6 – امتياز الصلاة مثلا صديق نصف الليل والأرملة المُلحَّة

5 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُولُ لَهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاثَةَ أَرْغِفَةٍ، 6 لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَهُ. 7 فَيُجِيبَ ذلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لا تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ الآنَ، وَأَوْلادِي مَعِي فِي الْفِرَاشِ. لا أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ. 8 أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لا يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ. 9 وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. 10 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. 11 فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟ 12 أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ 13 فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ.

 

1 وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلا يُمَلَّ: 2 كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لا يَخَافُ اللّهَ وَلا يَهَابُ إِنْسَاناً. 3 وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي. 4 وَكَانَ لا يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلكِنْ بَعْدَ ذلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لا أَخَافُ اللّهَ وَلا أَهَابُ إِنْسَاناً، 5 فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي. 6 وَقَالَ الرَّبُّ: اسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظُّلْمِ. 7 أَفَلا يُنْصِفُ اللّه مُخْتَارِيهِ، الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ 8 أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً! وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟ (لوقا 11: 5-13 و18: 1-8).

 

هذان مثلان من واقع الحياة، يعلِّماننا ضرورة الصلاة، وامتياز الالتجاء إلى الله وقت الضيق «فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ» (عبرانيين 4: 16). والمثلان متشابهان في المعنى، ويصفان الاحتياج الذي يُلجئ صاحبه إلى اللجاجة والإلحاح في الطلب بدون خجل بالرغم من الرفض، الأمر الذي قد يضايق المطلوب منه، ولكن الطالب ينال مراده.. في كل مثلٍ منهما نجد ثلاث شخصيات، اثنتان ظاهرتان على مسرح الأحداث، والثالثة كامنة في خلفية المثل.

 

في المثل الأول (مثل صديق نصف الليل) نجد ثلاثة أصدقاء: الزائر والمضيف والجار. الصديق الذي جاء، والصديق الذي احتاج، والصديق الذي أعطى. وهذه صورة مبهجة للضيافة الكريمة التي لا تجد ما تقدمه للضيف، فتلحُّ على صديق أن يعطي ما تكرم به الضيف، وتصف روعة الصداقة وأهميتها. ولذلك أوصانا الحكيم: «لا تَتْرُكْ صَدِيقَكَ وَصَدِيقَ أَبِيكَ… الْجَارُ الْقَرِيبُ خَيْرٌ مِنَ الأَخِ الْبَعِيدِ» (أمثال 27: 10)

 

ويقدِّم المثل الثاني (الأرملة المُلحَّة) ثلاث شخصيات: ظالماً لا نراه، وأرملة مظلومة وقاضياً ظالماً تطالبه بإنصافها، وتلحُّ عليه حتى ينصفها. وهذه صورة مؤلمة للظلم الإنساني.

 

يقول المثل الأول إن شخصاً وصل في نصف الليل إلى بيت صديقه طالباً الضيافة. وكان المسافرون يبدأون السفر عند انكسار حدَّة الحر، فيبلغون وُجهتهم في وقت متأخر. لهذا وصل الصديق إلى بيت صديقه في منتصف الليل، ففتح له ليستضيفه. ولكن صاحب البيت خجل لأنه لا يملك خبزاً يقدِّمه لضيفه، فقد كانت العادة أن يخبز أهل البيت كل صباح، خبز كل يومٍ بيومه. ولضرورة القيام بواجب الضيافة قصد المضيف بيت جارٍ له وطلب ثلاثة أرغفة: رغيفاً لإطعام الضيف، وآخر للمضيف ليؤاكله ويؤنسه من باب كرم الضيافة، وثالثاً لملاك المائدة (حسب تعليم التلمود).. وكان سبب إلحاح المضيف في طلب ثلاثة أرغفة من جاره: أنه يطلب من صديق، وأنه لا يطلب لنفسه بل لصديق ثالث، ثم أنه يطلب الحدَّ الأدنى.

 

وكان أهل القرى يتركون أبواب بيوتهم مفتوحةً طول النهار، ولا يغلقونها إلا ليلاً، فلا يطرق الباب أحدٌ إلا للضرورة القصوى. وكان البيت العادي يتكوَّن من غرفة واحدة، لها باب واحد وكُوَّة واحدة. وكانوا يخصِّصون ثلث مساحة الغرفة للنوم والثلثين الآخَرين للدواجن والحيوانات. وكان أهل البيت ينامون متجاورين تحت غطاء واحد، فإذا استيقظ أحدٌ فإنه يُقلِق كل أهل البيت ودواجنهم وحيواناتهم!.. ولهذا حاول الجار أن يعتذر عن فتح الباب لصديقه الذي يطلب الأرغفة. ولكن إلحاح جاره اضطرَّه أن يقوم ويفتح ويعطيه طلبه ليُكرم ضيفه قبل أن يصحو كل الجيران! ولا بد أن زوجته وأولاده استيقظوا على كل حال!

 

ويقدِّم المثل الثاني (مثل الأرملة الملحَّة) أرملة مظلومة اضطرَّها الظلم للإلحاح في طلب الإنصاف. فقد اعتدى ظالمٌ عليها وليس لها من يدافع عنها. وعندما لجأت إلى القاضي اكتشفت أنه لا يحترم القوانين الأخلاقية، ولا يهتم بالرأي العام، بل إنه يعلن أنه لا يخاف الله ولا يهاب إنساناً. ولم يكن عندها ما ترشوه به، فلم يكن أمامها إلا أن تلحّ في الطلب، فظلت تلح على خلاف الرجاء، حتى تضايق وأنصفها ليتخلَّص من إلحاحها.

 

ربما يُضحكنا مثل «صديق نصف الليل» بمفاجآته، ولكن مثل «القاضي الظالم» يحزننا بشخصياته الظالمة والمظلومة.. ولكن المثلين يعلِّماننا أهمية الصلاة في كل حين بدون ملل.

 

مناسبة رواية المثَل:

روى المسيح مثل صديق نصف الليل لما طلب منه تلاميذه أن يعلِّمهم الصلاة، كما علَّم المعمدان تلاميذه. وخير تعليم هو تعليم المعلّم الذي يمارس ما يعلّمه. وكان التلاميذ قد رأوا المسيح يصلي بطريقة تختلف عن طريقة معلِّمي اليهود، الذين كانوا يصلّون ثلاث مرات يومياً، طاعة لوصية التلمود: «محظورٌ على الإنسان أن يصلي أكثر من ثلاث مرات في النهار، لأن الله يملُّ من الصلاة كل ساعة». وكان المعلمون اليهود يصلّون صلوات محفوظة، يؤدّونها في الشوارع ليراهم الناس. وكان اليهودي العادي متحفِّظاً في الحديث مع الله لخوفه من قداسته وعظمته.

 

أما المسيح فكان يصلي في أُنسٍ كامل بالله، ولأوقات طويلة، وباستمرار. صلى وقت معموديته فانفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة (لوقا 3: 21)، وقيل عنه: «وَفِي الصُّبْحِ بَاكِراً جِدّاً قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ» (مرقس 1: 35) كان يعتزل في البراري ويصلي (لوقا 5: 16)، وقضى الليل كله في الصلاة قبل أن يختار الاثني عشر تلميذاً (لوقا 6: 12)، وكان يصلي على انفراد (لوقا 9: 18)، وصلى على جبل التجلي (لوقا 9: 28، 29).

 

وإجابةً لطلب التلاميذ علَّمهم الصلاة الربانية (لوقا 11: 1-4)، ثم روى لهم مثَل صديق نصف الليل (آيات 5-8)، ثم أكَّد لهم استجابة الصلاة (آيتا 9، 10)، وأن الله أبٌ محب (آيات 11-13).. وبعد ذلك بوقت قصير ضرب لهم مثل القاضي الظالم ليشجعهم على الاستمرار في الصلاة.

 

والمعنى المقصود من المثلين أنه إن كانت اللجاجة جعلت النائم يصحو ويعطي، وجعلت الظالم يُنصف، فكم بالحري الله! إنه ينصف مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً. ويصوِّر المثلان المفارقة بين الصديق والقاضي الظالم من جهة، والله من جهة أخرى. فإن الله محسنٌ كريم، وهو ليس كالصديق الذي قال لصديقه إنه يزعجه، وليس كالقاضي الظالم الذي لم يتحرَّك إلا باللجاجة.

 

في هذين المثلين نجد المحتاج، ونسمع صلاته، ونرى استجابة الله له.

 

أولاً – احتياج شديد

في كل وقت يواجه كل البشر احتياجات، مثل المسافر المحتاج إلى مكان للمبيت وإلى طعام، ومثل صاحب البيت المحتاج للقيام بواجبات الضيافة من نحو ضيفه، ومثل الأرملة المظلومة التي تحتاج إلى العدالة. ويقول الله: «ادْعُنِي فِي يَوْمِ الضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي» (مزمور 50: 15)، ويقول: «يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ. مَعَهُ أَنَا فِي الضِّيقِ. أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ. مِنْ طُولِ الأَيَّامِ أُشْبِعُهُ، وَأُرِيهِ خَلاصِي» (مزمور 91: 15، 16)، ويقول: « وَيَكُونُ أَنِّي قَبْلَمَا يَدْعُونَ أَنَا أُجِيبُ، وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا أَسْمَعُ» (إشعياء 65: 24).

 

وقد علَّمنا المسيح أن نصلي الصلاة الربانية في قوله عنها: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا» (لوقا 11: 2) كما علَّمنا أن تكون نموذجاً لصلواتنا في قوله: «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا» (متى 6: 9). وتُعلِّمنا الصلاة الربانية أن الله أبونا، وأننا أولاده، وفي شدة احتياجنا نتوجَّه إليه، فنرفع ثلاث طلبات خشوعية نبدأها بطلب تقديس اسمه بين البشر الذين يجب أن يهتفوا «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ» (إشعياء 6: 3)، ثم نطلب إتيان ملكوته بأن يملك على قلوبنا وقلوب كل البشر، ثم نطلب أن تنفذ مشيئته الصالحة على الأرض كما ينفذها الملائكة السماويون. ونطلب منه طعام يومنا، وغفران خطايانا، ونصرتنا على التجارب.. ثم نختم صلاتنا بأن له المُلك، إذ يتقدَّس اسمه في أفكارنا وكلامنا وأفعالنا، ونعلن أن له القوة عندما يأتي ملكوته في قلوبنا وعلى عالمنا، ونعترف بأن له المجد عندما تتحقَّق مشيئته في الأرض كما هي محقَّقة في السماء.

 

وبسبب احتياج المؤمنين الدائم يجب أن يصلّوا بعضهم من أجل بعض، طاعةً للأمر الرسولي: «صَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ لِكَيْ تُشْفَوْا» (يعقوب 5: 16).. ويحتاج القادة والقسوس وخدام الله أكثر من غيرهم إلى العون الإلهي بسبب عملهم ومسؤولياتهم. فيجب أن يواظب الشعب على الصلاة من أجلهم، كما طالب الرسول بولس المؤمنين: «وَاظِبُوا عَلَى الصَّلاةِ سَاهِرِينَ فِيهَا بِالشُّكْرِ، مُصَلِّينَ فِي ذلِكَ لأَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضاً، لِيَفْتَحَ الرَّبُّ لَنَا بَاباً لِلْكَلامِ، لِنَتَكَلَّمَ بِسِرِّ الْمَسِيحِ» (كولوسي 4: 2-4).

 

ويعلِّمنا المثلان أنه ينبغي أن نكون دوماً في روح الصلاة، على صلة مستمرة بالرب، وفي حالة تعبُّد دائم كما قال داود: «أَمَّا أَنَا فَصَلاةً» (مزمور 109: 4)، وأن نتحدث إلى الله بانتظام، فقد قال المسيح: «يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلا يُمَلَّ» (لوقا 18: 1) وقال الرسول بولس: «صَلُّوا بِلا انْقِطَاعٍ» (1تسالونيكي 5: 17).

 

ويعلمنا المثلان أن نصلي بلجاجة، فنطلب بدون خجل رغم ما يبدو أحياناً أن استجابة صلاتنا مرفوضة.. لقد كانت لجاجة طالب الأرغفة أقوى تأثيراً من الصداقة، لأنها نجحت في ما لم تنفع فيه الصداقة، وكانت أقوى من كسل الجار الذي لم يكن يريد أن يستيقظ لئلا يوقظ أولاده النائمين، وكانت أقوى من ظلم القاضي.

 

ثانياً – طلب بلجاجة

كان الصديق يعلم أن لجاجته في الطلب ستوقظ جاره ليسعفه بالأرغفة المطلوبة، فألحَّ على جاره بسبب حَرَج موقفه أمام زائر نصف الليل، فنال ما طلب.. ولم يكن عند الأرملة وسيلة تحصل بها على الإنصاف عند القاضي الظالم إلا اللجاجة التي لا تقبل التراجع، فأنصفها. ولم ينَل المصليان في المثلين استجابة طلبهما لأن الطلب كان منطقياً، بل لأنهما ألحّا في الطلب، وأن الشخص الذي اتَّجها إليه هو الذي يملك حلَّ مشكلتهما.

 

ويعلم كل مؤمن أن الله صديق وأب، يعرف ما نحتاجه من قبل أن نسأله (متى 6: 8). كما يعلم أنه إله عادل ينصف المسكين ويحامي عن اليتيم والأرملة، فيدرك أن الله لا بد يستجيب الصلاة. وتقدم لنا كلمة الله نماذج كثيرة لصلوات بلجاجة.. فقد صارع يعقوب مع الملاك قائلاً: «لا أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي» (تكوين 32: 26) حتى باركه. وطلب موسى من الله أن يغفر خطايا الشعب الذي عبد العجل الذهبي، فاستجاب له وعفا عنهم (خروج 32: 31، 32).

 

وكل من يتأمل السيدة المؤمنة «حنَّة» وهي تصلي في الهيكل قد يظن أنها سكرانة (كما ظنَّ عالي الكاهن)، ولكن الله رأى مرارة نفسها وهي تلحُّ في الطلب، فاستجاب صلاتها وأعطاها ابناً هو صموئيل، فعادت به إلى كبير الكهنة تقول: «لأَجْلِ هذَا الصَّبِيِّ صَلَّيْتُ فَأَعْطَانِيَ الرَّبُّ سُؤْلِيَ الَّذِي سَأَلْتُهُ مِنْ لَدُنْهُ. وَأَنَا أَيْضاً قَدْ أَعَرْتُهُ لِلرَّبِّ. جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ هُوَ مُعَارٌ لِلرَّبِّ». فصار صموئيل رجلاً عظيماً لله (1صموئيل 1: 12-28).

 

ثالثاً – استجابة مفرحة

ونتعلَّم من مثلي صديق نصف الليل والقاضي الظالم ضرورة استجابة الصلاة، فقد قال المسيح تعليقاً على مثَل صديق نصف الليل: «اسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ» (لوقا 11: 9، 10). وهذا يعني أن الله يحب العطاء، وهو لا ينزعج من طلباتنا ليلاً ونهاراً لأن الليل عنده مثل النهار، وهو يعطي دوماً بسخاء ولا يعيِّر (يعقوب 1: 5).. ثم قال المسيح: «فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟ أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ» (لوقا 11: 11-13).. لا يأس في الصلاة: اسأل. اطلُب. اقرع.

 

إن «طِلْبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا. كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَاناً تَحْتَ الآلامِ مِثْلَنَا، وَصَلَّى صَلاةً أَنْ لا تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى الأَرْضِ ثَلاثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ صَلَّى أَيْضاً فَأَعْطَتِ السَّمَاءُ مَطَراً وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ ثَمَرَهَا» (يعقوب 5: 16-18).

 

فإن كان الصديق يتوقَّع المعروف من صديقه، وإن كانت الأرملة المظلومة تتوقع الإنصاف من القاضي الظالم، ألا يجب على أولاد الله أن يتوقَّعوا أفضل الأشياء من أبيهم السماوي؟ ستنال خبزاً لا حجراً، وسمكة لا حيَّة، وبيضة لا عقرباً.. وفوق هذا كله ستنال ملء الروح القدس «لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللّهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متى 6: 32 و33).

 

ونتعلم من المثلين أنه إن كان الصديق قد نجح في الحصول على ثلاثة أرغفة من إنسان مثله، فكم يمكننا أن ننجح في الحصول على ما نحتاجه من الله، الذي يحب أن يستجيب، وقد وعدنا بالاستجابة، كما أكد لنا المسيح: «إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلامِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ» (يوحنا 15: 7).

 

وقال المسيح تعليقاً على مثل القاضي الظالم: «أَفَلا يُنْصِفُ اللّه مُخْتَارِيهِ، الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً!» (لوقا 18: 7، 8). فالإنصاف سريع من وُجهة نظر الله، لكنه يبدو أحياناً متأنياً من وُجهة نظر البشر، لأن حركة ساعة الله تختلف عن حركة ساعات البشر! والاستعجال أمر نسبي. وكلما نضج الإنسان صار أكثر قدرةً على الانتظار.. فلنستمر في الصلاة، ولنطرح عنا الشكوك، ولنثق في محبة الله التي تعطي الجميع بسخاء «مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ» (1بطرس 5: 7).

 

وحين يبدو أن الله متمهِّلٌ في الاستجابة يكون هذا لحكمةٍ عنده، ولخُطَّة صالحة لمصلحتنا، لأن إرادته دائماً صالحة وكاملة، وأفكاره أسمى من أفكارنا. لقد تأخَّر المسيح في استجابة طلب الأختين مريم ومرثا، فوصل إلى بيت عنيا بعد موت لعازر بأربعة أيام. وكانت حكمة تأخيره أنه أراد أن يُجري معجزة إقامة من الموت، ويعلن من خلالها أنه القيامة والحياة، وأن كل من يؤمن به وإن مات فسيحيا (يوحنا 11: 11، 35).. وتأخَّر المسيح في استجابة طلبة امرأة فينيقية طلبت منه شفاء ابنتها المريضة، ليس رفضاً منه لطلبها، بل ليُظهِر قوة إيمانها. وعندما ألحَّت في الطلب أعطاها سؤلها، وقال لها: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ. فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ» (متى 15: 28).

 

تأخير استجابة الصلاة:

يتأخر الله علينا لنقيِّم احتياجنا: هل حقاً نحتاج ما نطلبه؟ فما أكثر ما نطلب أشياء لا نحتاجها، لكننا فقط نريدها. وهناك فرقٌ بين ما تحتاج إليه وما ترغب في الحصول عليه، لأن في الاحتياج عوَز، لكن الرغبة تحب أن تحصل على المزيد. وما أجمل الحكمة في قول أحد المؤمنين: «السماء تُصرّ أن ترفض إعطاءنا ما لا نُصِرُّ نحن على أخذه». فهل إذا تأخرت الاستجابة سنتوقَّف عن الطلب، أم سنستمر نسهر ونصلي؟ قال المسيح: «هكَذَا مَلَكُوتُ اللّهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لا يَعْلَمُ كَيْف» (مرقس 4: 26، 27).. فهل نقوم ليلاً ونهاراً نصلي، منتظرين طلوع البذار ونموّه وإثماره؟

 

تتأخر الاستجابة لنستمر في طلب الرب: فنقترب منه أكثر، كما أوصانا «يَا ذَاكِرِي الرَّبِّ لا تَسْكُتُوا وَلا تَدَعُوهُ يَسْكُتُ، حَتَّى يُثَبِّتَ وَيَجْعَلَ أُورُشَلِيمَ تَسْبِيحَةً فِي الأَرْضِ» (إشعياء 62: 6، 7). لا يريدنا الرب أن نأخذ ونجري، بل يحب أن يرانا ماثلين في حضرته، كما قال المرنم: «اِنْتِظَاراً انْتَظَرْتُ الرَّبَّ فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي» (مزمور 40: 1).. ولا شك أن تأخير الاستجابة يعلِّمنا طول الأناة وانتظار الرب، فتتقوى حياتنا الروحية، كما قيل: «وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الْخَامِسَ، رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَحِ نُفُوسَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللّهِ وَمِنْ أَجْلِ الشَّهَادَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ، وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لا تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟ فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَاباً بِيضاً، وَقِيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَرِيحُوا زَمَاناً يَسِيراً أَيْضاً حَتَّى يَكْمَلَ الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُمْ، وَإِخْوَتُهُمْ أَيْضاً، الْعَتِيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُمْ» (رؤيا 6: 9-11).

 

وتتأخر الاستجابة حتى نفرح بالحصول على ما انتظرنا أن نحصل عليه: كما قيل: «فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ. هُوَذَا الْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ الأَرْضِ الثَّمِينَ مُتَأَنِّياً عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ وَالْمُتَأَخِّرَ. فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ الرَّبِّ قَدِ اقْتَرَبَ» (يعقوب 5: 7، 8).

 

وتتأخر الاستجابة لأن الرب يريد أن يجيبها بطريقة أفضل مما طلبناها: حين أُلقي يوسف الصدِّيق في الجب لا بدَّ أنه صلى أن يرقِّق الله قلوب إخوته عليه فيخرجونه من الجب ويعيدونه لأبيه. لكن الله تأنى في استجابة صلاته ليحييه ويحيي عائلته من سني الجوع، فأدرك أخيراً أن إخوته قصدوا به شراً، أما الرب فقصد بشرِّ إخوته خيراً ليحيي شعباً كثيراً (تكوين 50: 20). وقد تكرر الأمر مع الرسول بولس، فقال: «مِنْ جِهَةِ هذَا (المرض) تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي» (2كورنثوس 12: 8). ولم يفارقه المرض، إلا أن الله استجاب له بطريقة أخرى، إذ منحه نعمةً رفعته، في قوله له: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ» (2كورنثوس 12: 9).

 

فتعالوا نصلي في كل حين ولا نمل، لأن إلهنا يستجيب المصلي الذي يطلب وجهه. وهو ليس كالصَّديق المتضايق من الإلحاح، ولا مثل القاضي الظالم، لكنه المحب الألزق من الأخ (أمثال 18: 24) والعادل الذي يحب أن يعطي.

 

سؤالان

اذكر وجه الاختلاف ووجه الشبَه بين الله من جانب، والصَّديق وقاضي الظلم من الجانب الآخر.

اذكر نموذجاً من استجابة صلاة حدثت معك.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي