوة: “حقاً أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المخلِّص

” (إش 15: 45). فابن الإنسان هو الحجاب الذي كان يختفي وراءه المسيح حتى لا يدركه الذين يبغضون النور الحقيقي.

ولكن المسيح أكَّد لخاصته أنهم حتماً سيعرفونه حينما يرتفع أمام أعينهم على الصليب وما بعد الصليب ”
متى رفعتم ابن الإنسان حينئذ تفهمون إني أنا هو

™gè e„mi
” (يو 28: 8). وهذا يؤيده بولس الرسول قائلاً إنه:
“تعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.” (رو 3: 1)


أما علاقة “ابن الإنسان” بالله،

فيشرحها المسيح أنها هي
علاقة المسيح عينها بالله الآبهكذا: “ليس أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من السماء،
ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو 13: 3).

وكذلك إشارة المسيح كانت واضحة عن علاقة ابن الإنسان بعمل المسيح كديَّان هكذا: “لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته، وأعطاه سلطاناً
أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان” (يو 26: 5و27)

وهنا ربط المسيح بين رسالته على الأرض باعتباره ابن الإنسان برسالته القادمة باعتباره المسيح.

وهكذا يجيء لقب
“ابن الإنسان”على التوازي والتساوي مع
“ابن الله”بالتمام، سواء في نزوله من السماء أو صعوده أو وجوده على الأرض ووجوده في السماء “ابن الإنسان (الذي على الأرض) الذي هو في السماء” (يو 13: 3)


وأما لماذا اتخذ المسيح لقب ابن الإنسان فيما يخصُّنا نحن؟

فالمسيح باتخاذه لقب ابن الإنسان، يوضح عملياً وبصورة حتمية العلاقة بينه
كممثل للبشرية “ابن الإنسان”، وبين الله أبيه كنموذج أعلى لما تنتهي إليه الإنسانية المختارة والمتحدة في الابن من نحو الله الآب.فالمسيح يحمل البشرية المفديَّة في السماء ويمثلها كرأس أمام الآب.
هنا يفديها باعتباره المسيح، وهناك يمجِّدها كإبن الإنسان أمام الآب. فابن الله في صورته الأزلية، نزل من السماء كإبن الإنسان ليجمع في شخصه البشرية المختارة ويصعد بها إلى السماء، لتنال ميراثها في ميراثه كإبن الله، وتقف فيه أمام الله مقدَّسة وبلا لوم تسبِّحه إلى الأبد:

+ “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح كما
اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة،إذ سبق فعيَّننا للتبني بيسوع المسيح
لنفسه
حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب” (أف 3: 1
6)

ومن هنا تظهر مدى الشمولية
(







[1]







)

التي يُعنيها المسيح من لقبه “ابن الإنسان”، إذ
نوجد نحن المؤمنين المفديين في هذا اللقب بكل مخصصاته وفي صميم علاقته بالله الآب. ف “ابن الإنسان” هو المسيح ابن الله حاملاً البشرية في كيانهكرأس لها، وهي جسده، ومنها نفهم ونعي تماماً معنى “أقامنا معه وأَجلَسَنا معه في السماويات

” (أف 9: 2). و
“ابن الإنسان” هو “ابن الله ونحن”!!!إنما على مستوى البنين لله!! ف “ابن الإنسان”، لقب المسيح الذي يحمل لنا أعماق عقيدة الفداء والخلاص بدون شرح!! من أجل هذا يوضح بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس، كيف أخذ المسيح لقب “ابن الإنسان” هكذا:

+ “الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات ليملأ الكل.. لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى
“إنسان كامل”،إلى
“قياس قامة ملء المسيح”..صادقين في المحبة ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح! الذي فيه كل الجسد مركباً معاً” (أف 10: 4
16)

هذا هو المسيح “ابن الإنسان”، رأسٌ وجسدٌ معاً. وفي مزمور (80) الذي تستشهد به الكنيسة دائماً على وحدتها الجوهرية بالمسيح ابن الله، تظهر ملامح ابن الإنسان
(







[2]







)

:

+ “كَرْمَةً من مصر نَقَلْتَ.. مدَّتْ قُضْبانها إلى البحر وإلى النهر فروعها (“أنا الكرمة وأنتم الأغصان” يو5: 15).. يا إله الجنود ارْجعَنَّ، اطَّلعْ من السماء، وانظر، وتعهَّد هذه الكرمة؛ والغرس الذي غَرَسَتْهُ يمينك، و
“الابن”الذي اخترته لنفسك.. وعلى
ابن الإنسانالذي اخترته لنفسك، فلا نرتدَّ عنك. أَحْيِنَا فندعو باسمك. يارب إله الجنود أرجعنا، أَنِرْ بوجهك فنخلص

هنا تبادل الألقاب متساوٍ، وهي تهدف جميعها إلى وحدة
“الابن” بالكرمةالتي هي
شعبه،لينشأ
ابن الإنسانبصورته الشاملة: ابن الله، وابن الإنسان معاً.

وتُعتبر هذه النبوة مركز انتباه قوي شدَّ فكر المسيح لدى نفسه فعلاً: “أنا الكرمة الحقيقية، وأنتم الأغصان”، أي
شعبهالخاص الأغصان في الكرمة. وهنا لا تُفهم
الأغصان المتحدة بالكرمة إلاَّ أنها الكرمة أيضاً.وهكذا يرى المسيح نفسه متحداً بشعبه اتحاداً حقيقياً، لأنه إن كانت كرمة المسيح هي الكرمة الحقيقية، فأغصانها هي الأغصان الحقيقية. فهنا الاتحاد اتحاد حقيقي ينتهي إلى رؤية المسيح وشعبه أي الكنيسة وحدة واحدة:
“أنا المسيح”.لهذا يأتي لقب “ابن الإنسان” ليعبِّر عن
وحدة عميقة ربطت المسيح بشعبه المفدي كالأغصان الحقيقية في الكرمة الحقيقية،ومن هنا يجيء التعبير السرِّي الذي يوحِّد بين المسيح والمؤمنين بصورة سرِّية مهيبة:

+ “فقال لهم يسوع الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إن لم
تأكلوا جسد “ابن الإنسان” وتشربوا دمهفليس لكم حياة فيكم” (يو 53: 6)

هنا يكشف المسيح عمق سريان طبيعته الإلهية ككرمة حقيقية في الأغصان الحقيقية لتصبح هي والكرمة، كرمة واحدة حقيقية. وزاد القول توضيحاً هكذا: “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية
” (يو 54: 6). أي تسري حياة المسيح بسريان العصارة، أي الدم، من الأصل إلى الفرع بسرٍّ لا يُنطق به. فإن كانت الكرمة حقيقية حقاً، أي إلهية وأزلية، صار “جسدي مأكلٌ حقٌّ، ودمي مشربٌ حقٌّ
” أي أزلي هو، يسمو ويتنزَّه عن المظهر والشكل. فإذا سَرَت العصارة، أي الدم، من الأصل إلى الفرع، يثبت الفرع ثبوتاً حقيقياً غير قابل للإنفصال: “مَنْ يأكل جسدي (الحق) ويشرب دمي (الحق)، يثبت فيَّ (الحق)، وأنا أثبت فيه
” (يو 55: 6)، “فمَنْ يأكلني فهو يحيا بي” (يو 57: 6)

هنا يستجلي المسيح حقيقة نفسه
“كإبن الإنسان” مذبوحاً على مذبح الله الناطق السمائي، ومُهدًى للعالم “كوليمة محبة”مهيَّأة لإطعام كل مَنْ اشتهى محبة الله ليُحسب من المحبوبين. هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ يأكل جسده ويشرب دمه
لقد أحبني، أحبني وأسلم ذاته لأجلي، لأغتذي به فلا أعود أعيش لنفسي، بل للذي أحبني وأسلم ذاته من أجلي.

مَنْ هو ابن الإنسان؟ إلاَّ الذي أخذ جسدنا وأعطانا جسده، فصار فينا ونحن فيه، وهو في الآب قائم ونحن فيه (يو 20: 14).


(نوفمبر 1993)





(



[1]

) راجع: “المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا”، ص 200
203.


(





[2]





) راجع: “المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا”، ص 271
273.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي