الباب الثاني عشر


بحث في التجسد والولادة من عذراء

الفصل الأول

ولادة يسوع من عذراء

لقد سمعنا البعض يقولون: ” سواء كانت ولادة المسيح من
عذراء هي حقيقية أم لا فعلى كل حال هذه ليست من المسائل المهمة والجوهرية!

عجباً!
أليست هذه الحقيقة جوهرية! كيف لا وعليها تتوقف عصمة
المسيح إذ كيف يكون المسيح معصوماً إذا ولد ولادة طبيعية من أبوين كبقية البشر!
أليست الولادة من عذراء ضرورية للتجسّد حقاً أنه لأمر مخطر جداً كون البشر الخطاة الساقطين
يحكمون في ما هو جوهري أو ما هو ليس بجوهري في مسألة خطيره كهذه مسألى “إدخال
البكر إلى العالم “. ولكن شعور المسيحيين تعمّق أكثر من ذلك وقالوا بأن ولادة
المسيح من عذراء ليست مسألى مستقلة بذاتها بل لها علاقة كلية بغيرها من المسائل
المختصة بالمسيح. وإنكار الولادة الطاهرة يستلزم إنكار الحياة الطاهرة لوجود
الارتباط التام بين هذه وتلك. أما حقيقة التجسّد فتستلزم المعجزة في صيرورة المسيح
إنساناً كما يتضح في ما يأتي:

 

تقرير الحالة

وغرضنا الآن أن نبيّن أن الذين يستهينون بمسألة إنكار ولادة المسيح من عذراء يجحفون كل الاجحاف بأهمية التعليم الذي ينكرونه ونقيم الأدلة عليه. أما الدليل عليه وإن لم يكن عاماً أي مذكوراً في كل كتب البشيرين كالدليل على القيامة مثلاً فذلك لا يقلّل من قيمته بل هو أقوى مما يظن المعارضون. وإنكار هذه الحقيقة يؤثر على الإيمان المسيحي بأكثر مما يتوهمون.وغرضنا أيضاً أن نبيّن أننا بوضعنا هذه العقيدة في مركزها الحقيقي بين بقية العقائد المسيحية لا نزيل العثرة في الإيمان فقط بل نزيد متانة العلاقة الكائنة بينها وبين غيرها من الحقائق ونوجد الإيضاحات اللازمة عن قداسة المسيح وعن شخصه الفائق.

ومن ثم نطلب من كل مسيحي من جميع الطبقات أن يكون شاهداً في هذه المسألة.

ألا ترى أنك حينما تقرأ الإنجيل تجد المطابقة التامة بين قصة الولادة من عذراء وبين خبر عيشة المسيح العجيبة المذكورة في الاصحاحات التالية لها، والمطابقة التامة بين تلك العيشة وبين سمو المسيح الإلهي المبيّن في كتابات يوحنا وبولس؟ نعم بلا شك فإن كل واحد يرى أن كل ما ذكر عن المسيح في كتب البشيرين مرتبط ببعضه،وكل جزء منه متمم للآخر، وولادة المسيح من عذراء هو أمر طبيعي في بداءة حياة ابن الله كما أن القيامة هي أمر طبيعي في نهايتها. وكلما زدنا المسألة تأملاً واعتباراً رأينا تأثيرها أقوى وأعظم.ولا نرى صعوبة في قبول هذه الحقيقة أو نرتاب في صدقها إلا إذا كنا ننبذ شهادات الكتب المقدسة كلها عن المسيح نبذاً كلياً.والحال أن العهد القديم شهد شهادات واضحة منها ما هو تصريح، ومنها ما هو تلميح، ومنها ما هو تنبؤ صريح عن ولادة المسيح، من عذراء قديسة، بمنتهى التوضيح.

 

النظرة الأولى إلى المسألة

حقاً إن الذين يرتابون في ولادة المسيح من عذراء لهم في ضلال، لأنهم ينظرون إلى المسألة بكيفية خادعة. إذ من من الناس يجيد النظر في هذه المسألة ولا يرى أنه إذا كان المسيح مولوداً من عذراء وإذا كان (كما يقول قانون الإيمان) ” حبل به بالروح القدس وولد من مريم العذراء ” كان من الضروري أن يوجد في شخصه عنصر يفوق الطبيعة؟ وإذا كان المسيح معصوماً بل هو كلمة الله المتجسد فلا بد أن تكون قد حصلت معجزة في تجسده بل أعظم معجزة في الكون.وإذا كان المسيح هو ابن الله الذي صار إنساناً وهو آدم الثاني ورئيس الجنس البشري كما يقول عنه بولس ويوحنا الرسولان وكما آمنت الكنيسة منذ البداءة إلى الآن، فلا بد أن ينتظر الناس حصول معجزة لأنه بدون معجزة لا يتصور أن الله يصير إنساناً.

فلماذا يرتابون في أقوال الكتاب التي تبيّن حقيقة هذه المعجزة؟ ومن ذا الذي لا يرى أن تاريخ الإنجيل يكون ناقصاً لو لم يحتو على تلك الأقوال الواردة فيه بخصوصها؟ إن الوحي لم يقدم لنا عن هذه الحقيقة سوى ما يتطلبه الإيمان وما هو ضروري لكمال اليقين، على رغم إنكار أولئك المفترين.

الأساس التاريخي

قد أتينا إلى النقطة التي يجب علينا فيها أن ننظر إلى أقوال الكتاب المقدس نفسه ونتأمل في ولادة المسيح من عذراء من جهة أساسها التاريخي ومن جهة علاقتها بغيرها من حقائق الإنجيل. وقبلما نبحث الأدلة التاريخية يجب أن نسأل: هل يوجد في العهد القديم أمور ممهدة لهذه المعجزة؟ إننا ننتظر على الأقل وجود إشارات في العهد القديم تشير إلى حادثة العهد الجديد العجيبة هذه. فمنها:

 

الوعد الأول

إن أول ما يستلفت نظر الإنسان بخصوص هذه المسألة هو أول وعد إنجيلي ورد في العهد القديم مبيناً عهد النعمة الذي مفاده أن نسل المرأة يسحق رأس الحية إذ قال الله للحية المجرّبة ” أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تستحقين عقبه ” (تك 3: 15). فإذا أوّلنا هذا الوعد (الذي هو أول وعد إنجيلي ورد في كتاب الله) بأنه يشير إلى وجود ضغينة مستمرة بين الجنس البشري وبين الثعابين نسل الحية أضعفنا هذا الوعد بل أبطلنا قيمته بالمرة. فإن الحية هي رمز قوة الشر المعبّر عنها في سفر الرؤيا 12: 9 ” بإبليس والشيطان ” والهزيمة التي تصيبه من نسل المرأة تشير إلى نصرة روحية ينتصر بها نسل المرأة.ولاحظوا أن النسل المشار إليه في الوعد بأنه يسحق رأس الحية منصوص عنه ” نسل المرأة ” وليس نسل الإنسان. فإن المرأة هي التي أدخلت الخطية إلى العالم. فبنسل المرأة (وحدها) يأتي الخلاص. إن كتبة الكنيسة في كل الأجيال الماضية كثيراً ما استعملوا هذا التمثيل وإظهار المشابهة بين حواء ومريم العذراء، ولا يزال تمثيلهم الذي مثّلوه يبرهن على مجيء المخلص من امرأة كما دخلت الخطية بامرأة. ولا يمكنني أن أصدق أن هذا التخصيص من الوحي حصل اتفاقاً بطريقة غير مقصودة. فإننا نرى أن الوعد الذي قيل لابراهيم هو ” تتبارك في نسلك جميع قبائل الأرض “، أما هنا فقيل نسل المرأة ولم يقل نسل آدم بل المرأة على نوع خاص. ومن المرجح أن الاشارة إلى هذا الوعد هي تلك الواردة في 1تي2: 15 حيث ذكر آدم وحواء ولكن تكلم عن المرأة فقط وقال ” ولكنها ستخلص بولادة الأولاد ” (كما افتكر ذلك بعض أعاظم العلماء). ومنها:

 

النبوة عن عمانوئيل

إن الفكر عن المسيح المتجمعة فيه صفات الملك الإلهي قد صارت النبوات عنه واضحة جداً حتى سمي عمانوئيل في اش 7: 14 ” ولكن يعطيكم (يا بيت داود) السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل “. وقد تكررت ” عمانوئيل ” مرتين أخريين (اش 8: 8و10). فعمانوئيل هذا ما هو إلا ذاك المذكور في ص 9: 6و7 ” لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر.. ” وهذه هي النبوة التي اقتبسها متى عن ولادة المسيح (مت 1: 23)، والتي أشار إليها الملاك في وعده لمريم (المذكور في لو 1: 32و33). وليعلم أن مترجمي الترجمة السبعينية للعهد القديم قد ترجموا الكلمة العبرانية “علمه” الواردة في اش 7: 14 بالكلمة ” بارثينوس ” اليونانية التي تعني عذراء. ومنها:

 

ولادة والدة

إنه بمقارنة مي 5: 2 الذي اقتبسه متى في بشارته ليبرهن به على محل ميلاد المسيح بالعدد الثالث من نفس الاصحاح حيث يقول ” لذلك يسلّمهم إلى حينما تكون قد ولدت والدة ” يعني إلى حينما تكون قد ولدت والدة الملك الذي من بيت لحم والذي لم يذكر اسم والدته ولا اسم أبيه. ومعلوم أن ميخا كان معاصراً لاشعياء. فإذا راعينا حرفية أقوالهما الواردة في إش 2: 2 4 ومي 4: 1 3 لا يصعب علينا إذ ذاك أن نجعل أقوال ميخا عن مولود بيت لحم موضحة ومتممة لأقوال إشعياء عن عمانوئيل وعن الوالد الذي يولد لنا والابن الذي نعطاه من العذراء ليجلس على كرسي داود ويكون رئيس السلام.

 

شهادة الإنجيل عن هذه الحقيقة

إن الأقوال المتنبأ عنها في كتب الأنبياء وعلى ما يظهر أنها لم تثمر بشيء في انتظار الأمة اليهودية للمسيح المولود من عذراء قد ظهرت بنور واضح لدى المسيحيين، وتبرهنت أنها أقوال نبوية عن المخلص عند ما تمت الحادثة فعلاً وولد عمانوئيل المنتظر. ففي بيت لحم اليهودية، كما تنبأ ميخا، ولد من عذراء ذاك الذي ” مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل ” (مي 5: 2ومت2: 6). ومتى الإنجيلي الذي اقتبس الجزء الأول من هذه الآية لم يكن جاهلاً إلالماع الموجود فيها عن سبق وجود المسيح قبل ولادته. وهذا يؤدي بنا إلى التأمل في الشهادة الواضحة عن ولادة المسيح العجيبة الوارد خبرها في البشارة الأولى والثالثة وهما البشارتان الوحيدتان المذكور فيهما خبر ولادة مخلصنا له المجد. والجميع بدون استثناء يصادقون على أن الأخبار الواردة في بشارة متى ص 1و2 هي مستقلة تماماً عما ورد في بشارة لوقا ص 1و2 أي أن الواحدة لم تؤخذ عن الأخرى ومع ذلك فإن كلتيهما تثبتان بكيفية موجزة بأن يسوع حبل به بقوة الروح القدس وولد من عذراء طاهرة هي مريم الساكنة في ناصرة الجليل وكانت مخطوبة ليوسف النجار الذي ” لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ” وإن الميلاد حصل في بيت لحم عندما ذهب يوسف مع مريم ليكتتبا هناك في الاكتتاب الذي صدر الأمر عنه من أوغسطس قيصر. فالاعلان يخبر الحبل والولادة قد أعطي لمريم على يد جبرائيل الملاك، وقد رافق ميلاد المسيح كما وقد سبقته وأعقبته حوادث شهيرة مثل ولادة يوحنا المعمدان بالبشارة لأبيه زكريا المتقدم في السن هو وامرأته، ومثل البشارة لمريم العذراء،ومثل ظهور الملاك للرعاة مصحوباً بأجواق الملائكة مسبحين ومهللين، ومثل زيارة المجوس الذين أتوا خصوصاً من المشرق للسجود له وغير ذلك. فعلينا أن نقرأ هذه الأخبار بترو وانتباه حتى نستطيع أن نفهم التوضيحات التي بعدها.

 

تقرير الشهادة بالولادة من عذراء

إن الفصول المحتوية على هذا الخبر نراها مدونة في كل نسخ الإنجيل الخطيّة والتراجم التي وجدت. وعندنا مئات من النسخ التي بعضها قديم العهد جداً، ووجدت في جهات مختلقة من العالم، وعندنا أيضاً تراجم كثيرة في لغات متعددة (كاللاتينية والسريانية والقبطية وغيرها) ولا تخلو واحدة منها من هذه القصة المشهورة، بل وهي موجودة فيها جميعها. ونقول أيضاً أن كتب البشيرين ذاتها لم تصدر في عصر متأخر ولا من مصدر رسولي بل كتبها أناس رسوليون وقبلت منذ البداءة وانتشرت في الكنائس المسيحية باعتبار أنها أقوال الرسل الخالصة والمعتمدة والمستحقة كل اعتبار. فبشارة لوقا كتبها لوقا نفسه، ومما لا ريب فيه أن إنجيل متى قد اعتبر في كل زمان ومكان أنه إنجيل متى الرسول نفسه، وقانونيته معتبرة منذ عصر الرسل إلى الآن. فرأينا إذاً أن مسألة ولادة الرب يسوع من عذراء قد وصلت إلينا من مصدر رسولي (من أتباع المسيح أي رسله، وكما يقول المسلم ” من الصحابة ” الحواريين).

ويظهر واضحاً لمن يتصفح الروايات في كتابي البشيرين بإمعان أن تلك الأخبار بخصوص الولادة عن عذراء كان يمكن أن تستقى من يوسف النجار ومن مريم العذراء نفسها.وظاهر أن تنوع أسلوب الروايتين يبيّن واضحاً أن متى استقى خبره من يوسف ولوقا من مريم. ومتّى يخبرنا عن الصعوبات التي رآها يوسف وعن قلق باله وتفكّره في الأمر وماذا قصد عندما رأى خطيبته حبلى ولم يذكر شيئاً عن مريم ولا عن أفكارها وحاسياتها، أما لوقا فيخبرنا كثيراً عن مريم وعن كلامها الذي جاوبت به الملاك وعن أفكارها الداخلية وزيارتها لأليصابات وعن ذات التسبحة التي سبّحت بها بينما لم يخبرنا شيئاً عن يوسف كما أخبرنا متى وكلا الخبرين لا يوجد بينهما أقل تناقض فها هما خبران مستقلان، وكل منهما متمم للآخر، وكلاهما معاً ضروريان جداً إذ يعطياننا الخبر اليقين الكامل عن المسألى، وعليهما صبغة الصدق والأمانة والطهارة، ويستحقان كل قبول بما أنهما قبلا عند كل الكنيسة منذ نشأتها باعتبارهما وحياً سماوياً.

 

صمت مرقس ويوحنا عن ذكر هذه المسألة

عرف كل من مرقس ويوحنا أن يسوع قد ولد من مريم ولكنهما لم يخبرانا شيئاً عن كيفية ذلك. فإن مرقس يبدأ إنجيله بدخول المسيح في خدمته الجهارية ولم يشر أقل إشارة إلى أيامه السابقة ولا حتى عن كيف دعي المسيح ابن الله مر1: 1 وكذلك يوحنا لم يخبرنا مطلقاً عن كيفية الحبل بالمسيح بل ابتدأ إنجيله بذكر لاهوته مبيّناً أن ” الكلمة ” ” هو الله ” ولما أشار إلى تجسده قال بكل اختصار ” والكلمة صار جسداً يوحنا 1: 14 ولكنه لم يقل شيئاً عن كيفية المعجزة الفائقة في صيرورة الكلمة جسداً لأن ذلك لا يوافق قصده الذي أراد أن يكتب عنه. نعم هو كان يعرف العقيدة الموجودة في الكنيسة بهذا الخصوص، وكانت بشارتا متى ولوقا كلاهما بين يديه في ذلك الحين وفيهما الخبر عن كيفية الحبل بيسوع وكان مسلّماً به لأنه لو كان يعرف أن ذلك الخبر الموجود في كتابي البشيرين غير حقيقي لكان قد أشار إلى ذلك أو أتانا الخبر اليقين.

 

صمت بولس أيضاً

ألا ترى أن بولس الرسول يقول في غل4: 4 ” ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس “؟ فما السر في قوله ” مولوداً من امرأة “؟ فإن كان الغرض أنه مثل بقية البشر فقوله هذا من باب تحصيل الحاصل، وكان يمكنه أن يقول مولوداً من إنسان أو من فلان. ولماذا خصص ولادته من امرأة إن لم يكن غرضه أن تلك الولادة لم تكن من زرع رجل؟ وهل بعد هذا نقول أن بولس صمت صمتاً تاماً عن الإشارة إلى ولادة المسيح من غير زرع بشر؟ كلا. بل كيف يقول بولس عن المسيح أنه هو الله الذي أخلى نفسه، وأنه ابن الله الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره الحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، وأنه لم يعرف خطية، وأنه الحياة الذي يحيي أموات الخطية التي ورثها الجميع من آدم بولادتهم منه حسب الطبيعة،وأنه صار نعمة للخطاة المساكين؟ فكيف تتفق كل هذه الصفات والألقاب والأعمال التي نسبها للمسيح مع ولادته كغيره من البشر الذين هم بالاثم صوّوروا وبالخطية حبلت بهم أمهاتهم؟ نعم إن كل مخلص يقرّ بأن الله لا بد أن يكون قد تدخل بطريقة عجيبة في صيرورة ابنه إنساناً. فعليه تكون ولادة المسيح من عذراء أول حادثة معقولة وقابلة للتصديق. وما نقوله عن بولس نقوله أيضاً عن غيره من كتبة العهد الجديد.

 

البرهان بعصمة المسيح

قد اعترض البعض بالقول أن ولادة المسيح من عذراء لا تساعد على الاعتقاد بعصمته لأنه ما دامت مريم أمه خاطئة حسب الطبيعة فمن المعقول أن الفساد ينتقل إلى المولود بواسطة أحد الوالدين كما بالوالدين معاً. ولكن قد طاش سهمهم وفاتهم أن كل الحقيقة ليست منحصرة في القول بأن المسيح ولد من عذراء بل بوجود عامل آخر هو أنه ” حبل به من الروح القدس “. فما تم كان أمراً إلهيا “، حصلت معجزة خالقة في إيجاد ذلك الناسوت الذي كان خالياً من آثار الفساد منذ كان جرثومة صغيرة في بدء وجوده. فلا لزوم إذ ذاك للتناسل الأبوي الطبيعي لأن ميلاد المسيح لم يكن ميلاداً طبيعياً بل هو إيجاد شخصية جديدة لم يسبق لها مثيل لأنه كان الله قبل تجسّده ودخل دخولاً حادثاً في الناسوتية فلا يمكن إتمام هذا الأمر المدهش إلا بمعجزة.ونظراً لأن طبيعة المسيح الناسوتية هي من أصل عجيب بواسطة معجزة فائقة كهذه فلذلك كان قدوساً منذ البداءة (لو1: 35) وكل حياته تبرهن على أنه كان بالحقيقة معصوماً إلى التمام. فهل يقدر أحد أن يخبرني عن ولادة طبيعية انتجت شخصية معصومة كشخصية يسوع المولود من عذراء في زمن من الأزمان؟

 

الكنيسة الأولى شاهدة بولادة المسيح من عذراء

نقول أن الكنيسة الأولى(بقدر ما عندنا من الوسائط لنتتبّع معتقداتها) قد تمسكت بهذا التعليم في كل طوائفها المختلفة على وجه العموم. والذين أنكروه قد صدّهم أعاظم معلمي الكنيسة عند ظهورهم.ونعرف أن الرسول يوحنا قد عارض وناضل بكل حدة وحماس أناساً منتسباً إليهم إنكار هذه العقيدة.

 

العلاقة بين المسيح الحقيقي وبين الولادة من عذراء

العلاقة التعليمية يجب أن نعرف بأن عقيدة ولادة المسيح من عذراء ضرورية جداً لفهم ذاتية المسيح الفريدة والمعصومة فهماً صحيحاً. فأمامنا شخص يقدمه لنا بولس في رسالته إلى رومية 5: 12 وما يليه وذلك الشخص خال من الخطية وغير معرّض لخطايا الجنس البشري وليس عليه المسؤولية التي على آدم ونسله بل مزيل للخطية واللعنة والموت التي دخلت إلى العالم بواسطة آدم الأول ومثبت لملكوت البر والحياة. فلو كان المسيح قد ولد حسب الطبيعة لما أمكننا أن ننسب إليه عملاً من هذه الأعمال. ولو كان من نسل آدم فقط ومصدره ليس من عالم أعلى لكان يشترك في فساد آدم ويقع عليه الحكم الذي حكم به على آدم ونسله وكان هو نفسه يحتاج إلى فداء كبقية الجنس البشري. ولكن سواء أبصر المعارضون أو عموا فإن رحمة الله غير المحدودة قد دبّرت أن المسيح يأتي من فوق غير وارث لذنب الجنس البشري، ولا يحتاج إلى تجديد أو تقديس نظيرهم، بل صار نفسه هو الفادي والمجدّد والمقدّس

لجميع الذين يقبلونه ويؤمنون به بكل قلوبهم ” فشكراً لله على عطيته التي لا يعبّر عنها ” (2كو9: 15). #9;

ملاحظتنا على هذه المقالة

ظاهر أن شهادة البشيرين متى ولوقا صريحة جداً ولازمة للموضوع الذي كتبنا عنه، كما ظهر أيضاً أن بولس الرسول نفسه كان يعتقد بهذه الحقيقة. ونقول أيضاً أن آباء الكنيسة الأولين المعتمد عليهم، مثل أغناطيوس ويوستينوس الشهيد وغيرهما، قد اعتقدوا بهذه الحقيقة. وبالاختصار فإن هذه العقيدة قد اعتبرت لدى الكنيسة المسيحية من أول نشأتها إلى الآن أنها هي السلّم التي عليها قد نزل “الكلمة الله ” والذي ” كان عند الله ” إلى هذه الأرض وظهر في الجسد. وظاهر أنه لو كان المسيح قد ولد حسب الطبيعة ما كان قد خلا من الفساد ولا نفع بشيء وكان هو نفسه يصبح محتاجاً إلى مخلّص فلا يقدر أن يخلص. ولو ولد من امرأة متزوجة، بقوة الروح القدس، لكان يسهل الشك جداً في طهارته.ولو كان قد ولد ثاني ولادة أو ثالث ولادة لما وجد عقل يقدر أن يثق بأنه ولد بالروح القدس. فالله الحكيم قد دبّر كل ما يمنع الشك والريب، وهكذا قد حصل. وما أجمل شهادة الكتاب بهذا الخصوص عندما قال ” الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله ” (لو1: 35). وقال الملاك هذا بعد سؤال مريم ” كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً (ع34) ولمّا قال الكتاب ” يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس ” (مت 1: 20) ولما قال ” فولدت ابنها البكر ” (لو2: 7) و”حتى ولدت ابنها البكر ” (مت 1: 25) فغاية الوحي في هذه الشهادة ” البكر ” هي أن يمنع كل شك أو وهم يمكن أن يتسرّب للفكر بخصوص طهارة يسوع الكاملة.

يقول العلاّمة أنسلمس في كتابه ” لماذا تجسّد الكلمة ” ما يلي: أن الله قادر أن يصنع الإنسان على أربعة أنواع. إما من رجل وامرأة كما هو الشأن الجاري، أو من غير رجل ولا امرأة كما صنع مع آدم، أو من رجل بلا امرأة كما صنع حواء، أو من امرأة من غير رجل الذي لم يكن قد صنعه إلى حين تجسّد المسيح. فلكي يتحقق أن هذا الوجه الأخير هو تحت حكمه تعالى وأنه جدير بهذا العمل لاق أن يتخذ هذا الناسوت الذي هو موضوع بحثنا من امرأة وحدها.وأما من جهة مناسبة مجيئه من عذراء أو من ثيب فإنه يتيسّر لنا أن نثبت إثباتاً تاماً لا ريب فيه أنه يقتضي أن لا يولد الإله المتأنس إلا من عذراء.. وكما أن خطية الإنسان وعلة دينونتنا قد نشأتا من امرأة هكذا وجب أن دواء الخطية وسبب خلاصنا يولد من امرأة أيضاً.وكذلك لما كانت الأنثى التي صنعها الله من رجل بلا امرأة مأخوذة من رجل بكر (أي أعزب) قد لاق أن يكون الإنسان المولود من امرأة بلا رجل مولوداً من امرأة بكراً. وحسبك هذا دليلاً على وجوب مجيء ابن الله من عذراء “.

أما إذا قيل: وما الحكمة في حبل مريم العذراء بيسوع بعدما خطبت ليوسف النجّار وليس قبل؟ فنقول أنه على ما يظهر لنا أن يوسف النجّار هو القضيب الذي من يهوذا والذي لا يزول حتى يأتي شيلون ” (راجع تكوين49: 10) وهو الوارث الشرعي لكرسي داود. فالمسيح المنتظر يرث كرسي داود منه، لأن الوارثة المنوية هي وراثة حسب الجسد (أع 2: 30 مع مز 132: 11 راجع لو1: 32). ومريم أم يسوع وإن كانت بنت داود لكنها ليست من بيت داود الملكي لأنها ابنة ناثان بن داود لو 3: 31 (فضلاً عن أن اليهود لا يورثون الملك من النساء). أما كرسي الملك فقد انحصر في سليمان بن داود بأمر الرب (1أي28: 57). لذلك صبر الله حتى خطبت مريم إلى مورّث يسوع كرسي داود حسب الجسد، وحينئذ حلّ بجسد ابنه فيها، حتى أنه لما قصد يوسف تخليتها بعدما رأى علامات الحبل عليها ناداه ملاك الرب قائلاً “يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك ” فكأنه يقول له: ” يا يوسف الوارث الشرعي لكرسي داود! يا من قصدت أن اورّث ابني كرسي داود حسب الجسد منك وصبرت حتى خطبت ام ابني خطبة شرعية فحللت بجسد ابني فيها، أتتركها الآن وتبطل ما دبّرته؟ فلا تظن أنها زانية كما تصورت بل الذي حبل به (وفي الأصل ولد) فيها هو من الروح القدس “. وهكذا قد تم. فامتنع يوسف عن تخليتها حتى ذهب معها عند الاكتتاب إلى مدينة داود بيت لحم وهي بعد مخطوبة، وهناك ولدت يسوع، واكتتب شرعياً أنه يسوع وولي أمره يوسف الذي من ” ببيت داود وعشيرته ” (لاحظوا قول الوحي هذا عن يوسف دون مريم) وصار مربياً ليسوع وكان يقول عنه ابني ويسوع يقول عنه ابي ومريم نفسها قالت مرة ليسوع

” هوذا أبوك وأنا ” بل الوحي نفسه قال ” وكان أبواه ” (لو2: 41و48) وذلك لكي يبرهن أن يسوع هو المسيح الملك المنتظر الوارث لكرسي داود وراثة شرعية باعتبار أنه ابن شرعي لا صلبي.

فهكذا كل أقوال الإنجيل تشهد بأن يسوع ولد من عذراء بقوة الروح القدس، وجميع فصوله مبنية على هذه الحقيقة. وما أوضح القول ” ولما تمّت أيام تطهيرها (مريم) حسب شريعة موسى وصعدوا به إلى أورشليم ليقدّموه للرب. كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوساً للرب ” (لو 2: 22و23).

 

الفصل الثاني

ناسوت المسيح الحقيقي

إن تاريخ كنيسة المسيح مملوء بذكر المجادلات في موضوع التوفيق بين لاهوت المسيح وناسوته أو شرح كيفية وجود اللاهوت مع الناسوت. أما هنا فيليق بنا أن نقول:

إن ناسوت المسيح الذي اتّحد بلاهوته هو ناسوت حقيقي أي مؤلّف من جسد ونفس إنسانية وروح خالدة عاقلة ناطقة. وهذا الناسوت اتّحد اتّحاداً غير مدرك بلاهوت الأقنوم الثاني الأزلي. نعم قد قام في تاريخ الكنيسة من انكروا حقيقة الناسوت ذاهبين إلى أنه لم يكن للمسيح جسد حقيقي ولا نفس ناسوتية قائلين ” أما ما ظهر فلم يكن إلا خيالا بدون حقيقة ” هذا حسب زعمهم ومعنى ذلك أنه لم يولد ولم يتألم ولم يمت. فهؤلاء بذلك قد أنكروا الفداء أولاً وآخراً معتقدين أن اللاهوت هو موضوع الروح الخالدة في الإنسان، أي أنهم أنكروا الروح الناسوتية، ذاهبين إلى أن جسد المسيح كان من جوهر سماوي، وأنه لم يأخذ ناسوتاً من مريم العذراء، وقائلين أنها لم تكن سوى إناء وضع فيه ذلك الجوهر بدون أن يأخذ شيئاً منها.

فكل هذه الأفكار وما يماثلها خطأ لأنها تناقض أقوال الكتاب المقدس الصريحة كقوله ” ها أنت (يا مريم) ستتحبلين وتلدين ابناً (لو1: 31) وقوله ” أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان باراً ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سراً. ولكن فيما هو متفكّر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع.. لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً (مت 1: 18 23) وقوله ” لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع ” عدد 25وقوله ” وبينما هما هناك (أي يوسف ومريم) تمّت أيامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمطته واضجعته في المذود ” (لو2: 6و7) وقوله: ” فقال لهم (أي للرعاة) الملاك.. أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود.. قال الرجال الرعاة.. لنذهب الآن إلى بيت لحم.. فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المذود ” (لو2: 10 16). وقوله ” ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمّي يسوع كما تسمّى من الملاك قبل أن حبل به في البطن. ولما تمت أيام تطهيرها (مريم).. صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب. كما هو مكتوب.. إن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوساً للرب” (لو 2: 21 23).

فهذه النصوص وغيرها تبيّن بما لا يقبل الريب أن مريم العذراء حبلت بجسد يسوع، وظهرت علامات حبلها ليوسف حتى أنه قصد تخليتها، وأنه حبل به المدة العادية حتى أنه لم يولد إلا لما تمت أيامها لتلد، وأنه فاتح رحم، وأنه قمط ووضع في مذود وقد ختن حسب الناموس وأمه طهّرت من الولادة بعد المدة المقرّرة في الناموس وغير ذلك مما يدل على أن يسوع كان إنساناً حقيقياً ذا جسد حقيقي كغيره من الناس (ولكنه قدوس).

وقوله ” بعدما انصرفوا (المجوس) إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلاً قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر.. فلما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلا: قم وخذ الصبي وأمه وارجع.. لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصبي وأمه الخ ” (مت2: 13 21). وهذا يدل على أنه كان يخاف عليه لئلا يقتل بسيف هيرودس. وعمل الله الوسائط التي يمكن أن يفعلها البشر لحفظ حياته بالهروب إلى مصر والبقاء فيها إلى موت هيرودس. فهل أمر الله يوسف أن يأخذ خيالاً ويهرب به إلى مصر خوفاً من أن هيرودس يقتل ذلك الخيال؟ وهل دعا الله خيال ابنه من مصر ليتم القول ” من مصر دعوت ابني ” (؟!!) وقوله ” ولما كانت له (يسوع) اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم.. وإذ ظناه بين الرفقة.. ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم.. ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما.. وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس ” (لو 2: 42 52). فذلك كله يدل على أن يسوع كان إنساناً حقيقياً ينمو جسده النمو الطبيعي كلما زادت السنون. ولما صار له من العمر ثلاثون سنة اعتمد بيد يوحنا المعمدان. وبعد هذا ابتدأ في عمله الجهاري (لو 3: 21 و23) دلالة على أنه وصل إلى طور الرجولة، وباشر الأعمال التي جاء لأجلها. فلا يمكن أن الخيال يتقدم إلى الرجولة بهذه الكيفية، كما لا يمكن أن يوحنا يعمّد خيالاً بعدما حدثت مباحثة بينهما وجاوب عنها الرب يسوع جواباً سديداً يدل على أنه ليس خيالاً ” اسمح الآن. لأنه هكذا يليق بنا أن نكمّل كل بر ” (مت 3: 13 15) كما ويذكر الكتاب صريحاً أنه تربّى في الناصرة (لو 4: 16). فهل الذي تربى كان خيالاً؟

وزيادة على ذلك فإن الإنجيل يخبرنا صريحاً أن المسيح كان يجوع ويأكل ويعطش ويشرب (لو 4: 2 ويو 4: 7 ومت 11: 19 ويو 19: 28) والخيال لا يعمل شيئاً من هذه بل هي من خصوصيات الجسد الحي الحقيقي.ويخبرنا الإنجيل أيضاً أن المسيح كان يحزن ويتألم ويبكي وينزل عرقه كقطرات دم على الأرض (مت 26: 37 ولو 22: 44 ويو11: 35). وهذه الانفعالات من خصائص الانسان الحي العاقل.

وقال المسيح أيضاً نفسي حزينة جداً حتى الموت (مت 26: 38)، وقيل عنه أنه ” انزعج في نفسه ” (يو 11: 38)، وقال وهو فوق الصليب ” يا أبتاه في يديك استودع روحي. ولما قال هذا أسلم الروح ” (لو23: 46). فأية نفس التي تحزن وتنزعج؟ أليست هي النفس العاقلة؟ وأية روح أسلمها المسيح في يدي أبيه؟ هل اللاهوت يسلّم؟! حاشا. بل ما أبلغ ما ورد في إنجيل لو 24: 36 الخ ” وفيما هم (التلاميذ) يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم، فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً. فهل صادق المسيح على ظنّهم بأنهم نظروا روحاً؟ كلا بل وبّخهم قائلاً ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم. انظروا يدي ورجلي إني أنا هو. جسّوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي “. وهل الخيال له لحم وعظام كما أراهم؟ ” وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم أعندكم ههنا طعام ” لكي أبرهن لكم أني لست روحاً أو خيالاً، ” فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم “. بل لما رآه تلاميذه ماشياً فوق الماء وظنوه خيالاً لم يرد هو أن يفتكروا أنه خيال بل قال لهم ” أنا هو. لا تخافوا ” (مت 14: 26و27) يعني أنا هو الذي تعرفونني الذي أكلت وشربت وعشت معكم ولمستني أيديكم.

وما أوضح قول الرسول عن المسيح ” لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لي جسداً ” (عب 10: 5) وقوله ” فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما ” (عب2: 14) وقوله ” بهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة ” (عب10: 10).ونظير ذلك كثير جداً بحيث لم يرد في كل الكتاب من أوله إلى آخره شيء يدل على أن المسيح كان خيالاً بدون جسد ونفس وروح، بل كل ما جاء فيه يبرهن أن المسيح هو الله منذ الأزل ولكنه جاء في ملء الزمان مولوداً من امرأة مشتركاً في جسد البشر ليحمل خطاياهم ويكفّر عن آثامهم بموته فصار ذا طبيعتين متميّزتين في أقنوم واحد أي الطبيعة الأزلية الإلهية والطبيعة الحادثة الناسوتية المقدسة.

ومن الذي صعد إلى السماء وأجلسه الله عن اليمين قائلاً له ” اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ (مر16: 19 ومز 110: 1) ورآه استفانوس ” قائماً (واقفاً) عن يمين الله؟” (أع 7: 55) هل هو خيال؟!

ومن الذي قال عنه الملاكان ” أيها الرجال الجليليون.. إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء “؟(أع1: 11).

وجاء في قرار الإيمان لمجمع وستمنستر قوله ” إن ابن الله الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس، وهو الإله الحق الأزلي من جوهر الآب ومعادل له، لما جاء ملء الزمان أخذ لنفسه طبيعة الإنسان مع خواصها الجوهرية وصفاتها العامة ولكن بلا خطية فحبل به بقوة الروح القدس في مستودع العذراء مريم ومن جسدها، وبذلك اتحدت طبيعتان صحيحتان كاملتان متميزتان اتحاداً غير منفصل في شخص واحد بدون تحويل ولا تركيب ولا اختلاط. وذلك الشخص إله حق وإنسان حق، بل مسيح واحد، والوسيط الواحد بين الله والإنسان “. وهذا هو القول الصواب.

وقد ورد في قانون الإيمان المسمّى غالباً قانون أثناسيوس ما يأتي: ” يلزم الإنسان للخلاص الأبدي أن يؤمن يقيناً بتجسّد ربنا يسوع المسيح، لأن الإيمان المستقيم هو أنّا نؤمن ونعترف بأن ربنا يسوع المسيح ابن الله هو إله وإنسان. إله تام وإنسان تام ذو نفس ناطقة وجسد بشري ذي وجود مساو للآب بحسب لاهوته ودون الآب حسب ناسوته. وهو وإن يكن إلهاً وإنساناً فإنما هو لا إثنان بل مسيح واحد الخ “.

 

الفصل الثالث

التجسّد وعلاقته بعصمة المسيح

إنه لأمر واضح ومتفق عليه أن كل البشر خطاة، ويصدق عليهم بدون استثناء قول الكتاب ” ليس بار ولا واحد. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد. الجميع أخطأوا ” وهذا أكثر وضوحاً لأن جميعهم طبّق قول داود النبي بالإثم صوروا وبالخطية حبلت بهم أمهاتهم (مز51: 5) وقول أيوب ” من هو الإنسان حتى يزكو أو مولود المرأة حتى يتبرّر ” (اي15: 14و25: 4) وقول موسى ” رأى الرب أن شرّ الإنسان قد كثر.. وإن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم ” (تك6: 5).

ولكن الإنسان يسوع المسيح الذي عاش على الأرض كواحد من البشر هو معصوم ” لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر ” (1بط2: 22)، وكل حياته طهارة في طهارة وقداسة في قداسة. فلم يخطىء مرة بقول ولا بفكر ولا بفعل، ولم يهمل واجباً مرة ما، بل كان يجول يصنع خيراً للجميع ويسفي المتسلّط عليهم إبليس. وهذا ليس بغريب بل هو ما ينتظر طبعاً إذ لم يأت من زرع بشر حتى ينطبق عليه قول داود المذكور آنفاً بل قال الكتاب أن جبرائيل الملاك لما أرسل إلى مريم العذراء قال لها ” الروح القدس يجل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله ” (لو1: 35). فذلك الإنسان الذي ولدته مريم العذراء وإن يكن في الهيئة كبقية البشر لكنه الله الكلمة المتجسّد لكي يفدي بناسوته البشر الأثمة لأن الله قد حكم على الإنسان بالموت فلا يفتدى إلا بالموت. وكان من الضروري أن الأقنوم الثاني هذا يتخذ ناسوتاً قابلاً للموت بدل الإنسان،وعليه يقول الكتاب ” فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويعتق أولئك الذين.. كانوا.. تحت العبودية “(عب2: 14و15).

فالمسيح وإن كان لابساً جسد إنسان لكنه هو الله الذي صار إنساناً، وأمر طبيعي أن الله منزّه عن الخطأ. وذلك الإنسان يسوع الذي ظهر في العالم كان ذا طبيعتين طبيعة اللاهوت الأزلية وطبيعة الناسوت الحادثة. وإذا كان ذلك كذلك فكيف لا يكون معصوماً ومنزّهاً عن الخطأ؟ وقد ظهرت عصمته وخلوّه من الخطية في تاريخ حياته على الأرض إذ لم يستطيع أحد أن يبكّته على خطية ولو من أعدائه الذين كانوا يطلبون ذنباً ضده ويجعلونه سبباً في كراهة الناس له وابتعادهم عنه.

وإن قال أحدهم أن المسيح لم تظهر منه خطية لأنه لم يتعرّض للتجارب التي يتعرّض لها البشر فنقول كلا إن الفقر أحدق به للدرجة القصوى ولم يتذمّر،والأتعاب المتنوعة أحاطت به ولم يتضجّر ولم ينسب لله ظلماً، والأعداء قاموا عليه بكل أنواع الاضطهادات وقذفوه بأشنع التهم زوراً ولكنه لم يؤذهم ولم يصح ولم يسمع في الشوارع صوته، بل وإبليس والشيطان الخصم المشتكي عمل كل جهده وجرّبه مدة أربعين يوماً وأربعين ليلة تجارب ليس لها عدد وقد ذكرت ثلاث منها في الكتاب كنموذج، واستعمل الرجيم معه كل دهاء وخبث وألبس تجاربه أثواب الخداع التي تنطلي على كل واحد من الناس ولا يظهر لهم فيها شيء من الخطأ ولا بد أنه شبّه نفسه له مراراً بملاك نور لإتمام خداعه ولكن الفادي انتصر على عدو كل بر انتصاراً باهراً ويشهد عنه الكتاب أنه كان ” مجرباً في كل شيء مثلنا بلا خطية “.

تقسم الخطايا عادة إلى خطايا بالفكر وخطايا بالقول وخطايا بالفعل ولكن توجد خطايا بالإهمال هي أكثر من جميعها وهي عدم إتمام الواجب الموضوع من الله على الإنسان أو التقصير فيه. فعندما يقيس الإنسان نفسه على هذا يجد نفسه مقصّراً كل التقصير بل ومهملاً واجبات كثيرة من نحو الله ومن نحو نفسه ومن نحو أسرته وأهله ومن نحو الكنيسة ومن نحو أهل العالم.ولكن لما قال المسيح لليهود ” من منكم يبكّتني على خطية؟ ” (يو8: 46) كان واثقاً بنفسه حتى أنه قدر أن يقول أما أبيه السماوي في صلاته الشفاعية بملء الفم وبسلام القلب ” أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته ” (يو 17: 4) وأن يقول مراراً ” طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله (يو 4: 34و5: 30و6: 38و39و40) واستطاع أن يقول فوق الصليب ” قد أكمل ” (يو19: 30). وقد شهد عنه الكتاب أنه ” لم يعرف خطية ” (2كو5: 21)، وأنه ” بلا خطية ” (عب4: 15)، وأنه ” قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات ” (عب7: 26) وأنه ” ليس فيه خطية ” (1يو3: 5) وأنه ” لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر ” (1بط2: 22) وحتى أعداؤه لم يروا ذنباً فيه وفي الوقت الذي كانوا ملزمين أن يذكروا عنه شراً عمله حتى تتم مطالبتهم لبيلاطس بقتله ولم يقدروا أن يذكروا له ذنباً عندما قال لهم ” وأي شر عمل ” (مر15: 14) ولذا أجابهم ” أنا لست أجد فيه علة واحدة ” (يو18: 38) وزوجة بيلاطس الوثنية قد قالت عنه لزوجها ” إياك وذلك البار ” (مت27: 19) حتى قائد المائة الوثني شهد عنه قائلاً ” بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً (لو23: 47) و” حقا كان هذا الإنسان ابن الله ” (مر15: 39 ومت 27: 54). ولما قال الرسول لليهود ” أنتم أنكرتم القدوس البار ” (أع 3: 14) لم يتجاسر واحد منهم ويكذّب كلامه. وهو الآن عنوان البر والصلاح بين كل أهل العالم والمؤمنون به قبلوه إلههم ومخلصهم ومبرّرهم ومقدّسهم. والكفرة يشهدون عنه أنه عنوان الكمال الأسمى وأنه لا يصح أن يسمى إنساناً لأنه أسمى من الإنسان. فيسوع المسيح لم يضع شرائع صالحة وقدوسة فقط حتى يقول عنها أحد الفلاسفة أن شرائع السماء لا يمكن أن تكون أطهر منها، بل مثاله طاهر وقدوته صالحة وهو نموذج الكمال في كل الأجيال ورب القداسة والجلال.

ولكون المسيح باراً طاهراً بلا ذنب ولا خطية فمن المعقول إذاً أن يكون شفيعاً في البشر إذ كيف يتصور أن إنساناً خاطئاً يشفع في الخطاة وهو نفسه محتاج إلى من يشفع فيه؟ وماذا يقول ذلك الخاطىء في شفاعته لدى عرش عدل الله؟ فإنه لقداسة الله التامة يستد كل فم ويصير الجميع تحت قصاص منه تعالى لأنه ليس بار ولا واحد. نعم أنه ليس بر المسيح وطهارته فقط هما اللذان يؤهلانه للشفاعة بل لأنه صار كفّارة عن الخطاة لأن عدل الله وقداسته الكاملة لا تجعلانه يتنازل عن كلامه أو يبطل قضاءه الذي قال ” أجرة الخطية هي موت ” (رو6: 23) ” والنفس التي تخطىء هي تموت ” (حز 18: 4 وراجع تك 2: 17). فلماذا شفع واحد في الآخر بمجرد كلام فإنه لا يوجد كلام مخلوق يرجع الله عن قضائه. ولذلك نجد في كل مرة في الكتاب ورد فيها خبر شفاعة المسيح أو وساطته ذكر فيها السبب وهو كونه مات كفارة عن الخطاة. ففي سفر أيوب 33: 23و24 يقول أليهو بن برخئيل أن الله يطلق الإنسان عن الهبوط في الحفرة (الهلاك) على يد وسيط ويقول قد وجدت فدية أي أنه إن لم تكن الفدية مقدمة من الوسيط فلا تقبل وساطته.وكذلك لما قال النبي إشعياء عن المسيح أنه ” شفع في المذنبين ” قد سبقها بالقول ” وه حمل خطية كثيرين ” (إش53: 12). وكذلك لما قال بولس الرسول عن المسيح ” الذي هو أيضاً عن يمين الله الذي أيضاً يشفع فينا ” قد سبقها بالقول ” المسيح هو الذي مات ” (رو8: 34) وكذلك لما قال في أف2: 13 18 ” لأن به (بالمسميح) لنا.. قدوماً.. إلى الآب ” عدد 18 كان قد سبق فقال ” صرتم قريبين بدم المسيح.. الذي يصالح.. مع الله بالصليب ” (عدد 13 16).

وكذلك لما قال ” يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح ” أعقبها حالاً بالقول ” الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع ” (1تي 2: 5و6). ولما قال أن المسيح حي في كل حين ليشفع في الذين يتقدمون به إلى الله كان يتكلم عنه ككاهن قدّم نفسه ذبيحة إذ قال “لأنه فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه ” (عب 7: 25و27). وكذلك عندما يذكر أن المسيح “قد حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم ” قال ذلك بعد قوله ” لأن كل رئيس كهنة يقام لكي يقدم قرابين وذبائح. فمن ثم يلزم أن يكون لهذا (المسيح) أيضاً شيء يقدمه، لأنه ” فعل هذا مرة واحدة إذ قدّم نفسه ” (عب8: 6و3، 7: 27).وأيضاً لما قال ” دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب ” قال بعد ذلك ” لأجل هذا هو وسيط عهد جديد.. إذ صار موت لفداء التعديات ” (عب 9: 14و15).وكذلك لما قال قد أتيتم ” إلى وسيط العهد الجديد يسوع ” أعقبها بالقول “وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل ” (عب12: 24).

ولما قال الرسول يوحنا ” إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار ” أعقبها بالقول ” وهو كفارة لخطايانا.. بل لخطايا كل العالم أيضاً (1يو2: 1و2) فثبت من ذلك جميعه أن موت المسيح عن البشر الخطاة هو الذي أعطاه هذه الوظيفة (الشفاعة) فكيف يستطيع أحد البشر الخطاة المحكوم عليهم عدلاً بالموت أن يشفع في خاطىء نظيره ويشفع بمجرّد كلام؟

هذا وإن كانت شفاعة المسيح مبنية على موته كفارة لأجل البشر فبالتالي نقول أنه لو لم يكن معصوماً من الخطأ لما استطاع أن يكون فادياً، إذ كيف يتصور العقل أن خاطئاً يفدي خاطئاً آخر؟ فإنه إن مات والحالة هذه يموت قصاصاً عن ذنب نفسه أما ويسوع المسيح قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات فهو لذلك استطاع أن يكون فادياًللبشر وأن يشفع فيهم.وإننا لا نقدر أن نتصور كيف يمكن للناس أن يفتكروا أن خاطئاً أقرّ بذنوبه ومعاصيه وحسب نفسه مذنباً أمام الله مستحقاً لجهنم إلا إذا كان الله يتغمّده برحمته وأن يكون هذا شفيعاً في الخطاة! فإن ضلالا مثل هذا لم يعم غير المسيحيين فقط بل عمّ كثيرين من المسيحيين فضلّوا. ومتى علّم الكتاب بأن المسيح هو الوسيط الوحيد والشفيع الفريد بين الله والناس فهذا هو التعليم الصحيح والمعقول أيضاً. فإن العقل المتأمل يرفض كل تعليم يخالفه. ولقد سبقنا فقلنا أن عصمة الإنسان يسوع المسيح مبنية على أنه ليس من زرع بشر بل على أنه هو “الله الذي ظهر في الجسد ” المولود من عذراء وحبل به بقوة الروح القدس.

 

العلاقة بين عصمة المسيح وبين تعاليمه ومعارفه

إن عيشة المسيح في هذه الدنيا تشهد من أولها إلى آخرها بطهارته وقداسته غير المحدودة ونقاوة تعاليمه وسموها عن تعاليم البشر في كل زمان ومكان وبتفوقه الإلهي.وأمامنا مبدآن يدلاّن على تفوّقه الإلهي.

المبدأ الأول هو أن معرفة المسيح للاهوت كانت فائقة عن كل معرفة البشر فإن فمه الطاهر هو الذي وضّح عن طبيعة الله إذ قال ” الله روح ” (يو 4: 24) أي روح سام عن كل ما يتصوره البشر وروح متفرّد لا يماثله روح. وكذلك قال وقوله صادق ” ليس أحد.. يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له ” (مت11: 27).والحياة الأبدية التي يعطيها هو (انظر يو 10: 10و28) هي أن يعرفوا ” الإله الحقيقي ” (يو17: 2و3) حتى قدر أن يقول في صلاته الشفاعية ” أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم ” (يو17: 6) وأن يقول أيضاً ” أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك. أما أنا فعرفتك ” (ع25). وبما أنه “أتى من الله معلماً وهو ابن الإنسان الذي نزل من السماء وفي الوقت نفسه هو في السماء وهو المتكلم بكلام الله (يو3: 2و13و14). وبما أنه بهاء مجد الله ورسم جوهره. وصورة الله غير المنظور الذي به كلمنا في هذه الأيام الأخيرة، لذلك وإن لم ير أحد الله قط لكن هذا هو الابن الوحيد الذي في حضن الآب وقد خبرنا عن كل ما هو ضروري عنه حتى أن قصده الأزلي وفكره الخاص في خلاصنا قد كشفه لنا بأجلى بيان في قوله ” هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” وقوله “لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم ” وهو الذي قدر أن يقول لتلاميذه ” أخبركم عن الآب علانية ” (يو3: 16، 17، 16: 25).

وبالإجمال فلا يمكن أن تكون لواحد من البشر معرفة عن الله كما ليسوع المسيح.وإن تكلم الأنبياء عن الله كثيراً لكن كلامهم عنه غير تام الإيضاح فلم يتكلموا عنه أنه كائن في ثلاثة أقانيم وأنه أحب العالم حتى أرسل أحد هؤلاء الثلاثة لكي يموت فدية عن خطايا البشر الخ بخلاف تعليم المسيح عن الله خاصة فحدّث عنه ولا حرج.

تكلّم الفرّيسيون والكتبة كثيراً عن الله لكن لا يوجد في كلامهم ما يسد حاجة الإنسان من جهة وجوده وصفاته. وتكلم غيرهم عن الله لكن تعبيراتهم عنه أنه الجبار المنتقم وأنه السلطان الذي لا يقدر أحد أن يقرب إليه وأنه غضوب ليس له أقل قربى نحو جنسنا الساقط المسكين. لكن المسيح وإن كان قد بيّن أن الله القدوس يبغض الخطية بغضاً كلياً لكنه أحبّ الخطاة ليخلّصهم ويقرّبهم إليه وينسبهم له نسبة البنين وأنه من محبته لهم فداهم بأعز شيء عنده. فما أحلى قول المسيح لقلوبنا اليائسة ” متى صلّيتم فقولوا أبانا الذي في السموات ” وما أشهى تعبيره بين آن وآخر بالقول ” أبوكم السماوي “.

(2) ثم إن المسيح لم يكن الفريد في التكلم عن الله فقط بل الفريد في التكلم عن الأمور الإلهية أيضاً. فإن الفلاسفة لم يقولوا سوى الظنون والتخمينات عن الحقائق الإلهية،ولكن يسوع قال كل الحق الإلهية عنها. ففلسفة سقراط وإن كانت مبنية على هذه الحقيقية التي هي ” أنه لا يخلّص الإنسان من خطاياه إلا إذا نزل أحد الآلهة الروحيين ليخلّصه ” لكنه لم يسد عملياً حاجة الإنسان الوحيدة وهي الخلاص. فلسفة الهنود القدماء الموجودة في كتبهم المقدسة القائلة ” إن الإنسان كفّر عن خطاياه بنباتات الأرض ثم بحيواناتها ثم بفلذة كبده ولكنه لم يقدر أن يخلص منها ولن يقدر إلا إذا كفّر عنها بإلهه ” هي غير موصلة للإنسان إلى الخلاص عملياً. لكن يسوع قال عن نفسه “أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف ” (يو10: 11) وقال أيضاً ” وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” (يو3: 14و15) وقال أيضاً أن “ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك ” (لو19: 10) و” ليبذل نفسه فدية عن كثيرين ” (مت 20: 28) ولم يقل ذلك مجرّد قول بل بذل نفسه عملياً لأجل الخطاة ورفع فوق الصليب حاملاً ذنب البشر على نفسه “لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة (رومية 6: 10) وبما أننا ” كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا ” (إش53: 6و5)،وبما أن المسيح.. أسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة ” (أف5: 2) ” من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا ” (أع9: 43).

وكل تعاليم البشر وإن وجد بينها ما يعلّم بأن البشر خطاة لكنها عجزت كلية عن إظهار طريق الخلاص، فإنها كلها مثلما إذا قدم إنسان على آخر أوشك أن يغرق وأخذ يكلمه عما يقول علم الطب عن كيفية الموت غرقاً إن الماء يدخل إلى ميازيب الرئتين فيمتنع دخول الهواء إليهما وبالتالي يمتنع ورود الدم من القلب إلى الرئتين للتطهير والتقوية بأكسجين الهواء الذي يدخل اليهما بالتنفس ولذلك يموت الإنسان باسفكسيا الغرق. أو مثلما إذا أتى واحد إلى آخر واقع في وسط لهب النار وقال له اعلم أن الحرق على ثلاث درجات رئيسية الأولى ما أصابت البشرة فقط والثانية ما تعمّقت إلى الجلد والثالثة ما تعمّقت تحت الجلد. وعلامة الأولى كذا والثانية كذا والثالثة كذا.وأنه إذا كانت الدرجة الأولى وحدها ولم يعترها مضاعفات أخرى تكون النتيجة سليمة، وإذا كانت كيت وكيت فتكون كذا وكذا الخ. فكلاهما يموتان الأول بالغرق والثاني بالحريق قبلما يقفان على كيفية النجاة من حالة الموت التي هما فيها.

(3) نقول أيضاً أن المسيح كان إلهاً بدليل معرفته عن الخطية. فإن آخر ما وصلت إليه أفكار البشر هو أن الخطية هي التي يتممها الإنسان بالعمل، وأنه يوجد فرق جوهري بين خطية وخطية فضلاً عن اختلاف البشر في تحديد ما هو خطية وما هو ليس بخطية. وبعض المعلّمين الكذبة قالوا أن الخطية أمر سهل بهذا المقدار حتى يكفي لإزالتها والتطهير منها قليل من الماء.وقد افتكر كل المعلمين في كل ملّة ودين بأن أعمال الإنسان يمكن أن تغفر خطاياه معبّرين عن الخطية بأنها مثل خيط رفيع يستطيع كل واحد أن يقطعه بسهولة. لكن تعليم المسيح هو أن الخطية واحدة في جوهرها لدى الله. ألم يعلم أن من يغضب على أخيه باطلاً هو مثل قاتل النفس؟ وإن من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه؟ وإن من قال يا احمق يكون مستوجباً نار جهنم؟ نعم. بل علّم أن الخطية شنيعة بهذا المقدار ومبغضة من الله وأنها مهينة لقداسته وشرفه الإلهي حتى لم يكن ممكناً لديه تعالى أن تغفر إلا بتقديم ابنه ذبيحة عنها لأن الخطية ممسكة بالإنسان مثل العين واليد والرجل بحيث لا يقبل أحد أمام الله إلا إذا ولد ثانية.

(4) بل المسيح كانت له معرفة إلهية عن السماء. فقد قال عن نفسه أنه نزل من السماء وأتى من فوق وأنه ليس من هذا العالم ” وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء “، فالأحرى به دون سواه أن يعرف السماء. وبيّن في كلامه أن السماء هي بيت الله ومسكن القديسين إلى الأبد ولا يدخلها ما يصنع رجساً أو دنساً، وإن سعادة سكان السماء لا تقوم إلا بعتقهم من سلطة الشيطان وبخلاصهم من جسد الخطية وبشركتهم مع الله شركة مقدسة فيتعزون بإلههم وبوجودهم في رضى حضرته فيضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم إلى أبد الآباد.

المبدأ الثاني هو أن معرفة المسيح عن الإنسان وطبيعته وأحواله كانت فائقة وعظيمة جداً (اقرأ أيضاً الفصل التالي في “الإخلاء والامتلاء “. فلم يتشبه بأولئك المدعين بالعلم والفلسفة مع أن كثيراً من أقوالهم ليست من العلم في شيء وبينها وبين الفلسفة بون شاسع.

ألا ترى أن بعضهم يفتخرون بالقول: إنه لا فرق بين الإنسان والعجماوات؟ فإنهم بذلك ساووا أنفسهم بالضفدعة والخنزير والحمار أقوالا تحط الإنسان إلى درجة لا يرضاها لنفسه.ولكن المسيح المعصوم بيّن في تعاليمه أن الإنسان هو سيد المخلوقات وأفضل من كل ما في الكون لأن فيه نفساً خالدة أثمن من كل ما في العالم.ألم يقل ” ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟ (مت16: 26). ألم يبيّن أن الإنسان فيه نفس وأن هذه النفس أثمن من كل العالم بما فيه من مخلوقات ومن غنى وجاه وسطوة وبنين وأقارب ومحبين وغير ذلك؟ وقال أيضا: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة من الله ” (لو4: 4) ففي أقواله هذه وما شاكلها لم يبيّن فضل الإنسان عن غيره من المخلوقات فقط، بل بين جوهر الإنسان السامي وأنه ليس كغيره من ذوات الأنفس بل هو مركّب من عنصرين العنصر الترابي الذي هوالجسد والعنصر الروحي الذي هو النفس الخالدة وأن الله من حكمته أعدّ طعاماً من التراب للجسد الترابي متوافقاً مع أصله وكذلك أعدّ طعاماً للروح الخالدة طعاماً نازلاً من السماء وليس من هذه الأرض فهو متوافق مع روح الإنسان المعطاة من السماء. وهذا الطعام يقول عنه المسيح هو كلمة الله التي تشبع النفس وتحييها كما يشبع الطعام الترابي الجسد الترابي (راجع متى 3: 4 ويو6: 63و68). وظاهر أنه متى انقطع الإنسان عن إطعام جسده يموت فكذلك متى انقطع عن إطعام روحه تموت، وموت الجسد هو رجوعه إلى التراب،أما موت الروح فهو خلودها في العذاب إلى أبد الآباد.

تعال يا من تتشدّق بما يسقطك إلى درجة البهائم أنت تعرف أن المادة تؤثر في المادة وأن المادة لا تؤثر في ما هو ليس بمادة. فلو كان الإنسان كالبهيم لكان ما يؤثر في الواحد يؤثر في الآخر على السواء. لكن، خذ حيواناً كالثور مثلاً وأعطه علفاً كافياً وماء للشرب وراحة كافية فلا يطلب من مزيد ولا تظهر عليه أقل علامة تدل على أنه ليس راضياً بحالته التي هو فيها بل بالعكس. ولكن خذ الإنسان وأعطه جنيهاً فلا يكتفي بل يطلب مائة. أعطه المائة فلا يكتفي بل يطلب ألفاً. أعطه الألف فلا يكتفي بل يطلب مليوناً. أعطه المليون فلا يكتفي بل يطلب العالم بأسره. أعطه العالم فلا يكتفي بل يبكي كما بكى الاسكندر عندما انتصر نصرته الأخيرة وسئل: عمّ تبكي يا سيدي؟ فأجاب: أبكي لأنه لا يوجد عالم آخر أحاربه وأتغلّب عليه. أو كما قيل عن نابوليون قالوا لنابوليون ذات عشية إذ كان يرقب في السماء الأنجما من بعد ملك الأرض ماذا تبتغي؟ فأجاب: أنظر كيف أمتلك السما. فإذا كان الإنسان كالبهيم فإنه يكتفي بما يقوم بأوده بالراحة، ولكن المشاهد والمختبر ليس كذلك. فهنا الفلسفة المسيحية التي ترقي الإنسان وتعلّيه، الواضحة في تعاليم المسيح والمبيّنة أن ” في الناس روحاً ونسمة القدير تعقّلهم ” (أي 32: 8) فهي فلسفة أصح وأهم وأعظم من تعاليم كل الفلاسفة. ولذلك حيثما وصل تعليم المسيح ترقّى النوع الإنساني لأن تلك التعاليم توجد موافقة لاحتياج الإنسان في كل زمان ومكان. فكما عرف المسيح كل صفات الله ومشوراته ومقاصده عرف أيضاً كل أحوال الجنس البشري واحتياجهم فعلّم تعليماً لا يستغني عنه إنسان. وبما أنه يعرف القلب بعينه الإلهية فكان يتكلم للقلب رأساً وكان الناس يشعرون بأن نفوسهم عريانة أمام عينه كما يشعرون في يوم الدينونة.

انظروا إلى معاملته للفريسيين وكلامه معهم. فإنه كان يوبّخهم على ريائهم، ويكشف خبثهم وتجرّدهم من التقوى القلبية، فكانوا يخجلون. انظروا كلامه مع الشاب الغني. فإنه لما كشف له غلطه في فهم الوصايا وتقصيره الحقيقي وكشف له عدم رحمته للمساكين مضى حزيناً. لاحظوا كلامه مع مرتا التي لما كشف لها اهتمامها بالأمور الجسدية أكثر من الأمور الروحية صمتت ولم تحر جواباً. انظروا كلامه للجمهور الذي قدّم له المرأة الممسكة في الزنى وكيف كشف خطأهم لضمائرهم الميتة فتوبّخوا وخجلوا ومن خزيهم انسحبوا من أمامه واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين.وغير هؤلاء كثيرون.

ويسوع نظراً لعلمه بالقلوب لم يكن ممكناً أن يخدع. فقد آمن كثيرون به إيمان اندهاش وتعجب. ومثل هذا الإيمان لا يؤثر في القلب ويغيّره، فلم ينطل إيمان هؤلاء على علاّم الغيوب بل يقول الكتاب أن ” يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع. ولأنه لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان ” (يو2: 24و25). فعرف طبع الإنسان جيداً لأنه “فاحص الكلى والقلوب ” (رؤ2: 23) وهو يعرف أن ” القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس ” (إر17: 9و10). ولذا لا يقبل أمام الله إلا إذا تجدد فقال مرارا: ينبغي أن تولدوا من فوق ” (يو3: 7) ويجب أن ” ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد ” (مت18: 3). وهو يعرف أن الإنسان خلق أصلاً على صورة الله ولكنه فقد تلك الصورة بالسقوط فلا يكون الإنسان إنساناً حقيقياً إلا إذا استرد حالة الطهارة التي خلق عليها.وظاهر أنه لا يوجد أثر لهذه الحقيقة إلا في تعليم المسيح. وهو يعرف أن الإنسان لم يتناسل من القرود بل خلقه رأساً ونفخ فيه من روحه، ولذلك قصد أن يعطيه سلطان البنوة لله وأن يورثه عنده في سماء المجد والسعادة. وحتى جسد الإنسان وإن شابه جسد الحيوان في الحركة الدموية لكن له قيمة عظمى لأنه مسكن الروح السماوية الخالدة بل هيكل روح الله القدوس (1كو6: 19) وهذا الجسد هو الذي به خدم الإنسان الله فسيقوم من الموت في يوم القيامة ويتمتع بالسعادة مع النفس المقدسة في دار الهناء الذي لا يعب‍ّر عنه. وكم من المرات نقرأ أن يسوع علم أفكار الناس الصالحة والرديئة وذلك لأنه وإن كان في هيئة الإنسان لكنه هو الله الذي ظهر في الجسد فكان إلهاً تاماً وإنساناً تاماً.

 

العلاقة بين عصمة المسيح وبين سمو شرائعه ومثاله

الله قدوس فينتظر أنه متى أمر أمراً أو سنّ شريعة تكون في غاية القداسة وإذا أوجد ديانة فتكون مطاليب تلك الديانة في غاية الطهارة. فلم يعلّم المسيح تعليماً يجيز عبادة الله بأنواع الفحشاء كما تعلّم بعض الأديان الوثنية بل علّم أن عبادة الله يجب أن تكون عبادة روحية طاهرة قدوسة ومن قلب طاهر. وبما أن الله غفور رحيم صافح عن ذنوب المذنبين إليه هكذا علّم المسيح شعبه أن يكونوا صفوحين للذين يذنبون إليهم وأن يغفروا للجميع وأن يكونوا رحماء وأن يحبوا أعداءهم ويباركوا لاعنيهم ويصلوا لأجل الذين يسيئون إليهم متمثلين بالله أبيهم الرحيم الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين.وكما أن الفساد شنيع لدى الله والنجاسة مرذولة أمامه تعالى فترى المسيح علّم عن عيشة القداسة والعفة التامة حتى في النظر بالعين بل في الزواج المحلّل يطلب أن يقتني كل إنسان إناءه بقداسة وكرامة لا في هوى شهوة كالأمم. وحدّث ولا حرج عن كل تعاليمه في كونها طاهرة وقدوسة ومعدنها إلهي صرفاً.

فأية الشرائع تكون أقرب لطبيعة الله القدوس؟ هل تلك التي يستصعبها الإنسان لكمال قداستها أو التي يشمئز منها كل أديب ويستقبحها؟ أو أية التعاليم هي الأكثر موافقة للطبيعة الإلهية؟ هل هي الآمرة: ” للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ” أو غيرها التي تأمر بالسجود للإنسان؟ ومعلوم أن السجود لغير الله وثنية. فتعاليم المسيح المعصوم جامعة مانعة، ولم يتكلم قط إنسان مثلما تكلم هو فعلّم عن الحياة الأبدية والخلود، لأنه يعلم المستقبل كالحاضر والماضي فقال أن القديسين كلهم أحياء عنده في السماء وهناك لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله.

وعلّم عن التوحيد وقال أن الله هو الإله الحقيقي وحده، وعلّم عن الحرية الحقيقية إذ بيّن أن من يعمل الخطية هو عبد للخطية، وعلّم عن الإخاء والمساواة بين البشر، ” أبانا الذي في السموات “، وعلّم عن المحبة واضعاً نفسه مثالاً لها ” هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم “، وعلّم عن الشورى، ” أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلّطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً (متى 20: 25 27)، علّم عن إعلاء منزلة المرأة إذ قال ” لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته. إذاً ليسا بعد اثنين بل جسد واحد، فبذلك ساواها بالرجل في البيت، وعلّم عن عدم تعدّد الزوجات ومنع الطلاق وقيّده، وعلّم عن فصل الدين عن السياسة إذ قال ” أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله “.

يسوع المعصوم قرن كلامه بقدوته. فلم يعلّم تعليماً ويخالفه في سيرته كما يفعل غيره، بل في كل تاريخه على الأرض لم يستطع أحد ولو من أعدائه أن يبكّته على خطية. فلما علّم قائلا: أحبوا أعداءكم.. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ” علّم ذلك بصفاته وأعماله. ويكفي أن نقول أن صلاته وهو فوق الصليب ” يا أبتاه اغفر لهم ” أجلّ برهان على ذلك. ولما علّم عن التواضع وإنكار الذات علّم بعمله. ويكفي أن نقول أن غسل أرجل تلاميذه أجل برهان على ذلك. ولما علّم عن عدم وضع القلب على العالم وأباطيله فكل حياته على هذه الأرض تشهد بأن صفاته كانت هكذا. فبينما هو رب السماء والأرض والمعطي للملوك قصورهم ولكل واحد مسكنه مع ذلك لم يكن له أين يسند رأسه. بل إن ذات عيشته الهادئة الشفوقة العاملة الخير مع الجميع الراثية لبلاء الناس المحسنة إلى المحتاجين المغيثة للملهوفين الشافية للمرضى والمتوجعين هي أعظم تعليم علّمه المسيح وتفرّد به عن كل المعلّمين الذين عاشوا على الأرض ويعيشون إلى يوم القيامة. فلم نسمع عنه أنه غزا أو غنم أو سلب أو أخذ مال أحد أو اغتصب زوجة أحد (كانت حياة المسيح على الأرض عزوفاً عن الدنيا وما فيها فلم يهتم بالغنى الأرضي ولا بالسلطان الأرضي ولا بالأمور الزوجية وأمثالها بل كانت مهمته على الأرض فدائية وسبله سليمة فلم يختر تلاميذه إلا من الضعفاء الفقراء ليخزي الأقوياء والأغنياء وعلى الجملة فحياة القدوس حياة قداسة سماوية.). لا ولم يصرّح لأحد من أتباعه بذلك. فبالحق أنه لم يقم أحد ولن يقوم نظيره قارناً كلامه بأعماله. ألا تدل كل هذه الأمور على عصمته الكاملة؟

 

شهادة الفلاسفة عن تفوّق تعاليمه

لقد شهد الناس على اختلاف درجاتهم وأشكالهم في كل زمان ومكان عن سمو تعاليم المسيح وأنها فائقة عن أن يأتي بمثلها عقل بشري. فقد شهد الفيلسوف اسحق نيوتن قائلا: إننا نعتبر كلام المسيح فلسفة سامية. وإني أجد في كتابه من دلائل الصحة ما لا أعثر عليه لصدق كتاب آخر “.

وقال الفيلسوف لوك: ” إن كمال كتاب المسيح وسموّه لما يدهش العقل ويقف عنده الفكر حائراً. أمّا نفور ذوي الأفهام الناقصة منه فمنشأه أن هذا الكتاب يكشف لهم حقيقة أنفسهم ويكلّفهم بواجبات لا تألفها طباعهم ولا يميلون بحسب الفطرة لإتمامها فيشقون عصا الطاعة ضده ويضادّونه لأنه ضدهم ولا غرابة في ذلك “.

وقال الفيلسوف تولستوي أن تعاليم يسوع لا يسبر غور فلسفتها العقل البشري.

ودانيال وبستر السياسي الأميركي المشهور كتب بيده هذه الكلمات لتنقش على قبره: ” لا ريب عندي أن إنجيل المسيح حقيقة إلهية لا شك فيها. ولا يمكن أن تكون الموعظة على الجبل من الأوضاع البشرية. وقد تأصل هذا الاعتقاد في أعماق ضميري، ولي ما يؤيده في تاريخ الإنسان بأكمله “.

وقال كوزان الفيلسوف الفرنساوي: ” لو أن الشبان تعمّقوا في معرفة كتاب المسيح لاستحال عليهم أن يهزأوا بالديانة المسيحية أو يعتبروها من سقط المتاع، بل بالعكس تتضح لهم طهارة آدابها وسمو فلسفتها وعظمة تاريخها مما يحدو إلى ترك ذكر فلسفة هوميروس وفرجل واحتقار رومية واليونان “.

وقالت الحميدة الذكر جلالة الملكة فكتوريا أن سبب نجاح ملكها وامتداد سلطانها هو كتاب المسيح وحده أي الكتاب المقدس.

وكثيرون غيرهم شهدوا بأن كلام المسيح فائق العقل البشري ولا يستطيع إنسان أن يأتي بمثله. وكان الذين نجحوا في العالم وأفادوه علمياً وأدبياً من أمثال السر أوليفر لودج واللورد أفربري الذي ترأس كل منهما المجمع العلمي البريطاني وميشيل فاراداي الذي فتح بمباحثه باب العلم الحديث في العصر الجديد وهو صاحب المباحث العظيمة في الكيمياء والكهرباء والفيلسوف اسحق نيوتن وجورج استوكس الذي لقّب بنيوتن الحديث وغيرهم كثيرون جداً كانوا مدينين حقاً وكان دين المسيح عزيزاً لديهم مكرّماً في عيونهم. ومن شهادة جورج استوكس المذكور آنفاً قوله: ” أن الأمر الهام في المسيحية هو الإيمان بأن يسوع الناصري قد اتحد اللاهوت بالناسوت في شخصية واحدة ولذلك يدعى بحق ابن الله وأنه بعد موته على الصليب قام من الأموات وظهر بطريقة خارقة العادة لعدد كبير من تلاميذه الذين شهدوا بحقيقة قيامته الخ “.

 

شهادة الكفرة عنه

لا تظنوا أن المسيحيين وحدهم هم الذين شهدوا له ولقداسته ولسموّ تعاليمه. بل وأعداؤه والكافرون شهدوا بلاهوته. ونذكر الآن بعض شهاداتهم:

قال الفيلسوف الوثني فورفريون: كان يسوع رجلاً تقياً صعد إلى السماء لأنه كان محبوباً عند الآلهة.

وقال ستروس العالم الشهير وهو من منكري الوحي: إن المسيح باق إلى الأبد عنوان الدين الأسمى ونموذج الكمال المطلق.

وقال رينان العالم الفرنساوي المشهور مخاطباً يسوع: استرح الآن في مجدك أيها المؤسس الشريف فقد انتهى عملك وتأيد لاهوتك وليس بينك وبين الله فرق.

وقال العلاّمة نوح اليهودي: أي حق لمن يدعونه دجالاً (يشير إلى قول اليهود عن يسوع) ونحن نرى أكثر من 500 مليون يعتقدون بلاهوته ومن حولنا أدلة لا عدد لها من السعادة والإيمان والحكم الصحيح والإحسان الحي العامل للخير الذي ينبعث من تعاليمه ويتتبّع ديانته.

وقال الفيلسوف ستيوارت مل الكافر في أحد مؤلفاته: من من الناس يقدر على اختراع الأقوال المنسوبة إلى يسوع أو يستطيع أن يتصور الحياة الشريفة والصفات السامية المعلنة في الإنجيل؟

هذه بعض الشهادات الصريحة التي تدل على سمو تعاليم المسيح وطهارتها وبالتالي على سمو موجدها وتفوّقه على البشر.

 

الله ظهر في الجسد

أما كونه الله الذي ظهر في الجسد (1تي3: 16) فواضح من قول يوحنا ” الكلمة.. الله.. صار جسداً فالكلمة الذي كان عند الله (العندية تفيد التعزيز والتكريم) وكان في البدء. وكان الله (يو1: 1و2) قد صار جسداً ولم يكن كذلك قبلا. والذي كان في العالم بالروح وخلق العالم به (يو1: 3و10) وكان حياة ونوراً يفعل في قلوب الناس وضمائرهم (يو1: 4و5) قد أخذ طريقاً جديدة لإعلان الله بإضافة الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية. والكلمة ” صار ” في قوله ” والكلمة صار جسداً بمعنى ضمّ أي أنه لم يتحول اللاهوت إلى ناسوت حتى لم يبق بعد لاهوتاً بل اللاهوت باق كما هو فقط ضمّ إليه ناسوتاً أو أخذه له واتحد لاهوته به وذلك طبيعي لأنه إن كان ممكناً أن اللاهوت يتغير فذلك ليس لاهوتاً لأن الله غير قابل للتحوير أو التغيير بل ” ليس عنده تغيير ولا ظل دوران ” (يع1: 17). وإن كان الله قديراً لكنه لا يقدر على إبادة نفسه ولا علىتغيير صفاته الجوهرية الكاملة. والكلمة “جسد” تفيد ما يأتي:

(1) إن جسد المسيح كان جسداً حقيقياً لا صورة فقط ولا هيئة إنسان أخذت وقتياً كما حدث في إعلاناته في العهد القديم. وبمراجعة يو12: 27 حيث قال المسيح” الآن نفسي قد اضطربت ” و13: 21 ” لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح ” ومت26: 38 ” فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت ” ولو23: 46 ” ونادى يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك استودع روحي. ولما قال هذا أسلم الروح ” وما شاكل ذلك يظهر جلياً أنه كان للمسيح نفس بشرية وإن الروح الإلهي يحل محل الروح الإنساني كما قال بعضهم. بل قد أخذ المسيح جسداً لكي يشبه إخوته في كل شيء ” فإذ قد تشارك الأولد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً..فيهماً (عب 2: 14).

قد ذهب بعضهم إلى أن المسيح إله وإنسان وأنه كان إنساناً أصلاً وصار إلهاً كما جعل موسى إلهاً لفرعون (خر7: 1). فقولهم هذا عكس قول يوحنا هنا أنه الله الذي كان في البدء وصار إنساناً.

(2) ” جسد” تفيد أيضاً أنه أخضع نفسه لأتعاب الطبيعة البشرية وآلامها فهو صار جسداً أي أدنى عنصر في الإنسان الضعيف والمسيح ” قد صلب من ضعف ” (2كو13: 4).

(3) ” جسد” المرادفة لكلمة بشر وردت للدلالة على الإنسان المائت كقوله في مز 78: 39 ” ذكر أنه بشر ” والمسيح كان ” مماتاً في الجسد “

(4) ” جسد” وردت للدلالة على الإنسان الخاطىء، والمسيح مع أنه قدوس خال من الخطية ولكنه أخذ “شبه جسد الخطية ” (رو8: 3) أي لم يأخذ جسد آدم قبل السقوط.بل جسده بعد السقوط. زد على ذلك أنه جعل خطية لأجلنا (2كو5: 21) ودينت الخطية في جسده (رو8: 3) فيا للعجب! إن الكلمة الأزلي يضم إليه ” جسداً بهذا المعنى! ذاك الذي ” كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان ” يتخذ جسداً خاضعاً لكل ما كان منزهاً عنه! فقد أخذ الجسد ليفدي به البشر كما ذكرنا في ما مر ز

 

الفصل الرابع

الإخلاء والامتلاء

” أخلى نفسه ” ” رجع.. ممتلئاً من الروح القدس ” (فيليبي 2: 7 ولو4: 1). إننا إذا تأملنا في الكلمة الأصلية اليونانية المترجمة ” أخلى ” نجد أن الرسول بولس قد اصطلح عليها في رسالته ليعبّر بها عن الحالة التي كان عليها ربنا يسوع المسيح على هذه الأرض وذلك بخلاف الحالة التي كان عليها قبلاً مع الله في السماء.

فعندما يقرأ القارىء قوله: ” لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد ” يخطر له في الحال هذا السؤال: ” مم أخلى المسيح نفسه “؟ وأحسن جواب على هذا السؤال هو ما نراه واضحاً في ذات الفصل الذي وردت فيه هذه العبارة فإننا بالتأمل فيه نرى أن الرسول بولس لم يقصد أن يكلّم الفيلبيين عن موضوع لاهوتي أو فلسفي بل عبّر عن قصده بهيئة بسيطة وبتغيير عادي، ونرى أنه بعد أن حثّ مسيحيي فيليبي على التواضع وعدم الكبرياء والأنانية (كما هو واضح من ع3و4) قدّم إليهم المسيح نفسه مثلاً أعلى على التواضع الحق فقال: فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، والذي بذل نفسه في خدمة الآخرين تخليصاً لحياة الجميع أيضاً.

إن لغة الكتاب الأصلية ما دقت على وتر الكلمة ” أخلى ” بل بالأحرى على الكلمة ” نفسه “. وكيفما كان المعنى فهو يشير إلى شيء عظيم قد عمله المسيح باختياره الشخصي، وإن هذا العمل صدر منه دون سواه.ولكن لم يزل السؤال أمامنا كما هو: “مم أخلى نفسه “؟ وكما سبقنا فقلنا نعود فنقول: إن أفضل جواب على هذا السؤال هو أن سيدنا المسيح له المجد لما اتخذ لنفسه طبيعة الناسوت أخلى نفسه من نفسه أي مما كان له من الأمجاد الذاتية أو بعبارة أوضح ” أنكر نفسه ” وكما أنه لم ينظر إلى ما هو المقصود من تنازلهم وتواضعهم وحسبانهم البعض أفضل من أنفسهم.

وتتضح قيمة هذا الفكر اللاهوتي من عبارتين وردتا في ذلك الفصل أولاهما في ع6 حيث قال عن المسيح: ” الذي إذ كان في صورة الله ” لأننا بمراجعتنا للأصل اليوناني لهذه العبارة نرى الحقيقة المعبّر عنها بالكلمة ” إذ كان” هي في استمرار صيغة هذا الفعل. والمعنى المقصود هو: الذي كان ولم يزل كائناً ويستمر كائناً.

إن الجملة المترجمة ” صورة الله ” تعني صفات الله الجوهرية. فمن الواضح إذاً أن المسيح كان كل أيام وجوده على الأرض ولم يزل هو الله بصفاته الجوهرية الإلهية. وهذا يؤكد لنا أن المسيح لم يخل نفسه من مساواته لله قط.

وثانيتهما العبارة التي وردت في ع7 والتي تفيد حسب الأصل اليوناني أن المسيح ” أخلى نفسه بأخذه صورة عبد مبيّناً بذلك أن الإخلاء لا يقصد به كونه حصر نفسه بل كونه وجد اهتمامه للعمل في شؤون الحياة البشرية لأجل تخليص الخطاة. وهاكم مما سبق، الاستنتاجات التالية

(1) بما أن المسيح كان موجوداً في السماء قبل أن يتجسّد ويولد في بيت لحم فلا بد من وجود بعض القيود والحدود البشرية مع صيرورته إنساناً. ولذلك قال أحد اللاهوتبيين: أن قبول السيح لهذه القيود والحدود البشرية التي هي من ضروريات التجسّد وقبوله لكل ما هو من شؤون الحياة الإنسانية أثناء التجسد (ما عدا الخطية) يستلزم إرجاء إظهار مجده (الذي هو له من قبل كون العالم) إلى حين.

(2) من البدهي أنه يستحيل على المسيح أن ينزع عنه لاهوته أثناء تجسده وحياته على هذه الأرض. وذلك ليس فقط لأن إخلاء نفسه عن لاهوته غير مقبول منطقياً، بل أيضاً لأن العبارة ” إذ كان في صورة الله ” تعلّمنا أنه كان قبل التجسد ولا يزال باقياً “في صورة الله ” كما ذكرنا. وهذا يدلنا دلالة واضحة على أن المسيح، طول حياته على الأرض، لم يزل هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، لأنه، لو لم يكن المسيح هو الله دائماً حتى بعدما صار إنساناً، فموته لا يصلح أن يكون كفارة عن البشر لأن فداء البشر يستلزم عملاً ليس في قدرة البشر أن يقدّموه ولا يمكن أن يقوم به حق القيام إلا الشخص الذي هو إله وإنسان معاً.

(3) إن الرأي الصحيح الذي نستنتجه من الكلمة ” أخلى ” هو أن المسيح الكلمة لما اتخذ جسداً واتحد ناسوته بلاهوته وصار إنساناً وهو الله تخلى حين التجسّد (موقتاً) عنالظهور بعظمته ومجده الإلهيين، ولأجل خلاصنا رضي أن يرجىء إظهار بهائه الإلهي وأن يعيش كإنسان بيننا. ويدل هذا على قوله ” أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم ” (يو17: 4و5).

(4) إن الصعوبة التي أمامنا في هذه المسألة هي: كيف يظهر الله في الجسد البشري؟ والجواب هو أن هذه المعرفة فوق إدراكنا وتصوراتنا، وليس لنا أن نبت في أمر هو من سرائر الله نفسه.وكل ما يمكننا أن نقوله هو: أنه لأجل خلاص إنسان قد رضي الابن “الأقنوم الثاني ” بالتجسد وبحياة متمشية مع المظاهر البشرية (مع أنه باللاهوت لم يزل في مركز لاهوته غير المحدود بجوهره الإلهي العامل في خليقته والظابط الكل إلى الأبد). ونرى أن هذا الابن الذي له السلطان على نفسه وليس لأحد سلطان عليه، لأجل كمال الفداء وتتميم الكفارة، قد أرجأ استعمال قدرته الإلهية استعمالاً كلياً إلى ما بعد قيامته ودخوله إلى مجده.

إننا لا يمكننا أن نعبّر عن ظهور الأقنوم الثاني بمظاهر بشرية إلا بقولنا أن المسيح مع كونه الله اتخذ جسداً وصار إنساناً وعاش بيينا كإنسان بكمال الطهارة ونقاوة الحياة ثابتاً في أبيه دائماً، وبينما هو الله الذي هو في غنى عن أن ينال شيئاً من آخر نراه أيضاً بصفة كونه نائلاً من أبيه كل نعمة لنفسه وعقله وجسده. وهذا هو معنى قوله “أخلى نفسه ” أي أنه وهو في غنى عن نيل أية عطية خارجية اتخذ لنفسه طبيعة الإنسان التي تحتاج إلى الموازنة الإلهية.

(6) إننا عندما نذكر ذلك الإخلاء الذي هو الدخول من مظاهر الحياة البشرية يجب علينا أن لا ننسى المسحة الفريدة العجيبة التي مسح المسيح بها من الروح القدس والتي بواسطتها قال وعمل كل ما ذكر عنه في إنجيله الطاهر لأن هذه المسحة السماوية سميت “الامتلاء ” مقابلة لما سمّي ” الإخلاءً الذي ذكرناه في ما سبق. فقد قيل عن هذا الامتلاء: ” أما يسوع فرجع من الاردن ممتلئاً من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية ” (لو4: 1)، وأيضا: ” روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين الخ ” (لو4: 18)،وأيضا: “إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين الخ ” (متى 12: 28). فهذه الأقوال وما ماثلها تدلنا على أن المسيح ولو كان قد أخلى نفسه ورضي لنفسه أن يتخذ جسداً بشرياً قد امتلأ بالروح القدس. فهو بعد أن كان قائماً بذاته منذ الأزل اتخذ إنساناً كاملاً عائشاً بالاعتماد على الله ابيه في كل حين. ولذلك أخبرنا أثناء تجسده المبارك أن الآب الحال فيه هو الذي يعمل الأعمال.ونقرأ أيضاً أنه بالروح القدس فضلاً عن أمره وسلطانه وإرادته قد عمل المعجزات كما في متى 12: 28 وعلّم بتعاليمه وتعاليم أبيه إتماماً لوصية الآب: ” لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم” “الآب الحال في هو يعمل الأعمال ” (يوحنا 12: 49و14: 10). وليس ذلك فقط بل أنه له المجد أعطي سلطاناً وهو على الأرض أن يغفر الخطايا (راجع لو 5: 24).وقد أطاع أباه كل حين وكان في كل حين يعمل ما يرضيه إلى أن بذل نفسه فوق الصليب إطاعة لأمره وتنفيذاً لإرادته. لاحظوا قول المسيح المبارك: ” العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته ” (يو17: 4)، وقوله ” لأني في كل حين أفعل ما يرضيه ” (أي ما يرضي الآب) (يو8: 29). ولاحظوا قول الرسول: ” أطاع حتى الموت موت الصليب ” (فيليبي 2: 8) وقوله له المجد: ” هذه الوصية قبلتها من أبي ” (يو10: 18). فكل هذه النصوص براهين على أن المسيح أخلى نفسه ليصير خادم عهد الفداء وليصير ممتلئاً من روح الله مطيعاً للآب في كل أيام هذا الاخلاء. أما قبل هذا الاخلاء فلم ينسب إليه شيء من ذلك.

(7) إذا تأملنا في الانجيل نراه ينبئنا أن المسيح كان ينمو في المعرفة لما كان على الأرض (لو2: 52) وأنه بحسب الجسد وحده لا يعرف يوم مجيئه الثاني (مرقس 13: 32). ولكننا في الوقت نفسه نرى أنه بحسب لاهوته علاّّم الغيوب فاحص الكلى والقلوب كما قال عنه يوحنا الحبيب في بشارة يوحنا 2: 15 أنه ” لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان “، وكما قال المسيح عن نفسه في متى 11: 27و28 حيث أثبت لنفسه كل المعرفة أولاً وكل القدرة ثانياً: “ليس أحد يعرف الابن إلا الآب. ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له. تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم “. وكيف لا يعرف مجيئه الثاني حسب الجسد وهو في الوقت عينه يعرف الآب ويعلم ما كان كامناً في أعماق الانسان حسب اللاهوت فهذا فوق طاقة عقولنا وتصوراتنا وأفهامنا ولكن كما قال بعضهم: ” إن هذا هو سر المحبة الإلهية. وقدرة المسيح ابن الله على إخلاء نفسه إنما هي من أعمق أسرار الثالوث الأقدس ولكنها تظهر لنا محبة الله التي لا تستقصى “.

(8) إن إحدى نتائج هذا الاخلاء وهذا الامتلاء هي أننا نرى المسيح آكلاً شارباً نائماً تعباً الخ. ونرى أن حياته على الأرض كانت متمشية مع النظم البشرية. ولكن، من وجهة أخرى، نرى أن كلامه هو ذات كلام الله وإن كل كلمة نطق بها هي كلمة الآب المتكلم فيه. وعلى هذا قوله “موسى كتب عني ” هو ذات قول الله وله الصحة الكاملة والسلطان الإلهي. وبما أن سلطان الآب موجود في كلام ربنا يسوع المسيح فقد كان وجود هذا السلطان علّة قول الرسول الحكيم: “الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه “(عب 1: 1و2) الذي انطبق تمام الانطباق على هذه الحقيقية اللاهوتية التي هي “الاخلاء والامتلاء “. فالذين يشكّون في لاهوت المسيح لوقوفهم عند ظواهر بعض أقوال الكتاب المقدس كالتي ذكرناها وأمثالها غير مدركين لهذه الحقيقة أن المسيح ابن الله الأزلي بينما نرى أنه هو الله منذ الأزل، وأن عجائبه وهوعلى الارض تثبت لنا أنه لا يزال هو الله دائماً، نرى أنه سبحانه وتعالى قد أخلى نفسه وظهر في الجسد البشري، ونرى أنه ظهر بحسب الجسد محتاجاً إلى الامتلاء بالروح القدس بل وإلى ملاك من السماء ليقوي هذا الجسد البشري الضعيف عند ما وضع قليلاً عن الملائكة.

(9)
ولما تقدّم
من الأسباب نقول: أنه لمن الأمور العظيمة الأهمية أن لا ننسى أن دخول ربنا يسوع
المسيح باختياره الأتم إلى هذا العالم في الجسد لم يكن أمراً أدّاً في ذاته بل كان
في غاية المناسبة لأنه جلّ جلاله قد تمم بذلك خلاصنا الذي يحتاج إلى شخص هو الله
منذ الأزل ليكون ببرارته وقداسته قادراً أن يفدي جميع البشر الخطاة الأثمة، وفي
الوقت نفسه يكون إنساناً لكي يمكنه أن يموت كفارة عن كل البشر هو ذاك الذي ” أخلى
نفسه ” موقتاً من المجد ” وامتلأ ” أيضاً من الروح القدس ليقوم بمهمة الفداء التي
أخلى نفسه بالتجسد لإتمامها.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي