(ج) نمو الملكوت مثل البذور التي تنمو سراً

26وَقَالَ: هكَذَا مَلَكُوتُ اللّهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، 27وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، 28لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَّوَلاً نَبَاتاً، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. 29وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ (مرقس 4: 26-29)

 

يُلقي الزارع بذوره في الأرض، لكنه لا يقدر أن يجعلها تنبت. إنه يقدر أن يحيط حقله بسياج، ويحرسه من دَوْس الحيوان، لكنه لا يقدر أبداً أن يفعل شيئاً للبذور التي بذرها، لأن الله وحده هو الذي ينميها. وبمضيّ الأيام يكبر النبات وتظهر سنابله، وينضج قمحه، إذ تشرق عليه الشمس، وترويه الأمطار، وتقاومه العواصف فيثبت أمامها وتتعمَّق جذوره. وعندما يجيء وقت الحصاد يرسل الزارع المنجل ليحصد محصوله ويجمعه في مخزنه.. وهذا يعني أن علينا أن نعمل باجتهاد تاركين النتائج لله الذي وحده سبحانه ينمّي الكلمة في القلب بقوة خفيَّة هي قوة الروح القدس، الذي يكون في بدء عمله سرّياً في القلب لكنه فعَّال، سرعان ما يظهر تأثيره في سيرة المؤمن وسلوكه، فينمو في النعمة ويثمر ثمراً صالحاً. وكلما تقدَّمت الأيام بالمؤمن ينضج ويدرك ما أدركه المسيح لأجله بفعل دفء شمس البر، وإرواء الماء الحي، وإنضاج تجارب الحياة (فيلبي 3: 12).

 

وعندما تنتهي حياة المؤمن على الأرض، ويحين وقت دخوله إلى راحته الأبدية في السماء، يرسل الرب ملائكته ليحملوه إلى بيته الأبدي، فقد قال المسيح: «أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يوحنا 14: 2، 3). والمؤمن الذي قَبِل بذور الكلمة ونمت فيه ونضجت يتطلع إلى يوم الحصاد، لأنه يوم انتهاء آلامه الأرضية، ويوم بداية الفرح الحقيقي في السماء، ويقول مع الرسول بولس: «لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي 1: 23)

 

روى البشير مرقس هذا المثل، الذي يصف حياته هو شخصياً في أطوار نموها المختلفة، من نبات إلى سنبل إلى قمح ملآن في السنبل، فقد كان أحد أتباع المسيح، لكن عندما أقبل الجنود للقبض على سيده في بستان جثسيماني، هرب حرصاً على سلامته، تاركاً عباءته (مرقس 14: 50، 51). ولكن إيمانه الضعيف الخائف نما وتقوَّى بعد هذا، فسافر بصُحبة الرسولين بولس وبرنابا في رحلتهما التبشيرية الأولى (أعمال 12: 25). ولكن بسبب شدة المتاعب وضغوط الاضطهاد، قرر في منتصف الرحلة أن يعود إلى بيته المريح في أورشليم (أعمال 13: 13) ولكن إيمانه الذي لم يقوَ على احتمال المتاعب نما وزاد، فأخذه برنابا في رحلة تبشيرية جديدة (أعمال 15: 36-39). وشعر الرسول بولس بهذا النمو الكبير في إيمان مرقس، فكتب لتلميذه تيموثاوس يقول: «خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ» (2تيموثاوس 4: 11). ثم كتب مرقس الإنجيل الذي يحمل اسمه، وجاء يكرز في مصر.. لقد بدأ مرقس اتِّباعه للمسيح وكأنه نبات متبدئ، ثم سافر رحلته الأولى مع بولس وبرنابا وهو مثل السنبل، ولكنه في النهاية صار مثل القمح الملآن في السنبل.

 

ونتعلم من مثَل البذور التي تنمو سراً أربعة دروس:

 

أولاً – الله والإنسان يعملان معاً

يقبل المؤمنون الكلمة المقدسة التي يزرعها الرب في قلوبهم فيصبحون خليقة جديدة في المسيح، وتُكتَب أسماؤهم في سفر الحياة، ويصيرون ورثة ملكوت الله، فيهتفون: «مُبَارَكٌ اللّه أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (1بطرس 1: 3، 4). ولكنهم لا يكتفون بفائدتهم الشخصية، بل يعملون على إفادة غيرهم وخلاصهم.. وكما يعمل الفلاح باجتهاد عالماً أن الله سينمي الزرع في موعده، وهو لا يعلم كيف يحدث هذا، يعمل المؤمنون باجتهاد، عالمين أن الله سيعطيهم غلة عظيمة، تُشبعهم وتُشبع غيرهم.

 

ويدعو الله المؤمنين للعمل معه، فقد وجَّه في محبته للبشر نداءً إلهياً يقول: «مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» (إشعياء 6: 8). وهو ينتظر أن يسمع الإجابة: «هئنذا أرسلني». ومع أنه قادر أن يعمل وحده، إلا أنه يريد أن يكرمنا بأن نذهب من أجله وأن نعمل معه، بالصلاة، ودرس الكلمة، والطاعة، والشهادة. وكل من قبل الكلمة يبذرها، والله ينميها، كما قال الرسول بولس: «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لكِنَّ اللّهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ السَّاقِي، بَلِ اللّه الَّذِي يُنْمِي. وَالْغَارِسُ وَالسَّاقِي هُمَا وَاحِدٌ، وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ. فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اللّهِ، وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللّهِ» (1كورنثوس 3: 6-9). والمؤمن العامل مع الله يُقال عنه ما قيل عن المرأة التي سكبت الطيب على رأس المسيح: «عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا» (مرقس 14: 8)، لأنه ينتهز كل فرصة ليزرع كلمة الله في قلوب المحيطين به ويرويها، لأنهم لن يسمعوا بلا كارز (رومية 10: 14).

 

ومع أن «الأرض من ذاتها تأتي بالثمر» لأن حياة البشر والنبات هي من عند الله، إلا أن الزارع يعمل وهو يحس بضآلة عمله المتواضع، وبعظمة عمل قوة الله التي تجعل الأرض تثمر، لأن الزارع ألقى البذور ولكن الله يرسل المطر وأشعة الشمس والهواء.

 

والزارع المؤمن «ينام ويقوم ليلاً ونهاراً» فيكون نومه ليلاً لا نوم المهمل أو الكسلان، بل نوم العامل الذي يستريح لأنه واثق، لا يخاف من فشل البذور، وينطبق عليه الوصف «يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْماً» (مزمور 127: 2).. وهو الذي يقوم نهاراً لأنه يرى النمو المتزايد، ثم يفرح بالحصاد، فإن «الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالابْتِهَاج. الذَّاهِبُ ذِهَاباً بِالْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ الزَّرْعِ، مَجِيئاً يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ» (مزمور 126: 5، 6) الزارع باليأس عندما يتأخَّر ظهور النبات، ولكن الله يشجعه بالقول: «لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ. لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ. لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ الْمَغْرُوسِ وَقْتٌ» (جامعة 3: 1، 2).

 

كان ألبرت شوايتزر أستاذ فلسفة يدرِّس في كلية لاهوت بألمانيا (1875-1965)، وذات يوم رتَّبت له زوجته أوراق مكتبه المبعثرة، فاختلطت أوراقه ببعضها. ولما أخذ يُعيد ترتيبها وجد بين أوراقها مجلة عنوانها «جمعية باريس المُرسَليَّة»، فتساءل: ما الذي جاء بها إلى هنا؟.. ولكنه قرأ فيها مقالة عن الحاجة إلى مرسَلين لأفريقيا الاستوائية، وأحسَّ أن هذه المقالة رسالة شخصية له من الله. كان يحمل خمس درجات دكتوراه في اللاهوت والفلسفة والأدب والموسيقى والطب، فسافر بهذا كله إلى «الجابون» ليخدم الله، وكتب يقول «وجدَتْ حياتي تحقيقها في هذه الخدمة».. لقد كان الزارع هنا كاتباً كتب مقالةً حرَّكت قلب العالِم الكبير. ولم يكن كاتب المقال يعلم كيف سيثمر ما كتبه، لكن كتابته أثمرت قمحاً ملآن في السنبل في حياة الدكتور ألبرت شوايتزر، وحياة الذين خدمهم!

 

وذات مرة كان شابٌّ جامعي يسير على غير هُدى في السابعة صباحاً في شوارع جزيرة مانهاتن (نيويورك) حائراً، يفكر في ما هي فائدة الأديان، عندما مرَّ بكنيسة مفتوحة، فدخلها. واندهش وهو يرى أحد أساتذته المشهورين منحنياً يصلي، فقال الشاب في نفسه: لا بد أن هذا الأستاذ العظيم وجد في إيمانه المسيحي فائدة ومعنى. وقرر أن يتبع المسيح. لقد زرع الأستاذ المصلي بذوراً نمَت، وهو لا يعلم كيف. تُرى لو أن الأستاذ الجامعي تكاسل عن الذهاب للكنيسة ذلك الصباح، هل كان الشاب الحائر يجد إجابة صحيحة لسؤاله؟

 

إنها ساعةٌ عظيمة لندرك عظمة مسؤوليتنا في العمل مع الله الذي ينمي، حتى لو كنا لا نعرف كيف يحدث النمو. وهو يناديك: «يا ابني اذهب اليوم اعمل في كرمي» فجاوِبْهُ: «ها أنا يا سيد» (متى 21: 28، 30). واعمل عمل الله ما دام نهار، فسيأتي ليلٌ حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل (يوحنا 9: 4).

 

ثانياً – الله يعمل في صمت

يعلّمنا هذا المثل أن ملكوت الله يعمل سراً وفي صمت، لكن النتائج الباهرة لا بد أن تظهر، لأن ملكوت الله ليس عقيدة ولا عاطفة ولا شعائر، بل هو بذور تدخل القلب وتنمو فيه، وتتجذَّر في أعماق نفس الإنسان وتغيِّره. إن المسيحية هي حياة المسيح فينا، فنقول: «أَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ» (غلاطية 2: 20).

 

طلب أحدهم من صديق له أن يشرح له الولادة الثانية، فأجابه: «اختبِر الولادة الثانية، وستعرف ما هي». ويقول المسيح: «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ» (يوحنا 3: 8). وعندما سأل الفريسيون المسيح: «مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ اللّهِ؟» أَجَابَهُمْ: «لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ اللّهِ بِمُرَاقَبَةٍ، وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا ههُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ، لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللّهِ دَاخِلَكُمْ» (لوقا 17: 20، 21). فملكوت الله داخل المؤمن، وداخل كل إنسان يقبل كلمة الله، لأن البذور تنمو سراً وفي هدوء.

 

في البذور حياة كامنة، لا نراها ولا نفهم سر عملها. وحتى لو كانت الأرض التي تستقبلها رديئة، فإن «كَلِمَةَ اللّهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين 4: 12). وهذا ما رأيناه في تلاميذ المسيح البسطاء الذين فتنوا المسكونة، لأن قوة الروح القدس عملت بهم، فحرَّكوا قلوب سامعيهم ليروا أنهم خطاة، وأن الله رحيم، وأن الخلاص جاء في المسيح الفادي، فقَبِل سامعوهم رسالة إنجيل محبة الله، وإذا قوة الله تعمل في سرائر مستمعيهم، عملاً تَظهَر ثماره العظيمة بوضوح. وهذا يجعلنا نركز على عمل قوة الله، بغَضّ النظر عن قوتنا الشخصية وعن نوعية التربة وقلوب البشر، إن كانت ستقبل البذور أو سترفضها.

 

ثالثاً – الله يعمل بتأنٍّ

كان كثير من اليهود يستعجلون مجيء ملكوت الله، فاستخدموا العنف ليجعلوا الناس يطيعون الله، ولكن ملكوت الله لا يأتي بالسيف «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!» (متى 26: 52). ويستطيع الله أن يهزم الشر في العالم بقوته، ولكنه لا يشاء أن يمارس الضغط على البشر، لأنه خلقهم ذوي إرادة حرة وعرَّفهم سبُل الحياة. ثم أن الضغط في ذاته شر. ومن المؤسف أننا نجد في عالمنا مَن يمارسون العنف لنشر كلمة الله، لأنهم يظنون أنهم بهذا يسارعون بمجيء ملكوت الله على الأرض!.. وإذا كنا نواجه إبليس العدو الذي لا يهدأ ولا يرحم، فإننا نؤمن أن المسيح هزمه على الصليب. إذاً «شُكْراً لِلّهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ» (2كورنثوس 2: 14). وهذا يدفعنا لأن نسلّم أنفسنا للمسيح المنتصر فننتصر.

 

قبل أن يمتلئ تلاميذ المسيح بالروح القدس انتظروا نتائج سريعة، وفقدوا صبرهم لما أبطأت. وذات يوم أرادوا أن يتوِّجوا المسيح ملكاً بعدما أشبع خمسة آلاف من خمس خبزات وسمكتين «وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ» (يوحنا 6: 15). لقد ظنوا «أَنَّ مَلَكُوتَ اللّهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَالِ» (لوقا 19: 11). لكن ملكوت الله سيجيء في اليوم الذي عيَّنه الله، لا في الوقت الذي نطلبه أو نريده نحن، فقد قال المسيح: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ» (أعمال 1: 7).

 

صرف الكارز العظيم وليم كاري أربعين سنة في الهند قبل أن يرى متجدداً واحداً. وفي أثناء هذه المدة لم ييأس، لأنه كان يعلم أن البذور تنمو سراً، فقام بإلقائها، وأعطاه الله النجاح، بعد أن وجد التشجيع في كلمات الوحي: «نَشْتَهِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يُظْهِرُ هذَا الاجْتِهَادَ عَيْنَهُ لِيَقِينِ الرَّجَاءِ إِلَى النِّهَايَةِ، لِكَيْ لاَ تَكُونُوا مُتَبَاطِئِينَ بَلْ مُتَمَثِّلِينَ بِالَّذِينَ بِالإِيمَانِ وَالأَنَاةِ يَرِثُونَ الْمَوَاعِيدَ» (عبرانيين 6: 11، 12).

 

وكثيراً ما نسمع الناس يوجّهون للكنيسة انتقادات بسبب ضعف ثمارها. ومن الأمانة أننا نعترف بضعفاتنا، ولكننا لا ننسى أيضاً نواحي القوة، فلكل شيء موعد، وللثمر قوانين. فلا تستعجِل النتائج، وعدّل نفسك مع التوقيت والفكر الإلهيين، وانتظر الرب. لا تفتِّح الوردة قبل الأوان فإن هذا يدمِّرها، ولا تحفر الأرض لترى إن كانت جذور الزرع الذي زرعته ينمو، فإن هذا يقتله. لكن بالصبر والإيمان ثِق في نوال المواعيد، ولا تقلق إن لم تنْمُ البذور في الآخرين بالسرعة التي تريدها. احذر من أن تضغط على أولادك أو على أصدقائك لتستعجل نموّهم، بل بالمحبة أَدفئ قلوبهم فتراهم ينمون ويثمرون.. ولا تقلق إن لم تنْمُ أنت في النعمة بالسرعة التي تتوق إليها، فإنك كالقمح الذي شرح لنا المسيح نموَّه في هذا المثل، لا ترى نموَّه بعينيك، لكنه يحدث. فإن كنت تهتم بتصرفاتك، وتجدِّد تكريسك لله، فإن طبيعتك الروحية تنمو من ذاتها. ولا تنسَ أن النبات الذي يعمِّر هو الذي ينمو ببطء. وكما أن الله صبور معك كن أنت صبوراً مع نفسك ومع غيرك. لا تُنقِص عمل النعمة فيك بالقلق على عمل النعمة. «إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَاناً وَلاَ تَتَأَخَّرُ» (حبقوق 2: 3).

 

رابعاً – الله يبدأ عمله ويكمله

يبدأ ملكوت الله بالعمل الإلهي في القلوب، ويقول الوحي: «الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (فيلبي 1: 6). ويقول المسيح إنّ النمو يكون نباتاً، ثم سنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السنبل. وهذا يعني أن الله لا يتوقَّف عن العمل حتى يكمل نصره على الشر، خطوة خطوة. وعندما يتم عمل الله يقول: «أَرْسِلُوا الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصِيدَ قَدْ نَضَجَ» (يوئيل 3: 13). «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا» (متى 24: 29-31).

 

والحصاد هو كمال عمل الله بنهاية العالم عندما يسمع المؤمنون قول ربهم: «نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى 25: 21). «فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً» (غلاطية 6: 7). «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (2كورنثوس 5: 10).

 

لقد بدأ الحصاد المجيد للنفوس يوم الخمسين، ولا يزال مستمراً طيلة العشرين قرناً التي مضت، وسيستمر في الازدياد لأن الله يعمل في عالمنا بقوة روحه القدوس معلناً للجميع الأخبار المفرحة عن موت المسيح وقيامته. فلا يجب أن يعيش أي مؤمن لذاته، لأن المسيح «مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (2كورنثوس 5: 15). «لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ» (رومية 14: 7، 8).

 

ولكننا نجد للأسف بعض مَن يقضون حياتهم في خدمة نفوسهم فقط، ناسين التحذير: «مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا 12: 25). وكلما سمحْتَ للرب أن يبدأ عمله فيك ويتممه، ستخلِّص نفسك والذين يسمعونك أيضاً، وستنتهي حياتك بالفرح والتهليل.

 

وقد يصيب اليأس المؤمنين أحياناً وهم يرون الشر منتشراً في العالم، لكنهم يجب أن يتشجعوا لأن هزيمة إبليس قد بدأت بسحق رأس الحية، وقد أُكمِل الانتصار في الصليب والقيامة المجيدة، لأن المسيح «إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ» (كولوسي 2: 15). وسيكمل الرب النصر لملكوته في النهاية. نعم «سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ، يَوْمُ الرَّبِّ، الَّذِي فِيهِ تَزُولُ السَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ الْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ الأَرْضُ وَالْمَصْنُوعَاتُ الَّتِي فِيهَا» (2بطرس 3: 10). ولذلك «جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ الإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ الرَّبِّ» (مراثي إرميا 3: 26). عالمين أن «اللّهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (فيلبي 2: 13).

 

إن القائد المنتصر معنا، وهو الذي يجهِّز القلوب لتقبل الرسالة، فهو يبكت على الخطايا، ويغيِّر القلوب. وسيمنحك الشجاعة والحكمة والفرح عندما تقود النفوس للمسيح، وترى نموهم: نباتاً، ثم سنبلاً، ثم قمحاً ملآن في السنبل.

 

سؤالان

كيف ترى اختبار القديس مرقس في مثل البذور التي تنمو سراً؟

استعجل تلاميذ المسيح في أول معرفتهم بالمسيح مجيء ملكوت الله، فماذا تعلَّموا هم، وماذا نتعلم نحن من مثل البذور التي تنمو سراً؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي