الفصل الرَّابع


الإفتراض العظيم


لو أن اللّه صار إنساناً، فكيف يجب أن يكون؟- أو هل كان للمسيح صفات اللّه؟


وقبل إجابة هذا السؤال يلزمنا الإجابة على سؤال آخر، هو: لماذا يصير اللّه إنساناً؟ وللإجابة نقدم مثلاً عن فلاح يحرث حقله. فلنفترض أنك أنت ذلك الفلاح وتُلاحظ عش نمل في طريق المحراث، ولنفترض أنك تحب النمل، فتفكر أن تسرع إليهم لتحذيرهم. وتصرخ محذّراً، لكنهم يستمرون في عملهم، فتستعمل لغة الإشارة، وكل وسيلة أخرى تعرفها، ولكن النمل لا ينتبه. لماذا؟ لأنك عاجز عن الاتصال بهم. فما هي أفضل طريقة لذلك؟ هي أن تصير نملة فيفهمون ما تقول.


ولما أراد اللّه أن يتصل بنا، وجد أن أفضل طريقة هي أن يصير إنساناً مثلنا، فيكون على اتصال مباشر بنا.


والآن لنجاوب سؤالنا الأصلي: لو أن اللّه صار إنساناً، فكيف يكون؟


يجب أن يملك كل صفات اللّه، ويدخل عالمنا بطريقة لم يدخله بها أحد من قبل، ويعمل أعمالاً معجزية، ويكون بلا خطية، ويترك أثره العظيم الباقي على العالم كله، مع أشياء أخرى عظيمة كثيرة.


وإنني أعتقد أن اللّه جاء إلى العالم في المسيح، وأن المسيح أظهر كل صفات اللّه. ولننظر الآن إلى هذا المخلِّص:


لو أن اللّه صار إنساناً، فإننا نتوقع منه أن:


1- يدخل إلى العالم بطريقة غير عادية.


2- يكون بلا خطية.


3- يُجري المعجزات.


4- يكون مختلفاً عن كل ما عداه.


5- يقول أعظم ما يُقال.


6- يكون تأثيره شاملاً ودائماً.


7- يُشبع جوع الناس الروحي.


8- يكون له سلطان على الموت.

 


أولاً- لو أن اللّه صار إنساناً


لصار دخوله إلى العالم بطريقة غير عادية


وميلاد المسيح من عذراء برهان على هذا! ونجد القصة في إنجيلي متى ولوقا، وقد سبق ورودها كنبّوَة في العهد القديم، ما معناه نسل المرأة يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15) وهذا يعني أن المخلص الآتي سيكون من نسل امرأة، لا من رجل. وهناك نبوة أصرح في إشعياء 7: 14 هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسمَهُ عِمَّانُوئِيلَ ولا شك أن هذه العذراء هي المرأة المشار إليها في التكوين 3: 15.


وقد وردت كلمة العذراء هذه ست مرات أخرى في الكتاب المقدس، بمعنى الفتاة التي لم تتزوج وقد تُرجمت إلى اليونانية في الترجمة السبعينية بكلمة عذراء كما اقتبسها متى (1: 23) على أنها تحققت في ولادة يسوع من العذراء. ويقول إشعياء إن ولادة العذراء معجزة وآية من اللّه نفسه: يعطيكم السيد نفسه آية وهذا معناه ولادة غير طبيعية سبق أن تنبأ عنها إشعياء منذ أجيال بعيدة.


وتتَّسم قصة البشيرين عن الميلاد العذراوي بالدقة التاريخية، فلوقا يقول إنها حدثت وقت تعداد (اكتتاب) أَمَرَ به كيرينيوس. وقد ظن البعض أن كيرينيوس حكم سوريا سنة 8 بعد الميلاد، فيكون التعداد حدث بعد مولد المسيح وبعد موت هيرودس. لكن ثبت أن كيرينيوس حكم مرتين: أولهما من 10- 7 ق. م، وهذا يجعل الإحصاء الأول وقت ولادة يسوع، وقبل موت هيرودس بقليل، وهو عام 4 ق. م.


ومع أن متى ولوقا يرويان قصة ميلاد يسوع من زاويتين مختلفتين، وقد استقيا المعلومات من مرجعين مختلفين، إلا أنهما يتفقان في أن يسوع حُبل به بالروح القدس من مريم العذراء المخطوبة ليوسف، الذي كان يعلم سرَّ ما حدث لخطيبته.


ونقدم هنا اثنتي عشرة نقطة للتوافق بين قصتي متى ولوقا:


1- وُلد يسوع في أواخر أيام هيرودس (متى 2: 1، 13، لوقا 1: 5).


2- حُبل به من الروح القدس (متى 1: 18 و 20، لوقا 1: 35).


3- أمه عذراء (متى 1: 18 و 20 و 23، لوقا 1: 27، 34).


4- كانت مخطوبة ليوسف (متى 1: 18، لوقا 1: 27، 2: 5).


5- يوسف من نسل داود (متى 1: 16 و 20، لوقا 1: 27، 2: 4).


6- وُلد يسوع في بيت لحم (متى 2: 1. لوقا 2: 4 و 6).


7- دُعي اسمه يسوع بتوجيه إلهي (متى 1: 21، لوقا 1: 31).


8- أُعلن أنه المخلِّص (متى 1: 21، لوقا 2: 11).


9- عرف يوسف مقدماً بما جرى لمريم، وسببه (متى 1: 18- 20، لوقا 2: 5).


10- مع هذا فقد أخذ مريم وتحمَّل مسؤليته من نحو الطفل يسوع (متى 1: 20 و 24 و 25، لوقا 2: 5).


11- صاحبت إعلان الميلاد رؤى وإعلانات (متى 1: 20، لوقا 1: 26 و 27).


12- عاشت مريم ويوسف في الناصرة بعد ولادة المسيح (متى 2: 23، لوقا 2: 39).


ولا يوجد تناقض واحد في سلسلة نسب المسيح. وهناك سلسلتان للنسب تظهران للقارئ السطحي متناقضتين. على أن السلسلة التي أوردها متى هي ليوسف، والتي أوردها لوقا هي سلسة نسب مريم. ولما كان يوسف من نسل يكنيا. فليس له الحق في العرش (إنظر إرميا 22: 30، 2 ملوك 2: 24 ومتى 1: 11). ولكن مريم ليست من نسل يكنيا. ولما لم يكن يوسف أباً ليسوع، فإن ليسوع الحق في العرش باعتبار أنه نسل المرأة مريم (لوقا 3: 23).


ويعارض البعض قصة ميلاد يسوع العذراوي بحجة أن مرقس (أقدم البشيرين، والذي سجل ما سمعه من الرسول بطرس) لم يذكر القصة، كما أن يوحنا لم يوردها في إنجيله. ويقدم كلمنت روجرز الرد التالي: كتب مرقس إنجيله في وقت مبكر، كانت مريم أم يسوع حيَّة وقتها، وكانت معروفة لدى الكثيرين، ولم تكن القصة تحتاج لرواية، فوضع مرقس التركيز كله على تعاليم المسيح ومعجزاته، وبشكل خاص على قصة الصليب. أما يوحنا فقد كتب في وقت متأخر، كانت فيه قصة الميلاد العذراوي قد عُرفت وذاعت من قصة إنجيلي متى ولوقا. ويهتم يوحنا بتوضيح موعد وليمة الفصح، ويفترض أن قرَّاءه يعرفون مريم ومرثا. وهو يكتب للمسيحيين، أو على الأقل للمهتمّين بالمسيحية. ولو أن قصة الميلاد العذراوي كانت موضع جدل أو إنكار لكتبها يوحنا ليؤكد صحتها، ولكنه عندما يقول: والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا يضمّن الفكرة. ولم يذكر يوحنا أيضاً موضوعي المعمودية والعشاء الرباني لأنهما كانا قد أصبحا جزءاً لا يتجزأ من الحياة المسيحية، ولكنه يلمّح إليهما في روايته لقصة نيقوديموس، وفي الحديث عن إشباع الخمسة آلاف (13).


ومن الممكن أن يوحنا يشير إلى الميلاد العذراوي في قوله ابنه الوحيد (يوحنا 3: 16) ويقول جون رايس: أشار يسوع إلى نفسه مراراً بأنه ابن اللّه الوحيد . فهو لم يُولد من يوسف بل من اللّه، فهو ابن اللّه الوحيد وقد جاء هذا التعبير في الإنجيل ست مرات، منها مرتان تحدَّث فيهما يسوع عن نفسه. ولا يقول يسوع إنه أحد أبناء اللّه، لكن ابن اللّه الوحيد . ولم يولد أحد غيره من عذراء. ويمكن أن نقول (بمعنى روحي) إن كل مؤمن وُلد ثانية لرجاء حي (1 بطرس 1: 3) ولكن أحداً لم يولد كما وُلد يسوع بالروح القدس، من مريم العذراء بدون أب بشري (14).


على أن يوحنا يقدم سلسلة نسب يسوع عندما يقول: فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَة,.. وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً (يوحنا 1: 1 و14)، إنه يرجع إلى الأزل متجاوزاً الميلاد العذراوي.


أما بولس فقد آمن بقصة الميلاد العذراوي، لأن لوقا كان رفيق بولس في السفر والخدمة، وهو الذي روى لنا قصة الميلاد. ولا شك أن بولس كان يعلم القصة وأشار إليها عندما قال: أَرْسَلَ اللّهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ (غلاطية 4: 4).


1- أدلَّة تاريخية على صحة الميلاد العذراوي:


تمت كتابة الأناجيل في وقت قريب من وقت ميلاد المسيح، فلم تمض فترة بين الميلاد وبين تسجيل قصته لتسمح للأساطير بأن تُنسَج حولها. ولو أن قصة الميلاد العذراوي لم تكن صحيحة، فإن سؤالين يعترضاننا:


(ا) لو أن قصة الميلاد العذراوي لم تكن مؤسسة على حقائق، فكيف كانت تنتشر بمثل السرعة التي انتشرت بها؟


(ب) لو لم تكن الأناجيل صحيحة تاريخياً، فكيف حدث قبولها في العالم كله في هذا التاريخ المبكر؟


يقول جريشام ماتشن: لو أن العهد الجديد لم يذكر قصة الميلاد العذراوي فإن الشهادات التي جاءتنا من القرن الثاني عن انتشار عقيدة الميلاد العذراوي قبل أواخر القرن الأول الميلادي، تكفي لإِثبات هذه الحقيقة (15) ولقد كانت هناك طائفة مسيحية اسمها الأبيونيون رفضت تصديق أن العذراء تلد ابناً (إشعياء 7: 14) وقالوا إن ترجمتها هي سيدة شابة تلد ابناً ولكن الثابت أن الكنيسة رفضت فكرة الأبيونيين! وقد آمن كل المسيحيين بالميلاد العذراوي، ما عدا الأبيونيين وقليلين من الغناطسة (العارفون باللّه)، فقد كان الإيمان بالميلاد العذراوي جزءاً لا يتجزأ من إيمان الكنيسة.


ومما يؤيّد ذلك تاريخياً، شهادة الآباء الأقدمين، فأغناطيوس (110 م) يقول في رسالته لأهل أفسس: إلهنا يسوع المسيح حُبل به بالروح القدس في رحم العذراء مريم . ويقول عذراوية القديسة مريم والمولود منها… أسرار أجراها اللّه في الخفاء، والعالم كله يتحدث عن ذلك . وقد أخذ أغناطيوس هذه الحقيقة عن معلّمه يوحنا الرسول. وكانت هذه العقيدة معروفة. وقد هاجمها كيرنتوس عدو الرسول يوحنا، ويقول جيروم إن كيرنتوس علَّم أن المسيح وُلد من يوسف ومريم كأي إنسان آخر. وقد التقى الرسول يوحنا بكيرنتوس في حمام عام، فصرخ يوحنا: لنخرج كلنا من هنا قبل أن ينهدم الحمام على كيرنتوس عدو الحق .


وقد كتب أرستيدس (125 م) عن الميلاد العذراوي، قال: إنه ابن اللّه المتعالي، الذي وُلد بالروح القدس من مريم العذراء. إنه حسب الجسد من الجنس العبراني، بزرع اللّه في مريم العذراء (4).


ويقدم جستن الشهير (150 م) برهاناً قوياً على الميلاد العذراوي، فيقول: معلمنا يسوع المسيح، ابن اللّه الوحيد، لم يولد ثمرة لاتصال جنسي… ولكن قوة اللّه حلَّت على العذراء وظللتها، وجعلتها تحبل مع بقائها عذراء… لأنه بقوة اللّه حُبل به من العذراء… فبحسب مشيئة اللّه وُلد يسوع المسيح، ابن اللّه، من العذراء مريم .


وكتب ترتليان، المحامي، أول مسيحي عظيم ممن يتكلمون باللغة اللاتينية. وهو لا يقول لنا فقط إن عقيدة الميلاد من عذراء كانت معروفة في عصره (200 م) بل يزيد بأن يقول لنا إن الاسم اللاهوتي لهذه العقيدة هو تسيرا . ونحن نعلم أن العقيدة لا يصير لها اسم لاهوتي إلا بعد أن تكون قد رسخت فترة من الزمن. ويقتبس ترتليان نصّ العقيدة أربع مرات، وفيها العبارة: إكس فيرجين ماريا (أي من مريم العذراء) (13).


2- أدلة من الشهادة اليهودية القديمة:


وكما نتوقع، هاجم اليهود عقيدة الميلاد العذراوي، أي أنه منذ القرن الأول واجهت الكنيسة جدلاً حول ميلاد المسيح العذراوي، الأمر الذي يوضح لنا أن الكنيسة علّمت بهذه العقيدة منذ البداية.


في سلسلة نسب يهودية، ترجع إلى ما قبل سنة 70 م، نجد اسم يسوع مكتوباً على أنه ابن لسيدة متزوجة. ولا بد أن البشير متى كان يعرف هذه الكتابات، فكتب يحذّر ضدها. وقد شهَّر علماء اليهود فيما بعد بيسوع على أنه ابن زانية، كما ادعَّوا بأن اسم الزاني المجهول هو بانثيرا . وفي كتاباتهم القديمة أطلقوا عليه اسم يسوع بن بانثيرا . أما كلسوس الكاتب الأفلاطوني الذي جمع في كتاباته بين الغث والثمين فقد جمع 160 من النوادر اليهودية عن علاقة مريم والشخص الخيالي بانثيرا (8).


وفي التاريخ اليهودي لحياة يسوع يُقال: إنه أصل غير شرعي نتيجة صلة أمه بجندي يُدعى بانثيرا (16).


وبالطبع ما كان اليهود ليثيروا هذه القضية في كتابات كثيرة لو لم يكن المسيحيون ينادون بعقيدة الميلاد العذراوي.


وفي دفاع أوريجانوس ضد كلسوم يقول: لنرجع إلى ما قاله اليهود من أن النجار خطيب مريم قد تخلَّى عنها لأنه اقتنع أنها زنت وحبلت بطفل من جندي يدعى بانثيرا. إنهم يقولون هذا لأنهم يريدون أن يتخلَّصوا من فكرة الميلاد المعجزي بالروح القدس. ولكن لماذا لم يقولوا إن يسوع ثمرة زواج عادي؟ إنهم بهذه الفرية يُقرُّون بأن يسوع لم يُولد ولادة عادية. الواضح أنهم لينكروا حقيقة، اخترعوا كذباً! لقد لفَّقوا قصصاً تافهة ليغطّوا كذبهم. هل من المعقول أن شخصاً خدم العالم كل هذه الخدمات، وعاش هذه الحياة النافعة على الأرض، لا يولد بطريقة معجزية، بل يولد من زنا. بل المنتظر هو أن هذه النفس التي صنعت صلاحاً أكثر من الجميع تحتاج إلى جسد لا يختلف فقط عن سائر الأجساد، بل ويسمو عليها كلها (17).


والأناجيل تذكر هذه المعارضة للميلاد العذراوي:


أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخَا يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ه هُنَا عِنْدَنَا؟ فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ (مرقس 6: 3).


أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ . فَقَالُوا لَهُ: إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللّهُ (يوحنا 8: 41).


ولقد اعتاد اليهود أن يطلقوا على الشخص اسم أبيه (يوحانان بن زكاي، مثلاً) حتى لو كان أبوه قد مات قبل ولادته: وكانوا يطلقون عليه اسم أمه عندما يكون مجهول الأب (8). ولقد اتهم اليهود المسيح بأنه أكول وشريب خمر، وكانت هذه الصفة تُطلق على ابن الزنا بين يهود فلسطين. لأنه بهذا السلوك ينمُّ عن أصله الوضيع، وبهذا المفهوم اتَّهم الفريسيون يسوع! (8). ومن هذا نرى أن اليهود اختلقوا فكرة ميلاد المسيح غير الشرعي ليقاوموا فكرة الميلاد العذراوي التي علَّمت بها الكنيسة منذ بداية عهدها.


3- اقتباسات من مؤلفين عالميين:


والآن لندرس ما يقوله بعض المؤلفين العالميين:


قال جرفث توماس: أكبر ما يسند عقيدة الميلاد العذراوي أن المسيح كان فريداً في حياته (29).


ويقول هنري موريس: من المناسب جداً أن الشخص الذي أجرى كل المعجزات في حياته، وبذل نفسه على الصليب لأجل فداء البشر، ثم قام منتصراً من الموت تأييداً لأقواله، يكون قد بدأ حياته بالدخول إلى العالم بطريقة فريدة .


ويمضي موريس فيقول: إن كان هو المخلّص، فلا بد أن يكون أعظم من مجرد إنسان، مع أنه ابن الإنسان. ولكي يموت عن خطايانا يجب أن يكون بلا خطية، وليكون بدون خطية في السلوك يجب أن يكون أولاً بلا خطية في الطبيعة، فما كان يمكن أن يكون قد ورث الطبيعة البشرية الساقطة المحكوم عليها باللعنة والعبودية للخطيئة مثل سائر البشر، فلا بد إذاً أن يكون ميلاده معجزياً. أن نسل المرأة قد زُرع في رحم العذراء كما قال الملاك: اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُّوَةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذ لِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللّهِ (لوقا 1: 35).


ثم يقول موريس: الميلاد العذراوي صحيح، لا لأن الكتاب المقدس يعلّمه فقط، بل لأنه أيضاً نوع الميلاد الذي يتمشى مع طبيعة المسيح ورسالته كمخلّص للعالم الهالك. إن من ينكر عقيدة الميلاد العذراوي ينكر وجود اللّه، وينكر أن اللّه صاحب سلطان على خليقته (18).


ويقول جريشام مكتشن: عقيدة الكنيسة بالميلاد العذراوي صادقة لأنها الحقيقة (15).


ويقول القرآن في سورة مريم: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (آيتا 20، 21).

 


ثانياً- لو أن اللّه صار إنساناً


فلا بد أن يكون خالياً من الخطأ


ولنطالع أولاً شهادة المسيح عن نفسه. إنه يسأل: مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ (يوحنا 8: 46). ولم يجاوبه أحد من أعدائه. ولو أنه كان خاطئاً لما استطاع أن يوجّه مثل هذا السؤال.


وقال أيضاً: لِأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ (يوحنا 8: 29) فقد كانت علاقته باللّه كاملة على الدوام، وإحساسه بالطهارة الكاملة مذهل. وكل مؤمن باللّه يعلم أنه كلما زاد قرباً من اللّه زاد شعوره بخطئه، ولكن هذه لم تكن الحالة مع المسيح، فقد عاش حياة القرب الكامل من اللّه بدون شائبة.


يخبرنا الإنجيل أن الشيطان جرب المسيح (لوقا 4) لكنه لا يقول إنه أخطأ! لم نسمعه يعترف أو يطلب غفران اللّه، مع أنه علَّم تلاميذه الاعتراف وطلب المغفرة. ومن الواضح أنه لم يكن لديه أي شعور بالذنب الملازم للطبيعة الساقطة.


1- أصدقاؤه يشهدون لكماله:


لم يقدم الكتاب المقدس أياً من أبطاله بدون عيب، فقد سجَّل أخطاء الجميع بمن فيهم موسى وداود، وفي كل سفر من العهد الجديد نرى نقائص الرسل، ولكنهم لا يذكرون نقصاً واحداً في المسيح. ولشهادة الرسل أهميتها لأنهم عاشوا في قرب قريب من يسوع نحو ثلاث سنوات، وكانوا يهوداً يدركون التعليم اليهودي عن الطبيعة الإنسانية الخاطئة، ولكنهم شهدوا لكماله بطريقة غير مباشرة، فلم يحاولوا برهنة كماله، لكنهم أوضحوها عندما ذكروا ما عرفوه عن حياته. لم يروا خطية واحدة فيه مع أنهم رأوا خطايا أنفسهم. لقد جادلوا وتذمَّروا، لكنهم لم يروا يسوع يفعل شيئاً من هذا. ونتيجة لهذا يقول بطرس: بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلَا عَيْبٍ وَلَا دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِب (1 بطرس 1: 19)، ويقول: الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلَا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ (1 بطرس 2: 22)، ويقول يوحنا: وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ (1 يوحنا 3: 5) (راجع 1 يوحنا 1: 8- 10). يقول يوحنا إن البشر إن قالوا إنه ليس لهم خطية يُضلّون أنفسهم وليس الحق فيهم، لكنه يقول إن المسيح ليس فيه خطية!


حتى يهوذا، التلميذ الخائن رأى براءة المسيح فقال قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً (متى 27: 3، 4).


ويشهد بولس الرسول أن المسيح كان بلا خطية (2 كورنثوس 5: 21).


2- أعداؤه يشهدون لكماله:


شهد أحد من اللصين المصلوبين معه لكماله بالقول: أَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ (لوقا 23: 41).


وبيلاطس يشهد لكماله: إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ (لوقا 23: 22).


وقائد المئة يقول: بِا لْحَقِيقَةِ كَانَ هذَا الْإِنْسَانُ بَارّاً (لوقا 23: 47).


وقد حاول أعداؤه الشكوى ضده، فلم يجدوا فيه عيباً (مرقس 14: 55، 56). ويلخّص مرقس الشكاوَى التي وُجِّهت ضده، فيقول أولاً إنهم اتهموه بالتجديف لأنه غفر خطايا الناس، مع أن اللّه وحده هو الذي يغفر. وثانياً اتهموه أنه كان يخالط الخطاة والسكيرين والزواني، الأمر الذي كان رجال الدين اليهودي يتحاشونه، وكان ردُّه على ذلك أنه طبيب الخطاة (مرقس 2: 17). واتهموه ثالثاً أنه لم يصُمْ كالفريسيين، ولو أنه كان يتمسك بدينه. وأخيراً كانوا متضايقين لأنه نقض شريعة السبت اليهودية، إذ شفى المرضى في يوم السبت. ولكنهم لم ينكروا عليه أنه كان مطيعاً لناموس اللّه. والحق أنه رب السبت فاختار أن يكسر التقاليد اليهودية في تفسير شريعة اللّه عن يوم السبت، دون أن يكسر الوصية نفسها.


3- التاريخ يشهد لكماله:


في سورة مريم في القرآن يقول الملاك لمريم: أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً (آية 19) (والزكي هو الطاهر الذي لا عيب فيه) ويقول في سورة آل عمران: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ (مريم) وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (آية 36). وفي الحديث: ما من مولود يولد إلا مسَّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخاً، إلا مريم وابنها . رواه الشيخان.


ويقول المؤرخ فيليب شاف: هنا قدس الأقداس البشرية. لم يعش أحد كما عاش المسيح الذي لم يؤذ أحداً ولم يستغل أحداً، ولم ينطق بكلمة عاطلة، ولم يرتكب عملاً خاطئاً. والانطباع الأول الذي يسود علينا عن حياة المسيح هو البراءة الكاملة والعصمة من الخطية وسط عالم فاسد. فهو وحده- لا سواه- كان بلا عيب في طفولته وشبابه ورجولته، ولذلك فالحمل والحمامة رمزان مناسبان لطهارته. وبعبارة موجزة هو الكمال المطلق الذي يرفع شخصيته فوق مستوى البشر ويجعله معجزة العالم الأخلاقية، وهو التجسد الحي للفضائل والقداسة، وأسمى مثال لكل صلاح ونقاء ونُبْل في نظر اللّه والناس. هذا هو يسوع الناصري الإنسان الكامل في جسده ونفسه وروحه، ولكنه يختلف عن البشر جميعاً. هو الفريد من طفولته إلى رجولته، الذي عاش في اتحاد دائم باللّه، تفيض محبته على الناس، خالٍ من كل عيب وشر، مكرَّس لأقدس الأهداف. كانت تعاليمه وحياته في توافق تام، وختم أطهر حياة بأسمى موت. إنه النموذج الوحيد الكامل للصلاح والقداسة (مرجعا 6، 7).


ويقول جون سكوت: إن نسيان النفس في خدمة اللّه والناس هو ما يدعوه الكتاب المقدس بالمحبة. المحبة لا تهتم بما لنفسها، بل تبذل نفسها. وقد كان يسوع بلا خطية لأنه لم يكن أنانياً يطلب ما لنفسه. وهذه هي المحبة واللّه محبة (19).


ويقول ولبر سمث: كانت أبرز صفات يسوع في حياته الأرضية هي ما نفشل جميعاً فيها، ومع ذلك نعترف أنها أعظم الصفات جميعاً. إنها صفة الصلاح المطلق، أي الطهارة الكاملة، والقداسة الحقيقية. وفي هذا كان يسوع معصوماً من الخطأ (10).


ويقول جفرسون: إن أعظم برهان على كمال المسيح هو أنه جعل المحيطين به يعترفون بكماله. فلم يصدر عنه في كل أحاديثه أي شيء من الندم أو الحزن على تقصير أو خطإٍ صدرا منه. لقد علَّمهم أنهم خطاة وأن القلب البشري شرير، وأنهم يجب أن يطلبوا الغفران كلما يصلّون. ولكنه لم يطلب مطلقاً الغفران لنفسه، فلم يفعل إلا كل ما يرضي اللّه (20).


ويقول كنث لاتوريت المؤرخ الشهير: لا يوجد أي أثر لإِحساس المسيح بارتكاب خطإ. وشخص في مثل سمو المسيح يقدّم لأتباعه أعلى المبادئ ويعلّمهم ضرورة الاعتراف بالخطية وطلب المغفرة لها، دون أن يحتاج هو نفسه لذلك، لا بد أن يكون كاملاً. لقد كتب مبادئ الموعظة على الجبل بحياته، ولم تكن الموعظة إلا ترجمة لحياته (21).


ونختتم هذا الموضوع باقتباس آخر من المؤرخ المسيحي فيليب شاف: كلما زادت قداسة الإنسان، زاد إحساسه بالحاجة إلى الغفران، وشعوره بنقصه عن المستوى الروحي المطلوب. ولكن يسوع الذي جاء في صورة جسدنا، وتجرَّب مثلنا، لم يستسلم للتجربة، ولم يكن لديه ما يدعو للندم أو للاستغفار، سواء عن فعل أو قول أو فكر. لم يكن محتاجاً إلى غفران أو تغيير أو إصلاح، ولم يفقد- ولو للحظة واحدة- توافقه مع الآب. وكانت حياته سلسلة متصلة من التكريس لمجد اللّه ولخير الناس الأبدي (7).


4- المتشدّدون يشهدون لكماله:


يقول روسو: عندما يصف أفلاطون الإنسان الخيالي الكامل، الذي يتحمَّل عقاب الذنوب كلها، لكنه يستحق أفضل جوائز الفضيلة، فإنه يصف بالضبط شخصية يسوع المسيح (6).


ويقول الكاتب المشهور جون ستيوارت ميل: مَنْ من بين تلاميذه أو الذين آمنوا به كان يستطيع أن يقول كلمات مثل التي قالها يسوع، أو كان يقدر أن يتخيَّل حياةً تشابه تلك الحياة التي تحدَّثت عنها الأناجيل؟ (6).


ويقول رالف والدو إمرسون: يسوع أعظم كمالاً من كل الناس الذين ظهروا في العالم (22).


ويقول المؤرخ وليم ليكي: إنه ليس فقط النموذج الأسمى للفضيلة، لكنه أقوى باعث على ممارستها (23).


وحتى دافيد ستراوس أشد من هاجم ما هو معجزي في الأناجيل، والذي حاول- أكثر من أي كاتب آخر- أن يحطم الإيمان بالمسيح- حتى ستراوس هذا، بكل قواه العقلية الفذة وطاقاته الذهنية التي سخَّرها جميعاً في نقد الكتاب المقدس والإِنكار الكلي لكل ما هو معجزي، اضطر في أواخر حياته أن يعترف بأن في المسيح الكمال الأخلاقي، وقال: هذا المسيح شخص تاريخي وليس أسطورياً، وهو شخص وليس مجرد رمز.. أنه يظل على الدوام أعلى نموذج للدِّين يمكن أن يصل إليه فكرنا، ولا يمكن أن يصل إنسان إلى التقوى بدون حضوره في القلب (6).


وختاماً نقتبس قول برنارد رام: إن ما نتوقع أن نراه في اللّه متجسداً، هو الكمال الخالي من الخطية، والخلو المطلق من الخطية، وهذا ما نجده في يسوع المسيح حقيقة جلية .

 


ثالثاً- لو أن اللّه صار إنساناً


لأجرى المعجزات فوق الطبيعية


1- شهادات كتابية:


اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ (لوقا 7: 22).


فالمعجزات التي أجراها المسيح تُظهر سلطانه في ميادين كثيرة، مثل سلطانه على الطبيعة وعلى الأمراض وعلى الشياطين وعلى الموت. وكانت هذه المعجزات تحقيقاً للنبوات عن المسيح في العهد القديم.


ونقدم هنا معجزات في ميدان الشفاء الجسدي:


أبرص- متى 8: 2- 4، مرقس 1: 40- 45، لوقا 5: 12- 15.


مفلوج- متى 9: 2- 8، مرقس 2: 3- 12، لوقا 5: 18- 26.


مريض بالحمى (حماة بطرس)- متى 8: 14- 17، مرقس 1: 29- 31.


ضعف جسدي- يوحنا 5: 1- 9.


يد يابسة- متى 12: 9- 13، مرقس 3: 1- 6، لوقا 6: 6- 11.


صمم وخرس- مرقس 7: 31- 37.


العمى- مرقس 8: 22- 25، يوحنا 9، مرقس 10: 46- 52.


عشرة برص- لوقا 17: 11- 19.


أذن ملخس المقطوعة لوقا 22: 47-51.


نزيف دموي- متى 9: 20- 22، مرقس 5: 25- 34، لوقا 8: 43- 48.


إستسقاء- لوقا 14: 2- 4.


معجزات في ميدان الطبيعة:


تحويل الماء إلى خمر- يوحنا 2: 1- 11.


إسكات عاصفة- متى 8: 23- 27، مرقس 4: 35- 41، لوقا 8: 22- 25.


زيادة الطعام ليكفي 5000- متى 14: 15- 21، مرقس 6: 34- 44، لوقا 9: 11- 17، يوحنا 6: 1- 14 وليكفي 4000- متى 15: 32- 39، مرقس 8: 1- 9.


السير على الماء- متى 14: 22، 23، مرقس 6: 45- 52، يوحنا 6: 19.


النقود من السمكة- متى 17: 24- 27.


شجرة التين تيبس في الحال- متى 21: 18- 22، مرقس 11: 12- 14.


معجزات إقامة موتى:


إقامة ابنة يايرس- متى 9: 18- 26، مرقس 5: 35- 43، لوقا 8: 41- 56.


ابن أرملة نايين- لوقا 7: 11- 15.


لعازر- يوحنا 11: 1- 44.


2- شهادات وتعليقات على معجزاته:


قال بول لتل: كان للمسيح سلطان عظيم على الطبيعة، لا يمكن أن يكون إلا للّه خالق قُوَى الطبيعة (24).


ويقول كلايف لويس في كتابه المعجزات: ستبقى كل أساسيات الديانة الهندوسية باقية لو نزعْتَ الجانب المعجزي منها، وهكذا الحال مع ديانات أخرى. ولكنك لا تقدر أن تفعل هذا مع المسيحية، فإنها قصة المسيح، المعجزة العظيمة (25).


ويقول برنارد رام: في الديانات المختلفة يؤمن الناس بالمعجزات لأنهم قد آمنوا بالدين، أما الكتاب المقدس فإن المعجزات فيه جزء من وسائل تأسيس الدين الحقيقي. وهذا فارق بالغ الأهمية، فلقد ظهرت إسرائيل في الوجود بسلسلة من المعجزات، وأُعطي الناموس محاطاً بمعجزات، وصاحبت رسائل الأنبياء معجزات. وجاء المسيح، لا واعظاً فقط، بل صانع معجزات أيضاً، وهكذا كان الرسل يصنعون معجزات. لقد برهنت المعجزات صدق الرسالة (26).


ويميّز فيليب شاف بين قصص المعجزات السحرية المذكورة في القصص السوقية وغيرها من الكتابات الأسطورية، وبين معجزات الكتاب المقدس، فيقول إن معجزات الكتاب المقدس جاءت طبيعية ببساطة ويُسر، حتى إننا ندعوها أعمال اللّه (7).


ويقول جرفث توماس إن كلمة أعمال اللّه تعني أنها ثمر طبيعي لحياته وتعبير طبيعي عن نفسه، فلا بد أن شخصاً مثل المسيح يُجري الأعمال الخارقة (29).


ويمضي فيليب شاف ليقول: كانت كل معجزاته مظهراً لشخصه، فأجراها كلها ببساطة كأعمال عادية يعملها كل يوم. وقد دفعه إلى عملها كلها أطهر الدوافع، لمجد اللّه ولخير الناس. إنها معجزات محبة ورحمة، عامرة بالتوجيهات والتعاليم المتَّسقة مع شخصيته ورسالته (6).


ويقول ف. تشيز: تذخر كل الأناجيل بمعجزات المسيح، لكن لو جمعناها معاً لاكتشفنا فيها وحدة غير مرسومة، ولوجدنا أنها تجدد كل نواحي حياة الإنسان ليستعيد سلامه العقلي والروحي والجسدي. ولا تعرض الأناجيل معجزات المسيح لتظهر قوته أو عظمته، ولو أنها فعلت ذلك لظهرت غير طبيعية. إنها تعبير عن محبته ورحمته للناس (5).


ويقول جارفي: تتفق المعجزات تماماً مع شخصية المسيح ورسالته، فهي ليست دليلاً خارجياً، بل هي جزء لا يتجزأ من إعلان محبة الآب السماوي ورحمته ونعمته في المسيح يسوع ابن اللّه الحبيب وفادي البشر الحنون الكريم .


ويقول توماس جريفث: بالنسبة لنا نحن، المسيح نفسه هو أعظم معجزة، والتفكير المنطقي السليم هو أن نبدأ من المسيح إلى المعجزات، وليس من المعجزات إلى المسيح .


3- شهادات يهودية قديمة لمعجزاته:


يقول أثلبرت ستوفر: نجد في كتابات اليهود القديمة الكثير من الإِشارات لمعجزات المسيح، سواء في كتبهم الدينية أو تواريخهم، فيقول المعلم أليعازر بن هيرانوس (سكن في اللد سنة 95 م): إن معجزات يسوع فنون سحرية . وفي كتابات السنهدريم (من سنة 95- 110 م) نفي لمعجزات المسيح باعتبارها من أعمال السحر لتضليل إسرائيل. ونحو سنة 110 م نقرأ جدال بين يهود فلسطين إن كان يجوز إجراء الشفاء باسم يسوع. وهذا بالطبع يعني اعترافهم بأن يسوع كان يشفي (8).


ونجد في كتابات الإمبراطور جوليان المرتدّ عن المسيحية (361- 363 م) وأحد الأعداء الألدّاء للمسيحية، قوله: يسوع، الذي مضى على زمنه نحو 300 سنة، لم يعمل شيئاً في حياته يستحق الشهرة، إلا إذا ظنَّ أحد أن شفاء أعرج أو أعمى أو مجنون في قرى بيت صيدا وبيت عنيا شيء عظيم (6). وهو بهذا يشهد- دون قصد- أن يسوع عمل المعجزات في بيت صيدا وبيت عنيا!


ويشهد القرآن للمسيح بعمل المعجزات وإقامة الموتى وغير ذلك (المائدة 110).


ويذكر من المعجزات: الخلق والابراء والإحياء وعلم الغيب، لأن اللّه أيده بروح القدس (المائدة 113) وهذا ما لم يحدث لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده (الرازي). ويقول الجلالان: فأبرأ في يوم خمسين ألفاً بالدعاء بشرط الإيمان .


4- معجزاته لا لَبْسَ فيها:


فقد أجرى يسوع معجزاته أمام الجمهور الناقد المتفحّص. وعندما أقام لعازر من الموت لم ينكر أعداؤه المعجزة، ولم يحاولوا أن يكذبوها، بل أرادوا أن يقتلوه ويقتلوا لعازر، البرهان الصادق على حدوث المعجزة! (يوحنا 11: 48) وكان هدفهم أن يمنعوا الناس من الإيمان بالمسيح.


لقد عرف معاصرو المسيح قدرته على عمل المعجزات، ولكن أعداءه نسبوا هذه القوة إلى الأرواح الشريرة، بينما أدرك أصحابه أنها قوة اللّه. (متى 12: 24). وقد أجاب المسيح على اتهام أعدائه هذا بقوله: كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لَا يَثْبُتُ. فَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُخْرِجُ الشَّيْطَانَ فَقَدِ انْقَسَمَ عَلَى ذَاتِهِ. فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ (متى 12: 25 و26).


صحيح أن الديانات المختلفة تعزو معجزاتٍ لمؤسسيها، لكن أكاذيبهم لا يجب أن تجعلنا نكذّب المعجزات التي أجراها المسيح. فإن بعض الناس يرفضون المعجزات بحُجة أنها ضد القوانين الطبيعية، ولكن القوانين الطبيعية ليست علّة الأشياء، بل هي مجرد وصف لما يسمح اللّه بحدوثه. فعندما نتحدث عن معجزات يسوع نرى تدخُّل اللّه ليوجّه قوانين الطبيعة وسَيْر الأحداث. والمعجزات هي إحدى وسائل اللّه للاتصال بنا، وإيماننا بها يتوقف على إيماننا به.


ولو أننا سمحنا للفكر العلمي عن انتظام واستمرارية الطبيعة، أن يغلق الطريق أمامنا، فإن إيماننا بالمعجزات سيكون مستحيلاً. ولكننا لو فعلنا هذا نكون قد قررنا النتيجة قبل أن نفحص الأدلّة! إن العلم يقدر أن يقول إن المعجزات لا تحدث في النظام الطبيعي العادي، ولكنه لا يقدر أن يمنع المعجزات، لأن القوانين الطبيعية ليست علّة الأشياء، وبالتالي فهي لا تمنعها.


ويقول فيليب شاف: المعجزات أشياء فوق الطبيعة وليست ضدها. إنها تعبير عن قانون أعلى، تخضع له القوانين الأدنى .


ويقول جون برودوس: خذ الأناجيل وادرسها. لو أن المسيح لم يعمل المعجزات فإنه بالتأكيد يكون قد قال الكثير من الكذب. إما أنه تكلَّم كما لم يتكلم أحد قطّ، وأن شخصيته هي بلا عيب، وأنه صنع معجزات، أو أنه كذب علينا! .


وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه حياة المسيح (كتاب الهلال يناير 1958):


من الحق أن نقول إن معجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن ولم تنْقَضِ بانقضاء أيامها في عصر الميلاد: رجل ينشأ في بيت نجار في قرية خاملة بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولاً تضيع في أطوائها دولة الرومان، ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذه الفتوح ما قضاه الجبابرة في ضم إقليم واحد، قد يخضع إلى حين ثم يتمرد ويخلع النير، ولا يخضع كما خضع الناس للكلمة بالقلوب والأجسام.


وتم على يد هذا الرسول نقيض ما يتم على أيدي الوثنية في صولتها وسلطانها، فإن الوثنية تتغلب لأنها دين الدولة الغالبة، أما هذه الرسالة- رسالة الملكوت السماوي- فقد نشأت في عشيرة قبيلة ذليلة، تحكمها تارة دولة الرومان الغربية، وتحكمها تارة أخرى دولة الرومان الشرقية، فلم يمض غير أجيال معدودات حتى غزت الدولتين واستوت على العاصمتين، وصحَّ ما رووه عن جوليان- سواء قاله أو لم يقله- فانتصر الجليلي بملكوته السماوي على ممالك القياصر، وضم القياصر إلى حاشيته، فمنه يأخذون ما أخذوه باسم قيصر وما أخذوه باسم اللّه! .


ويختم الأستاذ عباس العقاد كتابه هذا بقوله:


وبعد، فهذا الكتاب مقصور على غرض واحد، وهو جلاء العبقرية المسيحية في صورة عصرية، نفهمها الآن كما نفهم العبقريات على أقدارها وأسرارها، وقد قلَّ فيها نظير هذه العبقرية العالية في تواريخ الأزمان قاطبة. ولا يزال هذا الغرض المجيد متَّسعاً للتوفية والتجلية من نواح عدة، فإن كُتب لنا أن نُوفَّق لزيادة شيء إلى هذه الذخيرة القدسية، فذلك حسبنا وكفى .

 


رابعاً- لو أن اللّه صار إنساناً


لجاء مختلفاً عن كل البشر!


كان تأثير يسوع على الناس عظيماً حتى وقفوا معه أو ضده، ولكنهم لم يملكوا أن يكونوا لا مبالين معه! ويقول القرآن عنه: المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين (آل عمران آية 45) ويقول البيضاوي: وجيهاً في الدنيا بالنبّوَة وفي الآخرة بالشفاعة ويقول الرازي: الوجاهة في الدنيا هي النبّوَة أو استجابة دعائه، أو براءته من العيوب. وفي الآخرة الشفاعة، أو علّو درجته ومنزلته، أو كثرة ثوابه .


ويقول بسكال: من أين للبشيرين أن يعرفوا صفات البطولة الكاملة، حتى يرسموها بكل هذا الكمال والجلال في المسيح يسوع؟ .


ويقول مارتن سكوت: من كل وجه كان يسوع إنساناً حقيقياً بل وأعظم من إنسان (9). فإن يسوع هو اللّه الذي ظهر في الجسد تحت ظروف الزمن، وهذه فكرة غير عادية. كانت حياته مقدسة، وكلماته صادقة. كان الحق متجسداً، بلا مثيل في الكمال والطهر والاتزان العاطفي والعقلي، له النظرة الصافية والبصيرة النفاذة.


ويقول جون يونج في كتابه مسيح التاريخ: كيفيمكن أنه في كل الأجيال لم يُقْم شخص كامل كيسوع؟ إن ما عمله اللّه للتقوى والفضيلة على الأرض في وقت ما وفي حالة ما، يمكن أن يتكرَّر في أوقات وحالات أخرى. ولو كان يسوع إنساناً فقط لأقام اللّه، على توالي الأجيال، أشخاصاً مثله يكونون نماذج للبشر في القداسة والتعليم والنهوض بالعالم. ولكن اللّه لم يفعل! (27).


ويقول كارنيجي سمبسون: لا يمكن أن تضع يسوع في نفس المستوى مع الآخرين، فعندما نقرأ اسمه في قائمة العظماء من كونفوشيوس إلى جوته نشعر أننا أسأنا إلى اللياقة والذوق، فإن يسوع ليس واحداً من هؤلاء العظماء. تحدَّثْ عن الاسكندر الأكبر أو شرلمان العظيم أو نابليون العظيم- كما شئت.. ولكن يسوع يقف وحده، فهو ليس الأكبر! إنه الوحيد . إنه يسوع الفريد وكفى! إنه لا يخضع للتحليل. إنه يسمو فوق كل نقد. إنه يبعث فينا الاحترام الكامل له (19).


ويقول فيليب شاف: لم تنحرف غيرته إلى انفعال، ولا ثباته إلى عناد، ولا إحسانه إلى ضعف، ولا رقّته إلى مجرد عواطف. لقد كان اجتماعياً شديد المبالاة بالناس، رغم أن روح العالم لم تسيطر عليه. كانت عظمته خالية من الكبرياء والجرأة، وكان تعلّقه بالناس بعيداً عن رفع التكلّف الذي لا داعي له، وإنكاره لنفسه بدون كآبة، واعتداله بلا تزمّت.. لقد جمع براءة الأطفال بقوة الرجال، وحوى التعبّد العميق للّه مع الاهتمام الكامل بخير البشر. جمع بين الحب الرقيق للخطاة والقسوة الشديدة على الخطية. وجمع بين الوقار الآسر والتواضع الجاذب. جمع بين الشجاعة التي لا تخاف والحذر الحكيم، وحوى الحزم الذي لا يستسلم مع اللطف الجميل (6).


في حديث بين روبرت براوننج وتشارلس لام عن انطباعاتهما لو أن أحد الموتى دخل عليهما، سُئل لام عما يفعله لو أن المسيح دخل الحجرة قال: لو أن شكسبير دخل الحجرة لقُمنا كلنا لنقابله، ولكن لو أن هذا الشخص (يسوع) دخل إليها لخررنا جميعاً محاولين أن نقّبل هدب ثوبه (19).


ويقول شاف: ما يعترف به الجميع… أن يسوع قد علّم أطهر مبادئ الأخلاق، التي تُلقي بكل النظريات الأخلاقية الأخرى وحكمة أحكم الحكماء، في الظلال (6).


ويقول جوهان تفريدفون هردر (في الموسوعة الدينية): إن يسوع المسيح، بأسمى معاني الكلمة هو المثال الأعلى للبشرية، باعتراف الجميع .


وقال نابليون بونابرت: إنني عليم بالناس، ولكني أقول إن يسوع المسيح ليس مجرد إنسان، فليس بينه وبين أي إنسان آخر في العالم مجال للمقارنة. لقد أسّست أنا والاسكندر وقيصر وشرلمان إمبراطوريات، لكن عَلاَمَ أرسينا قواعدها؟ على القوة! ولكن يسوع المسيح أسّس إمبراطوريته على الحب. وفي هذه اللحظة هناك الملايين المستعدون أن يموتوا من أجله (22).


يقول ثيودور باركر، أحد الموحّدين المشهورين (ممن ينكرون التثليث): إن يسوع يجمع في نفسه أسمى المبادئ مع أروع الأفعال السماوية، وفي صورة أسمى من كل ما حلم به الأنبياء والحكماء، فهو يخلو من كل ظنون عصره وأمته، ويفيض بالتعاليم الجميلة كالنور، والطاهرة كالسماء، والصادقة كاللّه. وها قد مرَّت ثمانية عشر قرنا منذ أن ارتفعت شمس البشرية إلى الذروة في يسوع المسيح. وأي إنسان أو أي مذهب استطاع أن يستوعب كل فكرِه ويدرك كل تعاليمه ويطبقها تماماً على الحياة؟.


ويقول فيلبس بروكس: في يسوع المسيح نرى تنازل اللّه ورفعة البشرية .


وإليك ما يقوله بعض معارضي المسيح:


يقول العبقري جوته قرب نهاية حياته، وهو يتطلع إلى التاريخ: لو أن كائناً إلهياً ظهر في التاريخ لكان هو المسيح … إن العقل البشري، مهما تقدم في مختلف الميادين، لن يسمو فوق قِيَم وآداب المسيحية التي تشرق وتتوهّج في الأناجيل (7) ويقول: إنني أحترم الأناجيل وأعتبرها صحيحة، فمنها يشرق نور الجلال والسمّو من شخص المسيح السماوي الذي لم يظهر له مثيل في الأرض (2).


وعندما سئل المؤرخ ه-. ج. ويلز عن الشخص الذي ترك أعمق أثر دائم على التاريخ، قال: إنه بمقياس العظمة التاريخية يجيء يسوع أولاً (26).


ويقول أرنست رينان: مهما جاءت مفاجئات المستقبل، فلن يُعلَى على يسوع (6).


ويشير توماس كارلايل إلى يسوع بالقول: إنه الرمز السماوي، أعلى مما يستطيع الفكر البشري أن يبلغه. إنه الشخصية اللانهائية التي تتطلَّب الدرس الدائم (6).


ويقول روسو: هل يمكن أن يكون الشخص الذي تقدمه الأناجيل إنساناً؟ يا للحلاوة! يا للخلق الطاهر! ما أعظم الصلاح الآسر في تعاليمه! يا لروعة أقواله! يا لعمق حكمة تعاليمه! يا لحضور ذهنه وبراعة حكمه في إجاباته الرائعة المفحمة! نعم! إن كان سقراط قد عاش ومات كفيلسوف، فإن يسوع المسيح قد عاش ومات كاللّه (2).


ونختم باقتباس قول جونستون روس: هل فكرت في المكانة الخاصة التي احتلها يسوع من جهة جنسه؟ إن النساء والرجال يجدون صعوبة على السواء وهم يحاولون الوصول إلى مثاله.. فكل ما في الرجال من قوة وعدل وحكمة، وكل ما في النساء من رقة وطهر وبصيرة، نراه في المسيح بدون أن يكون ثمة ما يعوق ظهور كل هذه الفضائل المتباينة في شخص واحد .

 


خامساً- لو أن اللّه صار إنساناً


لكانت كلماته أعظم ما قيل


قال المسيح: اَلسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ تَزُولَانِ، وَل كِنَّ كَلَامِي لَا يَزُولُ (لوقا 21: 33) والناس الذين سمعوا كلامه بُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ (لوقا 4: 32). ومن الضباط إلى الحراس نسمع: لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هكَذَا مِثْلَ هذَا الْإِنْسَانِ (يوحنا 7: 46).


وترجع عظمة تعاليم المسيح إلى أنها عالجت، بسلطان ووضوح، أكثر مشاكل الناس إرهاقاً، خصوصاً تلك التي تتصل بعلاقاتهم بالرب.


إن تعاليمه علامات على الطريق، لكل الأجناس والشعوب، لأنه نور العالم. ولنقارن بين المسيح وأفلاطون الذي كان سابقاً للمسيح بنحو 400 سنة، وكان متقدماً على المسيح في الفكر الفلسفي. لكن قارن بين كتاباته في المحاورات وبين الأناجيل. المحاورات مليئة بالأخطاء والسخف المنافي للعقل، وبعبارات لا أخلاقية، مع أنها رغم كل ذلك تعتبر أسمى ما وصل إليه العقل البشري في الروحانية التي لا تساندها الإعلانات السماوية (12).


وتقف عظمة شخصية المسيح خلف عظمة تعاليمه! لم يقتبس أو يعلن تعليم سواه، لكنه أعلن تعاليمه هو. لم يقل: هكذا قال الرب بل قال: الحق الحق أقول لكم وأما أنا فأقول .


ويقول جوزيف باركر: بعد قراءة أفكار أفلاطون وسقراط وأرسطو نرى الفرق بينها وبين تعاليم المسيح، كالفرق بين التساؤلات والوحي المعلَن (22).


ويقول برنارد رام: من جهة الإحصاءات تقف الأناجيل كأعظم ما كُتب، يقرأها أكبر عدد من الناس، ويقتبسها أكبر عدد من المؤلفين، وتُترجم إلى أكثر اللغات، ويصّور أفكارها معظم الفنانين والموسيقيين والرسامين. إنها تُقرأ وتُقتبس وتُترجم وتُحب وتحظى بإيمان الناس بها أكثر، لأنها أعظم الكلمات. وتكمن عظمتها في وضوحها وقدسيتها ودقتها وسلطانها في معالجة مشاكل البشر العظمى التي تجيش بها صدورهم. إنها تجيب على التساؤلات: من هو اللّه؟ هل يحبني؟ هل يهتم بي؟ ماذا أفعل لأرضيه؟ كيف ينظر لخطيتي؟ كيف أجد الغفران؟ إلى أين أذهب بعد الموت، كيف أعامل الآخرين؟ ولا يمكن أن كلمات إنسان آخر تشدّ انتباهنا أكثر من كلمات يسوع، لأنه لا يستطيع إنسان آخر أن يجيب على هذه الأسئلة الجوهرية كما أجاب عنها يسوع، فإجاباته هي الإجابات نفسها التي ننتظر صدورها من اللّه، وهكذا تستريح قلوبنا عليها (26).


لقد صارت تعاليم المسيح قوانين وعقائد


è


وأمثالاً، وصارت سبب عزاء للملايين دون أن تنتهي أو تزول. فأي معلم بشري ضَمِنَ أن تستمر كلماته للأبد؟ تظهر أنواع من كلام البشر، ثم تزول، وتقوم ممالك وإمبراطوريات ثم تسقط، أما يسوع فسيظل إلى الأبد هو الطريق والحق والحياة . ولم يحدث أن ثورة أثَّرت في أي مجتمع بقدر ما أثَّرت كلمات يسوع.


ولربما نسمع البعض يقولون إن ما قاله يسوع قد قِيل من قبل. ولنفرض أن هذا صحيح (مع أنه ليس صحيحاً).. فلا زالت تعاليم المسيح تجيء في القمة، ففي كل تعليم آخر هناك التوافه ممتزجة بالأشياء الهامة. أما يسوع فقد قدم التعاليم الباقية النافعة الخالدة فقط. وقد عاش كل كلمة قالها بسلوكه وآزرها بأفعاله. وكيف لهذا النجار الذي لم يتلقَّ تعليماً خاصاً، ولم يدرس الثقافة والعلوم الإغريقية، وعاش وسط شعب متزمّت ضيق الأفق… كيف له أن يجمع أعظم تعاليم العالم ويقدمها معاً بدون خطأ ولا عيب، وبدون تعديل أو تصحيح أو نسخ؟ كيف يقف عملاقاً معلماً للأجيال؟!


ويقول جرفث توماس: مع أن يسوع لم يتلقَّ تعليماً لاهوتياً رسمياً من رجال الدين اليهود، لكنه لم يُظهر أي تردّد أو خجل في إعلان ما رأى هو أنه حق! وبدون تفكير في نفسه أو في سامعيه خاطب الجمهور بدون خوف، وبدون حساب للعواقب على نفسه، فقد كان همُّه أن يوصّل رسالته. وقد شعر سامعوه بقوة كلامه (لوقا 4: 32) فأسر سامعيه بقوة شخصيته التي تجلَّت في قوة أقواله، حتى قالوا إنه لم يتكلم قط إنسان مثله (يوحنا 7: 46). لقد ترك عمق حديثه وروعته وبساطته وشموله ونفاذه أعمق الأثر في سامعيه، فأدركوا أنهم أمام معلم لم تَرَ البشرية له نظيراً من قبل، فيقول عنه بولس بعد سنوات عديدة: متذكّرين كلمات الرب يسوع (أعمال 20: 35) ولا يزال هذا هو الحال على مر الأجيال (29).


ويقول الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه حياة المسيح (كتاب الهلال يناير 1958).


الحق أن قدرة السيد المسيح على الردود السريعة والأجوبة المسكتة، لهي دليل آخر إلى جانب أدلة كثيرة على الشخصية التاريخية، والدعوة المتناسقة، لأنها قدرة من وراء طاقة التلاميذ والمستمعين، بل هم يروُونها ولا يفطنون إلى أهم البواعث عليها في سياسة الرسالة المسيحية، فإن هذه الرسالة قائمة على اجتناب التشريع واجتناب التعرُّض له بالإِبطال أو الإِبدال، ووجهتها على الدوام أنها لا تدَّعي سلطة من سلطات الدنيا والدين، وأن مملكة المسيح من غير هذا العالم وليست من ممالك الدو ل والحكومات. وكذلك قال لكُهَّان الهيكل، وكذلك قال لبيلاطس حاكم الرومان، وعلى ذلك جرى أسلوبه في كل أمر وفي كل موعظة. فهو أسلوب الآداب والمثُل العليا وليس بأسلوب النصوص والقوانين.


ويرجع الأمر إلى ضمير يحاسب صاحبه ولا يرجع إلى قاض يفقأ عيناً، أو يدخل في الصدور ليتتبع فيها بواعث الاشتهاء. ولو خلصت هذه المعاني إلى سامعيها جميعاً، كما عناها السيد المسيح، لما ثبتت له كما ثبتت من اختلاف الفهم والتأويل .


سادساً- لو أن اللّه صار إنساناً


لكان تأثيره شاملاً ودائماً


لا تزال شخصية المسيح- بعد ألفي سنة- تترك تأثيرها على البشر، ففي كل يوم يختبر بعض الناس اختبارات ثورية مع يسوع!


ويقول كنث لاتوريت المؤرخ العظيم: الفهم المسيحي للتاريخ لا ينكر التقدم.. وكلما مضت القرون تجمَّعت الأدلة- من تأثير المسيح في التاريخ- على أن يسوع هو أعظم من عاشوا تأثيراً على الناس، ويبدو أن هذا التأثير يتزايد (30).


ويضيف فيليب شاف: بدون مال أو أسلحة هزم يسوع الناصري ملايين أكثر من الاسكندر وقيصر ونابليون. وبدون علوم أفاض نوراً على الأمور الزمنية والأمور السماوية أكثر من كل الفلاسفة والعلماء مجتمعين، وبدون دخول مدرسة بلاغة تحدث بكلمات الحياة كما لم يتحدث أحد من قبل، وأثَّر في سامعيه كما لم يؤثر شاعر أو خطيب، وبدون أن يكتب سطراً واحداً دفع أقلاماً كثيرة لتكتب، وقدَّم أفكار عظات وخطب ومناقشات ومجلدات وأعمال فنية وترانيم وتسابيح أكثر من كل الأبطال والعظماء عبر العصور القديمة والحديثة (6) ويقول مارتن سكوت: إن تأثير يسوع على الناس اليوم قوي كما كان قوياً وقت أن كان على الأرض (9).


لقد صرف على الأرض ثلاث سنوات فيها تتركَّز أعمق معاني التاريخ والدين، ولم تمضِ حياةٌ بمثل هذه السرعة والهدوء والتواضع، ولكنها أثارت اهتمام الفكر الإنساني بصورة شاملة (7).


وعندما ترك يسوع الأرض قال لتلاميذه إنهم سيعملون أعمالاً أعظم من تلك التي عملها هو. وقد حقّقت القرون صدق هذا القول! ولا يزال يسوع يعمل اليوم في عالمنا (أشياء أعجب مما فعل وهو على الأرض)، من خلال أتباعه. فهو يفتدي الناس ويغيّر حياتهم للأفضل، متقدماً بهم إلى كل ما هو حق وجليل وعادل وطاهر لخير البشر في مختلف الميادين.


ولنا كل الحق أن نشير إلى تأثير يسوع العظيم، لا كمسألة في الماضي، بل كأمر يلمس الحياة في كل جوانبها، اليوم (29).


ويقول وليم ليكي: حضّ الأفلاطونيون الناس على الاقتداء باللّه، وحضّهم الرواقيون على اتّباع العقل، وحضَّهم المسيحيون على حب المسيح. أما الرواقيون المتأخرون فقد جمعوا الصفات الممتازة في حكيم نموذجي. وحض أبكتيتوس تلاميذه أن يتمثّلوا أمامهم شخصاً عظيماً يتخيلونه قريباً منهم. على أن حكيم الرواقيين النموذجي كان شخصاً يحاولون محاكاته، دون أن يتحول إعجابهم به إلى حب. لكن المسيحية وحدها قدمت للعالم الشخصية النموذجية، التي- بالرغم من تغيُّرات ثمانية عشر قرناً- ألهمت قلوب الناس بالحب الصادق، وعملت في كل العصور والأمم والأمزجة والظروف. فهي لم تقدم أسمى نماذج الفضيلة فحسب، بل وأعظم الدوافع على ممارستها.


صرفت هذه الشخصية ثلاث سنوات قصيرة عامرة بالنشاط أثَّرت في تجديد البشر وتهذيبهم أكثر مما فعلت كل بحوث الفلاسفة ومواعظ رجال الأخلاق، وكانت هذه الشخصية هي نبع أفضل ما في الحياة المسيحية. وفي وسط الخطايا والسقطات والشعوذات والاضطهادات والتعصُّبات التي شّوَهت الكنيسة، حفظت في شخص مؤسّسها ومثاله، القوة الدائمة الفعالة في التجديد (23).


إن الآلاف والملايين اليوم. كما في كل العصور، يشهدون لقوة المسيحية ومجدها في معالجتها للخطية والشر. وهذه الحقائق تقف قوية لتُقنع كل من يريد أن يتعلم.. إن إنجيلاً خامساً يُكتب الآن، هو عمل يسوع المسيح في حيوات وقلوب الناس والأمم (29).


وقال نابليون: يسوع وحده نجح في السمو بفكر الناس إلى غير المنظور فوق حدود الزمن والمسافات. إنه يطلب ما يصعب عمله، وما لا تقدر الفلسفة على الوصول إليه، وما يفشل الصديق في الحصول عليه من صديقه، والأب من أولاده، والعريس من عروسه، والرجل من أخيه! إنه يطلب القلب البشري كله بدون قيد ولا شرط ليكون قوة في مملكة المسيح. وكل من يؤمنون به بإخلاص يختبرون حباً فوق الطبيعي له، وهي ظاهرة تفوق خيال البشر. ولا يقدر الزمن بكل تأثيره الهدَّام أن يستنزف قوة هذه المحبة أو يضع حداً لها (2).


لكن: هل تناسب المسيحية كل الناس في كل العصور وكل الشعوب؟ هل تناسب المتعلّم والجاهل؟ هل يستطيع جميع الناس في كل مكان أن يستوعبوا مبادئها؟


الحقيقة أنه حيثما يكون المسيح فهو السيد، يطالب الناس بالتضحية فيضحّون. إن دعوته خالية من التعصّب، تقود الناس إلى كل عمل صالح وعظيم، مهما تضمَّن من تضحية. قال نابليون: طبيعة المسيح مملوءة بالأسرار، لكنها أسرار تقابل احتياجات الناس. ولو رفضْتَ المسيح لصار العالم لغزاً لا يُفهم، ولو آمنت به لوضح لك تاريخ جنسنا البشري بدرجة كافية (22).


ومنذ وقت المسيح لم يقدّم أحد- رغم كل ما بلغه الفكر الإنساني من تقدّم- فكراً واحداً أخلاقياً جديداً للعالم! ولا عجب فإن رسالة المسيح تتميَّز بثلاثة أشياء عظيمة، هي: التوبة والثقة والمحبة، وهذه الثلاثة تجعل الرسالة مناسبة لكل عصر ومكان وعمر. ولقد جذبت المسيحية الملايين من أفضل مفكري الجنس البشري، ولم يمنع تقدّمُها تيارَ تقدّم البشرية (29) وقد ظل شخص مؤسسها العامل المستمر في انتشارها وتقدمها. وكان ولاء أتباعه له وتعبّدهم لشخصه هما العامل القوي في وحدتهم رغم كل الظروف واختلاف الآراء. ولا عجب أن يقول دافيد ستراوس: سيبقى المسيح أعلى نموذج للديانة يمكن أن يصل إليه فكرنا، ولا يمكن أن يصل إنسان إلى التقوى بدون وجود المسيح في قلبه (6).


ويقول وليم تشاننج: إن حكماء التاريخ وأبطاله يخفت ضوؤهم شيئاً فشيئاً، وبمرور الزمن يتصاغر الحيّز الذي يشغلونه من التاريخ. أما يسوع المسيح فليس لمرور الزمن من أثر على اسمه أو أفعاله أو أقواله .


وقال عنه أرنست رينان: يسوع هو أعظم عبقري ديني عاش على الأرض. جماله خالد ومُلْكه لن ينتهي. إنه فريد من كل جهة، ولا يمكن مقارنته بشيء .. وكل التاريخ غير قابل للفهم بدون المسيح (22).


وقال رام: أن يقول النجار الجليلي إنه نور العالم، وأن يبقى هذا القول معتَرفاً به بعد هذه القرون الكثيرة، أمرٌ لا يمكن تفسيره إلا على أساس ألوهيته (26) .


وإليك مقالتين مشهورتين كُتبتا فيه:


المقالة الأولى عنوانها: حياة واحدة فريدة تقول:


هنا رجل وُلد في قرية مغمورة لأم ريفية، ونشأ في قرية أخرى، وعمل في دكان نجار حتى بلغ الثلاثين من العمر، ثم ظل ثلاث سنوات يتجّوَل كارزاً. لم يمتلك في حياته بيتاً، ولم يكتب كتاباً، ولم يشغل وظيفة، ولم يكّوِن أسرة، ولم يدرس في جامعة، ولم يضع قدميه في مدينة كبيرة، ولم يسافر بعيداً عن مسقط رأسه بأكثر من مائتي ميل، ولم يعمل عملاً واحداً من تلك التي تواكب العظمة حسب مألوف العالم، ولم تكن له أوراق اعتماد إلا نفسه! عندما كان شاباً وقف ضده الرأي العام، وهرب أصحابه منه، وأنكره واحد منهم، وأسلمه لأعدائه، فدخل في مهزلة المحاكمة، وسمَّروه على صليب بين لصَّين. وبينما كان يموت قامر جلاّدوه على الشيء الوحيد الذي كان يملكه على الأرض: على ردائه! وعندما مات أنزلوه ليدفنوه في قبر مُستعار قدَّمه صديق له من باب الشفقة!


وقد جاءت تسعة عشر قرناً طويلة ومضت، وهو لا يزال مركز الجنس البشري، وقائد تقدُّمه. إن كل الجيوش التي سارت، وكل الأساطيل التي بُنيت، وكل البرلمانات التي انعقدت، وكل الملوك الذين حكموا، كل هؤلاء مجتمعين معاً، لم يؤثروا في حياة الناس بالقوة التي أثرت بها فيهم هذه الحياة الواحدة الفريدة .


أما المقالة الثانية فعنوانها المسيح الذي لا نظير له وهي تقول:


منذ تسعة عشر قرناً مضت وُلد إنسان على خلاف قوانين الحياة، عاش في فقر ونشأ مغموراً. لم يسافر بعيداً، ولم يعبر حدود البلاد التي وُلد فيها إلا كطفل طريد.


لم يملك ثروة ولا نفوذاً، وكان أهله مغمورين. لم يتلقَّ تعليماً رسمياً ولا تدريباً، غير أنه في طفولته أرعب ملكاً، وفي صبّوته أدهش العلماء، وفي رجولته سيطر على زمام الطبيعة، وسار على الأمواج كأنها طريق معبَّد، وسكَّت البحر فهدأ. شفى الجماهير بدون دواء، ولم يتقاضَ مقابلاً لخدماته.


لم يكتب كتاباً، ولكن كل مكتبات الدولة لا تقدر أن تسع الكتب التي كُتبت عنه، ولم يؤلف ترنيمة، ولكنه أوحى بأفكار الترانيم أكثر مما فعل كل كتّاب الأغاني مجتمعين! ولم يؤسس كلية، لكن كل المدارس مجتمعة معاً ليس بها من التلاميذ مثل ما له.


لم يسيّر جيشاً، ولم يجنّد جندياً، ولم يطلق بندقية، ولكن لم يكن لقائد غيره جنود متطوعون تحت إمرته مثلما له، حتى أن العصاة المتمردين ألقوا بأسلحتهم دون أن يطلقوا طلقة واحدة.


لم يمارس الطب النفسي، ولكنه شفى من القلوب الكسيرة أكثر ممن شفاهم كل الأطباء في كل العالم. وتتوقف عجلة التجارة مرة كل أسبوع لتتمكن الجماهير من أن تجد طريقها لمحال عبادته، لتقدم له الخشوع والإكرام.


لقد ظهرت أسماء رجال الدول المشهورين في اليونان وروما واندثرت، وظهرت أسماء علماء وفلاسفة ولاهوتيين واختفت، ولكن اسم هذا الإنسان في تعاظم مستمر. ومع أنه قد مضت تسعة عشر قرناً منذ صلبه، إلا أنه لا يزال يحيا. لم يستطع هيرودس أن يحطمه، ولم يقدر القبر أن يمسكه!


إنه يقف على أعلى قمة المجد السماوي، بإعلان واضح من اللّه، تعترف به الملائكة، ويتعبد له القديسون، وتخافه الأبالسة، لأن يسوع المسيح الحي هو الربّ والمخلِّص .

 


سابعاً- لو أن اللّه صار إنساناً


لأشبع جوع الناس الروحي


طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لِأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ (متى 5: 6).


إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ (يوحنا7: 37).


مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الْأَبَدِ (يوحنا 4: 14).


سَلَاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلَامِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلَا تَرْهَبْ (يوحنا 14: 27).


أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلَا يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلَا يَعْطَشُ أَبَداً (يوحنا 6: 35).


تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الْأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ (متى 11: 28).


أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ (يوحنا 10: 10).


يقول علماء النفس إن الإنسان يحتاج إلى الاتصال بشيء أكثر من نفسه، والديانات الكبرى شاهدة على احتياج الإنسان، وأهرامات مصر والمكسيك ومعابد الهند نماذج لحاجة الإنسان الروحية. وقد كتب مارك توين عن فراغ الإنسان، قال: من المهد إلى اللحد لا يعمل الإنسان شيئاً إلا بهدف واحد، وهو أن يحصل على سلام العقل وعلى الراحة الروحية . وقال المؤرخ فيشر: هناك صرخة في النفس، لا يجد لها استجابة في العالم . وقال توما الأكويني إن عطش النفس للسعادة لا يهدأ، وهو عطش لا يرويه إلا اللّه وحده! . ويقول برنارد رام: الاختبار المسيحي وحده هو الذي يجعل الإنسان يستمتع بحرية روحه. أما ما هو من دون اللّه فإنه يترك روح الإنسان عطشَى جائعة متعَبة فاشلة وناقصة (26).


ويصف شاف المسيح بالقول: ارتفع فوق أحقاد الطائفية والتعصُّب، وفوق خرافات عصره وأمته، وخاطب قلب الإنسان المكشوف له، ولمس ما هو حي في الضمير (7).


قال أحدهم يصف اختباره الروحي في المسيح: استطاع الإنسان أن يغيّر عالمه بطريقة مذهلة، ولكنه لم يقدر أن يغيّر نفسه. ولما كانت هذه المشكلة في أساسها روحية، ولما كان الإنسان بطبعه ميَّالاً للشر (كما يشهد التاريخ) فإن الطريقة الوحيدة لتغيير الإنسان تجيء من اللّه. وعندما يسلّم الإنسان نفسه ليسوع المسيح، ويُخضِع نفسه لإرشاد الروح القدس، فإنه يتغيَّر. وعلى هذا التغيير المعجزي يتوقف رجاء عالمنا المرتعب من التفجيرات النووية والنشاطات الإشعاعية التي تهدد كل سكانه (31).


وكتب ماتسون، رئيس العلاقات العلمية لمعامل أبوت الطبية يقول: مهما كانت حياتي صعبة كعالِم ورجل أعمال ومواطن وزوج وأب، فإني أرجع إلى النقطة المركزية لألتقي بيسوع الذي يحفظني ويخلصني بقوته (31).


وقال طالب في جامعة بتسبرج: مهما كانت الأفراح والمسرات في اختباراتي الماضية- مجتمعة معاً- فإنها لا تساوي الفرح الخاص والسلام اللذين منحهما لي الرب يسوع المسيح، منذ أن دخل حياتي ليسُودها ويوجّهها .


ويقول الدكتور مكستر أستاذ علم الحيوان في كلية هويتون: إن العالم الذي يتبع النظريات العلمية يفعل ذلك لأنه يؤمن بالبراهين التي وجدها. لقد صرتُ مسيحياً لأني وجدتُ في نفسي حاجة لا يمكن أن يُشبعها غير المسيح. احتجت للغفران فأعطاه لي، واحتجت للصُّحبة فصار هو صديقي، واحتجت للشبع فمنحه لي (31).


ويقول بول جونسون: لقد صنع اللّه فراغاً خاصاً في دواخلنا، على صورته هو، ولن يملأ هذا الفراغ غير اللّه نفسه. ربما تحاول ملئه بالمال أو العائلة أو الغِنى أو القوة أو الشهرة، أو أي شيء آخر، ولكنه لن يمتلئ! لن يملأه غير اللّه! هو وحده الذي يملؤه ويشبعه .


ويقول وولتر هيرن من كلية أوهايو: كثيراً ما يستغرقني نوع من الفلسفة… إن معرفة المسيح هي الحياة ذاتها بالنسبة لي، ولكنها من نوع جديد الحياة الفضلى التي وعد بها .


قال رجل أعمال: طلبت من المسيح أن يأتي إلى حياتي ويسكن فيَّ. ولأول مرة في حياتي أختبر السلام الكامل. لقد انتهت حياة الفراغ التي كنت أحياها إلى غير رجعة، ولم أعُد أشعر مطلقاً بأنني وحيد .


لقد وجد كثيرون السعادة التي نشدوها في يسوع المسيح.

 


ثامناً- لو أن اللّه صار إنساناً


لكان له سلطان على الموت


لم يكن يسوع مجبراً على الموت، فإنجيل متى 26: 53، 54 يوضح أنه كان يملك القوة ليفعل ما يريد. وفي يوحنا 10: 18 نجد الجواب: لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً . ومن هذا نرى أن يسوع مات طوعاً عن خطايا الناس.


ويقول جرفث توماس: لم يكن موت المسيح انتحاراً، لكنه كان طواعية. كان علينا نحن أن نتألم، لكن لم يكن عليه هو، وكانت كلمة واحدة منه كافية لتخليص حياته. ولم يكن موته صُدفة، فإنه كان قد سبق أن تنبأ به وجهَّز نفسه له بطرق مختلفة. ولم يكن موته موت مجرم، لأنه لم يتفق اثنان من الشهود في أي اتهام موجَّه ضده، وأعلن بيلاطس الوالي أنه لم يجد فيه علَّة، بل


è


أن الملك هيرودس لم يجد ما يقوله ضده. فلم يكن موت المسيح إعداماً عادياً (29).


ولم يحدث أن إنساناً في التاريخ كان له السلطان أن يسلّم روحه بإرادته كما فعل المسيح (لوقا 23: 46) فإن لوقا ويوحنا يصفان موت المسيح بما يفيد أن موته كان معجزياً، فقد استودع روحه بين يدي اللّه بعد أن دفع أجرة الخطية بالكامل. لقد حدثت معجزة عند الجلجثة يوم الجمعة، كما حدثت معجزة في البستان صباح أحد القيامة!


ثم كان دَفْن يسوع بعد موته. وتقول قصة الإنجيل: وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسمُهُ يُوسُفُ- وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ. 58 فَهذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلَاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَأَمَرَ بِيلَاطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ (متى 27: 57، 58)- وَجَاءَ أَيْضاً نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي أَتَى أَّوَلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً، وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً (يوحنا 19: 39)- فَا شْتَرَى (يوسف) كَتَّاناً، فَأَنْزَلَهُ وَكَفَّنَهُ بِا لْكَتَّانِ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتاً فِي صَخْرَةٍ، وَدَحْرَجَ حَجَراً عَلَى بَابِ الْقَبْرِ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يُوسِي تَنْظُرَانِ أَيْنَ وُضِعَ (مرقس 15: 46، 47)- فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي السَّبْتِ استَرَحْنَ حَسَبَ الْوَصِيَّةِ (لوقا 23: 56)- فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِا لْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ (متى 27: 66).


ثم كانت قيامة المسيح!


ويقول وستكوت: … لا توجد حادثة بأسانيد تاريخية صحيحة عديدة مثل حادثة قيامة المسيح .


ويقول هنري موريس: إنها أهم حوادث التاريخ ومن أثبتها تاريخياً . لقد سبق للمسيح أن تنبأ بموته وقيامته، وفي يوحنا 2: 19 قال: انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ .


ولم يحدث لأحد من البشر أن هزم الموت بنفسه كما فعل المسيح. ولقد قال: أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ,.. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ (يوحنا 11: 25، 14: 19).


ويقول رام: إن قيامة المسيح ضمان لقيامتنا نحن. إن شفاءه للمرضى لا يعني أنه سيشفي كل أمراضنا الآن، وإقامته لعازر من الموت لا تعني خلودنا على الأرض، ولكن قيامة المسيح كباكورة الراقدين، هي وحدها التي تفتح أبواب القبر أمام المؤمن لحياة أبدية، فلأنه قام فسنقوم نحن (رومية 8: 11).


وبعد قيامة المسيح استطاع التلاميذ أن يقيموا الموتى بقوته (أعمال 9: 40، 41) .. وهكذا أعطى المسيح الحياة لآخرين بعد موته، وهذا يعني أنه حي (عبرانيين 13: 8) إِنَّ يَسُوعَ هذَا الّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ (أعمال 1: 11).


لقد هزم المسيح- ابن اللّه الأزلي وفادي البشر الموعود به- الموت!


(سنعالج موضوع القيامة بتفصيل كامل في الفصل الأخير من هذا الكتاب).

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي