المعجزة الحادية عشرة تهدئة العاصفة

35 وَقَالَ لَهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». 36 فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. 37 فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. 38 وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» 39 فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «اسْكُتْ. اِبْكَمْ». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. 40 وَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لا إِيمَانَ لَكُمْ؟» 41 فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!» (مرقس 4: 35-41).

(وردت المعجزة أيضاً في متى 8: 23-27 و لوقا 8: 22-25).

 

أسكت المسيح العاصفة التي هاجت على بحيرة طبرية، المعروفة في الكتاب المقدس باسم بحيرة جنيسارت أو بحر الجليل. وهي بحيرة كبيرة طولها نحو عشرين كيلومتراً وعرضها نحو عشرة كيلومترات، بيضاوية الشكل، يصبّ فيها نهر الأردن ويزوّدها بالماء العذب، وتحيط بها جبال عالية بُنّية اللون بارتفاع سبعمئة متر من الشرق، ويقع شمالها جبل حرمون بقممه التي تغطيها الثلوج. وكانت مدينة كفرناحوم تقع غرب هذه البحيرة جهة البحر الأبيض المتوسط، وقد شهدت الكثير من معجزات السيد المسيح.

 

قضى المسيح يوماً طويلاً يعظ الناس في البر الغربي ناحية كفر ناحوم، وقد أحاطت به الجموع من كل جهة، فعلَّم وشفى كثيرين. وعندما أقبل المساء حلَّ به التعب، فقال لتلاميذه: لنعبر البحيرة إلى الجانب الشرقي منها إلى المنطقة الجبلية لنستريح. فصرف التلاميذ الجمع، وأخذوا المسيح في سفينة، تصاحبها قوارب صغيرة يستقلّها محبُّون للمسيح وأناس ما زالوا في احتياج للتعليم أو الشفاء.

 

كان كل شيء هادئاً، ولكن بحسب طبيعة بحيرة طبرية هبَّت عليها العواصف فجأة، فهي منخفضة مئتي متراً عن سطح البحر، لذلك كانت شديدة الحرارة، فجائية العواصف. وحدث نوء ريح عظيم، فكانت الأمواج تضرب إلى السفينة حتى كادت تمتلئ.

 

كان بحارة السفينة متمرِّسين في البحر، وهم من سكان كفر ناحوم الواقعة على شاطئ البحيرة، ولابد أنهم رأوا من قبل ليالي كثيرة صاخبة الأمواج شديدة الرياح، لكن تلك الليلة كانت أقسى الليالي جميعاً. لم يسبق لهم أن رأوا مثل هذا الجو الصعب. وأغلب الظن أن السفن الصغيرة عندما رأت بوادر العاصفة رجعت من حيث أتت، إلى البر الغربي إلى كفر ناحوم. ونام المسيح في السفينة، وتلاميذه ينفذون أمره بعبور البحيرة بالرغم من شدة الرياح، وقد تركوا معلِّمهم المتعَب نائماً ليستريح.

 

لكن عندما اشتدّت العاصفة وصارت أقوى من قدرتهم على احتمالها أو التعامل معها، تذكروا أن معلِّمهم في السفينة، فأيقظوه وقالوا له بعتاب شديد: «يا معلم، أما يهمك أننا نهلك!». ومن خوفهم تكلموا بصيغة الجمع، فشملوا المسيح معهم في خطر الهلاك. وقام المسيح وانتهر الريح، فصار هدوء عظيم.

 

تُثير الرياحُ الأمواجَ، وعندما تسكن الرياحُ تهدأ الأمواج. وعندما هدأت الأمواج سنحت الفرصة ليتعلم التلاميذ درساً في الإيمان، فسألهم المسيح: «ما بالكم خائفين هكذا؟». لقد كانت العاصفة بالفعل أقوى وأشد من كل عاصفة سبق للتلاميذ أن مرّوا بها، ولكن كان المسيح في هذه المرة معهم، فالموقف مختلف. ولكنهم في ضعف إيمانهم لم يشعروا بقوة وجوده، فخافوا. لم تكن معرفتهم به قد كملت، وكانوا محتاجين أن يعرفوه أكثر! ولا نلومهم، فهكذا نحن، يمكن أن نعرف المسيح لاهوتياً وعقائدياً، ولكن ليس كربٍّ ومخلّص شخصي.

 

هذه هي الحياة: عاصفة فالتجاءٌ إلى المسيح، فنجاةٌ وسلام. ثم نتعلم درساً يقوّي إيماننا لنواجه تجارب المستقبل بقوة وإيمان أكبر. نسمعها في سفر المزامير: «اَلنَّازِلُونَ إِلَى الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ، الْعَامِلُونَ عَمَلاً فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ، هُمْ رَأُوا أَعْمَالَ الرَّبِّ وَعَجَائِبَهُ فِي الْعُمْقِ. أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحاً عَاصِفَةً فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ. يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاوَاتِ، يَهْبِطُونَ إِلَى الأَعْمَاقِ. ذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالشَّقَاءِ. يَتَمَايَلُونَ وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ السَّكْرَانِ، وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ. فَيَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، وَمِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ. يُهَدِّئُ الْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ، وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا. فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا، فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْمَرْفَإِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ. فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. وَلْيَرْفَعُوهُ فِي مَجْمَعِ الشَّعْبِ، وَلْيُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ الْمَشَايِخِ» (مزمور 107: 23-32).

 

أولاً – المحتاجون والمعجزة

(أ) المحتاجون هم التلاميذ في السفينة الكبيرة المتجهة شرقاً، و (ب) أصحاب القوارب الصغيرة المصاحبة للسفينة الكبيرة الذين لما رأوا بدء العاصفة عادوا غرباً! و (ج) يبدو للناظر أن المسيح نفسه ضمن المحتاجين للمعجزة، فقد كان نائماً في السفينة المعرَّضة للخطر! وما أكثر ما نتصوَّر أن ملكوت الله في خطر! فنصرخ: «إننا نهلك!» وننسى أن «اللهُ فِي وَسَطِهَا فَلَنْ تَتَزَعْزَعَ. يُعِينُهَا اللهُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ» (مزمور 46: 5).

 

ونلاحظ أن القوارب الصغيرة قد رجعت، فكثيراً ما يقرر البعض اتِّباع المسيح، ولكنهم يرجعون وقت العاصفة إلى شاطئٍ يظنونه آمناً، ويتركون الشاطئ الذي تتجه إليه سفينة المسيح ظانين أنهم يهلكون، لأنهم يحرصون على سلامتهم أكثر من حرصهم على اتِّباع المسيح.

 

عاصفة الخوف: كم تهبّ على حياتنا عواصف. تبدو الحياة هادئة، وفجأة تأتي مشكلة تقلب سلامنا وتضيّعه. وعلينا فوراً أن نلجأ إلى المسيح، نعرِّفه باحتياجنا ونجعله يواجه مشكلتنا معنا، ونسلّمه أنفسنا وقضيتنا فنستريح، ونثق ونحن بين يديه أنه المقتدر، المخلّص العظيم والقادر على كل شيء. فَلْنُسلّم له حياتنا ليواجه المشكلة بدلاً منا. لننظر إلى وجه الراعي الصالح الذي ينتشلنا من خوفنا ويحملنا على منكبيه ثم يقيم احتفالاً. وهذا ما جرى مع التلاميذ، فقد واجه المسيح مشكلتهم، واحتفل معهم بنجاتهم!

 

عاصفة الحزن: قد يموت عزيز علينا، ويبدو أن الغيوم قد أطفأت النجوم! والذين يخافون ويضطربون ويحزنون بلا رجاء، لهم بعض الحق. ولكن لماذا يواجه أصحاب الرجاء مشاكلهم مضطربين؟ كأن مخلّصهم الحي الذي هزم الموت وأنار الخلود غير موجود، مع أنه سيظل معهم ينير حياتهم إلى أن يوصّلهم إلى الخلود، ليتأكدوا صِدْق وعوده.

 

وتهبّ علينا أحياناً عواصف الغضب، على شخص جرحنا، أو تكلم علينا بالكذب، فنثور في داخلنا. عندها يهدئ المسيح هذه العاصفة، ويقول لنا: «اِغْضَبُوا وَلا تُخْطِئُوا. لا تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ وَلا تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً» (أفسس 4: 26، 27).

 

وتهبّ علينا أحياناً عاصفة الشكوك فنسأله: «أما يهمك؟» وهو سؤال شكٍ في محبته، وشكٍ في قيمتنا عنده. إننا لا نتعامل مع خالقٍ فقط، بل نتعامل مع أب. فلنخاطبه ونشكو له، وهذا أجمل ما فعله التلاميذ لأنهم أخذوا شكواهم منه إليه. قصدوه هو لينقذهم من شيء فعله هو! فهو صاحب الرياح التي هبَّت على الأمواج، وهو يجمع رياحه إلى مخازنها، فتهدأ أمواجه، ويطمئن أبناؤه، وتطرح محبتُه الكاملةُ خوفَنا إلى الخارج.

 

وأحياناً تهب علينا عاصفة الإحساس بالذنب، فيريحنا المسيح بأن يغفر خطايانا ويصالحنا مع الله. فإن كان القلب مُثقلاً بهمّ الخطأ، فاللجوء إليه يغفر الخطية ويصلح العلاقة مع الله.

 

لم يكن التلاميذ قد عرفوا المسيح بعد. وقد عرَّف المسيح نفسه بأنه ابن الإنسان الذي يُسلَّم إلى أيدي الكهنة ليُصلب ويُقتل، فقال تلاميذه: «حاشا لك يارب». لم يكونوا قد أدركوا رسالته، وكانوا محتاجين إلى مزيد من التعليم، فهم يحتاجون إلى المعرفة الاختبارية «لأَعْرِفَهُ، وَقُّوَةَ قِيَامَتِهِ» (فيلبي 3: 10)، فهذه معرفة الاختبار العميق. «انْمُوا فِي النِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (2 بطرس 3: 18) فنتعلم أن نعرفه وسط مشاكل الحياة وصعوبتها.

 

ثانياً – المسيح والمعجزة

رأينا المسيح يعلّم ويمشي.. يتعب ويستريح.. يجوع ويأكل.. يفرح ويبكي.. يُصلب ويموت ثم يقوم. هنا نراه نائماً على الوسادة في مؤخرة السفينة، فهو الإنسان الكامل. ولكن لو توقفنا عند هذه النقطة نكون قد قلنا نصف الحق. فهذا الإنسان النائم هو أيضاً الإله صاحب السلطان على الطبيعة، استيقظ ليسكّن الرياح ويهدّئ العاصفة. «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1 تيموثاوس 3: 16) فالمسيح الإنسان الكامل هو إلهٌ كامل، ولو أن جسده حجب ألوهيته، فلم يرها إلا بعض الناس. لكن عمله أظهر قدرته السرمدية ولاهوته لأنه سكَّن الرياح. فلنطبِّق هذه المعلومة الفكرية واقعاً عملياً اختبارياً، ونحن نطمئن إليه، فهو يدبر حاضرنا ومستقبلنا بحسب محبته.

 

ونرى في هذه المعجزة ثلاث حقائق عن المسيح:

لا ينزعج المسيح من طلباتنا ولكنه ينزعج من نقص إيماننا. وكم هو محب ورقيق، لم يوبخ ضعف الإيمان وسط العاصفة، لكنه هدأ العاصفة ثم وبَّخ. إنه يريد منا أن نطلب. فليكن لنا الإيمان الواثق المطمئن.

 

ونرى المسيح صاحب السلطان الفوري. استخدم موسى العصا (خروج 14: 15، 16، 21، 26). واستخدم أليشع رداء إيليا (2 ملوك 2: 13، 14). أما المسيح كلمة الله فانتهر الريح، وقال للبحر، اسكت! ابكم! فسكنت الريح بأمره، وصار هدوء عظيم.

 

قد يبدو المسيح لنا نائماً غير مهتم، لكنه مستيقظ لينجي. قد نشكو منه وله، ولكنه لا يفعل شيئاً يمكن أن نشتكي منه على المدى البعيد. إن شكوى اليوم هي موضوع شكر الغد.

 

فلنكلم الرب ونتَّجه إليه، نلتحم معه ونثبت فيه لنجد البركة عنده.

 

صلاة

أبانا السماوي، بحر حياتنا هادئ أحياناً، هائج أحياناً أكثر. ولكننا في وسط هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبّنا محبةً كبحرٍ بلا قرار. والفضل كله لك، لأنك أحببتنا أولاً، ففي حبك نطمئن، وعلى رحمتك نستند ونستريح. باسم المسيح. آمين.

 

أسئلة

ما هي الأسماء الثلاثة لبحيرة طبرية؟

لماذا طلب المسيح من التلاميذ عبور البحيرة؟

ماذا فعل أصحاب القوارب الصغيرة؟

متى وبَّخ المسيح ضعف إيمان التلاميذ؟

كيف يهدئ المسيح فينا عاصفة الحزن على موت عزيز؟

كيف يهدئ المسيح فينا عاصفة الشكوك؟

كيف يهدئ المسيح فينا عاصفة الإحساس بالذنب؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي