3 – امتياز الحياة ذات التحدِّيات مثلا البرج المُكمَل والملك المستعد للحرب

25 وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَالْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: 26 إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلا يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلادَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. 27 وَمَنْ لا يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. 28 وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لا يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ 29 لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلا يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، 30 قَائِلِينَ: هذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ. 31 وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لا يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاقِيَ بِعَشَرَةِ آلافٍ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ 32 وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذلِكَ بَعِيداً، يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ. 33 فَكَذلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لا يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً (لوقا 14: 25-33).

 

كان المسيح في طريقه إلى الصليب فتبعته جموعٌ سبق أن أطعمهم فشبعوا، وأبرأهم فشُفوا، وربما تبعوه لأنهم أرادوا أن يأخذوا منه أكثر. وصحيحٌ أنه كلما سرنا وراء المسيح نأخذ منه أكثر، لكننا نخطئ لو حسبنا أن الأخذ هو كل شيء، لأن كل أخذٍ يقابله عطاء. إنه يعطيك مجاناً لكي تعطي الآخرين. وقد أعطاك ذاته لتعيش له ولخدمته. وعندما تكتفي بالأخذ دون العطاء تموت.. يمنحنا المسيح بركات ويطالبنا بحَمْل مسؤوليات، ويقول: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلا يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلادَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذا.. فَكَذلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لا يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لوقا 14: 26، 33). وليس معنى هذا أن يكره الإنسان أحباءه، بل أن يكون للمسيح المقام الأول في حياتنا قبل العائلة والأصدقاء والعمل والمال وكل شيء، فهو اللؤلؤة الواحدة كثيرة الثمن الذي يستحق أن نهجر كل شيء في سبيل اتِّباعه (متى 13: 45، 46). كل ما نملكه بدون نعمة المسيح فانٍ، وفي نوره المجيد يخبو بريق كل شيء، ويصير مثل ضوء شمعة في نور الشمس، يبدو باهتاً كأن لا وجود له، بل يمكن الاستغناء عنه، لأن الشمس تمنح كل النور والدفء.

 

ونبَّه المسيح الجموع التي تبعته لتكلفة السير وراءه، فقد تبعه البعض دون أن يدركوا ثمن اتِّباعه. وسار البعض الآخر وراءه بحماس عاطفي حتى نالهم الاضطهاد فارتدّوا عنه. وسار البعض الثالث وراءه طمعاً في عطاياه، وعندما لم يعطهم ما طالبوا به هجروه.. وهو لا يريد جمعاً غفيراً يتبعه كالقطيع، بل يطلب مؤمنين يدركون أن «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متى 16: 25).

 

ولا شك أن من يتبع المسيح يجب أن يدخل من الباب الضيق ويسير في الطريق الكرب (متى 7: 14). ولم يقصد المسيح أن يضيف للباب الضيق ضيقاً ولا للطريق الكرب كرباً، ولم يُرِد أن يطفئ حماس الذين أرادوا اتِّباعه، بل قصد إبعاد العاطفيين الذين يقبلون الكلمة بفرح، ولكن عندما تصادفهم المتاعب يرتدّون، كما أراد إبعاد التابعين المتعجِّلين المندفعين الذين يجهلون تكلفة التلمذة له (لوقا 9: 57، 58).

 

وفي حياتنا اليومية نجد كثيرين يبدأون ولا يكملون، فهناك من يشتري شيئاً بالتقسيط، ويدفع أول الأقساط ثم يعجز عن السداد، فيصبح أضحوكة جيرانه. وهناك من يدفع ثمن سيارة أو آلة تصوير ثم يعجز عن دفع نفقات تشغيلها، فتبقى عنده بلا فائدة. وهناك من ينذر نذوراً يعجز عن الوفاء بها، لذلك قال إمام الحكماء سليمان: «أَنْ لا تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلا تَفِيَ» (جامعة 5: 5).

 

ولكي يوصِّل المسيح فكرة حساب التكلفة، وليبصِّر سامعيه بنفقة اتِّباعه، ضرب لهم مثَليْن: المثل الأول أن مَن يريد أن يبني برجاً يجب أن يجلس أولاً ويحسب نفقة البناء لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل فيهزأ به الناس. ولعله وقت رواية هذا المثل كان يرى بناءً ناقصاً من المباني التي اعتاد أفراد عائلة الملك هيرودس أن يبدأوا بناءها دون أن يكملوها، فضرب بهم هذا المثل.. أما المثل الثاني فعن الملك الذي يجب أن يتشاور أولاً مع قادة جيشه قبل أن يشنَّ حرباً، ليعرف إن كان عنده ما تحتاجه الحرب من رجال وعتاد ومؤن. ثم يقرر هل يحارب العدو أو يرضى بعقد معاهدة صلح معه.

 

أولاً – هدفنا أن نبني وأن ننتصر

الحياة مع المسيح بناءٌ كما أنها حرب، فكلما أردنا بناء أنفسنا في الإيمان لقينا المقاومة.. والحياة الإيمانية جهادٌ أكبر داخلي مع النفس، كما أنها جهاد أصغر مع المصاعب التي تقاومها من خارج النفس. هي مثل بناء برج أو جهاد في معركة حربية.. وكل من يريد أن يتبع المسيح يجب أن يعطيه المكان الأول في حياته قبل كل علاقاته الاجتماعية والاقتصادية، وعليه أن يصلب الجسد مع الأهواء والشهوات (غلاطية 5: 24) وعليه أن يحمل صليبه كل يوم ويسير وراء المسيح متتلمذاً له (لوقا 14: 27). «لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ» (عبرانيين 12: 1، 2).

 

عندما تريد أن تبنى حياتك الإيمانية، وترفع قامة عائلتك وكنيستك، يجب أن تتوقَّع الحرب. وكلنا يبني، سواء أردنا أم لم نُرِد. قد يبني الإنسان بيتاً أرضياً. وقد يبني سجناً.. وكل أب متسلِّط يجعل من بيته سجناً لزوجته وأولاده. وقد يبني ملهى يضيِّع فيه حياته في شهواته وملذاته.. وقد يبني سفينة لا تستقر في مكان. ولكنه يمكن أن يبني هيكلاً للرب يَفرح به، ويُفرِح به من هم حوله.. والحكيم هو الذي يبني برجاً روحياً يرتفع ويعلو كل يوم، فينمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح (2بطرس 3: 18). فإن كنت تبني، لا تكتفِ ببناء كوخ فتصرف جهدك في بناءٍ متواضع، بل أَقِم بناءً عظيماً. اعمل للمسيح بفكر كبير. لا تفكر بإمكانياتك أنت بل بعجائبه هو، ولا بقوتك المحدودة لكن بقدراته غير المحدودة.. كثيرون ينظرون إلى أنفسهم أنهم أصفار، وأن كل ما معهم مجرد خمس خبزات وسمكتين فيقولون للمسيح: «وَلكِنْ مَا هذَا لِمِثْلِ هؤُلاءِ؟» (يوحنا 6: 9). ولكن ما أن يضعوا إمكانياتهم المحدودة في يد المسيح حتى يُطعم بهم الآلاف، بل وتفيض اثنتا عشرة قُفَّة. ولا تقنع ببناء رمال على الشاطئ بل ادخُل إلى العُمق، وابْنِ على الصخر. عندئذ لا تخاف من رياح أو أمطار، لأنك مؤسَّس على المسيح صخر الدهور. كم من مؤمنين حزانى على أنفسهم وعلى بيوتهم وعلى كنائسهم، ويفكرون دوماً بمنطق اليأس، ولا يرون إلا نصف الكوب الفارغ.. وعلى هؤلاء أن يرفعوا أنظارهم إلى المسيح رئيس الإيمان، ليكتشفوا أنه لا يأس معه (عبرانيين 12: 2). «كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ. كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ. كَأَنْ لا شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ» (2كورنثوس 6: 10).

 

عندما يرتفع بناء البرج يراه الجميع، «لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى 5: 16) سيرى الناس عملك على أي حال، فليروا فيك شيئاً عظيماً من عمل نعمة المسيح. إنك معه بطل. «لِيَقُلِ الضَّعِيفُ: بَطَلٌ أَنَا!.. يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (يوئيل 3: 10 ورومية 8: 37). «أَنْتُمْ مِنَ اللّهِ أَيُّهَا الأَوْلادُ، وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ لأَنَّ الَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي فِي الْعَالَمِ.. لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللّهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ. وَهذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا» (1يوحنا 4: 4 و5: 4).

 

ما أعظم المعجزات التي يمكن أن يُجريها المسيح بواسطة المؤمنين الذين يسلِّمون نفوسهم له، ويبنون أنفسهم على إيمانهم الأقدس (يهوذا 20). فلتكن نفوسنا كباراً حتى لو تعبت في مرادها الأجسام، لأننا نحلم للرب ونبني له بغير يأس، متذكرين تاريخ الرسل والقديسين الذين بنوا وربحوا أفراداً وشعوباً للرب.

 

ثانياً – يجب أن نحسب التكلفة

إن أردت أن تبني حياتك مثل برج يعلو لمجد الله فاحسب تكلفة البناء، ثم تكلفة حراسته، وتخيَّر طريقة الدفاع عنه.

 

ليكن عندك خطة للبناء: أعدَّ الله للمؤمنين خُطة حياة، وعلى كل مؤمن أن يسأل: «ماذا تريد يا رب أن أفعل؟». ويقول الرسول بولس عن هذه الخطة: «لأَنَّنَا نَحْنُ (المؤمنين) عَمَلُهُ (الله)، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللّه فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 10).

 

وستجد خطة الله لحياتك في كتابك المقدس. اقرأ الكلمة لتعرف ماذا يريد الله منك.

 

ابدأ مبكراً بكل قلبك: أَطِع نصيحة إمام الحكماء سليمان: «فَاذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامُ الشَّرِّ أَوْ تَجِيءَ السِّنِينَ إِذْ تَقُولُ: لَيْسَ لِي فِيهَا سُرُورٌ» (جامعة 12: 1).. ضع كل قلبك على البناء، وأعطِه كل الانتباه، وارفع صلاة المرنم: «عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ اسْمِكَ» (مزمور 86: 11)، ولا تنسَ أن رجلاً ذا رأيين «هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ» (يعقوب 1: 8).

 

ابدأ بالأساس: قال الرسول بولس: «لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِعَ، الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ» (1كورنثوس 3: 11). فيجب أن يكون المسيح هو المخلِّص والفادي وسيد الحياة.. وقال أيضاً: «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي الرَّبِّ» (أفسس 2: 20 و21). فالأساس هو المسيح الذي علَّمنا عنه رسله الكرام مما سمعوه من تعاليمه، ورأوه من معجزاته، بعد أن لمسته أيديهم لأنه الكلمة المتجسِّد (1يوحنا 1: 1)، ونقلوا تعاليمه إلى الناس من بعدهم، فقام أنبياء العهد الجديد ينشرون هذه التعاليم ويبنون الناس في الإيمان، ويعظونهم مشجِّعين، ويسلّونهم برواية تواريخ معاملات الله مع شعبه (1كورنثوس 14: 3).. أما حجر الزاوية فهو المسيح الذي يربط جدران البناء معاً، فهو الذي يجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى بعضهم البعض، ويقرِّب المؤمنين الذين جاءوا من خلفيات مختلفة ليكونوا بناءً واحداً، مركبا معاً، يرتبط أحدهم بالآخر هيكلاً مقدساً في الرب. المسيح إذاً هو أساس الحياة الروحية، وتعاليمه هي أساس الإيمان.

 

اختَرْ أفضل مواد البناء: بعد أن اخترتَ الأساس السليم ابْنِ بأفضل المواد. احترس من الأشياء التي لا تبني، والتي قال عنها الرسول بولس: «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي» (1كورنثوس 10: 23) والذين يبنون على الأساس الصحيح يبنون ذهباً، أو فضةً، أو حجارةً كريمة، أو خشباً أو عشباً أو قشاً (1كورنثوس 3: 12). فليكن بناؤك ذهباً وفضة وحجارة كريمة، واحترس من القش وما شابهه، فإن الرب في اليوم الأخير سيمتحن بالنار عمل كل واحد. فإن بقي ما عملته، بعد أن تكون قد بنيته على أساس المسيح، ستأخذ أجرة (1كورنثوس 3: 13، 14).

 

والذهب والفضة والحجارة الكريمة هي كلمة الله، والصلاة. لا يمكن أن نبني نفوسنا بالأشياء الهشَّة، إنما نبنيها بدراسة الكلمة والتعمُّق فيها، فتمتلئ قلوبنا بها، وتصبح سراجاً لأرجلنا ونوراً لسبيلنا (مزمور 119: 105). فلنقْتَدِ بالنبي إرميا الذي قال «وُجِدَ كَلامُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلامُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي» (إرميا 15: 16). ابنِ حياتك في مخدع الصلاة حيث يجهِّز لك الرب في محضره مائدة دسمة مُشبعة من كلمته (مزمور 23: 5)، فلا تصيبك الأنيميا الروحية فتخور في الطريق وتشتهي الخرنوب الذي تأكله الخنازير (لوقا 15: 16). اصعد على جبال الصلاة العالية ولا تسكن في وديان العالم المنخفضة، لأن الرب يدعوك أن تعلو معه إلى جبل التجلي، فترى ناموس موسى وتعاليم إيليا، لكنك فوق هذا كله تحظى برؤية المسيح الذي يبقى معك فتبقى معه.. ومعروفٌ أن التلاميذ الثلاثة الذين صعدوا مع المسيح إلى جبل التجلي رأوا مجده الأسنى، أما التلاميذ الذين بقوا في الوادي فقد أصابهم اليأس وهم يرون الروح النجس يصرع ولداً بائساً! (لوقا 9: 28-43).

 

لا تبدأ البناء بقوتك الذاتية، بل اعتمِد على النعمة، وليكن شعارك: «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لا أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20). في اعتمادك على حياة المسيح فيك ستكون مثل بطرس وهو يمشي على الماء. فاحترِس من أن تعتمد على قوتك الشخصية لئلا تبدأ تغرق (متى 14: 28-30). في حياة المسيح فيك ستختبر سلطانه وقوته، ويتحقَّق لك وعده: «مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي. وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابْنِ. إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئاً بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ» (يوحنا 14: 12-14).

 

إن وضعت أساساً متيناً، وبنيت عليه بأفضل مواد بناء، ودافعت عن نفسك بسيف الروح الذي هو كلمة الله، سيرتفع برجك الروحي لأن ربَّك سيؤيدك بقوته، فيُعجَب بك جميع الناظرين ويقولون: هذا الإنسان بدأ وأكمل، لأنه آمن بالوعد الإلهي: «لا تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي. إِذَا اجْتَزْتَ فِي الْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ، وَفِي الأَنْهَارِ فَلا تَغْمُرُكَ. إِذَا مَشَيْتَ فِي النَّارِ فَلا تُلْذَعُ، وَاللَّهِيبُ لا يُحْرِقُكَ» (إشعياء 43: 1، 2).

 

ابْنِ بيد، وامسك السلاح باليد الأخرى: كل من يبني برجاً يرفع بناء حياته وعائلته وكنيسته ومجتمعه لا بد يلقى المقاومة، وعليه أن يطبِّق نموذج رجال نحميا «الْبَانُونَ عَلَى السُّورِ بَنَوْا وَحَامِلُو الأَحْمَالِ حَمَلُوا. بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ يَعْمَلُونَ الْعَمَلَ، وَبِالأُخْرَى يُمْسِكُونَ السِّلاحَ. وَكَانَ الْبَانُونَ يَبْنُونَ وَسَيْفُ كُلُّ وَاحِدٍ مَرْبُوطٌ عَلَى جَنْبِهِ» (نحميا 4: 17، 18)، فلم يكن البناء سهلاً، لأن إبليس عدوٌّ شرس، وهو يعلم أن بناء البرج سيهدِّد حصونه فلا بد يحارب ويقاوم ويهدد.

 

وفي حياتك الروحية ستجد حرباً عليك من داخل نفسك، فإن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعل ما لا تريد (غلاطية 5: 17). وستجد حرباً عليك من المجتمع الذي لا يخاف الله، والذي تختلف قِيَمه عن قِيَم ملكوت السماوات، والذي يُقال لنا عنه: «لا تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلا الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللّهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ» (1يوحنا 2: 15-17).

 

فمن الواجب ومن الأسلم لك أن تتسلَّح بسلاح الله الكامل، وتُمسك دوماً سيف الروح (أفسس 6: 17) لأنه أمضى من كل سيف ذي حدين، يخترق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ويميِّز أفكار القلب ونيّاته (عبرانيين 4: 12).

 

ثالثاً – نصائح أساسية للبناء

هناك تكلفة ونفقة كبيرة لبناء حياتك الإيمانية بناءً سليماً ولحربك المنتصرة. وأقدم لك النصائح التالية لتعاونك:

 

اترُك كل ما لا يُرضي الله: يُجرَّب البنّاء أن يبني ما يُرضي الناس، ويهتم أحياناً بأحكامهم ووُجهات نظرهم في ما يبنيه. لكن عليه أن يدرك أن رضى الرب على بناء حياته وحياة عائلته هو الأهم، «لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلازِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ» (متى 6: 24).. فليكن شعارك: «لَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ» (غلاطية 1: 10). اترُك كل ما تعلم أن الله يرفضه، وصلِّ كل يوم: «لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي» (مزمور 19: 14).

 

تدرَّج في البناء: ابدأ بالقاعدة لتصل إلى القمة. لا تحاول أن تبني الدور الثالث قبل الدور الأول، بمعنى أنك يجب أن تبدأ بالقيام بالواجبات البسيطة، مهما كانت بسيطة، حتى لو كانت غسل أرجل إخوتك. «يُقَاوِمُ اللّه الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً» (يعقوب 4: 6). لا تفكِّر في العظائم، بل كُن متواضعاً «غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِالأُمُورِ الْعَالِيَةِ بَلْ مُنْقَادِينَ إِلَى الْمُتَّضِعِينَ. لا تَكُونُوا حُكَمَاءَ عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ» (رومية 12: 16). اخضع لصوت الله في كل ما يوجِّهك إليه، واسمح له أن يستخدمك حيث يريد، فيجهِّزك لعملٍ أكبر. ولا تنسَ أنك عندما تطيعه يكشف لك المزيد من إرادته، ويكلِّفك بخدمات متنوِّعة، ويقول لك: «نِعِمَّا (اختصار: نِعْم ما فعلت، بمعنى: أحسنْتَ) أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِير» (متى 25: 21).

 

توقَّع المقاومة: كلما ارتفع بناؤك تصبح عرضةً لمقاومة الرياح العاتية، فقد قال المسيح لتابعيه: « لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ… إِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كَلامِي فَسَيَحْفَظُونَ كَلامَكُمْ» (يوحنا 15: 19 و20). ولا تنسَ أنه «وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لا أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (فيلبي 1: 29).

 

كُن متأكداً من النصرة: هدف المؤمن هو تمجيد الله الذي يمدّ يد محبته بكل تأييد ومساندة، فيعلو البناء ويرتفع بالرغم من المعطلات والمقاومات. النصرة هي لك وأنت تبني حياتك وحياة عائلتك وكنيستك ومجتمعك، «لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللّهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ. وَهذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا» (1يوحنا 5: 4). « لِذلِكَ لا نَفْشَلُ… لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً. وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لا تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لا تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ» (2كورنثوس 4: 16-18).

 

سؤالان

لماذا طالبنا المسيح بأن نحسب حساب النفقة؟

ما معنى أن تتدرَّج في البناء؟

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي