2 – ضرورة التواضع

(أ) تواضع الاعتراف – مثل الفريسي والعشار (لوقا 18: 9-14)

(ب) تواضع السلوك – مثل المتكأ الأخير (لوقا 14: 7-11)

 

(أ) تواضع الاعتراف مثَل الفريسي والعشار

وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ هَذَا الْمَثَلَ: إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ، أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلا مِثْلَ هَذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ.

وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لا يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللَّهُمَّ، ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطي. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ (لوقا 18: 9-14).

 

اعتاد اليهود أن يصلوا ثلاث مرات يومياً، في التاسعة صباحاً والثانية عشرة ظهراً والثالثة بعد الظهر، كما يقول الوحي عن النبي دانيال: «جثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم، وصلى وحمد قدام إلهه، كما كان يفعل قبل ذلك» (دانيال 6: 10). وكان اليهود يعتقدون أن أكثر الصلوات فاعلية هي التي تُرفع في الهيكل، فكان الهيكل مفتوحاً دائماً أمام الشعب للصلاة والتأمل.

 

في هذا المثل روى المسيح عن شخصين يمثلان شريحتين من المجتمع اليهودي في ذلك الوقت، تصلحان لتكونا نموذجين لمجتمعهم ولمجتمعنا أيضاً، يعلِّماننا أن من يرفع نفسه يتَّضع، ومن يضع نفسه يرتفع. وصلاة الإنسان الانفرادية تكشف حقيقة نفسه، فهو يعبِّر فيها عن واقعه بإخلاص، لأنه يحدِّث الله العالم بكل شيء.

 

كان أحد المصلِّيين «فريسياً» ومعنى الكلمة في اللغة الأرامية «منعزل». فالفريسيون هم الذين اعتزلوا الناس ليتفرغوا للعبادة. وكانوا أول الأمر نبلاء خُلُقاً وأنقياء ديناً، لكن دخلاء انضمّوا إليهم ففسد حزبهم، واشتهر معظمهم بالرياء والعُجب بأنفسهم، حتى وصفهم يوحنا المعمدان بأنهم «أولاد الأفاعي» (متى 3: 7).

 

أما المصلي الثاني فكان «عشّاراً» أي ملتزم جمع الأعشار (الضرائب). وكان المجتمع اليهودي يحتقر العشار ويعتبره خائناً لوطنه ودينه، لأنه يجمع من المواطنين ضرائب أكثر من المفروض عليهم، ثم يقدم بعض ما يجمعه للرومان المستعمِرين. فكان اليهود يبغضون العشارين ويمنعونهم من دخول الهيكل والمجامع والاشتراك في الصلاة.

 

بين هذين الشخصين المذكورين في المثَل وجها شبه، فهما متماثلان في أصلهما، فكلاهما «إنسان». وكلاهما «صعدا ليصلِّيا». لكنهما كانا مختلفين في أمرين: في نظر المجتمع، وفي تقدير كلٍّ منهما لذاته، فالفريسي في نظر اليهود عامود الدين، ووطني مخلص، أما العشار فهو اللص الخائن لأهله ووطنه.. والفريسي معتزٌّ غاية الاعتزاز بنفسه، يقف في مكان الصدارة في الهيكل مصلياً «في نفسه» منفصلاً عن سائر العابدين ومغترباً عن الله، يرفع أقوال الفم لا عبادة القلب، فيمدح نفسه وكأن الرب لا يعرف ما بداخله، ويُسقِط خطاياه على الآخرين، وينبِّر على تقواه ويبرِّر نفسه متأكداً أنه في غير حاجة للغفران الإلهي! صحيحٌ أنه «صعد إلى الهيكل» لكن صعوده كان جغرافياً فقط، لأن الهيكل كان على تل، لكنه لم «يصعد» روحياً، ولا ارتفعت نفسه لتتَّجه إلى الله، مع أنه العارف بالقول: «هلمَّ نصعد إلى جبل الرب وإلى بيت إله يعقوب، فيعلِّمنا من طرقه ونسلك في سبله» (ميخا 4: 2).

 

أما العشار فوقف من بعيد كأنه أبرص، وفي تواضع كامل وإحساس بالذنب لم يشأ أن يرفع عينيه نحو السماء، ولو أنه رفع قلبه لله في صلاة اعتراف طالباً الرحمة والغفران.

 

وقد اختلفت نتيجة صلاتيهما وتقييم الرب لهما، فلم يتبرر الفريسي، بينما نزل العشار إلى بيته مبرراً «لأن من يكتم خطاياه لا ينجح، ومن يُقرُّ بها ويتركها يُرحَم» (أمثال 28: 13)، ولأن «كل من يرفع نفسه يتَّضع، ومن يضع نفسه يرتفع».

 

أولاً – صلاة من يرفع نفسه

من يرفع نفسه يظن أنه بار: كان مفهوم البر عند الفريسي أنه يحفظ الشريعة وينفذ الوصايا، فرأى نفسه كامل البر لأنه في أصله عبراني مختون، وفي عمله تقي فاضل، وهو يعمل بكل الوصايا منذ حداثته، فصلى وكأنه يقول: «يا رب، أنت تطلب صوم يوم واحد في السنة، هو يوم الكفارة العظيم، الذي فيه نذلل نفوسنا (لاويين 16: 29-34)، أما أنا فأصوم مرتين في الأسبوع.. وأنت يا رب تطلب عشور المزروعات والبهائم فقط (كما جاء في تثنية 14: 22، 23) أما أنا فأعشِّر كل ما أقتنيه. أنا أحفظ الناموس، ولا شك أن لي كل حقوق الفريسي التقي المنعزل عن سائر البشر».. وقد خلت هذه الصلاة من أي شعور بالتقصير أو الذنب. إنها بليغة اللغة منمَّقة الكلمات، ولعل الفريسي لو عاد في يومه ذلك إلى الهيكل ليصلي لكرَّر ذات هذه الكلمات العامرة بالكبرياء، الخالية من مخافة الله!

 

من يرفع نفسه يفتخر: عندما دخل الفريسي الهيكل تقدم إلى الأمام ليحتلَّ المركز الأول لأنه شعر بالتفوُّق على الباقين. وقف «يصلي في نفسه» من نفسه، إلى نفسه، عن نفسه! فكانت صلاته صلاة افتخار بنفسه يرويها لنفسه، ذكر فيها اسم الله مرة واحدة، وأشار إلى نفسه ثلاث مرات!

 

ولم يكن هذا الفريسي مختلفاً عن زملائه الفريسيين في روحه المتعالية، فقد قال الفريسي «سمعان بن يوكي»: «إن كان هناك باران في العالم فهما أنا وابني. أما إذا كان هناك بار واحد فهو أنا!». وكانت صلاتهم اليومية: «أشكرك لأنك خلقتني يهودياً لا أممياً، حراً لا عبداً، رجلاً لا امرأة». أما المرأة اليهودية فكانت تصلي: «اللهم أشكرك لأنك خلقتني هكذا!». وسجل «بيراكوث» صلاة رفعها فريسي عام 70م تقول: «اللهم، أشكرك لأنك أعطيتني مكاناً للجلوس في بيتك للدرس، فلست ممن يجلسون في زوايا الشوارع. أنا أستيقظ مبكراً وهم يستيقظون مبكرين، لكني أبكر لأدرس الناموس وهم يبكرون للعمل الباطل. أنا أشتغل وهم يشتغلون، لكني أشتغل لنوال مجازاة، وهم يشتغلون بلا فائدة. أنا أحيا وهم يحيون، لكني أحيا وغايتي الحياة في العالم الآتي، وهم يحيون ونهايتهم حفرة الهلاك».

 

من يرفع نفسه يحتقر الآخرين: قال «أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس» ووصفهم بأنهم خاطفون ظالمون زُناة. ثم قال: «ولا مثل هذا العشار». وكأنه يقول: «كلهم خطاة، أما أنا فأفضل منهم جميعاً!». صحيحٌ أنه لا يخطف ولا يظلم ولا يزني ولا يسلب الناس، ولكن خطيته الكبرى كانت الكبرياء! لقد رأى نفسه غنياً بأعماله الصالحة وقد استغنى. ولكنه في نظر الرب فقير وأعمى وعريان، يحتاج أن يطلب من الله ذهباً مصفى بالنار لكي يستغني، وثياباً بيضاً لكي يلبس، وكُحلاً يكحل به عينيه لكي يبصر نفسه على حقيقتها (رؤيا 3: 17، 18).

 

قارن الفريسي نفسه بالخطاة، فوجد نفسه متديِّناً، سليل عائلة من المتدينين العظماء، فلم يرَ عنده احتياجاً يطلب من الرب أن يسدده، ولا تقصيراً أو إهمالاً يكمله، مع أن الصوت الإلهي يقول له: «لا يفتخرنَّ الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغني بغناه. بل بهذا ليفتخرنَّ المفتخِر: بأنه يفهم ويعرفني أني أنا الصانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض، لأني بهذه أُسرُّ يقول الرب» (إرميا 9: 23، 24).

 

وفي احتقاره للآخرين نصَّب نفسه قاضياً على ضمائرهم وأصدر حكمه الظالم عليهم، فقال عن العشار: «هذا». وهو ما قاله الابن الأكبر لأبيه عن أخيه الضال الراجع: «ابنك هذا» (لوقا 15: 30). وكان الكتبة والفريسيون قد أصدروا حكماً ظالماً على اليهود الذين آمنوا بالمسيح، فقالوا عنهم: «هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون» (يوحنا 7: 49)، ناسين الحكمة القائلة: «مَن أنت يا مَن تدين عبد غيرك؟ هو لمولاه يثبت أو يسقط. ولكنه سيُثبَّت، لأن الله قادر أن يثبته» (رومية 14: 4).

 

من يرفع نفسه لا يعترف بخطاياه: تقدَّم الفريسي إلى الله بغير شعور بالحاجة إلى غفران، لأنه ظنَّ أنه اشترى ملكوت الله بما قام به من أصوام وما دفعه من تبرعات. لكن ملكوت الله لا يُشترى «لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدَّمه الله كفارةً بالإيمان بدمه، لإظهار برِّه، من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله، لإظهار بره في الزمان الحاضر، ليكون باراً، ويبرِّر مَن هو من الإيمان بيسوع» (رومية 3: 22-26).

 

إن الإنسان عاجز عن الحصول على الغفران بمجهوده، لهذا دبَّر الله المحب فداء البشر بموت المسيح على الصليب «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 3: 16). ومع أن الصليب ترتيب إلهي، إلا أنه يشكِّل صخرة صدمةً وحجر عثرة لكثيرين، لأنه يعلن أن الإنسان خاطئ بطبيعته وبعمله، وهو لا يستطيع أن ينجي نفسه من العقاب، ولا يمكن أن ينال رضا الله مهما فعل. ومن المؤسف أن «كلمة الصليب عند الهالكين جهالة» لكننا نشكر الله لأنها «عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الله» (1كورنثوس 1: 18).

 

هذا المثَل يوبِّخ كل من يثق في صلاحه ويظن أنه يتبرر باجتهاده، فإن سبيل التبرير الوحيد هو الإيمان بما فعله المسيح على الصليب لأجل الخاطئ التائب، والذي كانت ذبائح العهد القديم رموزاً له. أما من يتكل على أعماله الصالحة فيشبه قدماء المصريين الذين كانوا يظنون أن الإله «أوزيريس» يزن أعمالهم الصالحة مقابل أعمالهم الشريرة، فمن رجحت كفة حسناته ينجو، ومن رجحت كفة سيئاته يهلك. ولا يمكن أن تزيد صالحاتنا على سيئاتنا لأن أعمالنا الشريرة ليست فقط ما نرتكبه من خطايا، بل ما لا نفعله من صلاح، فإن «من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له» (يعقوب 4: 17). كما أننا «في أشياء كثيرة نعثر جميعنا» (يعقوب 3: 2). فكم مرة أهملنا من يحتاجون لمساعدتنا ونحن قادرون، وبخلنا عليهم بمالنا ووقتنا ونصيحتنا! و «إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات» (متى 5: 20).

 

ثانياً – صلاة من يضع نفسه

كان اليهود يسمّون العشارين «خطاةً» وينسبونهم إلى عابدي الوثن، بسبب ما كانوا يقاسونه من مضايقاتهم وتعنتهم وجبايتهم منهم أكثر مما يجب. وبالرغم من كل هذه الكراهية الموجَّهة إلى العشار فقد أحبه المسيح ورأى فيه إنساناً صعد ليصلي، قبل الله صلاته، فنزل إلى بيته مبرَّراً.

 

من يضع نفسه يرى عدم استحقاقها: صعد العشار من وهدة الخطية ليمثُل بين يدي الله القدوس، ووقف من بعيد لأنه أراد أن يتحاشى نظرات الناس إليه، ولأنه كان يطلب لقاءً شخصياً مع الله، وكله أمل في رحمته وغفرانه. وقد دفعه شعوره بالتقصير والخطية إلى الوقوف في خوف من الله، لاجئاً إلى مراحمه طالباً العفو، وهو يعلم أنه عاجز عن مساعدة نفسه، وأن لا سبيل للحصول على الغفران إلا بإنعامٍ إلهي.

 

ويا لها من مفارقة بين الذي وقف قريباً من الهيكل فصار بعيداً عن الغفران، والذي وقف من بعيد تواضعاً وإحساساً بعدم الاستحقاق فصار قريباً، كما قيل: «أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح» (أفسس 2: 13)، و «طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته. طوبى لرجلٍ لا يحسب له الرب خطية» (مزمور 32: 1، 2). «فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيتك» (إشعياء 6: 7). وكلمة «كفارة» مأخوذة عن العبرية «كافار» التي أخذت عنها الإنجليزية
cover
أي يغطي أو يستر. وينتفع بالكفارة من يعرف عجزه ويعترف به. «الذي لا يعمل، ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر، فإيمانه يُحسَب له براً، كما يقول داود في تطويب الإنسان الذي يحسب له الله براً بدون أعمال: طوبى للذين غُفرت آثامهم وسُترت خطاياهم» (رومية 4: 5-7) كما آمن إبراهيم فحُسب إيمانه له براً (تكوين 15: 6). إذا هي مسألة حسبان، لأن بر المسيح حُسب له، فمُحيت خطاياه الماضية وسُترت.

 

في أعماق الإنسان حاسة دينية تنبئه بأنه لا بد أن يقابل الله كديان، فقال المرنم: «لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي» (مزمور 143: 2). والتفكير في الله الديان يملأ الخاطئ بالرعب. هذا ما حدث مع العشار ومع الابن الضال، الذي رجع إلى نفسه وإلى الله فقال لأبيه: «يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقاً بعد أن أُدعى لك ابناً» (لوقا 15: 19). ومقابلة الديان العادل بالخاطئ الأثيم لا بد تنتج الحكم والإدانة. ولكن ما أرأف الرب الرحيم المنعِم بالخلاص، الذي يلجأ إليه الإنسان المذنب الهالك فيوصف بالقول: «كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد» (لوقا 15: 24).

 

من يضع نفسه يعترف بخطاياه: شعر العشار بثقل خطيته، لهذا «وقف من بعيد.. لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء.. وقرع على صدره». كان يعترف بكل حواسه، فكانت قدماه مترددتين خوفاً من أن يدنس الهيكل، ولم يجرؤ على الركوع خشية أن ترفض السماء صلاته، وطأطأ رأسه ونظرت عيناه إلى الأرض خجلاً واتضاعاً، وقرع بيديه على صدره في إحساس باللوم والندم والتوبة الحقيقية، واعترف بلسانه «أنا» «ال» «خاطئ» لأنه رأى نفسه كما لو كان الشرير الوحيد الذي أخطأ إلى الله وإلى وطنه وإلى إخوته، وتذلل أمام الله ليقبل توبته، فعرف أنه «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول: أنّ المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلِّص الخطاة الذين أوَّلهم أنا» (1تيموثاوس 1: 15).

 

لم يفكر العشار في مركزه المالي مع أنه كان ثرياً، ولا اعتمد على مكانته السياسية، بالرغم من حماية الدولة الرومانية له والسلطة التي أعطتها له. لكنه رأى نفسه أرضياً زائلاً، محطماً كسيراً، شريراً دنساً، بدون مجد شخصي، لا رجاء له إلا في رحمة الرب وغفرانه، فدعا ربَّه اللهم كما دعا الفريسي «اللهم» ولكنه دعاه بقلب متضع: «ارحمني» مردداً صلاة جدِّه داود: «ارحمني يا الله حسب رحمتك. حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ. اغسلني كثيراً من إثمي، ومن خطيتي طهِّرني، لأني عارف بمعاصيَّ، وخطيتي أمامي دائماً» (مزمور 51: 1، 2).

 

3 – من يضع نفسه يرفعه الله: استُجيبت صلاة العشار لأنه وضع نفسه في صلاة شخصية، محددة الطلب، بثقة كاملة في الاستجابة، لأنه كان يعلم أن الله يراه ويسمعه ويستجيبه. دخل الهيكل مثقلاً بالذنوب وخرج منه مرفوعاً بالرحمة. دخل مرتعباً من الله وخرج فرحاً بمحبة الله ورضاه. دخل يقرع صدره وخرج يهتف «هللويا».

 

ولا يقول المسيح في المثَل إن العشار «نزل باراً» بل يقول إنه «نزل مبرَّراً». فليس لدى الإنسان برٌّ مهما كانت تقواه! لكن العشار الخاطئ حصل على «التبرير» لأنه اعترف ولجأ مؤمناً بالوحيد القادر أن يبرره.

 

رفع الفريسي نفسه وظن أنه صالح يستحق أن يتمتع بالبر الإلهي، فعمي عن حقيقة نفسه. لأنه «إن كان بالناموس بر فالمسيح إذاً مات بلا سبب» (غلاطية 2: 21). أما الذين يضعون أنفسهم، فيعترفون بخطيتهم كالعشار، ويخزون من عريهم كآدم وحواء، ويخجلون من رائحة الخنازير التي تفيح منهم مثل الابن الضال، فيحوِّلهم التبرير السماوي من حالة المجرمين المطلوبين للقصاص إلى امتياز الأبناء المبررين الذين يتمتعون بغفران الله وسلامه «لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان.. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد» (أفسس 2: 8، 9).

 

فلنجتهد أن نتقدم إلى عرش النعمة، لا كأتقياء، بل كخطاة يطلبون تبريره، ويعتمدون على المخلِّص الذي يطهر ضمائرنا ويغفر خطايانا. وهذا هو الرجاء الذي يمنحه الإنجيل لنا، لأنه إنجيل البشارة المفرحة لجميع التائبين، فالمسيح يقول: «لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة» (لوقا 5: 32)، والسبب واضح ومنطقي: «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى» (لوقا 5: 31).

 

سؤالان

1 – لماذا رفض الله صلاة الفريسي، ولماذا قبل صلاة العشار؟

2 – ما معنى كلمة «كفارة»؟ اذكر أساس التكفير عن الخطية.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي