مشتهى كل الأمم


“وأُزلزل كل الأمم، ويأتي مشتهى كل الأمم.”

(حَجَّاي 7: 2)

oVoVo

أصل الآية كلها كما وردت في حجَّاي النبي هكذا: “لأنه هكذا قال رب الجنود: هي مرَّة بعد قليل، فأُزلزل السموات والأرض والبحر واليابسة. وأُزلزل كل الأُمم، ويأتي مشتهى كل الأُمم، فأملأ هذا البيت مجداً قال رب الجنود.. مجدُ هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، قال رب الجنود، وفي هذا المكان أُعطي السلام، يقول رب الجنود
” (حجَّاي 6: 2
9). ولكن في النسخة السبعينية اليونانية لم يأتِ لقب المسيح “مشتهى كل الأمم” بهذا المعنى وإنما بلفظة غير واضحة. ولكن برجوعنا إلى نسخة الفولجاتا اللاتينية، وهي الأقرب إلى العبرية، جاءت بنفس المعنى “مشتهى كل الأمم”، كما هو موضَّح عاليه.


“أُزلزل السموات والأرض والبحر واليابسة و.. كل الأمم”:

هنا الزلزلة الشاملة للسماء والأرض وما فيها وكل الأمم، هو تعبير نبوي كناية عن حدوث تغيير شديد مفاجئ لتدبير الله فيما يخص الإنسان؛ حيث تشترك الطبيعة حتماً بما يخصها من هذه التغييرات التي ستنتهي بعتق الطبيعة من حالة عبودية الفساد التي وقعت فيها والتي أصابتها بسقوط سيدها آدم، حيث كانت المقولة: “ملعونة الأرض بسببك
” (تك 17: 3)، وذلك عند تكميل خلاص الإنسان ودخوله المجال السماوي.

وقد حدث هذا بالفعل عند نزول الله، وللمرة الأولى في تاريخ الإنسان، ليتكلم مع موسى من فوق جبل سيناء: “وكان جبل سيناء كلُّه يُدَخِّن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون، وارتجف كل الجبل جداً.. وكان جميع الشعب يَرَوْنَ الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يُدَخِّن. ولما رأى الشعب، ارتعدوا ووقفوا من بعيد
” (خر 18: 19؛ 18: 20). وهكذا قدمت الطبيعة احتفالها بنزول الله ليكلِّم شعبه وكان هذا بداية العهد القديم للشعب.

وعلى هذا النمط، نرى هنا الطبيعة تُظهر احتفالها بمجيء “مشتهى كل الأمم”، وهنا تتقدم السماء أيضاً باحتفالها لأن الآتي سيأتي من فوق من السماء، كما يشترك في هذا الاحتفال “كل الأمم”، إذ تدخل في نطاق الزلزال. ولكن هذه المرة لا تكون على المستوى المادي المنظور، ولكن بالمفهوم الروحي الأعلى، لأن الآتي “مشتهى كل الأمم” هو هو ابن الله الذي يأتي في الخفاء وفي سلام دون مظاهر علنية: “حقاً أنت إلهٌ محتجِبٌ يا إله إسرائيل المخلِّص” (إش 15: 45)

بل وعلى نفس النمط، ستكون علامات نهاية الزمان (مر 8: 13 و24
26) وتكميل رسالة الخلاص لبني الإنسان، حينما يُستعلن الله في مجيئه الأخير بمجد كثير مع قديسيه وملائكته القديسين. فستتزلزل السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وكل الخليقة، كاحتفالٍ أخيرٍ بالعتق النهائي الذي سيحوزه الإنسان وتشاركه الخليقة فيه وتُرفع عنها اللعنة
(







[1]







)

.


“مشتهى كل الأمم”:

هذا هو لقب المسيح الفريد من نوعه، فهو يصف وضع المسيح في كل أمم العالم باعتبار ما سيكون، أي بالنسبة إلى ما هو حادث الآن، حيث كلمة “المشتهى” تحوي ما تحوي من الحب الشديد وتعلُّق النفس والقلب والروح به كمخلِّصٍ وفادٍ. ولا تقف نبوة حجَّاي وحدها في وصفها المسيح بلقب
“مشتهى كل الأمم”،فإشعياء النبي يتنبَّأ بما سيمارسه محبو المسيح وأخصاؤه بالروح في عشق وهيام يفوق الوصف، اسمعه يقول: “إلى اسمك وإلى ذِكْرك
شهوة النفس، بنفسي اشتهيتك في الليل، أيضاً بروحي في داخلي إليك أَبْتَكِرُ

” (إش 8: 26و9). وإشعياء لا يتكلم عن نفسه فهو نبي إنما يتنبَّأ بما سيكون، حيث يتقمص إشعياء موقف الأمم وماذا سيكون المسيح عندهم. فالنبوة إن كانت لحجَّاي أو لإشعياء فهي لنا ومن أجلنا، وهي تتكلم بفمنا إن كان لنا فم يتكلم بالحق وبسرِّ المسيح.


موقف المسيح باعتبار أنه مشتهى كل الأمم:

المسيح نفسه يكرِّس هذا اللقب ويحرِّضنا على المشاركة في ممارسته، اسمعه يقول: “ستأتي أيام فيها
تشتهونأن تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان..” (لو 22: 17). هذا عن أيام حياته، وماذا نشتهي في أيامه إلاَّ شخصه. إذن، فهو يعلِّم ويوجِّه عقولنا وقلوبنا إلى مدى العلاقة الخاصة جداً التي تربطنا به أو التي ينبغي أن تكون. فخارج عن محيط شهوة حبه، عسير علينا أن نجده. وبغير شهوة رؤياه يستحيل أن نلقاه. فهو لا يوجد ولا يتراءى إلاَّ في خزانة شهوة القلب. ومَنْ أدرك هذا السر يعلم صدق ما يقول الناس وأكثر. ثم اسمع ما يقول عن إنجيله وكلامه: “إن أنبياء وأبراراً كثيرين
اشتهواأن يروا ما أنتم تَرَوْنَ ولم يَرَوْا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا. طوبى لعيونكم لأنها تُبصر، ولآذانكم لأنها تسمع” (مت 17: 13و16)

واضح من قول المسيح إن ما اشتهاه الأنبياء والأبرار الكثيرون ولم يحصلوا عليه
وهو رؤية المسيح وسماع كلامه
صار منظوراً للتلاميذ والمؤمنين ومسموعاً لهم ولنا. والرؤيا والسماع هما مضمون “المشتهى”، أي أن “المسيح المشتهى” من جهة رؤيته وسماع كلامه أصبح من حقنا. وواضح من جهة الرؤية أنها صارت رؤية صادقة بالإيمان الذي هو أعلى مستوى من العيان، أما من جهة كلام المسيح فالإنجيل المشتهى صار موهوباً لنا. وبهذا يكون المسيح قد حقَّق بالفعل لقبه الذي رآه حجَّاي من وراء الدهور (520 سنة ق.م)، أنه هو المشتهى بالحق لكل الأمم بالإيمان والإنجيل. الإيمان الذي يُحضر لنا شخصه، والإنجيل الذي يُعلن لنا كلامه.


أما الأنبياء الذين

اشتهوا ولم يروا أو يسمعوا، فأكثرهم وضوحاً هو دانيال، ونحن نقرأ في نبوته حينما أراد أن يتعرَّف على سر المسيح والنهاية، قيل له: “اذهب يا دانيال لأن الكلمات مخفية ومختومة إلى وقت النهاية.
كثيرونيتطهَّرون ويبيَّضون ويمحَّصون. أما الأشرار فيفعلون شرًّا ولا يفهم أحد الأشرار، لكن الفاهمون يفهمون. ومن وقت إزالة المحرقة الدائمة وإقامة رجس المُخرِّب ألف ومئتان وتسعون يوماً.
طوبى لِمَنْ ينتظرويبلغ إلى الألف والثلاث مئة والخمسة والثلاثين يوماً (أي إلى مجيء المسيح)” (دا 9: 12
12)

والمسيح هنا في كلامه في هذه الآية بعد أن قال: إن أنبياءَ وأبراراً كثيرين اشتهوا أن يروا وأن يسمعوا، ولم يروا ولم يسمعوا؛ يعود ويعقب بالقول علينا ويقول: أما أنتم
“فطوبى لأعينكم لأنها تنظر”،وهي نفس الطوبى التي ذكرها الوحي في دانيال للذين سيبلغون المسيح.

ويعود الوحي بعدها في دانيال يقول واصفاً المسيح: “ويؤتى
“بالبر الأبدي”،و
“لختم الرؤيا والنبوة”و
“لمسح قدوس القدوسين”.. “المسيح الرئيس”

” (دا 24: 9و25). وهي من أجمل وأقوى الألقاب الاستعلانية للمسيح. فالمسيح هو البار وحده، وهو ختام كل الرؤى ونهاية كل النبوات، وهو القدوس وحده، المسيح رئيس السلام.

هذا من جهة
دانيال،وغيره من الأنبياء والأبرار كثيرون، كل مَنْ كان عليه الوحي وتنبَّأ عن مجئ المسيح:





فنسمع البار يعقوبأب الآباء يقول: “لا يزول قضيب من يهوذا (السبط) ومشترع من بين رجليه (ملك مدبِّر)، حتى يأتي
شيلون(الأمان)
وله يكون خضوع شعوب(أو انتظار الشعوب، بحسب الترجمة السبعينية)” (تك 10: 49)

فانظر، أيها القارئ، كيف تأتي نبوة مبكِّرة واضحة هكذا تربط بين المسيح والشعوب ونحن هنا في سفر التكوين. فكيف لا تشتهي نفس يعقوب البار أن ترى وتسمع شيلون هذا. ولكن لم تَرَ ولم تسمع.





وذلك النبي بلعامالذي “يرى رؤيا القدير ساقطاً وهو مكشوف العينين

” (عدد 16: 24)، فيقول: “أراه ولكن ليس الآن، أُبصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل..” (عدد 17: 24)

فكيف هذا لا يشتهي أن يرى ويسمع الذي رآه كوكباً يضيء السماء؟ ولكنه لم يَرَ ولم يسمع.





أو إشعياء العجيبيتكلَّم عن: “عذراء في يهوذا تحبل وتلد ابناً ويُدعى اسمه الله معنا”، وهكذا يحدد معالم المسيح بهذا السر الرهيب، ثم ألا يشتاق أن يرى ويسمع عمانوئيل؟ اسمعه يصرخ من جهة هذا الأمر: “حقاً أنت إله محتجِبٌ يا إله إسرائيل المخلِّص

” (إش 15: 45)، حينما كلَّت عيناه من الرؤيا واحتبس السماع عن أُذنيه.

ويعود إشعياء نفسه ويحكي عن هذا الآتي هكذا: “لأنه يُولَد لنا ولد ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام
” (إش 6: 9). وفي هذا أيضاً اشتهى إشعياء أن يرى وأن يسمع ذلك الابن الإله، ولم يَرَ ولم يسمع.




وكان الوحي أيضاً على إشعياء، فقال عن المسيح الكرمة: “غنُّوا للكرمة
المشتهاةأنا الرب حارسها، أسقيها كل لحظة لئلا يُوقَعَ بها، أحرسها ليلاً ونهاراً

” (إش 2: 27و3). فكم اشتهت نفس إشعياء أن ترى هذه الكرمة وأن يعرف مَنْ هو، ولكنه لم يَرَ ولم يسمع.




ويعود أيضاً إشعياء ليقول: “حينئذ تتفقَّح عيون العُمي، وآذان الصُّم تتفتَّح. حينئذ يقفز الأعرج كالأُيَّل (الغزال)، ويترنَّم لسان الأخرس، لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر
” (إش 5: 35و6). واشتهت نفس إشعياء أن ترى وتسمع ذلك الذي سيفجِّر في البرية أنهاراً. ولم يَرَ ولم يسمع.




كما ينادي إشعياء: “هوذا عبدي الذي أَعْضُدُهُ، مختاري الذي سُرَّت به نفسي. وَضَعْتُ روحي عليه
فيُخرِج الحق للأمم.لا يصيح ولا يرفع ولا يُسْمِعُ في الشارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصِفُ وفتيلة خامدة لا يُطفئُ، إلى الأمان يُخْرِج الحقَّ. لا يكلُّ ولا ينكسر حتى يضع الحقَّ في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته” (إش 1: 42
4)

ويتكلَّم إشعياء هكذا ليعزِّي كل الأجيال ويبقى هو لا يدري عمق ما يتكلم به!!

وكما يقول دانيال النبي: “كثيرون يتطهَّرون ويُبيَّضون ويُمحَّصون. أما الأشرار فيفعلون شرًّا ولا يفهم أحد الأشرار، لكن الفاهمون يفهمون.. طوبى لمَنْ ينتظر
” (دا 10: 12و12). فقد تم القول إن الأشرار لا يفهمون، إذ قد جاء شيلون، واحتقروه؛ وظهر كوكب يعقوب، فأهانوه وأخرجوا له نظيراً مزيَّفاً (بار كوكبا)؛ وجاء ابن العذراء، فقالوا عليه نحن نعرف أباه وأمه وتربصوا به لرجمه؛ وولد ليهوذا ولد وعمل أعمال الله، فقالوا إنه برئيس الشياطين يعمل؛ وجاء مَنْ فجَّر في البرية ماء، وفتح أعين العمي وآذان الصم، والأعرج والمشلول حملا سريرهما ومشيا، فقالوا له هل أنت الآتي أم ننتظر آخر؛ وجاء مَنْ صنع الحق وعمله، فافتروا عليه وحاكموه وقتلوه. أما الذين تطهَّروا وبيَّضوا ثيابهم في دم الخروف وتمحصوا بالروح، فهؤلاء كانوا من الفاهمين ونالوا الطوبى من فم المسيح، لأنهم رأوه عن حق وسمعوه عن استحقاق
ونالوا مشتهاهم.الذين من أجلهم تنبَّأ الأنبياء ورأى الراؤون وتكلَّم الأبرار عمَّا سيكون: “الذين أُعْلِن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور..
التي تشتهي الملائكة أن تطَّلع عليها” (1بط 12: 1)

عجيب حقاً أن يكون
“مشتهى الأمم”هو أيضاً “
مشتهىالملائكة”. أليس لأنه رب السماء والأرض الذي “حلقه حلاوة وكلُّه
مشتهيات

” (نش 16: 5)، نعم مشتهيات القديسين والملائكة!!


“طوبى لآذانكم لأنها تسمع”،

تسمع “المشتهى” أي كلام المسيح:


اشتهاء الإنجيل:

الإنجيل هو تجسيد صوت صاحبه، فهو بالإيمان رؤية وسماع بآنٍ واحد. ف
“المشتهى”هو قائم في الإنجيل على مستوى الرؤية بالإيمان والسماع بالروح. ولكن يقول قائل: وكيف أشتهي الإنجيل؟ يرد القديس بطرس الرسول: “وكأطفال مولودين الآن
اشتهوااللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به” (1بط 2: 2)

هنا تشبيه شهوة الإنجيل تبلغ أبدع تصوير لها عند بطرس الرسول الذي يمثِّلها بطفل رضيع يرتمي على صدر أمه بشهوة طبيعية عنيفة لكي يرضع لبن أمه عديم الغش. فكأنه يقول إنه ينبغي أن تكون عندنا شهوة روحية طبيعية مغروسة في أرواحنا تطلب الإنجيل عن حاجة ملحَّة لا يمكن إسكاتها. فالطفل يرضع ليشبع شهوته الطبيعية المربوطة بالصحة والنماء والحياة. فلو مُنعت عن الطفل شهوته الطبيعية لا يُقدم على الرضاعة وإن غُصب يتقيَّأ. هكذا الإنجيل عند القديس بطرس، إذا قرأته بغير شهوة روحية صادقة لا يأتي بنتيجة، وإن تغصَّبت وقرأت خرج الكلام من حيث دخل ولا فائدة من نمو أو حياة. إذن، فشهوة الإنجيل من صميم طبيعة الإنجيل، بل من صميم طبيعة صاحب الإنجيل: “مشتهى كل الأمم”. وأصل التشبيه وسببه هو المسيح نفسه حينما قال: “إن أنبياء وأبراراً كثيرين
اشتهواأن يروا ويسمعوا ما أنتم ترون وتسمعون”، حيث ما نسمع وما نرى هو هو المسيح ذاته في صدق الشهوة نحوه.

عزيزي القارئ، انتبه، نحن لا نبالغ بل هذا أمامك حق مبرهن، لأن في هذا المعنى يكمن سر الحياة في الإنجيل وسر النمو: ”
اشتهوااللبن العقلي (الإنجيل) العديم الغش
لكي تنموا به” (1بط 2: 2)

هنا سؤال القارئ وكيف أشتهي الإنجيل؟ والجواب في صميم المعنى، فالإنجيل هو صوت المسيح وصورته. فإن كانت لك مع المسيح علاقة حب بلغ درجة الاشتهاء الحقيقي صار الإنجيل على نفس المستوى. اسمع القديس بطرس أيضاً يقول من جهة رؤية المسيح ومحبته بل اشتهائه: “الذي وإن لم تَرَوْه تحبونه، ذلك وإن كنتم لا تَرَوْنَه الآن لكن تؤمنون به
فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد

” (1بط 8: 1). هكذا ففي الإنجيل تتلاقى مع المسيح برؤية إيمان تنشئ بهجة في القلب وفرحاً لا يُنطق به لمجدٍ آتٍ. وهكذا يتم فينا بالحق القول: طوبى لكم لأنكم ترون وتسمعون “المشتهى”.

ليس هذا سرًّا مخفياً بل حقيقة طالما أعلنَّا عنها أن
في قراءة الإنجيل مقابلة مع المسيح،وبالتالي فرح لا يُنطق به ومجيد، يشهد لمقابلة حقيقية تمَّت ونمو وحياة. فلقب المسيح “مشتهى كل الأمم” هو سر الأسرار.


أمثلة للاشتهاء المتبادَل:

حينما قال المسيح: “أنا الكرمة الحقيقية.. وأنتم الأغصان
” (يو 1: 15و5)، فماذا تسمِّي التحام الأغصان في الكرمة على مستوى معنى الحب والشهوة والعشق؟ أليس أن التحام الغصن في الكرمة هو أقصى حالة حب متبادَل “اثبتوا فيَّ وأنا فيكم
” (يو 4: 15)، حب لا يهدأ ولا يسكت ليل نهار، حتى يُخرِج الغصن ثماره؟ وأليس هو حالة شهوة متبادلة أنشأت عشقاً متبادلاً لا انفصال فيه؟

ثم من أين جاءت هذه الصفات الفريدة العجيبة وما هو أصلها؟ أليس أصلها أن الكرمة هو هو “مشتهى كل الأمم”. وإليك مَنْ كشف السر وأعلنه “غنُّوا
للكرمة المشتهاة،أنا الرب حارسها. أسقيها كل لحظة لئلا يُوقَع بها، أحرسها ليلاً ونهاراً” (إش 2: 27و3)

وإليك كيف ومتى ألقى المسيح بذرة الشهوة الإلهية في قلوبنا نحوه:

+ “أما يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد
أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى” (يو 1: 13)

+ “ولما كانت الساعة اتَّكأ والاثنا عشر رسولاً معه، وقال لهم:
شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكمقبل أن أتألم” (لو 14: 22)

وهكذا أخذ كأس محبته المذبوحة من نحو كل خاصته الذين في العالم ونفخ فيها من حبه حتى المنتهى، وسكب فيها شهوة نفسه كلها، وقال لهم: خذوا “اشربوا منها كلُّكم
” (مت 27: 26). وهكذا فلا تظن، أيها القارئ العزيز، أن ما قيل عن المسيح، والكأس موضوعة أمامه، أنه: “أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى
” (يو 1: 13)، وقوله: “شهوة اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم
” (لو 15: 22)؛ أنها مجرد رواية منفصلة عن سر الإفخارستيا. فأقوال المسيح جزء من السر أسكنه قلب كل مَنْ تناول منه، حتى إذا تناولنا معاً نتناول حبه حتى المنتهى وشهوة نفسه حتى إلى الكمال.

فالإنجيل والإفخارستيا سر واحد
لاستعلان المسيح“مشتهى الأمم”: ”
وذاقوا كلمة اللهالصالحة

” (عب 5: 6)، “قد
ذُقتم أن الربصالح

” (1بط 3: 2)، وهذه وتلك مذاقة الحب والشهوة. ثم قول المسيح: “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت فيَّ وأنا فيه
” (يو 56: 6)، أليس هذا هو نتيجة حب متبادل أقصى الحب. ثم قوله: “.. أنتم فيَّ وأنا فيكم
” (يو 20: 14)، أليس هذا الوصال والاتصال هو تكميل كل ما كانت تشتهيه النفس سواء من جهة المسيح أو من جهة الذين أحبوه وآمنوا به، وهي صورة مكبرة لكلمة الإنجيل حينما تستقر بالشهوة داخل القلب.

ولكن أقصى حالات التصوُّر العملي للقب “مشتهى الأمم”، يشرحها القديس بولس من جهة الاتحاد بالذين آمنوا به “ككنيسة محبوبة” على أعلى مستوى نموذجي لحب رجل لعروسه!! “أيها الرجال أحبُّوا نساءكم
كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها

” (
أف 25: 5). وليلاحظ القارئ هنا كيف أن القديس بولس وضع المؤمنين في صورة المؤنث تحت اسم الكنيسة حتى يصبح حب المسيح لهم كحب الرجللعروسه عن واقع، الذي هو عين العشق في أجمل وأقدس صورة. ولكي يرفع حالة الحب والعشق إلى مدخل القداسة، انتبه وقال: “لكي يقدِّسها مطهِّراً إياها بغسل الماء (المعمودية للتجديد) بالكلمة (الإنجيل)، لكي يُحْضِرَها لنفسه
كنيسة مجيدة لا دنس فيهاولا غَضْنَ أو شيء من مثل ذلك، بل
تكون مقدسة وبلا عيب

” (أف26: 5و27). هكذا بلغ القديس بولس في الاحتياط حتى جعل المؤمنين على مستوى عروس جديرة بحب العريس، وعلى مستوى قداسة العشق الحقيقي. وهكذا ارتفع المؤمنون بالتقديس بالمعمودية والدم إلى حالة قداسة تليق بأن يصيروا عروساً ل
“مشتهى الأمم”.

وقد يتهيَّأ للقارئ أن هذا الوصف العشقي بين المسيح والبشرية المفدية القائم على الاشتهاء المتبادل بشبه الزيجة هو مجرد تعبير زمني، ولكن الحقيقة أن الله سبق ورسمه وأعدَّه للتنفيذ قبل تأسيس العالم، أي قبل الزمن كحالة اختيار للبشرية متحدة بالمسيح: “الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويَّات
في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم،لنكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة

” (أف 3: 1و4). ثم أوضح الغرض النهائي من هذا الوضع الفريد المتحد بالمسيح هكذا: “إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح،
لنفسه، حسب مسرة مشيئته،لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب

” (أف 5: 1و6)، أي نصبح خليقة جديدة جديرة أن تقف أمامه في السماء لتسبحه وتمدح مجده في المسيح يسوع المحبوب.

هذا هو “مشتهى كل الأمم”، وهكذا قبلت الأمم هذا “المشتهى” واتحدت به واتحد بها لبلوغ أقصى حالات المجد.

والآن، وبعد أن عرفنا مكانة “المشتهى” منا، ومكاننا في المشتهى، أصبح طريق المحبة للفادي الذي يبلغ بنا إلى المشتهى، وإلى أين يصل بنا، واضح المعالم. وهنا نضع أنشودة حياتنا التي رسمها إشعياء لنا أمام أعيننا:

+ “إلى اسمِكَ وإلى ذِكْرِكَ شهوةُ النفس،

بنفسي اشتهيتُك في الليل،

أيضاً بروحي في داخلي إليك أبتكر” (إش 8: 26و9)


(يناير 1995)





(



[1])

حيث يكون مفهوم هذه الهزَّات العنيفة من زلازل في الأرض وفي السماء (المادية) عبارة عن حركة خلع متواتر لأقنعتها المادية الزائلة لتستعلن على حقيقتها غير المادية: “ثم رأيت سماءً جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مَضَتَا والبحر لا يوجد فيما بعد.” (رؤ 1:21)

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي