المسيح رب

uvuvu

أول اسم عرفناه عن الله كان يهوه “
YHWH
”، ويُكتب بالحروف اللاتينية بدون تشكيل.

وهو مجهول النطق الصحيح الذي ضاع على ممر الزمن بسبب الخوف من استخدامه.

والله نفسه هو الذي عرَّفنا به على لسان موسى هكذا: “وقال الله أيضاً لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل “يَهْوِه” إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم” (خر 15: 3)

وتُنطق بالإنجليزية
Yahwah
كما ننطقها بالعربية يَهوِه. وفي عصر النهضة حوالي سنة 1600م، عُدِّلت وصارت تُنطق
Jehovah
. ولكن النطق الحقيقي للكلمة ضاع من اللسان اليهودي، وذلك منذ حوالي سنة 300 ق.م بسبب إحجامهم عن نطقها أصلاً عند قراءتهم للأسفار بسبب الخوف والرهبة من صاحب الاسم، الذي استبدلوه بكلمة “أدوناي
“Adonay
ومعناها السيد، وتُرجمت بكلمة “رب”، وجاءت في السبعينية
KÚrioj
وباللاتينية
Dominus
وبالإنجليزية
Lord
.


الاسم “يهوه” وعلاقته بالاسم “أنا هو”

™gè e„mi

:

وجذور الكلمة يهوه جاءت في آية سابقة على آية خر 15: 3، وذلك في الآية خر 14: 3: “فقال موسى لله ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم فإذا قالوا لي ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى “أهيه الذي أهيه” وقال هكذا تقول لبني إسرائيل “أهيه” أرسلني إليكم” (خر 13: 3و14)، وتفسيرها باللغة العربية “أكون الذي أكون”، وجاءت في السبعينية
™gè e„mi
Ð ên

وترجمتها بالإنجليزية:
I am the being
،
أي أنا الكينونة أو
أنا الوجودبالصورة المطلقة!!
(








[1]







)

وتفسيرها العبري المتداول عند اليهود: “أهيه الذي أهيه” هو
I am who cause to be
أو
I am he who cause to be
ومعناها أنا الذي أقيم الكيان أو الوجود.

ولكن بسبب التحذير القاطع من النطق باسم الله كما جاء في سفر اللاويين 16: 24 بحسب النسخة السبعينية: “كل من نطق باسم الرب موتاً يموت. كل جماعة إسرائيل ترجمه بالحجارة سواء كان دخيلاً أو مواطناً يموت لأنه نطق باسم الرب
” ويُلاحظ هنا أنه لا يقول “يهوه” بل استبدلها باسم “الرب” إمعاناً في التحذير وخوفاً من النطق بالاسم. وللأسف أعاد الربيون في النساخة وعدَّلوا في الآية وجعلوها كل من نطق باسم الله
“باطلاً”،وترجمتها العربية كل من “جدَّف”. ولكن ليتأكد القارىء من صحة الأصل في النسخة السبعينية يمكن مضاهاتها بما جاء في وصية المسيح: “سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوفِ للرب أقسامك. وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة!..” (متى 33: 5و34)

وبسبب التحذير الواضح من النطق باسم الله استبدلوا يهوه ب “أدوناي”. وهكذا بدأ الاسم (يهوه) يتوارى عن النطق والذاكرة حتى ضاع تشكيل الكلمة ونطقها الصحيح.

وأخيراً وفي القرن الثالث قبل الميلاد، اتفق اليهود على حذف كلمة “يهوه” من المخطوطات ووضع كلمة “أدوناي” عوضاً عنها، مع البادئة “أنا هو”
™gè e„mi
.
على أن كلمة
“هو”هنا ليست ضميراً بل هي أصلاً من الكلمة “أهيه الذي أهيه”، بمعنى “الكائن” أو يكون. فهي فعل وليست ضميراً في اللغة العبرية. وفي مفهومها العربي تعني “الهوية” الشخصية، وتجيء في الإنجليزية بوضوح

I am
. فبدل نطق “يهوه” صار النطق الرسمي “أنا هو أدوناي”، وهي نفسها
أنا الرب، ولكن في أغلب الأحيان تأتي بدون “أدوناي

“أي “رب
“هكذا “أنا هو”، لتكون هي التعبير الكامل عن يهوه اسم الله! وهي شديدة التأثير على السمع، وهكذا أخذت موضع “يهوه” في الرهبة والجلال حيث أصبحت “أنا هو” تعني “أنا الكائن بذاتي والمقيم لكل كيان وكل الوجود”. وهي تنطق بالعبرية “أني هو” =
ani hu
. وهي أصلاً تأتي ومعها “أدوناي
“لتعبِّر عن “يهوه
“= “أنا هو الرب”. ولكن حينما تأتي وحدها “أنا هو
“فهي تعبِّر عن “أنا الرب

وللأسف الشديد فإن
“هو”الذي هو فعل الكينونة
“أكون”،صار حذفها في الأناجيل باللغة العربية عن جهل خطير. لذلك نسمع المسيح يقول: “أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق

” (يو 23: 8). هنا ضاع اسم الله بصورة مخزية وصارت “أنا” ضميراً مجرداً للمتكلم، مع أن أصلها باليونانية مترجم في الإنجليزية: “أنتم من أسفل، أما “أنا
هو” =

I am =
™gè e„mi
فمن فوق”. وهكذا يظهر المسيح أنه يشير إلى نفسه: “أنا هو
™gè e„mi
” إشارة الألوهة المستترة، ولكن في موضع آخر في يو 58: 8 جاءت بمعناها الأصيل التزاماً من الله إذ يقول: “قبل أن يكون إبراهيم
أنا كائن

” فهنا
أنا كائنجاءت: “أنا هو

™gè
e„mi
”!!! مما يوضح تماماً أن “أنا هو

™gè e„mi
تعني “أنا كائن” في وضعها الأصلي.


الله يعطي اسمه الشخصي للمسيا القادم:

وللقارىء أن يسأل كيف ومتى أُعطي للمسيح النطق باسم الله عن نفسه “أنا هو الرب”؟ هذا واضح من قول الله لموسى: “أُقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل
كلامي في فمهفيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به
باسميأنا أُطالبه

” (تث 18: 18و19). ومرة أخرى أكثر وضوحاً قال: “ها أنا مرسل ملاكاً أمام وجهك يحفظك في الطريق ويأتي بك إلى المكان الذي أعددته، احترز منه واسمع لقوله ولا تتمرد عليه لأنه لا يصفح عن ذنوبكم
لأن اسمي فيه

” (خر 21: 23و22). طبعاً اعتُبر هذا الملاك أنه هو هو المسيا في ظهوراته قبل تجسده.


الاسم الجديد لله هو اسم علاقة ومناسبة:

ولكن لا يزال أمامنا مفهومٌ آخر عميق للانتقال من
“يهوه”الاسم الخاص بالله في ذاته، و
“الرب”الاسم الآخر الذي حل محل “يهوه” على ممر الزمن. فبشيء من التعمق نجد أن “يهوه” هو اسم الله الذاتي الشخصي الذي مُنع الإنسان من أن ينطق به، لأنه اسم يحمل وجود الله الذاتي، فالذي ينطقه كمن يرتفع إلى نفس الوجود والكيان الفائق ليدخل إليه أو يتواجه أمامه، ذاتاً لذات، ومَنْ يطيق ومَنْ يحتمل؟ لذلك امتنع النطق به عن خطورة: “الإنسان لا يراني ويعيش” (خر20: 33)

أما اسم “الرب”
KÚrioj
أي
“السيد” فهو اسم علاقة ومناسبةلأنه يمتنع أن يكون الله سيداً لنفسه أو على نفسه. فالله هنا اقتنى لنفسه شعباً، هم له وهو أصبح سيداً عليهم، وهم عبيد بمعنى أنهم يعبدونه كرب أو كسيد أعظم. لذلك فإن من لا يعبد الله كان يُحسب كمَنْ خرج على طاعته كسيد أو استعلى على سيادته. إذاً فالعبادة لله حق إلهي على المخلوق كاعتراف علني بربوبيته، والذي لا يعبده يكون كمن يعصاه، كمن يقاوم الله، كالشيطان، فإنه لما امتنع أن يعبد انحطَّ من رتبته، ولما أَوحى لآدم أن يعصي الوصية ويأكل من الشجرة المحرمة
“ليصير كاللهعارفاً الخير والشر
”،خرج آدم من حضرة الله وانحط إلى الأرض تحت اللعنة والموت.


الربوبية هي اسم السيادة المطلقة لله على الخليقة:

وهي تعبِّر عن علاقة سيد بعبيد يعبدونه ويعترفون بربوبيته. هذا نراه في المسيح في غاية الوضوح التطبيقي. إذ لما أكمل المسيح مشيئة الآب وقَبِلَ موت الفداء لخلاص العالم ومصالحته لله، رفَّعه الله إلى ربوبيته التي كانت له مع الآب قبل أن يتجسد هكذا:

+ “الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفَّعه الله أيضاً
وأعطاه الاسم الذي هو فوق كل اسم(حسب الترجمة الصحيحة).
لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرضومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح
هو ربٌّ لمجد الله الآب” (في6: 2
11)

وهذا يتطابق مع قول المسيح للآب: “العمل الذي أعطيتَني لأعمل قد أكملتُه. والآن مجِّدني أنت أيها الآب
عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يوحنا 4: 17و5)

واضح هنا من نص الآية أن المسيح كان قبل التجسد في صورة الله معادلاً لله في المجد الذاتي، وبالتالي هو “رب” بكل معنى وتأكيد. ثم بحسب تدبير ومشورة الله، أخلى ذاته وتجسد آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس، وأكمل الموت على الصليب، فكانت النتيجة أن رفَّعه الله وأعطاه
“الاسم”. وهنا “الاسم”

tÕ Ônoma
معرَّفاً بالألف واللام حسب الترجمة الصحيحة هو حتماً اسم الله أي
“الرب”، وبالتالي توجبت له العبادة من السمائيين والأرضيين كرب السماء والأرض، ليس كأنه ربٌّ آخر بل ربٌّ لمجد الله الآب.


ما كان المسيح عليه من الربوبية قبل التجسد باعتباره ابن الله والكلمة الخالق:

فبحسب الرسالة إلى كولوسي يقول الوحي: “فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواءٌ كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خُلِق الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل” (كو16: 1و17)

ففي قول الآية: “الكل به وله قد خُلق
” (كو16: 1)، هذا يعني أن الله الآب خلق الكل به أي
بالابن،ولكن ليس كمجرد أداة خَلْقٍ بل كصاحبٍ ومالكٍ للخليقة التي خلق. لذلك يقول: “الكل به و
“له”..” بمعنى أن الآب أعطى الخليقة للابن.


العلاقة الوثيقة بين الله الآب والخليقة:

ولكن الله لم يمنح الخليقة للابن جزافاً. فالخليقة بعد أن خلقها الابن بقيت قائمة
“فيه”منتمية إليه
كما تقول الآية: “الذي هو قبل كل شيء
وفيه يقوم الكل

” (كو17: 1). بمعنى أن الخليقة بعد أن أخذت بدايتها منه وخرجت إلى الوجود بقيت قائمة فيه، على أن الابن لا يُحسب من الخليقة، إذ توضِّح الآية أنه
“قبل كل شيء”.

ويكمِّل هذا المعنى سفر العبرانيين، فيقول إن الابن “حاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته
” (عب3: 1)، ويتمادى الوحي في رسالة كولوسي ويقول عن الابن إنه
“بكر كل خليقة” (كو 15: 1)، بمعنى أن كل خليقة إذ خرجت منه بقي هو حاملاً صورتها فيه، فحُسب “بكر كل خليقة

” أي السابق والأول على كل خليقة. بهذا يُمعن الوحي في وصف الانتساب الوثيق الذي بقيت الخليقة عليه بالنسبة للابن خالقها. هذا الوضع الانتسابي الفائق بين الابن الخالق والخليقة المخلوقة يكشف عن التبعية التي تدين بها كل خليقة للابن بصفته صاحبها وحاملها،
فهي تبعية الملكية الخاصة جداً،كملكية يهوه قديماً لشعب إسرائيل. فهو على مستوى الربوبية وهي على مستوى العبيد الأخصاء. فالابن هو رب الخليقة عن حق وأصالة، وأيضاً عن فعالية ديناميكية، إذ هي باقية فيه وتتحرك به: “فيه يقوم الكل

” ”
وحاملٌ كل الأشياءبكلمة قدرته

” (كو15: 1؛ عب 3: 1). فهي ديناميكية حية، هو كربٍّ يرعى، وهم عبيد منتسبون له يعبدون، هو لها وهي له.


أخذ جسداً من خليقة مدينة له بالحب والعبودية معاً:

لذلك لما أراد الابن أن يأخذ جسد الإنسان
أي جسداً من الخليقة
لم ينحط الابن عن ربوبيته للخليقة، بل تعظمت الخليقة مُمثلة في جسد الإنسان إذ ارتفعت إليه. هو ملأها بلاهوته وهي “أخذت من ملئه نعمة فوق نعمة

” (يو16: 1)، وحباً فوق حب، فبقي هو
الرب المحبوب للجسد،وارتفع الجسد
ليصير الجسد المحبوب للرب!!هكذا استطاع ابن الله لما تجسد أن يخلِّص الإنسان والخليقة بالجسد، وذلك بالموت الذي ماته بالجسد وبالقيامة التي قامها بالجسد. كذلك أيضاً لم يكن الجسد الذي أخذه من الخليقة عائقاً يعوقه عن الارتفاع إلى أعلى السموات واستعادة الربوبية التي له قبل التجسد، لأنه رب قبل التجسد وبعد التجسد. اسمعه يخاطب الآب:

+ “أنا مجَّدتُك على الأرض، العمل الذي أعطيتَني لأعمل أنا أكملتُه، والآن مجدني أنت أيها الآب
عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يو4: 17و5)

وهذا ما أكمله له الله الآب بكل مجد وكرامة:

+ “وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً وأخضع كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة
” (أف 19: 1
22)

+ “لتجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو
ربٌّلمجد الله الآب” (في 10: 2و11)


بهذا أوضحنا للقارىء كيف أن
المسيح قبل التجسد كان ربًّاللخليقة عن صدق وجدارة وديناميكية حية. ثم كيف بعد أن تجسد ارتفع المسيح إلى سابق مجده بالجسد كربٍّ، مع اعتراف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله. فالربوبية التي للمسيح لم تُعطَ له منحةً أو جائزة على أعمال الفداء والخلاص المجيد الذي عمل، بل إنه كان هو هو الرب حتى وهو في صورة عبد، فعرشه في السماء لم يغادره حتى وهو على الصليب. اسمعه يقول عن نفسه: “لم يصعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان (الذي على الأرض) الذي هو في السماء


” (يو13: 3). “أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق
” (يو23: 8). ويقول عنه المعمدان: “الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع،.. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع
” (يو 31: 3). “خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم وأيضاً أترك العالم وأذهب إلى الآب” (يو 28: 16)


القصد النهائي في التدبير الإلهي من ربوبية المسيح قبل التجسد وبعد التجسد:


ربوبية المسيح في تدرجها التاريخي لتبلغ بالخلاص أعمق وأعجب مضمونها الإلهي البشري معاً:

إنه ملفت للنظر جداً أن يستعلِن لنا الله المسيح ربًّا قبل التجسد باعتباره الابن الخالق لكل الخليقة، ثم إعادة استعلان المسيح ربًّا كما هو بعد التجسد باعتباره مخلِّصَ البشرية وخالقَها جديداً ومُصالحَ العالم لله الآب. لابد وأنه مذخَّر للمسيح بصفته الابن الوحيد المحبوب المتجسد، عملٌ من جهة الإنسان ككل، باعتباره
ربالإنسان والخليقة ثم فاديها ومخلصها لحساب الآب. هذا هو السر الذي استودعه الله لبولس الرسول ليكرز به في آخر أيامه، إذ كشفه لنا هكذا:


أولاً:

من جهة
اختيارالله للإنسان
وتبنّيه في المسيح، قبل تأسيس العالم!قبل الزمن والتاريخ بحسب القول:

+ “باركنا بكل بركة روحية في السماويات
في المسيح
كما
اختارنا فيه قبل تأسيس العالملنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة.
إذ سبق فعيَّنَنا للتبني بيسوع المسيح لنفسهحسب مسرة مشيئته” (أف 3: 1
5)


ثانياً:

من جهة قصد الله الأزلي
قبل تأسيس العالم أيضاً
أن يجمع
في النهاية
البشرية المفدية والخليقة جميعاً في المسيح، حسب القول:

+ ”
إذ عرَّفنا بسرِّ مشيئته
حسب مسرته
التي قصدها في نفسه
لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك” (أف10: 1)


ثالثاً:

هذا التجميع الهائل تحت سلطان المسيح، كربِّ الإنسان والخليقة، نجده يعتمد أساساً على الصلة الأولى القوية الديناميكية التي تربط الخليقة والإنسان بالمسيح كربٍّ وكخالق، ثم الصلة الثانية التي نشأت من عمل الفداء والخلاص، التي انصهرت بها الخليقة البشرية لتوجد متحدة بالمسيح
كخالق و”رب الكل” (أع36: 10)، ثم كمخلِّصٍ وفادٍ ومُصالح لحساب الآب. ويكشف الوحي للقديس بولس في الرسالة إلى فيلبي أن هذا التجميع يقوم على أساس:

+ “الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده
بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء” (في 21: 3)


رابعاً:

ولكن بالنهاية عندما بلغ المسيح السلطان الكلي فوق كل الخلائق في السماء والأرض بقيامته من الأموات وصعوده إلى أعلى السموات وجلوسه عن يمين الله، أعلن الله أن هذا السلطان الذي ناله المسيح كرب فوق الكل وهو بحال تجسده،
إنما ناله خاصة من أجل الكنيسة،التي كشف الله سرَّها أنها
هي جسده الذي أخذه من البشرية واتحد به لتصير البشرية المفدية قائمة فيه كجسده الخاصالذي اتحد به اتحاداً بغير افتراق، فكل ملء اللاهوت الذي انصبَّ في جسده لما تجسَّد، وكل مجد الربوبية التي حازها أو بالحري استعادها بموته وقيامته وصعوده إلى أعلى السموات وجلوسه عن يمين الآب، انصبَّ أيضاً في الكنيسة لأنها هي هي جسده الذي جلس به عن يمين العظمة.

+ “وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين (جسده) حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمَّى.. وأخضع كل شيء تحت قدميه وإياه
جعل رأساً فوق كل شيء: للكنيسة: التي هي جسدُهُ،مِلءُ الذي يملأ الكل في الكل” (أف 19: 1
23)


خامساً:

هكذا فإن ربوبية المسيح، ابن الله، بعد أن كانت قبل التجسد
على الإنسانوكل الخليقة، صارت ربوبية المسيح بعد التجسد للإنسان وليس عليه، إذ اتحد الإنسان به، بمعنى: بعد أن كنا عبيداً لله قبل تجسد ابنه، وهو سيد ورب علينا، صرنا بعد تجسد ابنه أبناءً وأحباءَ لله، إذ صرنا
جسدهالذي اتحد به اتحاد عريس بعروس، وكما يقول ق. بولس صرنا “من لحمه ومن عظامه

” (أف 30: 5). وهكذا تحوَّلت لنا ربوبية المسيح من سيادة وعبودية إلى ربوبية حب وحرية وعلاقة اتحاد سرية: “أنتم فيَّ وأنا فيكم” (يو20: 14)


سادساً:

والمسيح إذ احتوانا في جسده، لا يزال ساهراً على هذا الجسد، أي الكنيسة،
لتبلغ بالحق والصدق إلى ملء قامتهلتُدعى عن جدارة جسده الحقيقي لا تشبيهاً ولا مجازاً، بل جسده الخاص الذي يتراءى به أمام أبيه في ملء كمال القداسة والإيمان والمحبة.

+ “إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله
إلى إنسان كامل
إلى قياس قامة ملء المسيح.. صادقين في المحبة ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس” (أف 13: 4و15)


استعلان ربوبية المسيح بعد القيامة والصعود وترسيخ مضمونها العبادي في الكنيسة:

لم يظهر لقب “رب” للمسيح بمعناه الإلهي إلا بعد قيامته من الأموات وارتفاعه أمام أعين تلاميذه، حيث جاء لقب “رب” مرادفاً للقب ابن الله كاستعلان سمائي، كما أعلنها بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية: “وتعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات
” (رو4: 1)، حيث عُرف المسيح بلقبه الكامل: ”
الربيسوع
المسيح

“بين تلاميذه على خلفية الارتفاع المجيد الذي جاء كفعل يؤيد عمل الخلاص الذي أكمله على الصليب: “لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش لكي
“يسود” على الأحياء والأموات

” (رو 9: 14)، حيث كلمة “يسود” تجيء في اليونانية واضحة


kurieÚsV



كفعل من اسم “رب”
kÚrioj
.

ومن هنا جاءت معلومة ق. بولس الشهيرة: “إن عشنا
فللربنعيش

” لأنه رب الأحياء، “وإن متنا
فللربنموت

” لأنه
ربالأموات، “فإن عشنا وإن متنا،
فللربنحن” (رو 8: 14)


اعتراف الإيمان بربوبية المسيح:

وأول من شهد بربوبية المسيح بعد القيامة من الأموات هو بطرس الرسول يوم الخمسين
]
هذا عن رؤية عينية وشهادة لأنه معروف أن “الرب ظهر أولاً لبطرس” حسب التقليد (لو 34: 24 و1كو 5: 15)
[
، وذلك في احتجاجه المشهور أمام رؤساء الكهنة
(







[2]







)

واليهود بمنتهى القوة والشجاعة
هذا بطرس الذي سبق أن أنكر المسيح ثلاثاً أمام جارية:

+ “فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم
ربًّا ومسيحاً” (أع 36: 2)

ومرة أخرى يرفع بطرس الرسول صوته في سفر الأعمال قائلاً:

+ “الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل يبشر بالسلام بيسوع المسيح:
هذا هو ربُّ الكل” (أع 36: 10)

أما بولس الرسول فقد رآه وسمعه متكلماً إليه من السماء وهو أول من وضع قانوناً للإيمان بالمسيح هكذا:

+ “لأنك إن اعترفت بفمك
بالربيسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت” (رو9: 10)


الشهادة لربوبية المسيح بالروح القدس:

ولكن يعود أيضاً بولس الرسول ويؤكد أنه لا يمكن لإنسان أن يعترف بالمسيح ربًّا دون أن يحصل على الروح القدس الشاهد الأول والأعظم للمسيح هكذا:

+ “ليس أحد يقدر أن يقول يسوع
ربإلا بالروح القدس” (1كو 3: 12)

ومعلوم أن حلول الروح القدس على الكنيسة كان من بركات ما بعد القيامة.


علاقة التلاميذ بالرب الحي من السماء:

لقد دخلت علاقة التلاميذ بالمسيح الرب في قالبها العملي والاستعلاني الشخصي بالعبادة داخل الكنيسة.

ونقرأ عن صورة عاطفية بدرت من بولس الرسول تحكي عن هذه العلاقة: “إن كان أحد لا يحب
الربيسوع فليكن أناثيما (= محروماً)، ماران آثا (= تعال يا ربنا)” (1كو 22: 16)

وقد استلمت الكنيسة كلها هذه العلاقة وهذه المخاطبة، إذ كان كل الشعب يهتف بها بعد انتهاء القداس: “فلينتهِ العالم ولتأتِ النعمة، تعال أيها الرب يسوع” (الديداخي: تعليم الرسل الاثني عشر 6: 10).


الدعاء باسم الرب معيار الإيمان المسيحي:

صار الدعاء
باسم الربيسوع هو الذي يحدد الإيمان المسيحي، هذا نسمعه كمعلومة ثابتة متداولة من بولس الرسول في مستهل رسائله:

+ “إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدسين في المسيح المدعوين قديسين مع جميع الذين
يدعونباسم
ربنايسوع المسيح في كل مكان” (1كو 2: 1)

أما ضمان الحياة المثلى فتكون وسط هؤلاء الذين يدعون باسم الرب:

+ “أما الشهوات الشبابية فاهرب منها واتبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين
يدعون الرب من قلبٍ نقي” (2تي 22: 2)


الكرازة بالرب:

+ “فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع
ربًّا،ولكن بأنفسنا عبيداً لكم من أجل يسوع” (2كو 5: 4و6)


عبادة الرب سماتها الاجتهاد وحرارة الروح،


في فرح الرجاء والصبر على الضيق والمواظبة على الصلاة:

+ “غير متكاسلين في الاجتهاد، حارين في الروح،
عابدين الرب،فرحين في الرجاء، صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة” (رو 11: 12و12)


خدمة الرب لها وعد ميراث:

+ “عالمين أنكم
من الربستأخذون جزاء الميراث لأنكم
تخدمون الرب المسيح” (كو 24: 3)


المسيح يرد بسخاء على كل الذين يدعون به ربًّا، دون تفريق بين أجناس وألوان، والذي يدعو به يخلص:

+ “لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني،
لأن ربًّا واحداً للجميعغنيًّا لجميع الذين يدعون به، لأن كل من
يدعو باسم الربيخلص” (رو 12: 10و13)


التناول والإفخارستيا هي شهادة وكرازة بموت الرب وقيامته، والاستهانة بها تعدٍّ على ربوبية المسيح:

+ “فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس
تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء.إذاً أيُّ من أكل من هذا الخبز وشرب كأس الرب بدون استحقاق
يكون مجرماً في جسد الرب ودمه..لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميِّزٍ
جسد الرب” (1كو 26: 11
29)

+ الكنيسة تدرك تماماً أن:


الرب يسوع هو القوة الإلهية المكمِّلة للثالوث الأقدس.

بولس الرسول يؤكِّد ذلك في ثلاثة مواضع هامة:

1
“فأنواع مواهب موجودة ولكن
الروح واحد،

وأنواع خدم موجودة ولكن
الرب واحد،

وأنواع أعمال موجودة ولكن
الله واحد” (1كو 4: 12
6)

2
“نعمة
ربنا يسوع المسيح،


ومحبة الله،


وشركة الروح القدس،

مع جميعكم” (2كو 14: 13)

واضح هنا أيضاً أن الرب يسوع يكمل عمل محبة الله وشركة الروح القدس في ثالوث القوى الإلهية.

3

لنا إله واحد الآبالذي منه جميع الأشياء ونحن له،


ورب واحد يسوع المسيح

الذي به جميع الأشياء ونحن به” (1كو 6: 8)

على أن ألوهية الآب تكملها ربوبية المسيح، وربوبية المسيح تكملها ألوهية الآب، فالآب رب بيسوع المسيح ويسوع المسيح إله بالآب!! “أنا في الآب والآب فيَّ
” (يو 10: 14)، “أنا والآب واحد
” (يو 30: 10)، “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 9: 14)


الرب

يسوع المسيح هو
روحفي ذاته، كما أعلن المسيح عن الله للمرأة السامرية: ”
الله روح” (يو 24: 4)

+ ”
وأما الرب فهو روحوحيث روح الرب فهناك حرية، ونحن جميعاً
ناظرين مجد الرببوجه مكشوف (بدون برقع الناموس) كما في مرآة،
نتغير إلى تلك الصورة عينهامن مجد إلى مجد
كما من الرب الروح” (2كو 17: 3و18)

وهنا التغيُّر إلى صورة الرب، هو عملية موازية لما حدث لموسى إذ بنظره لجود الله لمع وجهه بالنور، هنا بالنظر إلى مجد الرب الروح ينطبع علينا نور وجه المسيح.

+ “لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح” (2كو 6: 4)

 المسيح هو روح، لذلك فكل مَنْ عَبَده واقترب إليه بالروح اتحد به:

 + “وأما
من التصق بالرب فهو روح واحد” (1كو 17: 6)

من هنا صار المسيح مركز الجذب الأعظم للأرواح القديسة والقادر أن يجمع كل روح في ذاته، كل ما في السماء وعلى الأرض، لتظهر كنيسة المجد كنيسة الدهور، ملء السماء والأرض.


(يناير 1994)





(



[1])

لكي يفهم القارىء معنى “أنا الوجود” فيما يخص المسيح نقول: إنه لا توجد خليقة ما تستطيع أن تقول بأنها موجودة بذاتها، فكل خليقة وكل إنسان يستمد وجوده من الذي وحده “هو الوجود”. على أن الوجود الزمني وقتي وزائل فلا يُحسب وجوداً حقيقياً. ولكن الوجود الحقيقي إنما هو قبل الزمن أي أزلي وبعد الزمن أي أبدي. لذلك استحالة أن يرقى الإنسان إلى الوجود الحقيقي إلا في المسيح.


(





[2]





) ليس من فراغ أن ينادَى المسيح وسط اليهود بأنه رب. فمن تعاليم الربيين المؤكدة عند الشعب ما كانوا يعلِّمون به هكذا:
]
“هوذا عبدي يعقِل (يتصرف بحكمة)”: هذا القول لإشعياء النبي الذي يفيد شخصية المسيا النبي والملك الآتي. وبقوله: “يتعالى ويتسامى جداً”، يفيد أنه سيرتفع فوق إبراهيم ويرتفع فوق موسى ويرتفع عالياً فوق الملائكة
[
.

(

Yalkut Sim

2 fol 53.3 on Is LII,13, cited by Westcott,
On St Johnp. 16

)

كذلك يقولون:
]
المسيا هو أعظم من الآباء وأكثر من موسى وأكثر من الملائكة الخدَّام
[
.

(
Ibid.
)

وعلى هذا التعليم القديم الذي للربيين يعلِّق بولس الرسول في سفر العبرانيين بالقول: “جلس عن يمين العظمة في الأعالي، صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً (رب) أفضل منهم.” (عب 3:1و4)

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي